أهمية طلب العلم

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

بسم الله الرحمن الرحيم.

 الحمد لله رب العالمين، حمدًا يليق بعظيم جلاله وسلطانه، تبارك ربي وتعالى وتقدس عن التشبيه والتمثيل {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}[الشورى:11]، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمة للعالمين، محمد بن عبد الله عليه وعلى آله أفضل الصلاة والتسليم إلى يوم الدين، أما بعد:

أيها الأحبة الكرام، نسأل الله -جل وعلا- أن يغفر لنا ولكم، وأن يجعلنا ممن تحفهم الملائكة، ويجعل هذا المجلس مجلسًا مباركًا، أحبتي في الله في هذا اليوم المبارك نرحب بضيفنا صاحب الفضيلة معالي الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير عضو هيئة كبار العلماء، الذي لبى دعوتنا مشكورًا، نسأل الله -جل وعلا- أن يديم عليه لباس الصحة والعافية، وأن يغفر لوالديه، وأن يصلح له الذرية.

أحبتي لا يخفى عليكم أهمية هذا العنوان: أهمية طلب العلم، والذي سيُصدِّر لنا تلك الأهمية صاحب الفضيلة، نسأل الله -جل وعلا- ألا يحرمه الأجر والثواب.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:

فأهمية العلم لا تخفى على أحد، لا على عالم ولا على جاهل، ولا على عاقل ولا على سفيه، ولذا كلٌّ يفرح إذا وُصف بشيء من العلم، ولو قلّ، وكلٌّ يأسى ويغضب إذا وُصف بالجهل ولو كان من أجهل الناس.

فأهمية العلم مُدرَكة بالفِطر، وجاءت النصوص المتضافرة من كتاب الله وسنة نبيه -عليه الصلاة والسلام- في بيان أهميته، وبيان فرضيته، وبيان قيمته لتصحيح العمل المطلوب من المسلم.

فالجاهل قد يعمل أعمالاً قد تكون وبالاً عليه، فالعلم يُصحِّح الأعمال، فالأعمال الواجبة لها شروط، ولها واجبات، ولها أركان لا تصحُّ إلا بها، فإذا جهلها المسلم فكيف تصِحُّ عبادته؟ نعم هناك أشياء تُتَعلم بالتقليد وبالتأسي العملي، لكن هناك أمور لا يمكن تصحيحها إلا بمعرفة أركانها وواجباتها وشروطها.

نعم، قد يصلي المسلم العامي الذي لا يقرأ ولا يكتب، ويأتي بشروط الصلاة، ويأتي بأركانها بالعمل والتوارث، على حسب ما نظر ورأى من أهله وذويه، ولذا شُرعتْ الصلاة في البيوت أعني النوافل؛ من أجل أن يقتدي المسلم بمن سبقه. فالابن يقتدي بأبيه، والأب يتأسى بمن قبله وهكذا.

هذا القدر المُصحِّح للعبادات من هذا الاقتداء والاتساء لا شك أنه مهم جدًّا لكن يبقى أن من عرف الحكم بدليله، وأخذه من مصدره لا شك أن نيته تفوق من أخذ عمله بالتقليد أضعافًا مضاعفة، أضعافًا مضاعفة، إذا عُرف هذا الدليل الابتدائي الفِطري نأتي إلى الأدلة من الكتاب والسُّنَّة.

 يقول الله -جل وعلا-: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}[التوبة:122] لا بد من أن تنفر طائفة، تكفي لتعليم بقية الأمة، فتَعَلُّم العلم منه ما هو فرض على الأعيان الذي لا تصِحُّ الواجبات إلا به هذا فرض عين على كل مسلم، ومنه ما هو فرض كفاية، والقدر الزائد على ذلك هو ما دلت عليه هذه الآية: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ}. لا يلزم أن ينفر الناس كلهم يطلبون العلم؛ لأن هناك فروض كفايات غير العلم لا بد أن يقوم بها من يكفي.

وإذًا النفرة لطلب العلم فرض كفاية، وطلب العلم من مظانّه كذلك، وعلى المسلم الذي في بلد لا يوجد فيه من يتعلم عليه أن ينتقل لمن يطلب العلم عليه.

قال الله -جل وعلا- لنبيه -عليه الصلاة والسلام- : {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}[طه:114] {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}، ما أُمر النبي -عليه الصلاة والسلام- بالاستزادة من شيء إلا من العلم {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} هذا أمرٌ من الله -جل وعلا- لنبيه -عليه الصلاة والسلام- بالاستزادة من العلم، وفي قوله -جل وعلا-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}[التحريم:6] قال علي بن أبي طالب: قوا أنفسكم وأهليكم نارًا بالعلم. بالعلم، كيف تقي نفسك النار وأنت ترتكب أشياء تكون سببًا في دخولها، وأنت لا تعلم، وأنت جاهل؟ قد يكون في صور الأمور المحرمة ما يُعذر صاحبه بالجهل، لكن يبقى أنه ولو كان جاهلًا في الأمور العامة وأصول الدين لا يُعذر فيها، والتقليد في هذا لا يجدي، والعذر بالجهل له مواطنه إذا كان الإنسان في بلد لم يبلغه عن الدعوة شيء هذا شيء، {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}[الإسراء:15]، لكن إذا كان في بلد يسمع فيه كلام الله فإنه حينئذٍ لا يُعذر بالجهل.

ولذا يقول الكفار إذا دخلوا النار: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا}[الأحزاب:67]، قلدوا كبراءهم فهل عُذِروا؟ {فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا. رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا}[الأحزاب67:68]. فمثل هذا لا يُعذر بجهل، والعذر بالجهل ما فيه شك، له ضوابط، وله شروط، وله قيود، والله -جل وعلا- يقول: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} فالذي في حكم أهل الفترة لم يبلغه شيء من الدعوة هذا لا شك معذور، ومآله في الآخرة كما قرَّر أهل العلم أنه حكمه حكم أهل الفترة بحيث يُمتحن كما ذكر ذلك ابن القيم في آخر طريق الهجرتين في كلام طويل لأهل العلم.

لكن من أمكنه أن يتعلم ولم يتعلم هذا على خطر عظيم، ولذا من النواقض العشرة التي ذكرها الإمام المجدد –رحمه الله- الإعراض عن دين الله لا يتعلمه، ولا يرفع به رأسًا، ذكره الإمام المجدد من النواقض، من نواقض الإسلام.

يقول الله -جل وعلا-: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}[المجادلة:11]، {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} درجات، نكرة في سياق الامتنان، وهذه الدرجات هي من درجات الآخرة، ليست من درجات الدُّنيا التي ارتفاعها ربع متر مثلًا، بين كل درجة والدرجة التي تليها مثل ما بين السماء والأرض، فإذا كانت درجات من هذا النوع، فكيف تكون هذه المسافة؟ مسافة لا يمكن تقديرها في مقاييس البشر بحيث لا يعلمها إلا الله -جل وعلا-.

يقول الله -جل وعلا-: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}[الزمر:9]، {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} الجواب: لا، لا يمكن، ولأن الآثار المترتبة على العلم والجهل متباينة، فالعلم يُصحِّح الأعمال وتُرفع به الدرجات والجهل بضد ذلك، الجهل قد يكون بعدم العلم، بخلو النّفس من العلم، وقد يكون بالعمل بما يخالف العلم ويضاد العِلم؛ فالذي يعصي جاهل ولو كان من أهل العِلم في تقدير الناس وحسابهم، {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ}[النساء:17] توبة محصورة، إنما أداة حصر، فالتوبة محصورة فيمن يعمل السيئات بجهالة، ما معنى جهالة؟ يعني لا يعرف الحكم؟ قد يعرف الحكم، ويعرف دليله، يعرف أن شُرب الخمر حرام، والزنى حرام، ومع ذلك يُخالف، يعرف ويعرف الأدلة على ذلك، هل نقول: هذا جاهل؟ نعم جاهل، وإلا لقلنا لا تصحُّ توبته إذا كان عارفًا بالحكم ولم يقل بذلك أحد من أهل العلم.

{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} فالعاصي جاهل، ولو كان عارفًا بالأحكام بأدلتها، ومع الأسف أنه في الأزمان المتأخرة يكثُر هذا النوع، تجد من حملة الشهادات وممن تعلّموا السنين الطويلة وعلَّموا تجدهم يزاولون المعاصي هؤلاء جُهّال، وإلا قلنا: إن التوبة لا تصحُّ منهم بدلالة الحصر في الآية.

فالعاصي جاهل، والعامل عالم، العمل هو الثمرة من العلم، وهو يهتف بالعمل، فإن أجابه وإلا ارتحل كما قال علي -رضي الله عنه-. وفي الحديث الذي حسَّنه الإمام أحمد وغيره: «يحمل هذا العلم من كل خلفٍ عدولُه»، «يحمل هذا العلم من كل خلفٍ عدولُه» فيحمل هذا العلم، والمراد به العلم الشرعي العدول من الرجال والنِّساء، قد يقول قائل: إنا رأينا من الفُسّاق من يحمل العلم، فما مصداقية هذا الخبر؟ نقول: الخبر ثابت ودلالته واضحة على أن ما يحمله الفُسّاق ليس بعلم، على أن ما يحمله الفُسّاق ليس بعلم كما دلّت عليه الآية.

وأيضًا جاء في بعض الروايات: «ليحمل هذا العلم من كل خلف عدوله»، وعلى هذا فالحديث فيه حثٌّ للعدول بحمل العلم، وعدم ترك المجال للفُسّاق أن يحملوا شيئًا من العلم ولو كان في الظاهر.

ما العلم الذي جاءت النصوص بالحث عليه؟ هو العلم الموروث عن النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء، فالعلم الموروث هو العلم الشرعي الذي جاءت به النصوص. وما عداه لا يدخل في النصوص، في نصوص الكتاب والسُّنَّة. والعلم هو الذي يورث الخشية: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}[فاطر:28]، {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}.

فهذا هو العلم الحقيقي النافع الذي تترتب عليه آثاره، وأما علوم الدنيا، علوم الدنيا لا تدخل في النصوص التي جاءت بالحث على العلم ورفع شأنه وشأن حملته. قد يكون طبيب ماهر أو مهندس بارع أو متخصص في أي علم من علوم الدنيا، وإن سُمي علمًا فإنه في حقيقته ليس بعلم، ولذا قال الله -جل وعلا- : {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ. يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}[الروم6:7]، نفى عنهم العلم، لا يعلمون يعني علمًا حقيقيًّا، لكن علوم الظاهر عندهم من علوم الظاهر ماعندهم، يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا، ولذا لو أُوصي للعلماء أو لطلاب العلم بوصايا وأوقاف فإنها لا تُصرف إلا لطلبة العلم الشرعي وعلماء العلم الشرعي، هذا هو العلم الحقيقي.

ولم يكن أهل العلم يترددون في مثل هذا، حتى وجدنا من يقول: العلم شامل، هذا اسمٌ مطلق يتناول جميع ما يضاد الجهل، ولكن هذا الكلام ليس بصحيح، ما كان هذا محل إشكال عند المتقدمين، ولذا جاء في مختصر التحرير في حدِّ العلم قال: العلم لا يُحدّ، لا يحد، لا يُعرّف لماذا؟ ما يحتاج إلى تعريف، لا يحتاج إلى تعريف، وإن كان الراجح أنه يُعرّف وعرفوه بتعاريف كثيرة، لكن مما يدل على أن العلم لا يُتردَّد فيه، ولا يُختلف فيه، ولا يُتنازع فيه، قال قائلهم: العلم لا يُحدّ. ليس بمحل إشكال أو تردد، تسأل واحد تجول: ما الماء؟ يعرف لك الماء؟ يقول: وعرّف الماء بعد الجهد بالماء، إذا قيل ما العلم؟ العلم العلم.

وبعضهم من باب تراكم الظلمات بعضها على بعض يجد في وصية شخص كبير السن تُوفي من مئة سنة لا يعرف عن العلم إلا العلم الشرعي، ولم ير من ينتسب إلى العلم إلا الشيوخ الذين يُعلمون الناس الخير، ويقضون بين الناس، ويفتون الناس، ما يعرف غير هذا، وأوصى للعلماء من ذريته، يأتي من يقول إن هذه الوصية تتناول الطالب المبتعث والطالبة المبتعثة لدراسة طب أو هندسة، وقد تكون طالبة بدون محرم، وقد يكون طالبًا الله أعلم بأفعاله. ويوجد من فيه خير هناك، لا نقول: إن الخير انتهى من أمة محمد، لكن الوصية لا تنطبق عليه؛ لأن الموصي ما يتصور مثل هذا النوع في وقته أثناء الوصية.

على كل حال، العلم الشرعي شأنه عظيم، وفضله كبير، والنصوص جاءت بالحث عليه، وفي الحديث الصحيح: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين»، «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين»، خيرًا نكرة في سياق الشرط تعم أنواع الخير كله، يفقهه في الدين، والفقه هو الفهم، والدين جميع أبوابه، لا يختص بالأحكام الفرعية، وإن كان الفقهاء في شروحهم وفي كتبهم ومتونهم وشروحهم يفتتحون الكتب بهذا الحديث كتب الفقه، لكن الفقه أعمّ، الدين أعم من أن يكون الأحكام العملية، يفقهه في الدين في جميع أبوابه.

ولذا لما جاء جبريل يسأل النبي -عليه الصلاة والسلام- عن الإسلام والإيمان والإحسان قال: «هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم» يعلمكم دينكم، والفقه الاصطلاحي لا يدخل فيه الإيمان، ولا يدخل فيه الإحسان، يدخل فيه بعض فروع الإسلام. فالنظرة الضيقة للفقه لا تدخل في هذا الحديث، يعني دخولها جزئي، ولا ينحصر فيها هذا الحديث، فمن يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين بجميع أبوابه، ولذا تجدون الخلل في التصور والعمل والسلوك عند بعض من يطلب العلم، ويقتصر فيه على ناحية من نواحيه أو باب من أبوابه.

طالب العلم بحاجة ماسّة إلى أبواب الإيمان، وما يُصحِّح الإيمان والتوحيد، وما يُصحِّح العقائد، في أمس الحاجة إلى هذا ولا يمكن أن يستغني عن هذا بحال، ولا يمكن أن يُعد من أهل العلم وهو مقصر في هذا الباب.

طالب العلم كما هو بحاجة إلى كتاب الإيمان هو بحاجة إلى كتاب العلم، وبحاجة إلى أبواب العبادات، من الطهارة والصيام والصلاة والصيام والحج والزكاة وغيرها من أبواب الدين، وأيضًا أبواب المعاملات لا بد أن يتعلمها المسلم؛ ليكون فقيهًا في الدين، ثم بعد ذلك بقية أبواب الدين التي تحثه على العمل بهذه الأبواب، كأبواب الرقاق وأبواب الفِتن، لا سيما في زماننا الحاضر. فلا يمكن أن يعتصم الإنسان من هذه الفِتن، ولا يُعصم إلا بالعلم، لا بد أن يعتصم بالكتاب والسُّنَّة؛ ليقيه الله شر هذه الفِتن.

هناك أبواب للاعتصام بالكتاب والسُّنَّة في الصحيحين وغيرهما، وهي من أهم المهمات بالنسبة لطالب العلم، فالذي يقي المسلم من شرور هذه الفِتن ويخرجه من ظلماتها هو العِلم، مما يدل على أهمية العِلم كما تقدَّم في أول الكلام.

قد يقول الطالب: إنني بذلتُ جهدي، واستفرغت وسعي في طلب العلم فلم أُفلح، ترددتُ على الكليات الشرعية، ما أفلحت، ترددت على الدروس في المساجد عند أهل العِلم ما كتب الله شيئًا، هذه لا شك أنها نتيجة، ولكن عليك بذل الوسيلة، أنت مطالب بالوسيلة، والنتيجة بيد الله- جل وعلا- كأنك زرعت في أرض ولا أنبتت، والأجر والثواب مُرتب على مجرد سلوك الطريق. اسلك الطريق كما جاء في الحديث الصحيح: «من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهّل الله له به طريقًا إلى جنة».

أدركنا أُناسًا ترددوا على المشايخ السنين الطويلة، أنا أعرف شخصًا بلغ التسعين وهو من حلقة إلى حلقة، ولا كتب الله له شيئًا من العلم، لكنه داخل إذا صلحت نيته في حديث: «من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهّل الله له به طريقًا إلى جنة». والمكلف مطالب ببذل السبب، مطالب ببذل السبب، والنتيجة بيد الله -جل وعلا-.

الدعوة والأمر والنهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هل الآمر والناهي مطالب بزوال المنكر أو تحقيق المأمور، أو أنه يبذل السبب والنتيجة بيد الله، النتائج بيد الله؟ الداعية هل هو مطالب بأن يهتدي الناس أو أن يبين لهم؟ وقلوبهم بيد الله -جل وعلا-، أنبياء يأتي النبي وليس معه أحد، ويأتي النبي ومعه الرجل والرجلان، نوح -عليه السلام- مكث ألف سنة إلا خمسين عامًا، يدعو الناس إلى الدين، ما آمن معه إلا قليل، وممن لم يؤمن زوجته وابنه، هل نقول: هذا قصّر في دعوته؟ بذل الوسع، وبذل كل ما يستطيع من أجل هدايتهم، ولكن الله- جل وعلا- لم يرد لهم الهداية، فالمطلوب بذل السبب، والنتيجة بيد الله.

الرسول -عليه الصلاة والسلام- حرص حرصًا شديدًا على هداية عمه أبي طالب، حرص على ذلك، هو حريص على أن يؤمن الناس {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ}[الكهف:6] يعني قاتل نفسك، يعني من أجل هدايتهم، لكن عمه حرص عليه في آخر لحظة عله أن يستجيب فينجو: «يا عم قل: لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله»، وكان عنده من جلساء السوء عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل فقال له: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فأعادها النبي -عليه الصلاة والسلام-، فأعادا عليه، وكان آخر ما قال هو على ملة عبد المطلب.

من أشد شفقة من الرسول -عليه الصلاة والسلام-؟ ومن أعظم منه حكمة وأسلوب وطريقة؟ لأن بعض الناس يقول: مسألة أسلوب وطريقة، نعم الخُلُق مطلوب والأساليب المؤثرة مطلوبة، لكن ليست هي السبب في هداية الناس.

بعض الكُتّاب ممن زاغ وحاد عن الصراط المستقيم يقول: نوح فشل في دعوته، فشل، والنبي محمد -صلى الله عليه وسلم- يقول فشل في مكة والطائف ونجح في المدينة. هل أنت تقرر الفشل، وتقرر النجاح؟ هذا زيغ بلا شك، فنحن أمام نصوص وأمام دين كامل ليس بحاجة إلى تكميل من أحد، {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}[المائدة:3]، فكون الداعية يستجاب له هذا هو المطلوب، وهذه هي الغاية، لكنه ليس مأمورًا ومكلفًا بها، إنما مطلوبًا منه أن يبذل السبب، والغاية بيد الله -جل وعلا-، وأما من زاغ وقال: فشل النبي -عليه الصلاة والسلام- في دعوته في مكة والطائف، ونجح في المدينة فهذا ضلال، وعدم معرفة بحقيقة الدين ومقاصد الدين، وقد يكون في عدم إسلام هذا الشخص حكمة إلهية.

وقد يكون إفادة البعيد من هذا الشخص وعدم استفادة القريب منه حكمة إلهية، يعني مما يتداوله الناس في مجالسهم يقولون: فلان من أهل العلم الكبار باذل جهده ووقته وعلمه وماله في الدعوة وينفع البعيد ولا ينفع القريب. هل هذا الأمر بيده؟ أنا أعرف واحدًا منهم من الكبار نفع الله به فئامًا وجموعًا غفيرة من الناس، وفي بيته شيء من الخلل، وإذا ذُكر له شيء مما يتعلق بصلاح الأولاد بكى؛ حرقة وحسرة على صلاح أولاده، وأعرف له دروسًا في بيته لأولاده وبناته ونسائه، لكن مع هذا الذي لا يريده الله لا يصير، لا يمكن أن يكون.

فعلى الإنسان أن يسعى في إصلاح نفسه أوّلًا، ويسعى في إصلاح الأقربين منهم؛ لأنهم أولى برعايته وعنايته، ثم بعد ذلك ينتشر خيره، كون فلان من الناس ما استفاد منه هو بذل السبب، ولا علاقة له بالنتائج، فالنتائج بيد الله -جل وعلا-.

بعض طلاب العلم يتخبط، ولا يتخذ طريقة ومنهجًا يسير عليه، فالعلم له مقومات؛ منها بل أولها وأهمها: النية الصالحة النية الصالحة، وأن يكون الشخص في تركيبه قبول للعلم بأن تكون الحافظة عنده تسعف، والفهم عنده مناسب، ولا يقال لمن حافظته أقل: لا تتعب نفسك، أو الذي فهمه أقل: لا تكلف نفسك لا، اِسعَ، اسلك الطريق ولو لم يكن لك إلا الثواب المرتب على سلوك الطريق، لكن التحصيل مبني على فهم وحفظ، مع النية الصالحة مع النية الصالحة.

 أيضًا يتطلب منهجًا واضحًا وجادّة مسلوكة مسبوقًا بها من قِبل أهل العلم، ما يخترع ويبتكر طرقًا ووسائل ما سُبق إليها، إنما يسلك الجادّة التي اختطَّها أهل العلم قبله، والعلماء كتبوا في المنهجية في طلب العلم، وكتبوا فيما يقرأه طالب العلم، وفيما يحفظه طالب العلم، ورتبوا الطلاب، وصنفوهم طبقات، وألّفوا لهم كتبًا لكل طبقة ما يناسبها من الكتب، ما تركوا الأمر فوضى.

 ولذا تجد بعض الناس من دخوله المرحلة الابتدائية إلى خروجه من الجامعة تخرجه في الجامعة وما بعدها من الدراسات تجد تحصيله قليل؛ لأنه ما سلك الجادّة المرسومة عند أهل العلم. ما سلك الجادّة المرسومة عند أهل العلم، ورأينا وعرفنا أناسًا بعد أن تخرجوا في الجامعة راجعوا أنفسهم وزاولوا الأعمال، فوجدوا المسألة في غاية الضعف عندهم، ثم أخذوا يطلبون العلم من جديد، هذا بإذن الله يستدرك، لكن بعضهم يستمر في الأعمال الإدارية ويمشي أموره من ناحية الدنيا، ثم لا يلبث أن يعود عاميًّا لا يلبث أن يعود عاميًّا، لأنه ما أُسس.

 العلم يحتاج إلى تأسيس ويحتاج إلى تأصيل، الاهتمام بالمصنفات والمؤلفات التي رُتبت على طبقات المتعلمين لا بد منها.

طالب في المرحلة المتوسطة أو الثانوية يسمع مدح ابن القيم لدرء تعارض العقل والنقل مباشرة يقول ابن القيم:

واقرأ كتاب العقل والنقل الذي

 

ما في الوجود له نظير ثاني

وكذلك التأسيس أصبح نقضه

 

أعجوبة للعالم الرباني

فيأتي هذا الطالب في حكم المبتدي، وهو مبتدي، لكن يعرف يقرأ ويكتب، يذهب إلى المكتبة يشتري الكتابين ويعكف عليهما، ما يكمل يومًا إلا وترك القراءة فيهما، وقد يترك العلم بالكلية؛ لأنها أمور صعبة ما يتحملها، أو يسمع مدح ابن كثير في اختصار علوم الحديث لعلل الدارقطني، ويذهب بصير محدث بيوم يذهب إلى علل الدراقطني مستحيل، هذه كتب قبلها مراحل ومراتب ودرجات، لا بد أن تُقرأ قبلها، ولا بد أن تُفهم قبلها، وأمور لا بد أن تحفظ قبل ذلك.

المقصود أن طالب العلم لا بد أن يرتب نفسه، وينظم وقته، والكتب التي يريد أن يحفظها، باستشارة أهل العلم وبقراءة ما كتبه أهل العلم في هذا الباب فالمبتدئون لهم كتب في الفنون مدونة وموجودة في كتب وفي أشرطة وفي محاضرات، الطبقة الثانية لهم كتب، الثالثة لهم كتب، يعني لو قرأ في كتب الطبقة الثالثة قبل أن يقرأ في الثانية ممكن لا يستفد أو تكون فائدته أقل. وهكذا.

طيب يقول بعضهم: إن كتب الطبقة الأولى التي قرأتها، ثم قرأت في كتب الطبقة الثّانية فيه تكرار، ثم قرأت في كتب الطبقة الثّالثة فيه تكرار، العلم يعني كتاب فقه مثلًا متن فقهي صغير للمبتدئين، ومتن فقهي أكبر منه للمتوسطين أو الطبقة الثّانية على حسب الطبقات ثلاثة أو أربعة، ثم الذي بعده، للمنتهين، المتقدمين، يقول الذي في الطبقة كتاب الطبقة الأولى أقرؤه أقرؤه في كتاب المتقدمين، هذا الكلام صحيح وليس عبثًا وإلا جعلوها زوائد كتب الطبقة الثّانية زوائد على كتب الطبقة الأولى، والثّالثة زوائد على كتب، وهذا الكلام ليس بصحيح، لماذا؟ لأن التكرار مقصود لأهل العلم، فبالتكرار يثبت العلم، يثبت العلم؛ فمثلًا في كتب ابن قدامة ألّف العمدة، ثم ألّف المقنع، ثم ألّف الكافي، ثم ألّف المغني، الذي في العمدة كله في المغني نأتي إلى المغني ونحذف المسائل التي في العمدة؟ أو الذي في المقنع موجود في الكافي وهكذا.

 هم قصدهم من هذا أن تتكرر هذه المسائل بأساليب متنوعة يقرؤها بأسلوب سهل، ثم يترقى إلى أسلوب أصعب منه، فيَصلُب عوده ويتقوى، ثم يترقى إلى ما هو أصعب وأكثر تشعبًا؛ لأن الصغير ما يتحمل التشعبات، يكون في الطبقة الثّالثة قد تأهّل لمعرفة الروايات بأدلتها، وهكذا.

وفي المرحلة الأخيرة يكون تأهل لتلقي الخلاف خلاف الأئمة بأدلتهم.

قد يقول قائل: كتب العلم صعبة، وبالإمكان أن نجعلها سهلة، أهل العلم يقصدون توعير الأساليب، توعير الأساليب وتشديدها، يعني ليس من تعجيز الطالب أن يؤلف مثل مختصر خليل أو مثل زاد المستقنع أو المنتهى، هذه كتب صعبة صحيح، لكن لا بد أن يتعود عليها طالب العلم؛ لأنه لو تعوَّد على مذكرات أو كتب المعاصرين بأساليب سهلة، فلو أشكل عليك مسألة ما توجد في هذه الكتب، ما توجد في هذه الكتب فلا بد من التعب في فهم المسائل. ولذا يقول يحيى بن أبي كثير: لا يُستطاع العلم براحة الجسم، لا يُستطاع العلم براحة الجسم.

مختصر خليل من يقرأ فيه أول مرة كأنه عذاب، ألغاز، لكن المقصود أن يتربى طالب العلم على هذا الأسلوب لماذا؟ لأنه في يوم من الأيام إذا تقدمت به الحياة، وتقدم به السن قد يتولى أعمالًا في بلد لا يوجد غيره أعلم منه يناقشه أو يسأله، فيحتاج إلى الرجوع إلى هذه الكتب، فقد لا يفهم، فتوعير الأساليب وتقويتها عند أهل العلم مقصود، ونافعٌ جدًّا لطالب العلم؛ لأنه إذا فهم هذا الأسلوب الصعب الوعر مثل منتهى الإرادات ليس بالسهل، إذا فهمه لا يشكل عليه أسلوب في كتب الحنابلة، خلاص، يفهم كل ما يمر عليه، مسألة تحتاج إلى شيء من التعب والعلم لا يمكن أن يحاط به. فلا يُستطاع العلم براحة الجسم.

 بعض الطلاب يحضر الدرس، ويُشكل عليه أشياء، فيأنف أن يسأل عنها، أو يستحيي أن يسأل عنها، قال مجاهد: لا يتعلم العلم مستحٍ ولا مستكبر. لا بد أن تسأل، بعضهم يقول إذا سألت يمكن أن تكون المسألة سهلة، فيُنظَر إليّ أنني مستواي ضعيف، أو لا أفهم، فيسكت وتروح عليه المسألة. هذا لا شك أنه كِبر، وبعضهم يستحيي أن يسأل، ولا يحب أن يُسمَع صوته، هذا كذلك هذه من معوقات التحصيل، والمردُّ كله إلى الإخلاص لله -جل وعلا-.

فإذا أخلص الإنسان، وعلم الله منه صدق النية، فإذا علم الله من طالب العلم صدق النية، وسلك الجادّة المعروفة عند أهل العلم والطرق المرتبة عندهم، وجدّ واجتهد في تحصيل العلم، وسهر الليالي، وترك الهزل والفضول، فضول الكلام، فضول النوم، فضول النظر، فضول السمع والاستماع، وأخذ العلم عن أهله من حملته المعروفين به، أهل الرسوخ من أهل العلم، في الغالب أنه يُوفّق ويُسدّد.

بعضهم يقول: العلم الآن يتعارض مع متطلبات الحياة، ويسألون عن الزواج هل هو معوق عن التحصيل أو معين عليه؟ لا شك أن متطلبات الحياة صعبت في الأيام الأخيرة، ولكن العلم إذا رُتب وقته ونُظم لا يتعارض مع متطلبات الحياة، فالرسول -عليه الصلاة والسلام- أعلم الناس وأخشاهم لله وأتقاهم، وأمور الحياة عنده كاملة، له ولغيره تامة، له ولغيره، فيمن حوله، يربي الناس ويوجههم ويصلح دينهم ودنياهم، ومع ذلك ما عاقه ذلك، من شيوخنا من يستغرق في الدوام من الثامنة إلى الثانية ست ساعات يوميًّا، وينتهي من الدوام ويرجع إلى بيته متعبًا، ثم بعد ذلك بقية يومه كله في العلم والتعليم والدعوة والإفتاء، إذا علِمَ الله صدق النية من الشخص أعانه، لكن الحذر الحذر من فضول الكلام، وفضول النوم، وفضول الأكل، ومع الأسف أن بعض طلاب العلم يمضون الساعات في القيل والقال، في استراحات وراحات وغيرها، هذا لا شك أنه معوق عن التحصيل، ولا يُعان طالب العلم بهذه الطريقة على تحصيل العلم؛ لأن العلم دين، العلم دين، وعبادة من العبادات، ولا يقبل التشريك.

إما خذه بجد وإلا فابحث واسعَ إلى شيء ينفعك في دنياك وفي دينك أيضًا؛ لأن بعض الناس قد لا يُوفَّق في العلم، لكن يُوفَّق في أمور أخرى، في العبادة، في كسب المال وإنفاقه في سُبل الخير، إلى غير ذلك. انتهى.

 والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.