منهج السلف في الإفتاء

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما بعد:

فالموضوع المختار لهذا الدرس كما سمعتم: (هدي السلف) هدي السلف المراد بهم من تقدم في صدر هذه الأمة، ومن تبعهم بإحسان من غير تغيير ولا تبديل، هدي السلف في الفتوى وهذا موضوع عظيم، وموضوع في الوقت نفسه خطير؛ لأن الإنسان يخشى وهو يذكر شيئاً مما عليه سلف هذه الأمة وأئمتها، في قول نظري طبقه سلف هذه الأمة، إقداماً في مجال الإقدام وإحجامًا حينما يقتضي الأمر الإحجام.

نعرض لأقوال سلف الأمة ولطريقة السلف في الفتوى، وتهيبهم للفتوى، وتتدافعهم، وتدارئهم الفتوى، حتى قد كانت الفتوى تمر على العدد الكبير من سلف هذه الأمة ثم تعود إلى الأول، يتدافعونها، ويتدارؤنها، ثم بالمقابل من يتكلم عن هديهم تعرض عليه الأسئلة فلا يسلك مسلكهم، فالذي يخشى منه أن يكون العمل مكذباً للقول، ولا شك أن مثل هذا مزلق خطير، والمسألة عن الفتوى فيها النصوص الكثيرة التي منها ما يدعو إلى الإقدام ويشدد فيه، ويجعل من لا يقدم عليه ممن يكتم العلم وله الوعيد الشديد في نصوص الكتاب والسنة، وبالمقابل من يجرؤ عليه، له بالمقابل وعيد شديد، فمن المأمور، ومن المنهي؟ من المأمور بالفتوى، ومن المنهي والمحذر منها؟ نحتاج إلى مثل هذا الموضوع في هذا الوقت، وفي هذا الظرف الذي نعيشه، وكثير ممن يتصدى للفتوى ليسوا ممن عرف بعلم ولا عمل، أصلاً، فضلاً عن كونهم لم يتأهلوا الأهلية التامة في هذا الشأن، وموقف السلف كما هو معلوم من نصوص الأمر بالفتوى، وعدم الإحجام عنها، وعدم كتم العلم لمن طلبه، تصدى له أناس عرفوا بالفتوى، من الصحابة ما يزيد على المائة تصدوا للفتوى، ومنهم من جمعت فتاواه في مجلدات، وعلى كل حال منهم المقل، ومنهم المكثر، وهم موجودون مطبقون لهذه النصوص، ومنهم من أحجم، منهم من أحجم ورأى أن التبعة عظيمة، والموقف خطير، ومزلة قدم؛ لأن هذا الموضوع يحتاج، علماً بأنه قد يخفى الأمر على الشخص نفسه أمر الشخص يخفى عليه نفسه، هل هو ممن أمر بالفتوى، أو هو ممن حذر منها؟ الشخص نفسه قد لا يستطيع تحرير واقعه، هل هو ممن أمر بها أو حذر منها، والسائل العامي الذي فرضه سؤال أهل العلم، {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ} [سورة النحل:43]، قد لا يستطيع التحرير فيمن يسأل هل بلغ مقام من يسأل أو لم يبلغ؟ قد لا يستطيع أن يميز بين من يسأل ومن لا يسأل، فالمسألة تحتاج إلى مزيد عناية وتحرير دقيق، لا سيما وأن المجال الآن والفضاء مفتوح لكل أحد، حتى سمعنا من يستفتي رعاع الناس عن مسائل علمية فيها نصوص شرعية، ويجعل الراجح من يدعمه من الأصوات أكثر، في مجتمع لا يمت إلى الالتزام فضلاً عن التدين، فضلاً عن العلم، هذه مسائل خطيرة، وهناك شيء أو نصوص فيها إرهاص من مثل هذه التصرفات التي نعيشها، ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور الرجال، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)) يعني بعض الناس ممن يتصدى للفتوى قد يكون ممن أعطي بياناً، يمرر به كلامه على السذج، بحيث يتناقلونه ويتداولونه، والبيان من هذا النوع جاء فيه قول النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((إن من البيان لسحراً))، وهذا على سبيل الذم، وإن كان بعض أهل العلم يقول: إنه على سبيل المدح لكن السحر مذموم، ((إن من البيان لسحراً)) فمثل هؤلاء الذين يمررون هذه الأقوال ويتدخلون في أمور الدين، وفي قضايا الأمة العامة من غير اعتماد على نص من كتاب ولا سنة، وإذا تصدر للفتوى من لا علم له بالكتاب والسنة لا شك أنه سوف يضل بنفسه، ويضل غيره، وإذا كان من يحتاج إلى الكتاب والسنة من غير المختصين في العلم الشرعي من الأدباء أو من المؤرخين، تجد لهم، لبعضهم عناية فائقة بالنصوص، نصوص الوحيين، فإذا كان هذا في مؤرخ أو أديب، تجده، يرى أن معرفة النصوص حتم لازم لإتقان الفن الذي يريده، فابن الأثير مثلاً صاحب المثل السائر، يقول: إنه استعان على نشر أو على تحقيق ما يطمح إليه من الأدب الرفيع الذي يستحق أن يسمى أدباً، إنما هو بعد حفظه للقرآن، وبعد حفظه لثلاثة آلاف حديث، وصار يردد هذه الأحاديث على مدى عشر سنوات، يختمها في كل أسبوع، الأديب يحتاج إلى النصوص، حاجة ماسة، المؤرخ يحتاج إلى النصوص، وإلا فسوف يقع الخلط في كلامه، يعني فرق بين أن تقرأ في التاريخ لمفسر محدث كابن كثير، وبين أن تقرأ لمحلل لا يعتمد على النصوص كثيراً، فإذا كان هذا في جانب التاريخ والأدب، الحاجة داعية إلى العناية بنصوص الكتاب والسنة، فكيف بمن يتصدى لإقراء الناس، وتعليم الناس، وإفتاء الناس، وليست له عناية بالكتاب والسنة؟ ونرجو ألا يكون مثل هذا الكلام حجة علينا.

إذا عرفنا هذا فقد جاء الوعيد الشديد في حق من كتم العلم وفي حق من جرؤ على العلم، وقال فيه بغير مستند، ولا دليل، ولا برهان من الكتاب والسنة.

يقول الله -جل وعلا-: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [سورة الأعراف:33].

يقول الإمام ابن القيم -رحمه الله- تعالى: "رتب المحرمات أربع مراتب، يعني جعل المحرمات أربع مراتب، وبدأ بأسهلها، قد يقول قائل: إن هذه الجمل الأربع عطفت بالواو، وهي لا تقتضي الترتيب، فلماذا يقول ابن القيم وغير ابن القيم أن القول على الله بغير علم أعظم من الشرك؟ لأننا إذا قلنا أنها رتبت على سبيل الترقي وأن هذه المراتب كل مرتبة منها أعظم من التي قبلها كما يقرر جمع من أهل العلم، ومنهم الإمام ابن القيم يقول: "رتب المحرمات أربع مراتب وبدأ بأسهلها وهو الفواحش، ثم ثنى بما هو أشد تحريماً وهو الإثم والظلم، ثم ثلث بما هو أعظم تحريماً منهما وهو الشرك به سبحانه، ثم ربع بما هو أشد تحريماً من ذلك كله وهو القول عليه بلا علم".

يعني طالب العلم إذا سمع مثل هذا الكلام المفترض أن يحسب له ألف حساب، وأنه إذا سئل عن مسألة يحسب لها وللخلاص منها بين يدي الله -جل وعلا- ألف حساب، يعني وما يضيرك أن تقول: لا أدري، وإذا كان الأئمة على ما سيأتي كثر في أجوبتهم قول: لا أدري، وإذا كان النبي -عليه الصلاة والسلام- المؤيد بالوحي يُسأل فيسكت، لماذا يسكت؟ ينتظر الوحي، ينتظر الوحي، ومن أهل العلم من يقول: أنه يسكت ليربي المفتين؛ لئلا يتسرعوا في الجواب؛ لأن بعض الناس إذا سئل لا يترك السائل يكمل الجواب، بل يبادر بالجواب قبل إكمال السؤال، وما الذي ترتب على ذلك؟ ترتب عليه مثل قول من أجاب السائل، السائل يقول: إن ابني يضربني، ابني يضربني، فأرجو توجيه كلمة لهذا الابن، وما حكم هذا الفعل؟ ومن هذه القبيل، قال السائل: ضرب الوالد لولده شرعي، الضرب شرعي، والأدب شرعي، هل فهم المجيب السؤال، عكس، عكس المراد، لكنه لو تأمل بان له المراد، ومثل هذا قد يحتاج السؤال إلى شيء من الاستفصال من السائل؛ لأن السؤال يحتمل وجوه، وحينئذ على المفتي أن يستفصل من هذه الوجوه.

"ثم ربع بما هو أشد تحريماً من ذلك كله، وهو القول عليه بلا علم، وهذا يعم القول عليه سبحانه بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله وفي دينه وشرعه".

يقول الله -جل وعلا-: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ* مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة النحل:116- 117].

متاع قليل، يعني الدنيا وإن طالت وإن كثرت متعها فإنها قليلة، فإذا تصورنا أن ركعتي الصبح خير من الدنيا وما فيها فالعجب كل العجب ممن يبيع دينه بعرض من الدنيا، تجده يسابق ويسارع، في القرابين من الدين، من أجل أن يكسب شيئاً من عرض الدنيا الزائل.

يقول: "فتقدم إليهم سبحانه بالوعيد على الكذب عليه في أحكامه وقولهم لما لم يحرمه هذا حرام، ولما لم يحله هذا حلال، وهذا بيان منه سبحانه أنه لا يجوز للعبد أن يقول: هذا حلال وهذا حرام إلا بما علم أن الله سبحانه أحله وحرمه، إلا بما يعلم أن الله سبحانه أحله وحرمه".

إذا قرنا هذا وعرفنا أن القول على الله بلا علم كذب، {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ}، إيش معنى كذب؟ كذب يعني أنه غير مطابق لما عند الله -جل وعلا- من حكم، وغير مبني على وسائل شرعية يستنتج منها الحكم، وهذا حال الجاهل الذي يفتي بغير علم، الذي أخبر عنه النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه يضل ويضل، هذا كافر، فإذا قرنا هذه الآية بقوله -جل وعلا- في سورة الزمر: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ} [سورة الزمر:60]، هذه مثل هذه الآيات ترتعد منها الفرائص، ما دام كذب، يعني المقدمة ما دام القول على الله بلا علم كذب، والفتوى بلا علم كذب على الله، وافتراء، والذي يكذب على الله يأتي يوم القيامة مسود الوجه، نسأل الله السلامة والعافية، {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ} [سورة الزمر:60]، ما الذي يمنعه من قول لا أدري، هذا الجاهل إذا سئل وافترى على الله الكذب وقال: حلال أو حرام، مع مخالفة الحكم الصحيح مثل هذا ما الذي يمنعه من قول: لا أدري؟ لا شك أنه الكبر نسأل الله العافية.

وفي سنن أبي داود من حديث مسلم بن يسار قال: سمعت أبا هريرة يقول: "من قال علي ما لم أقل، فليتبوأ بيتاً في جهنم، ومن أفتى بغير علم كان إثمه على، أو من أُفتي بغير علم كان إثمه على من أفتاه، ومن أشار على أخيه بأمر يعلم الرشد في غيره فقد خانه".

يقول ابن القيم -رحمه الله- تعالى: "وكل خطر على المفتي فهو على القاضي، وكل خطر على المفتي فهو على القاضي، وعليه من زيادة الخطر ما يختص به، ولكن خطره أعظم من جهة، يعني خطر المفتي أعظم من جهة، وخطر القاضي أعظم من جهة".

كيف يكون خطر القاضي أعظم من خطر المفتي؟ لأنه؛ لأن القضاء بيان الحكم مع الإلزام، فيلزم الخصمين، والمفتي لا يلزم، لكن القاضي يقضي في مسألة واحدة معينة، والمفتي إذا أفتى بحكم شرعي اطرد، اطرد فلو قال شخص: ما حكم كذا، لهذا الذي يفتي، قال: الجواز، أو التحريم، ثم وقعت نظائر لهذه المسألة قيل: إن الشيخ فلان أفتى بكذا، ولا يحتاج أن يسأل مرة ثانية، يقول: "وعليه من زيادة الخطر ما يختص به ولكن خطره أعظم من جهة أخرى فإن فتواه شريعة عامة تتعلق بالمستفتى وغيره". تتعلق بالمستفتى وغيره، وأما الحاكم فحكمه جزئي خاص لا يتعدى إلى غير المحكوم عليه، وله فالمفتي يفتي حكماً عاماً كلياً أن من يقول: كذا، ترتب عليه كذا، ومن قال كذا لزمه كذا، والقاضي يقضي قضاءً معيناً على شخص معين فقضاؤه خاص لكنه ملزم، وفتوى العالم عامة لكنها غير ملزمة، فكلاهما أجره عظيم، وخطره كبير".

جاء في الحديث وفيه كلام لأهل العلم رجحوا إرساله: ((أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار))، ثم رجح إرساله، يعني لا يثبت صحيحاً، وإن كان بعضهم يحسنه، لكنه قد لا يصل إلى درجة التحسين.

يقول المناوي في شرح الجامع الصغير في شرح هذه الحديث: ((أجرؤكم)) يعني أقدمكم، يعني أسرعكم إقداماً على إجابة السائل عن حكم شرعي من غير تثبت وتدبر، والإفتاء بيان حكم المسألة ((أجرؤكم على النار)) أقدمكم على دخولها؛ لأن المفتي مبين على الله حكمه، فإذا أفتى على جهل أو بغير علم أو بغير ما علمه أو تهاون في تحريره، أو استنباطه فقد تسبب في إدخال نفسه النار لجرأته على المجازفة في أحكام الجبار، {آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ} [سورة يونس:59]، هذه فرية على الله -جل وعلا-.

يقول الزمخشري: "كفى بهذه الآية زاجرة زجراً بليغاً عن التجوز فيما يسأل من الأحكام، وباعثة على وجوب الاحتياط فيها، وأن لا يقول أحد في شيء جائز إلا بعد إتقان وإيقان ومن لم يوقن فليتق الله وليصمت، وإلا فهو مفتر على الله تعالى".

هذا في بيان الحكم المجزوم به، يعني يأتي سائل فيقول: ما حكم كذا؟ فيقول: هذا حلال وإلا حرام؟ هذا لا بد أن يعد لنفسه مخرج بين يدي الله -عز وجل-، لكن لو طُرحت مسألة في مجلس علم بين طلبة علم وشارك الحاضرون من غير علم، من غير علم، لا على سبيل الفتوى، وإنما على سبيل المشورة، والترجي، فقال بعضهم: لعل الحكم كذا، قال بعضهم: لعل الحكم كذا، لعل المراد كذا، مثل هذا لا يضر مثل هذا لا يضر، لما ذكر النبي -عليه الصلاة والسلام- السبعين الألف الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب قال الصحابة: لعلهم كذا، لعلهم كذا، لعلهم كذا، فخرج النبي -عليه الصلاة والسلام- فقال قوله الفصل، ولم يوافق أحد منهم هذا القول، فدل على أنه إذا لم يكن على سبيل الإلزام، بل على طريق الترجي، فإن هذا يتسامح فيه، ومثله لو طلب معنى حديث أو معنى آية، يعني بعض الناس يجرؤ على كلام الله -جل وعلا- فيفسره برأيه، وقد جاء الوعيد الشديد على من يفسر القرآن برأيه، فإذا قيل: لعل المراد، مراد الله -جل وعلا- بهذه الآية كذا، أو كذا، فالأمر فيه يسر إن شاء الله تعالى.

ومن الناس من يجرؤ على تفسير كلام الله -جل وعلا- بما لا يحوم حوله ولا يصوب صُوبَه، حتى أنه سئل بعضهم عن كلمة أو عن آية فيها ثمانية أقوال لأهل العلم فأجاب بجواب خارج عن هذه الثمانية، ما وافق ولا قول لأهل العلم، قد يقول قائل: وليكن قولاً تاسعاً، ونفترض أنه قول تاسع ما الذي يضر؟ لكن هل هذا القول التاسع من قائل يسوغ له أن يفسر القرآن بمثل هذه الطريقة؟ هل يسوغ التفسير لكل أحد بغير نقل؟ الأصل أن التفسير منقول، التفسير أمره موكول إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، ثم إلى صحابته مما فهموه من أقواله وأحواله -عليه الصلاة والسلام-، ثم لمن تبعهم بإحسان ممن فهم حال من تقدم.

كثيراً ما يصل الإنسان إلى رتبة من العلم، ويقرأ في تفاسير الأئمة الشيء الكثير، ثم يسأل عن تفسير آية، أو يقرأ شروح الحديث، ثم يُسأل عن معنى حديث لا يذكر فيه قول لقائل معين، لكنه من خلال قراءاته واطلاعه الواسع على كلام أهل العلم، تكونت لديه ملكة، بحيث يظهر له معنى الآية أو معنى الحديث، مثل هذا هو التفسير بالرأي المستند إلى أقوال أهل العلم، وإلا لو نظرنا في تفاسير الأئمة الموثوقين، لا سيما بعد عصور الرواية، تجد كثير منهم يدخل في تفسيره من كلامه الشيء الكثير، واستظهاراته ظاهرة في كتابة، هل نقول: إن هذا من التفسير بالرأي الممنوع، أو نقول: إن هذا ما دام أدام النظر في كلام أهل العلم، وفي أقوال المفسرين، وما جاء في التفسير المأثور، تكونت لديه هذه الملكة فصار موازياً لمن أخذ عن سلف هذه الأمة، يعني لو على سبيل المثال نظرنا إلى تفسير الشيخ ابن سعدي، هل فيه كلمة مضافة إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، أو مضافة إلى صحابي أو تابعي؟ لا، كله من إنشاء الشيخ، هل نقول: إن هذا تفسير بالرأي لا يجوز؟ هو منتقى من تفاسير السلف، لكن لا يلزم إضافة كل قول إلى قائله لا سيما إذا كان للمؤلف دور في الصياغة، والتعبير عن الأقوال الكثيرة بألفاظ وجيزة، مثل هذا لا شك أنه ينطلق من أصل أصيل، وأساس متين، يعتمد على التفسير المروي عن سلف هذه الأمة؛ لأن هذا قد يلتبس، يقول: لماذا نقول: الزمخشري بالرأي حرام، الرازي بالرأي حرام، ونقول لأناس آخرين ليس؟ نقول: لا يا أخي، الرازي خالف السلف فيما قرره في التفسير، خرج عن طريق السلف ومنهج السلف وسنن السلف، الرازي كذلك، الزمخشري وغيرهما ممن فسر من المبتدعة، لكن من نظر في تفاسير السلف وأدام النظر فيها تتولد لديه ملكة يستطيع أن يتعامل بها مع نصوص الكتاب على طريقة السلف وهدي السلف، وقل مثل هذا في معاني ما جاء عن النبي -عليه الصلاة والسلام-، وهذا يجعلنا نديم النظر في كلام أهل العلم الموثوقين ممن هم على الجادة، ولا مانع أن ننظر في أقوال المخالفين والمعارضين من أجل أن نحذر هذه الأقوال ونتصور هذه الأقوال؛ لئلا نقع من حيث لا نشعر بمثل ما وقعوا فيه، وهذا للمتأهل، هذا للمتأهل.

يقول ابن المنكدر: "المفتي يدخل بين الله وبين خلقه، فلينظر كيف يفعل فعليه التوقف والتحرز لعظم الخطر". وكان ابن عمر -رضي الله عنه- إذا سئل قال: "اذهب إلى هذا الأمير الذي تقلد أمر الناس وضعها في عنقه" وكان الولاة في عصر السلف من أهل العلم، وجاء رجل من العراق أو من الشام كما في صحيح مسلم يسأل ابن عمر عن مسألة في المناسك، فقال: اذهب انظر ابن عباس، اذهب إلى ابن عباس، ابن عباس ند لابن عمر، ونظير له في السن، وعند ابن عمر من الجوانب ما لا توجد عند ابن عباس، والعكس أيضاً، يعني جانب العلم في ابن عباس أظهر وجانب العمل والعبادة في ابن عمر أظهر، ولذلك قال السائل لما قال له ابن عمر كما في صحيح مسلم: اذهب إلى ابن عباس، فقال: ذاك رجل مالت به الدنيا، ومال بها.

فالناس عامة الناس يثقون بالعالم الذي لا يتوسع في أمور دنياه، نحن لا نقول أن ابن عباس ارتكب محرمات، وجلب الأموال من غير حلها، وصرفها في غير حلها، كلا، ليس بصحيح، لكنه توسع في الدنيا أكثر من ابن عمر، ابن عمر شدد على نفسه شيئاً، ومع ذلك هو من أهل التحري وأهل الورع، وأهل التثبت ولا يقال   لابن عباس متساهل، ابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن، لكن عامة الناس تجدهم يثقون في صاحب العمل أكثر من غيره، وإن كانوا لا يميزون أيهما أعلم، هو لا يدري أيهما أعلم، لكن شهرة ابن عمر في تتبع آثار النبي -عليه الصلاة والسلام-، والاقتداء به والائتساء به، جعلته يكون راجحاً عند هذا، وإلا فلا شك أن العلماء عندهم من الناحية العلمية ابن عباس أرجح.

من سئل عن فتوى فينبغي أن يصمت عنها ويدفعها إلى من هو أعلم منه بها، هذا من سئل عن فتوى عليه أن يصمت عنها ويدفعها -كما قال أهل العلم- إلى من هو أعلم منه بها، هذا إذا وجد من يكفيه أمرها، أما إذا تعين عليه الجواب؛ لأن هذه الأعمال العامة التي تتعلق بعموم الأمة، هي فروض كفايات، فروض كفايات، الفتوى لا بد من نصب المفتين، القضاء لا بد من تعيين القضاة ونصبهم لحل المنازعات، التعليم لا بد منه، الولاية الخاصة والعامة لا بد منها، هذه فروض كفايات، لا بد من القيام بها، فالإقدام من غير تأهل ومن غير حاجة، هذا لا شك أنه خطر ومزلة قدم، والإحجام حينما يتعين عليه الأمر أيضاً مسئولية عظيمة أمام الله -جل وعلا-، ونجد في وقتنا هنا، في وقتنا الحاضر نجد طرفي النقيض، نجد طرفي النقيض، تجد الأهل الكفء إذا سئل: أروح اسأل، ما أدري، اذهب اسأل، اسأل غيري، لكن يا أخي ما الذي يخلصك أمام الله -جل وعلا- حينما جاءك هذا الشخص وعندك من العلم ما عندك؟ نعم إذا كنت لا تتبين المسألة على وجهها، فلك أن تقول: اذهب، إذا لم يتعين عليك، ويسهل على السائل أن ينتقل إلى شخص يجيبه عن سؤاله، لك ذلك، لكن إذا تعين عليك البلد ما فيه إلا أنت، تقول: اذهب اسأل غيري؟ هذا الكلام ليس بصحيح، ولا يعني هذا أنك تجيب عن كل ما تسأل عنه، هناك أسئلة فورية تحتاج إلى جواب فوري.

ويتصل من يتصل بعد هزيع من الليل، يعني افترض الساعة الثالثة من الليل، قبيل الفجر، وإذا قيل له: ما الذي دعاك إلى الاتصال في هذا الوقت، هذا يا أخي إحراج؟ قال: المسألة عاجلة، وتحتاج إلى جواب عاجل، حصل منه طلاق لامرأته وهي في الطلق، إيش يعني هذا؟ يعني أنها قد تلد بعد ربع ساعة، أو نصف ساعة، وتخرج من العدة، فلا يكون له عليها سلطان، مثل هذا لا بد من إجابته في وقته، لئلا يفوت الأمر عليه، والتقصير حاصل نسأل الله العفو والعافية، نسأل الله المسامحة، التقصير حاصل، يعني يتصل على كثير من المشايخ في أوقات سعة، وليست في أوقات ضيق، فلا يجيب، نعم الأمور كثرت والتبعات كثيرة، والمتطلبات، وشئون الحياة، وأمور الأسر الآن صعبت، تأزمت، يعني على الإنسان أن يراعي من يسأل، لكن مع ذلك على المسئول أن يجيب إذا كان عنده علم.

يقول: فمن سئل عن فتوى فينبغي أن يصمت عنها ويدفعها إلى من هو أعلم منه بها، أو من كلف الفتوى بها وذلك طريقة السلف، من كلف الفتوى بها، هل لمن عين من قبل الإمام وأخذ أجر على الفتوى أن يقول: اذهب إلى فلان، أو اذهب إلى من هو أعلم مني؟ ليس له ذلك، لماذا؟ لأنه يأخذ على ذلك أجراً من بيت المال، فعليه أن يجيب، لا يلزم أن يجيب بما يعرف وما لا يعرف، لا، يلزمه أن يجيب بما يعرف، أما ما لا يعرفه لا يجوز له أن يجيبه، بل يدفعه إلى من هو أعلم منه.

وذلك طريقة السلف، يقول الماوردي: "فليس لمن تكلف ما لا يحسن، فليس لمن تكلف ما لا يحسن غاية ينتهي إليها، ولا له حد يقف عنده، ومن كان تكلفه غير محدود فأخلق به أن يضل ويضل".

هذا الطالب العلم المبتدئ الذي نصب نفسه يفتي الناس، هذا ليس له حد محدود، وليست له غاية، يعني هل يقول: أنا لا أفتي إلا في باب من الأبواب، أو لا أفتي إلا فيما أحسن؟ يعني إذا كنت لا تفتي إلا فيما تحسن فسوف تقول، هذا إذا صدقت مع ربك ومع نفسك فسوف تقول عن تسعة وتسعين بالمائة من المسائل لا أدري، وحينئذ في عرف الناس تحترق، خلاص كيف يتجه الناس إلى من يقول في تسعة وتسعين بالمائة من المسائل لا أدري؟، وقد تمر عليه بعض المسائل ويستحضر الأقوال ولا يوفق للجواب عنها، في هذا الواحد بالمائة هذا، ليس هناك حد يقف عنده، ويفاجئ بما ليس في حسبانه، يقول: أنا الآن أتقنت، أتقنت باب الصلاة، أو الزكاة، أو باب من أبواب الدين، ثم ينصب نفسه للفتوى ثم أول ما يسأل عنه مسألة طلاق، أو مسألة أيمان ونذور، أو في مسائل من أبواب الدين الأخرى، وقد لا يسأل ولا عن سؤال واحد مما يحسن؛ لأن العلم بحر محيط لا يمكن إدراكه، فإذا كان لا هناك غاية ينتهي إليها، ولا حد يقف عنده، فمثل هذا عليه أن يحجم، فإن أقدم فسوف يضل بنفسه ويُضل غيره.

وقال بعض الحكماء: "من العلم ألا تتكلم فيما لا تعلم، بكلام من يعلم، فحسبك خجلاً من نفسك وعقلك أن تنطق بما لا تفهم" لأننا نسمع من يسأل ومر بنا وبغيرنا، فيجيب بكلام يعرض السائل وغير السائل من السامعين، أن هذا المسئول على يدري ماذا سيقول، من البداية تعرف لأنه ما يدري إيش يقول هو، هذا واضح، وبعض الناس يأتي بكلام ينقض بعضه بعضاً، لا خطام له ولا زمام، والإشكال أنه يسأل ويسجل كلامه ثم يفرغ، ثم يأتي بكلام لو قيل له أو وضع مسابقة على كلام لا يفهم، لا يمكن يأخذ رقم واحد، كلام مرتبط يمسح بعضه بعضاً، ويشوش بعضه على بعض، ويأتي بالكلمة بالجملة، ويأتي بنقيضها، يا إخوان هذا موجود، موجود مع تساهل الناس في هذا الباب الخطير، يعني قد يكون السماع أسهل من القراءة، أن يمشي لأن الذهن قد لا يكون حاضراً في كل ما يُسمع، يفوت بعض الشيء، لكن إذا فرغ على ورقة ونشر في وسائل الإعلام المقروءة افتضح.

يقول بعض الحكماء: "من العلم ألا تتكلم فيما لا تعلم، بكلام من يعلم، فحسبك خجلاً من نفسك وعقلك أن تنطق بما لا تفهم، وإذا لم يكن إلى الإحاطة بالعلم من سبيل، فلا عار أن تجهل بعضه، فلا عار أن تجهل بعضه، وإذا لم يكن في جهل بعضه عار فلا تستحيي أن تقول: لا أعلم، فيما لا تعلم".

يعني والملاحظ على مر العصور من صدر الأمة إلى يومنا هذا أن الذي يقول: لا أعلم، ويكثر منها هم أهل العلم على الحقيقة، هم الأئمة هم الراسخون في العلم، والذي لا يقول لا أعلم، ولا تكثر على لسانه، تجدهم هؤلاء الصغار المبتدئون، على حد زعمهم أن هذا الكبير انتهى من بناء الشخصية، وأذعن الناس واعترفوا به، عالم ولو قال: لا أعلم، لكن هذا الصغير الذي ما استتمت شخصيته، إذا قال لا أعلم، فهو يظن هذا عيب عليه، ولا شك أن هذا من جهله المركب، قال ابن أبي ليلى: "أدركت مائة وعشرين صحابياً، وكانت المسألة تعرض على أحدهم فيردها إلى الآخر حتى ترجع إلى الأول، حتى ترجع إلى الأول".

يقول الغزالي: "فانظر كيف انعكس الحال فصار المرهوب منه مطلوباً، والمطلوب مرهوباً، المطلوب لا أدري، مرهوب، يخشاه الإنسان، والمرهوب وهو الجرأة على الفتوى من غير أهلها هو المطلوب، وتجد في مجالس الكبار يحضر طلاب علم، يحضر طلاب علم في مجالس كبار أئمة فإذا سئل هذا الكبير بادر الصغير بالجواب، ألا يوجد مثل هذا؟! يوجد وبكثرة، أما في قاعات الدراسة ومسابقات الأساتذة حدث ولا حرج، لكن أيضاً في مجالس الأئمة في مجالس العلماء الذي يستحي الإنسان من تحديد النظر في وجوههم، فضلاً عن مسابقتهم، والتقدم بين أيديهم بكلام قد لا يكون صواباً.

يقول ابن القيم -رحمه الله- تعالى: "وكان السلف من الصحابة والتابعين يكرهون التسرع في الفتوى، ويود كل واحد منهم أن يكفيه إياها غيره، كان السلف من الصحابة والتابعين يكرهون التسرع في الفتوى، ويود كل واحد منهم أن يكفيه إياها غيره، فإذا رأى أنها قد تعينت عليه، ما في غيره، بذل اجتهاده في معرفة حكمها من الكتاب والسنة، أو قول الخلفاء الراشدين ثم أفتى".

ما يستعجل إذا تعينت عليه، يزيد في التأمل لماذا؟ لأنه يبحث عن خلاص نفسه، وألزم ما على الإنسان أن يسعى في خلاصه قبل خلاص السائل، قبل خلاص السائل، أنت مطالب أولاً بنجاة نفسك، ثم بعد ذلك إذا كان هناك فضل، فاطلب نجاة غيرك.

يقول عبد الله بن المبارك: حدثنا سفيان عن عطاء بن السائب عن عبد الرحمن ابن أبي ليلى قال: "أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أُراه قال في المسجد، فما كان منهم محدث إلا ود أن أخاه كفاه الحديث، إلا ود أن أخاه كفاه الحديث،" هذا من حفاظ الحديث، لماذا يود أن يكفيه أخوه الحديث؟ خشية أن يزل لسانه فيأتي بالحديث على غير وجهه، "ولا مفت إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا".

وجاء رجل من أهل البادية طلق امرأته ثلاثاً إلى عبد الله بن الزبير وعاصم بن عمر فقال: ما تريان؟ قال ابن الزبير: "إن هذا الأمر ليس لنا فيه قول، جاء رجل من أهل البادية طلق امرأته ثلاثاً إلى عبد الله بن الزبير وعاصم بن عمر فقال: ما تريان؟ فقال ابن الزبير: "إن هذا الأمر ليس لنا فيه قول، فاذهب إلى عبد الله بن عباس وأبي هريرة فإني تركتهما عند عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم- ثم ائتنا فأخبرنا، يعني لا يكفي أن تذهب إلى ابن عباس وأبي هريرة وتسمع الفتوى وتذهب إلى امرأتك، إما لفراقها أو لإعادتها، على حسب الفتوى، لا يكفي هذا، ارجع إلينا فأخبرنا بما قال لك، ثم ائتنا فأخبرنا، فذهب السائل فسأل فسألهما، فقال ابن عباس لأبي هريرة: أفته، أفته يا أبا هريرة فقد جاءتك معضلة، وهذه المسألة عند كثير من طلاب العلم أسهل من شرب الماء، أسهل من، مثل النفس عندهم، يفتي فيها كما يتنفس، ما في مشكلة، طلاق طلق امرأته ثلاثاً، ألا تدري ما الذي يترتب على فتواك؟ إما أن تجعله يجامعها في حرام؛ لأنها بانت منه بالحقيقة وأنت قلت ما وقع الطلاق، أو العكس، تفرق بين رجل وامرأته وتشرد أولاده من أجل جهلك، المسألة خطيرة يا الإخوان، ليست بالسهلة ولا بهينة، أفته يا أبا هريرة، قد جاءتك معضلة، المسألة من عضل المسائل، طلاق الثلاث ليس بالسهل.

وقال ابن عباس: "كل من أفتى الناس في كل ما يسألونه عنه لمجنون". إنه لمجنون، وعن ابن مسعود مثله.

يقول عبد الرحمن بن مهدي: "سأل رجل، يقول عبد الرحمن بن مهدي: "سأل رجل من أهل المغرب مالك بن أنس عن مسألة فقال: لا أدري، فقال: يا أبا عبد الله تقول لا أدري؟ قال: نعم، قال: نعم، مالك نجم السنن يقول: لا أدري؟ قال: نعم، فأبلغ من وراءك أن مالك لا أدري".

ثم ماذا؟

والعلماء ينقلون عن مالك ويتداولون في كتبهم، أنه سئل عن أربعين مسألة فأجاب عن ست وثلاثين مسألة بقوله: لا أدري، وأجاب السائل عن أربع.

الذي يجيب هذه النسبة عشر ما يسأل عنه هل يصنف عالم، وإلا طالب علم، وإلا لا علم له، عنده، بماذا ينصف؟ هل هذا فقيه؟ يعني لو إنسان يسأل طول عمره ما يجيب إلا بالعشر، هل يصنف عالم وإلا ما يصنف؟ هل يقال: هذا فقيه وإلا ليس بفقيه؟ إي نعم في عرف أهل العلم أن مثل هذا ليس من أهل العلم.

لكن عند أهل العلم أن الفقه كما يكون بالفعل يكون بالقوة القريبة إلى الفعل، إيش معنى القوة القريبة من الفعل؟

مالك الآن ليست عنده مراجع، سئل عن هذه المسائل وأجاب عن أربع هذه يتبينها مثل الشمس، والبقية يشك فيها، فهل يلزم أن يجيب فيها؟ لا يلزم، لكن مالكاً إذا رجع إلى كتبه وأصوله، يستطيع أن يحرر هذه المسائل أو لا يستطيع؟ يستطيع، فمالك فقيه؛ لأن الفقه عندهم إما أن يكون بالفعل بأن يسأل عن المسائل فيجيب عن الأسئلة بأدلتها، وإما أن يكون بالقوة القريبة من الفعل بأن تكون لديه الأهلية لبحث المسائل العلمية والترجيح والتعامل مع النصوص على مقتضى الجادة المعروفة عند أهل العلم، هذا فقيه بالقوة، لكن من سئل عن مسألة في الطهارة مثلاً، فأخذ كتاباً من كتب الفقه المرتبة على الطريقة المعروفة عند أهل العلم، ثم أخذ يقلب الصفحات الأخيرة، هذا فقيه بالفعل أو بالقوة؟ لا هذا، ولا هذا، كما لو سئل عن مسائل في الإقرار فذهب يبحث عنها في أوائل الكتب المرتبة.

لكن بعض الناس بالفعل فقيه، تسأله عن مسألة فيذهب إلى الكتاب فيفتح الكتاب يقع على المسألة، قد يقع على المسألة وقد يقدم ورقة ويؤخر ورقة، هذا الفقيه بالقوة القريبة من الفعل، يستطيع الوصول إلى المسائل في كتب أهل العلم، ويستطيع أن يتعامل مع كلام أهل العلم بالطريقة المسلوكة عنده، لكن من تخرج على المذكرات هل يستطيع أن يتعامل في كتب أهل العلم، ويفهم كلام أهل العلم؟ لا يستطيع، كلام أهل العلم عندهم أصول، وعندهم قواعد، وعندهم اصطلاحات لا يفهمها إلا من عانى كلامهم، ولذا المطلوب من طلاب العلم ألا يقرءوا ولا يعتمدوا على كتب المعاصرين، يكون معولهم على الكتب التي ألفت لطبقات المتعلمين من أهل العلم، وهي التي يربى عليها طالب علم، أما أن يقرأ في مذكرات، وفي كتب معاصرين صيغت للمعاصرين يفهمها كل أحد، هذه ما تربي طالب علم؛ لأنه قد يحتاج إلى مسألة في كتاب من كتب المتقدمين، فلا يستطيع فهمها.

يقول عبد الله بن الإمام أحمد: كثيراً ما يسأل الإمام أحمد عن المسائل فيقول: لا أدري، ويقف إذا كانت مسألة فيها اختلاف وكثيراً ما يقول: سل غيري فإن قيل له: من نسأل؟ قال: سلوا العلماء، ولا يكاد يسمي رجلاً بعينه، لا يكاد يسمي رجلاً بعينه، قال: وسمعت أبي يقول: "كان ابن عيينة لا يفتي في الطلاق، ويقول: من يحسن هذا".

مع أنه من أهل الفتوى المعروفين ابن عيينة.

وكان أحمد -رحمه الله- تعالى شديد الكراهية والمنع للإفتاء بمسألة ليس فيها أثر عن السلف، يعني مسألة جديدة، نازلة، الإمام أحمد يكره كراهية شديدة أن يفتي بهذه المسألة التي لم يسبق إليها، كما قال الإمام أحمد لبعض أصحابه: "إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام".

وقال بعضهم: إن استطعت ألا تحك رأسك إلا بنص فافعل، يعني لا بد أن يكون لك قدوة في عملك، وفي قولك، وكان -رحمه الله- يسوغ استفتاء فقهاء الحديث، وأصحاب مالك ويدل عليهم، ويمنع من استفتاء من يعرض عن الحديث ولا يبني مذهبه عليه، ولا يسوغ العمل بفتواه؛ لأن عناية الإمام أحمد بالوحيين ظاهرة، حتى أن من أهل العلم من لا يعده فقيهاً، وإنما يعده من أهل الحديث، وابن عبد البر لما ترجم للأمة الفقهاء ترجم للثلاثة وتركه، لكن مثل هذا لا يضيره، ففقه معروف، ومتداول وأصحابه فيهم كثرة، وحملت علمه الذي بقي إلى يومنا هذا قامت بهم مئونة حمل هذا العلم العظيم، عن هذا الإمام المقتدي المؤتسي، المتثبت إمام أهل السنة الإمام أحمد.

قال أبو داود في مسائله: "ما أحصي ما سمعت أحمد سئل عن كثير مما فيه الاختلاف في العلم فيقول: لا أدري، قال: وسمعته يقول: ما رأيت مثل ابن عيينة في الفتوى، أي ما رأيت أحسن منه، وكان أهون عليه أن يقول: لا أدري" يقول: لا أدري.

وقال سحنون بن سعيد: "أجسر الناس على الفتيا أقلهم علماً، يكون عند الرجل الباب الواحد من العلم يظن أن الحق كله فيه".

ويقول ابن القيم: "الجرأة على الفتيا تكون من قلة العلم، ومن غزارته وسعته، "الجرأة على الفتيا تكون من قلة العلم، ومن غزارته وسعته".

فقليل العلم -مثل ما ذكرنا سابقاً- يريد أن يبني شخصيته، ولو كان على حساب دينه وشغل ذمته، والعالم المتبحر عنده ما يجيب به في كثير من المسائل أو كبار المسائل.

يقول: "فإذا قل علمه أفتى عن كل ما يسأل عنه بغير علم، وإذا اتسع علمه اتسعت فتياه ولهذا كان ابن عباس من أوسع الصحابة فتيا وقد بلغ ما جمع من فتواه في عشرين سفراً" عشرين مجلد.

كان الناس ينظرون إلى مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ويقولون: كيف جمع هذا العلم، وجمع هذه، وأجاب عن جميع هذه المسائل في هذا العمر؟ شيخ الإسلام لم يعمر، من واحد وستين إلى ثمان وعشرين، أربعين وسبعة وعشرين سبعة وستين سنة، ما شاء الله، سبع وثلاثين مجلد فتاوى إذا نظرت إلى فتاوى النووي إذا هي في جزء صغير، وإذا قارنا هذا بفتاوى من يتصدى للإفتاء في وقتنا تجد البون كبير، يعني لو أن إنسان يجيب في كل يوم عن خمس مسائل مثلاً في عصرنا هذا في السنة يحتاج إلى كم؟ ألف وسبعمائة مسألة، وفي عشر سنوات يجيب عن سبعة عشر ألف مسألة، وفي العشرين وهكذا إلى أن تبلغ المئات من المجلدات، وهذا الحاصل، يعني لو جمعنا فتاوى شيوخنا مثلاً، يعني ما جمع معنا مثلاً الشيخ ابن باز، يقرب من فتاوى شيخ الإسلام، وبقي الشيء الكثير، ولو جمعت فتاواه في الطلاق لبلغت حجم مجموع فتاوى شيخ الإسلام كله، والحاجة داعية، والناس كثرت عندهم الإشكالات، كثر عندهم ما يحتاج إلى سؤال أهل العلم من مشاكل سواءً كانت في الدين، أو في أمور الدنيا، أو في التعامل والأمور الاجتماعية، هذه كثيرة جداً، تحتاج إلى من يحلها بالطريقة الشرعية.

وكان سعيد بن المسيب أيضاً واسع الفتيا وكانوا يسمونه الجريء، كانوا يسمونه جريء، يعني تحس إن بعض الناس جرأة، جرأة لكن إن كانت الجرأة مبنية على أصول شرعية فنعمت الجرأة، وإن كانت غير مبنية على الأصول الشرعية فيا ويلهم، يعني أحياناً تقرأ فتوى لشيخ الإسلام بذيولها واستطراداتها تجد عنده قوة في الكلام، وقد تقول: هذا الكلام فيه جرأة، لكنها جرأة سببها الإحاطة بنصوص الشرع وقواعده وأصوله، ومع ذلك سئل عنه محمد رشيد رضا، يعني نظير ابن عباس مع من تقدمه من الصحابة، شيخ الإسلام مع من تقدمه من الأئمة، رشيد رضا سئل عن شيخ الإسلام هل هو أعلم من الأئمة الأربعة، أو هم أعلم منه؟ فقال: "من وجه باعتبار أن شيخ الإسلام -رحمه الله- تعالى تخرج على كتب الأئمة، وكتب أصحابهم فلهم الفضل عليه، وباعتبار إحاطته بما كتبه هؤلاء الأئمة فهو أوسع منهم علماً".

ابن عباس جمع، جمع الله له علم كبار الصحابة كلهم، و تأخرت حياته حتى احتيج إليه، احتيج إليه، احتيج إلى علمه، فكثرت فتاواه، ولذلك تجدون الشيخ إذا عُمّر وهو على الجادة، وعلى هدي شرعي تجده يكون محل ثقة الناس، يعني الشيخ ابن باز -رحمه الله- عمر بعد أقرانه فاحتاج الناس إلى علمه، انقرض أقرانه قبله بعشر، سنوات عشرين سنة احتاج الناس على ما عنده، ولذلك انتشر علمه انتشار الليل والنهار، بيمنا من أقرانه من لو جمعت فتاواه في مجلد مثلاً، فالتأخر تأخر السن بعد الأقران لا شك أنه تكثر الحاجة إليه، ولذا يقولون في العبادلة الأربعة ابن عمر وابن عباس، وابن الزبير، وعبد الله بن عمرو بن العاص، قالوا: ابن مسعود ليس من العبادلة الذين انتشرت فتاواهم، لماذا؟ لأنه مات قديم، وهؤلاء تأخروا حتى احتاج الناس إلى علمهم، فالحاجة هي التي تجعل الانتشار للعلم أكثر وأوسع.

 ذكر ابن وهب عن محمد بن سليمان المرادي عن أبي إسحاق قال: "كنت أرى الرجل في ذلك الزمان، وإنه ليدخل يسأل عن الشيء فيدفعه الناس من مجلس إلى مجلس، حتى يدفع إلى مجلس سعيد بن المسيب كراهية للفتيا" فيجيبه سعيد، سعيد أعلم التابعين على الإطلاق، ووارث علم أبي هريرة، صهره.

وقال سحنون: "إني لأحفظ مسائل منها ما فيه ثمانية أقوال من ثمانية أئمة من العلماء، فكيف ينبغي أن أعجل بالجواب قبل الخبر فلم ألام على حبس الجواب؟".

يعني إذا كانت المسألة فيها ثمانية أقوال فلماذا أستعجل أنا في إبداء رأيي قبل أن ينضج الرأي، فلم ألام على حسب الجواب؟ والمسألة أفتى فيها أئمة، ويأتي من الشباب من يقول: هم رجال ونحن رجال.

وقال ابن وهب حدثنا أشهل بن حاتم عن عبد الله بن عون عن ابن سيرين قال: قال حذيفة: "إنما يفتي الناس أحد ثلاثة: من يعلم ما نسخ من القرآن، أو أمير لا يجد بداً أو أحمق متكلف، هذا كلام حذيفة "إنما يفتي الناس أحد ثلاثة: من يعلم ما نسخ من القرآن، أو أمير لا يجد بداً، أو أحمق متكلف، قال: "فربما قال ابن سيرين: "قلت: فلست بواحد من هذين، لست الأول والثاني، ولا أحب أن أكون الثالث" يعني الأحمق المتكلف.

يقول: من يعلم ما نسخ من القرآن، إيش معنى هذا الكلام؟ يعني ليعرف كيف يتعامل مع النصوص؛ لأن نصوص الكتاب والسنة فيها المتقدم والمتأخر، وفيها المحكم والمتشابه، وفيها المطلق والمقيد، وفيها العام والخاص، وفيها الظاهر والنص، والمؤول وفيها أنواع كثيرة جداً، كيف يتعامل، الذي يستطيع أن يتعامل مع النصوص بمعرفة هذه الأمور هو الذي يفتي الناس.

والنسخ في عرف السلف أعم من الرفع الكلي للحكم، النسخ في عرف السلف أعم من أن يكون رفعاً كلياً للحكم، كما هو المعنى الاصطلاحي العرفي عند أهل العلم، بل يشمل النسخ الكلي، ويشمل أيضاً النسخ الجزئي من التقييد والتخصيص وغيرهما.

إذا نظرنا في سير السلف الصالح، نجدهم بدءاً من الصحابة منهم المقل ومنهم المتوسط، ومنهم المكثر، منهم من لو جمعت فتاواه لبلغت عشرات المجلدات، ومنهم من تبلغ الآحاد، ومنهم من مما لو جمعت فتاواه لصارت في جزء صغير فهم متفاوتون، وكل منهم الحادي له على ما ارتضاه لنفسه النصوص، الله -جل وعلا- أخذ العهد وا لميثاق على أهل العلم أن يبينوه، أن يبينوه للناس ولا يكتموه، ولو لم يسأل، لا بد من البيان ولو لم يسأل الإنسان، لكن إذا سئل تعين؛ لأنه لا يجوز تأخير هذا البيان عن وقت الحاجة.

يقول الله -جل وعلا-: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [سورة البقرة:159-160].

يقول -جل وعلا-: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [سورة البقرة:174].

ويقول -جل وعلا-: {وَإِذَ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [سورة آل عمران:187].

أبو هريرة -رضي الله عنه- يقول: "لولا آيتان في كتاب الله ما حدثت، ويقول الناس: أكثر أبو هريرة والله الموعد، ولولا آيتان من كتاب الله ما حدثت: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ} إلى آخره.

فالكتمان مغبته وخيمة، كما أن الجرأة من غير تأهل أيضاً شأنها عظيم وخطير، في حديث أبي هريرة المخرج في المسند والسنن ومستدرك الحاكم: ((من سئل عن علم فكتمه، ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار)).

يقول المناوي: أي أدخل في فيه، أي أدخل في فيه لجام من نار مكافئة له على فعله، حيث ألجم نفسه بالسكوت في محل الكلام، فالحديث خرج على مشاكلة العقوبة للذنب، يعني الجزاء من جنس العمل، وذلك لأنه -سبحانه وتعالى- أخذ الميثاق على الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه، وفيه حث على تعليم العلم؛ لأن تعلم العلم إنما هو لنشره والعمل به، ودعوة الحق إليه، والكاتم يزاول إبطال هذه الحكمة وهو بعيد عن الحكيم المتقن، ولهذا كان جزاءه أن يلجم تشبيهاً له بالحيوان الذي سخر ومنع من قصد ما يريده"؛ لأنه أشبه الحيوان، الحيوان أعجم لا يتكلم، وهذا شبيه له حينما سكت في موضع الكلام، أو في وقت يتعين عليه فيه الكلام أشبه العجماوات، والحيوان يحتاج إلى لجام، وكذلك من كتم هذا العلم يحتاج إلى أن يلجم بلجام من نار.

يقول الشيخ حافظ الحكمي في ميميته الفريدة الشهيرة:

والكتم للعلم فاحذره إن كاتمه
ومن عقوبته أن في المعاد له
وصائن العلم عمن ليس يحمله
وإنما الكتم منع العلم طالبه

 

في لعنة الله والأقوام كلهم
من الجحيم لجاماً ليس كاللُجم
ما ذا بكتمان بل صون فلا تلم
من مستحق له فافهم ولا تهم

وعلى هذا فعلى طالب العلم أن يرى ويعرف ويقرر مكانته في هذا العلم، يعرف واقعه وحقيقته، فإن كان ممن أخذ عليه العهد والميثاق أن يبين، فلا يجوز له حينئذ أن يحجم البتة؛ لئلا يلجم بلجام من نار، وإذا كان ممن لم يبلغ هذه المرتبة، ولم يتمكن من معرفة الأحكام الشرعية بأدلتها فلا يجوز له حينئذ أن يقدم.

ومما يشاهد أن من الأكفاء في وقتنا الحاضر من انزوى في بيت أو في مزرعة أو اقتصر على عمل رسمي، ولم يشارك في نفع الناس، ولا ولم يساهم في إخراجهم من ظلمات الجهل إلى نور العلم، ولم يساهم في حل إشكالاتهم، وإجابة سؤالاتهم، فمثل هذا هو الذي صار سبباً في جرأة بعض غير الأكفاء على أن أضلوا الناس بعد أن أضلوا بأنفسهم.

قد يقول قائل: أنا لا أستطيع أن أقرر عن نفسي أنني وصلت إلى الحد الذي يلزمني أن أفتي ولم أتجاوز الذي لا يجوز لي أن أفتي، فالمسألة تحتاج إلى وضوح، وسئل بعض الكبار لماذا لا تتصدى لتعليم طلاب العلم؟ فقال: إن النصاب لم يكتمل، والأمة كلها تشهد له أن نصابه قد زاد، فهل يقال إن الإنسان متروك له هذا الأمر وله أن يقول: أن أعرف بنفسي ما بلغت، وكثير منهم يقول مثل هذا الكلام من باب التواضع، وهضم النفس، من باب التواضع، وهضم النفس، لكن مثل هذا التواضع لا يعفيه من الوعيد الشديد الذي جاء بصدده العهد والميثاق على أهل العلم أن يبينوا للناس ما نزل إليهم، ولو تواضع، لا يعفيه هذا التواضع، إلا إذا قام بالأمر من يكفي، أما إذا تعين عليه فلا بد أن يساهم، لا بد أن يبين، لا بد أن يجيب، وأقول مثل هذه المواقف لا شك أنها فيها شيء من الخفاء والغموض، يعني قد يكون الإنسان تأهل بالفعل، لكن لا يدري عن نفسه، وقد يكون شديد الحذر، شديد الخوف على نفسه، من بلوغه الحد الذي يلزمه أن يتصدى لتعليم الناس وإفتائهم، ورفع الجهل عنهم، وبيان ما نزل إليهم، وبعضهم قد يجرؤ ظناً منه أنه قد وصل إلى الحد، ولا شك أن مثل هذا الأمر تكفي فيه الاستفاضة، تكفي فيه الاستفاضة، بالنسبة للشخص نفسه ولغيره أيضاً، لا يستفيض بين أهل العلم أن فلاناً قد بلغ مبلغاً يتعين عليه أن يعلم، يتعين عليه أن يدعو، يتعين عليه أن يقضي، يتعين عليه أن يفتي، إذا استفاض بين أهل العلم لا سيما الموثوقين منهم، فإنه حينئذ يكون نصابه قد بلغ، وذمته تبرأ بتصديه لهذه الأعمال.

أما إذا لم يستفض أمره وخفي أمره على الناس فهذا يوكل إليه، وحينئذ يعرف عن نفسه ما يعرف، لا سيما قبل أن يعرف، ومثله بالنسبة للعامي ومن يستفتيه، العامي ليست لديه أهلية الموازنة بين أهل العلم، هناك أمور ظاهرة إذا اتصف بها العالم فهو أهل لأن يستفتى،

وليس في فتواه مفت متبع

 

ما لم يضف للعلم والدين الورع

لا بد من أن يتحلى بهذه الأوصاف الثلاثة: العلم والدين، والورع؛ لأن بعض الناس عنده علم، لكن ليس عنده ورع، إذا لاح له مطمع دنيوي أو شرف أو جاه، تخطى هذا العلم الذي يحمله، وتجاوزه، وبعضهم ليس عنده دين يحميه وبعضهم ليس عنده علم، فلا بد من توافر الأمور الثلاثة، والعامي أيضاً يكفيه في تقرير من يسأل استفاضة هذا الذي يراد سؤاله عند أهل العلم الموثوقين، إذا استفاض على ألسنة أهل العلم أن فلان أهل لأن يستفتى فيقصده الناس للاستفتاء من عامة وأشباههم، ومع هذه النصوص المحكمة في المنع والإلزام نجد في عصرنا من يجرؤ على الفتوى وهو ليس من أهل العلم أصلاً، كما أسلفنا في المقدمة، يعني يجمع في قناة من القنوات ثلة من الشباب، وثلة من الجنس الآخر من الشابات، ثم يطرح مسألة شرعية وقد يكون معه ممن يستطيع استغفال الناس واللعب بعقولهم ممن يؤيده على كلامه وطريقته واستفتائه، ثم يقول: ماذا تقولون في كذا؟ ثم بعد ذلك يحسب الأقوال، ثلاثين صوت، من يعارضهم عشرة أصوات، إذن الحكم كذا، هل هذه طريقة شرعية لتقرير المسائل العلمية؟

هؤلاء هم الذين أخبر النبي -عليه الصلاة والسلام- عنهم أنهم اتخذوا رؤوسا جهالاً، يضلون بأنفسهم، ويضلون غيرهم، ويصرح ويتبجح بأنه ليس من أهل العلم، إذا انتهى من تقرير المسائل بهذه الطريقة قال: يا الإخوان، أنا تخصصي غير شرعي، تخصصه كيمياء وإلا صيدلة، وإلا زراعة وإلا شيء آخر، لكنها وسيلة كسب، وسيلة كسب مادة، فويل لمثل هذا ويل له، يتخبط في دين الله ويقرر أحكام شرعية بهذه الطريقة، نسأل الله السلامة والعافية.

مع هذه النصوص المحكمة في المنع والإلزام نجد في عصرنا من يجرؤ على الفتوى وهو ليس من أهل العلم أصلاً، فضلاً عن طالب غير متأهل لا سيما مع تيسر وصول أقوالهم إلى الناس بواسطة الوسائل المتعددة، مما سبب اضطراب في الفتوى، وضياع للمستفتين، وضياع للمستفتين، والمسئولية في مثل هذا تقع على أولياء الأمور، من العلماء والقادة، أن يوضع لهذا الاضطراب، وهذا اللعب، والتلاعب على الحد؛ لأن الناس اضطربوا، ونسبوا هذا الاضطراب إلى الدين، كم سمعنا على ألسنة العامة أن الدين تغير!، كنا نرى الناس يصلون كذا، وظهرت أقوال، كنا نراهم يفعلون كذا وظهر غير ما كنا نعلم، فنسبوا هذا الاضطراب إلى الدين والدين منه بريء، نعم أهل العلم بينهم خلاف، والخلاف موجود من عصر الصحابة لكن في مثل هذه الظروف التي ظهرت فيها هذه الأقوال، لا بد أن يطلع العامة على الأسباب الحقيقية للاختلاف، وأن يعرى أمثال هؤلاء الأدعياء الذين يضللون الناس وأن تبين حقائقهم، مما سبب اضطراب في الفتوى وتبلبلاً عند الناس وتشتت لعدم تمييزهم بين العالم وغيره، فكثيراً ممن يتصدى لذلك قد يكون ممن وهب بلاغة وفصاحة يؤثر بها على الناس، وقد جاء في الحديث كما تقدم: ((إن من البيان لسحراً)).

صاحب ذلك إحجام من كثير من طلاب العلم المتأهلين احتجاجاً بما جاء من نصوص المنع والوعيد، وتأسياً بسلف هذه الأمة في تدافع الفتيا وتدارئها مما فسح المجال لأدعياء العلم أن يتصدروا في القنوات والوسائل والمجالس ولا شك أن الحاجة قائمة، وقد أمر الله جل علا بسؤال أهل العلم، بسؤال أهل العلم قال -جل وعلا-: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [سورة الأنبياء:7]، فالعامي ومن في حكمه ممن ليست لديه أهلية النظر فرضه تقليد أهل العلم، وسؤالهم بنص القرآن، فإذا أحجم الكفؤ مع اضطرار العامة إلى من يفتيهم اضطروا إلى سؤال من ليسو من أهل العلم فضلوا وأضلوا، نسأل الله السلامة والعافية.

 

والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.