وصايا لطالب العلم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

ففي اللقاء السابق تحدثنا عن فضل العلم، وأهميته في حياة المسلمين، وما جاء من النصوص في فضل العلماء، وشدة الحاجة إليهم، وأنه لا يستغني عنهم إلا من استغنى عن الدين، لا يستغني عن العلماء إلا من استغنى عن الدين.

فكما أنه لا يستغني عن المُزارع إلا من استغنى عن الدنيا، فكذلك لا يستغني عن العلماء إلا من استغنى عن الدين.

وبيان ذلك أننا لو افترضنا بلداً لا عالم فيه يفتي الناس، ويعلمهم ما يجب إليه عليهم، ويبين لهم ما نزل إليهم ولا يقضي بينهم، ويحل مشاكلهم وخصوماتهم، لما وجد الفرق بين المجتمع المسلم وغيره.

والعلماء مثلوا بالمصابيح، وأبو بكر الآجري في أخلاق العلماء صور ذلك تصويراً دقيقاً بليغاً، بحيث لو وجد جمع من الناس يسيرون في ليلة شديدة الظلام في وادٍ مسبع، فيه سباع وهوام، والظلام شديد، فلا يدري الإنسان من أين يؤتى؟ أيؤتي من تحته أم من بين يديه؟ أم من خلفه؟ فهذه حية تنهشه، وهذا سبع يقضمه، ثم جاءهم من معه مصباح أضاء لهم الطريق حتى أخرجهم من هذا الوادي، وهذا مثل العالم الذي يبين للناس كيف يسيرون إلى الله -جل وعلا-؟.

كل طريق يمكن قطعه بدون دليل وإن احتفت به المخاطر إلا هذا الطريق الموصل إلى الله -جل وعلا-، فلا يمكن قطعه إلا بواسطة أهل العلم.

فالذي يزهد في أهل العلم لا سيما من رسخ قدمه، وعرف بالعلم والعمل لا شك أنه يزهد في الدين، ونرى مع الأسف في بعض المنتديات، وبعض المجالس، وفي بعض المحافل، من أخذ راحته في أعراض أهل العلم، وهذا لا شك أنه يقلل من قيمته ومن شأنه، فإذا كان العلم بهذه المثابة، وإذا كان العلماء بهذا الثقل، فلا بد لهم من وراث وهم طلبة العلم الذي يحملون عنهم العلم، وهم أنتم وأمثالكم، والحمد لله الأمور تبشر بخير، رغم ما يوجد من ظلام حالك في على وجه الأرض، لكن يوجد -ولله الحمد- مراكز توجه الناس وترشدهم على الجادة، ويوجد أيضاً فيمن يحمل هذا العلم عن هؤلاء العلماء الجلة، وفيهم كثرة ولله الحمد وعلى الجادة، كان الأمر قبل سنين في الغالب مجرد عواطف، إن وجد محاضرة عامة عاطفية تهيج المشاعر اجتمع الناس لها، وإذا وجد العلم الصحيح الأصيل قال الله وقال رسوله على الجادة المعروفة عند أهل العلم لا تجد إلا النزر اليسير، والآن -ولله الحمد- العكس يوجد طلاب في حلقات التعليم بالمئات بل بالألوف في بعض الأحيان، وهذا يبشر بخير، وهذه رجعة إلى المسار الصحيح للتحصيل.

ولست بحاجة إلى أن أبين لكم ما ورد من النصوص في فضل العلم، من ذلك ما سمعناه في قراءة إمامنا جزاه الله خير، {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [(122) سورة التوبة] وهذه الجامعة العريقة تمثل تطبيق هذه الآية، فمن كل بلد من بلدان المسلمين نفرت طائفة قلوا أو كثروا، وطائفة تطلق على الجماعة كما تطلق على الواحد، فهذا فيه امتثال لهذا التوجيه الإلهي، ولم يؤمر النبي -عليه الصلاة والسلام- بالاستزادة من شيء إلا من العلم، كما قرأ إمامنا في الركعة الثانية قول الله -جل وعلا-: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [(114) سورة طـه] وجاء في الحديث الصحيح عن النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((من يرد الله به خيراً يفقه في الدين)) ونحتاج من هذا أن نوضح المراد بالفقه في الدين لا كما يفهمه بعض الناس الذين صبت عنايتهم إلى معرفة الأحكام من الحلال والحرام، وهذا في غاية الأهمية في حياة طالب العلم؛ لكنه باب من أبواب الدين، وأهم منه ما عرف عند علماء الأمة بالفقه الأكبر.

المراد بالفقه في الدين هنا، الفقه في الدين من جميع أبوابه، ولذا لما سأل جبريل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن الإيمان والإسلام والإحسان في النهاية في آخر الحديث قال: ((هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم)) فالفقه في الدين هو العلم بالدين بجميع أبوابه.

فإذا كان بعض أبواب الدين مهملاً بين بعض المتعلمين فعليهم أن يلتفتوا إليه، إذا كانت الأبواب التي كانت في غاية الأهمية من سلف هذه الأمة التي تدعو طالب العلم إلى العمل بعلمه، كانت محل عناية أهل العلم من المتقدمين أمثال الرقاق والحكم والاعتصام، وغيرها من أبواب الدين التي تدعو طالب العلم وتحثه على العمل بعلمه فهي كالسياط تسوقه سوقاً إلى العمل بما تحمله من علم الحلال والحرام.

في اللقاء السابق ذكرنا بعض المعالم والمنارات التي قد يستضيء بها طالب العلم، وفي مناسبات كثيرة ذكرنا بعض العوائق التي تعوق عن التحصيل، ذكرنا أيضاً مفاتيح تفتح الآفاق أمام طالب العلم، وفي نقل عن سفيان بن عيينة بمناسبة المفاتيح وقفت عليه بالأمس، يقول سفيان: "أول العلم الاستماع، ثم الفهم، ثم الحفظ، ثم العمل، ثم النشر".

أول العلم الاستماع: لا بد أن يصغي طالب العلم إلى شيخه، مع الأسف يوجد من طلاب العلم وهذا يظهر جلياً في التعليم النظامي، تجد طالب حاضر عندك وأنت تشرح في كلام الله وكلام رسوله -عليه الصلاة والسلام- وهو ينظر في كتاب آخر، طيب مالك يا فلان منصرف؟ والله عندنا امتحان في المحاضرة التي تلي هذه، هل هذا عذر؟ بأن ينصرف طالب العلم عن العلم الشرعي، هذا ليس بمبرر، وقد تجد أسوأ من ذلك بعض الطلاب يحضر كتب لا علاقة لها بالعلم، وأحياناً تجد وإن كان على ندرة وقلة في الكليات الشرعية تجد جرائد، هذا لا شك أنه يبعث على الأسى في صفوف المتعلمين؛ لكن لا نجد مثل هذا في دروس المساجد وفي حلق العلم الذين جاءوا برغبة خالصة للتحصيل، قد يوجد من ينشغل بجوال مثلاً، وهذا ليس من الأدب في حلق التعليم، ينشغل بجوال، كل شوي النغمات، والرنات، هذا أيضاً ينبغي أن يجتنبه طالب العلم، عليه أن يستمع لشيخه، ويهتم بما هو بصدده من تحصيل هذا العلم الذي جاء من أجله، وتفرغ وتكلف العناء من أجله، يستمع، فأول العلم الاستماع، وفرق بين الاستماع والسماع، الاستماع مع قصد، الاستماع والفهم لما يلقى من أجل أن يثبت في الذهن ويرسخ، وأما مجرد مرور الكلام على السمع من غير قصد للاستماع هذا لا يجدي شيئاً، ولذا يقول أهل العلم في سجدة التلاوة: يسجد المستمع دون السامع" ولذا لو مررت وأنت في طريقك، ومر بجوارك سيارة ثانية، وصاحب السيارة شغل الأغاني ورفع عليها، فسمعت هذه الأغاني، أنت لا تلام، تلام إذا استمعت، أما إذا مجرد السماع مروره على أذنك من غير رضاً به، لا تلام على ذلك، إنما عليك أن تنكر؛ لكن كونك تؤاخذ بأنك سمعت الغناء فلا تؤاخذ، فأول العلم الاستماع.

وعلى طالب العلم أن يصغي لشيخه وما يلقيه، ثم الفهم، إذا استمع للشيخ وذكر الشيخ جملة من الجمل، هذا الطالب بحاجة إليها؛ لأنه من العلم الذي تفرغ من أجله، هل فهم هذه الجملة؟ الشيخ مطالب بأن يكرر هذا الكلام حتى يحفظ، حتى يفهم، كان -عليه الصلاة والسلام- إذا تكلم تكلم ثلاثاً حتى يفهم عنه، فالشيخ يكرر، هذا واجبه، بأسلوب، فإذا لم يفهم بأسلوب آخر، ليتمكن الطالب من الفهم بأسلوب ثالث، لئلا يمل الطالب من تكراره عليه بحروف واحدة؛ لكن واجب الطالب الفهم، وظيفة الطالب الفهم عن الشيخ إذا فهم من أول مرة الحمد لله، ما فهم المرة الثانية، الثالثة، ما فهم بعد ذلك يطلب يستزيد من الشيخ أن يفهمه ويوضح له، وكثيراًَ ما يستثبت طلاب العلم في حلقات العلماء السابقين مع كثرتهم، يستثبت بعضهم من بعض، فاته كذا، خفي عليه كذا، غفل عن الجملة كذا، حتى يفهمها، إن لم يفهمها من الشيخ فهمها من زميله.

ثم الفهم يقول، ثم الحفظ، إذا راجعت بعد أن استمعت وبعد أن فهمت احفظ؛ لأن الاستماع ثم الفهم يعين على الحفظ، يعين على الحفظ، ولذا يوصي بعض العلماء أن يحفظ القرآن مع التفسير، القرآن يحفظ مع التفسير، من أجل أنك إذا فهمت سهل عليك الحفظ، فيصعب على الإنسان أن يحفظ كلام لا يفهمه.

دعونا من مرحلة الصبا، لا نحن تجاوزنا مرحلة الصبا، في مرحلة الشباب، في مرحلة الفهم الآن، فإذا فهم الطالب المقطع الذي يريد حفظه سهل عليه حفظه، ومع ذلك يستعين بيمينه، إذا لم يستطع أن يحفظ من أول مرة، بعد أن يفهم مرتين، ثلاث، بعض الناس يتفاوتون في الفهم، بعضهم بطيء الحفظ أيضاً، فإذا كان من النوع بطيء الحفظ بعد أن يفهم عليه أن يستعين بيمينه، يكتب هذا المقطع مرة، مرتين، ثلاث، من أجل إيش؟ أن يحفظ الكتابة عن قراءة القطعة عشر مرات، وهذا مجرب، فإذا فهم ونفرض في التفسير مثلاً عنده خمس آيات، راجع تفسير هذه الآيات الخمس في تفسير موثوق به، في تفسير ابن كثير، تفسير ابن كثير أحياناً يتشعب بك بسبب كثرة الروايات، وكثرة الطرق فتتشوش، أنت تتشوش من الكثرة، اختصر، اختصر الكلام فأنت مع فهمك للقرآن يسهل عليك حفظه، ثم بعد ذلك إذا اختصرت ما يتعلق بهذه الآيات الخمس من تفسير ابن كثير، أو من غيره من التفاسير، إذا كنت لا تحسن الاختصار عليك بالمختصرات، أمثال تفسير الشيخ فيصل بن مبارك (توفيق الرحمن لدروس القرآن) خلاصة ولب للتفاسير الأثرية الثلاثة: لابن جرير والبغوي وابن كثير، هذا خلاصتها، يستفيد منه طالب العلم في فهم القرآن، وإن كان لا يستغنى بها غيره.

بعضهم يرى أن قراءة كتب التفسير تعوق عن مواصلة الحفظ، لكن لا بد من الفهم، نعم الصحابة كيف تعلمون القرآن؟ لا يتجاوزون العشر الآيات حتى يتعلموا ما فيها من علم وعمل، حتى تفهم وتحفظ، يسأل عما يشكل منها فيتعلمون العلم والعمل جميعاً.

فطالب العلم إذا عني بهذا المقطع خمس آيات عشر آيات، حسب قوة حافظته وضعفها بعد ذلك يحفظ، يحفظ هذا القدر ويسهل عليه حفظه، إن استطاع حفظه بالتكرار، وإلا بعض الناس مع التكرار يشرد ذهنه، مثل هذا يقيد، يستعين بيمنيه، ويكتب، يكتب مرة، مرتين، ثلاث، والجهد لم يضيع.

بعد ذلك، بعد الحفظ العمل، والعمل من أعظم وسائل تثبيت العلم والعلم بدون عمل لا قيمة له؛ لأن القرآن ما أنزل إلا للعمل، والنبي -عليه الصلاة والسلام- بين ما نزل إليه في سنته من أجل أن يعمل به؛ لأن البيان يكون للمجمل، والمجمل لا يمكن أن يعامل به {وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ} [(43) سورة البقرة] وبعدين؟ كيف نقيم الصلاة؟ ببيانه -عليه الصلاة والسلام- بقوله وفعله، ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) حصل البيان، وعرفنا هذا البيان، ثم لم نعمل به إيش الفائدة؟ علم بدون عمل كشجر بلا ثمر، نخلة فحل لا تنبت بمفردها للزينة ما الفائدة منها؟ أو من الشجر الذي يجعل كالمنظر في الشوارع وفي بيوت بعض العلية من القوم، هذه لا قيمة لها، مثل العلم بلا عمل، إن كان يتخذ العلم لا للعمل بل للزينة كما تتخذ هذه الأشجار، هذه حقيقة مرة، هذه حجة على من تحمل هذا العلم، فعلى طالب العلم أن يعمل بما يعلم، ويذكر هنا من باب أنه من أعظم ما يعين على تثبيت العلم وترسيخه في الذهن.

ثم النشر، إذا تعلم استمر فهم، حفظ، عمل بنفسه، نشر علمه، نشر علمه للآخرين؛ لكي يستفاد منه، و ((لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)) وتصور أن بعض الناس تجرى لهم الأجور مئات السنين، كيف تجرى لهم مئات السنين؟ ((أو علم ينتفع به)) ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث...... أو علم ينتفع به)) طيب انتفع هذا الجيل وانقرضوا؛ لأن بعض الناس يقول: العلم الذي ينتفع به خاص بالتصنيف، هو الذي يستمر، أما بالنسبة للتعليم ينقطع بانقطاع الجيل الذي علمته، بعد ذلك ينتهي، لا يا أخي ما ينتهي، فضل الله واسع، أنت علمت زيد، ومعه مائة من الطلاب، زيد هذا علم مائة، وهؤلاء أجورهم مثبتة لزيد، وأجورهم وأجور زيد مع أجورهم تثبت في أجرك أنت، فالأمر عظيم جداً، وفضل الله -جل وعلا- لا يحد؛ لكن نحتاج إلى أن نطلب العلم بنية خالصة، ونتعلم وننشر ونعلم ونؤلف بنية خالصة صالحة؛ لأن العلم الشرعي من أمور الآخرة المحضة، التي لا تقبل التشريك، فإما أن يكون مع السفرة الكرام البررة، مع النبيين والصديقين، وإما أن يكون من أول من تسعر بهم النار، نسأل الله السلامة والعافية.

فعلينا أن نعنى بهذا الشأن، ونخاف منه أشد الخوف، فالنشر لا شك أنه يوسع دائرة الأجر، فلك أجرك ولك عملك، ولك أجر من دللته على الخير والدال على الخير كفاعله، والنشر يكون بالتعليم والتعليم من أقوى وأعظم وسائل التحصيل، المعلم أول ما يبدأ بالتعليم، يعني علومه محدودة بقدر ما حفظه وفهمه عن شيوخه، ومن مفحوظاته؛ لكن إذا علم الناس لا شك أن علومه تنمو وتزداد، وبركة آثار العلم تظهر عليه مع النية الصالحة الخالصة، وإلا إذا لم يعلم غيره لا يلبث أن ينسى ما تعلمه، ولنا عبرة بمن تعلم وتسلم المناصب العليا، وكان يشار إليه بالبنان، يشار إليهم، علماء كبار، ثم بعد ذلك تركوا التعليم وانصرفوا عنه، نعم هم على خير، وعلى ثغور في مصالح العامة؛ لكن مع ذلك تركوا التعليم، فانحسر علمهم، أخذ يتراجع، والنسيان آفة من آفات تحصيل العلم، النسيان معروف ما سمي الإنسان إلا لنسيانه.

وكثير من الطلاب الذين مروا علينا أثناء التدريس في الجامعة نوابغ، وتجدهم مع الأوائل، وتسأل في القاعة وفي الفصل تجدهم ما شاء الله مبرزين في تحصيلهم، وقد فاقوا أقرانهم؛ لكن يتوظف بعد التخرج بوظيفة إدارية شأنه الكتابة، نعم الكتابة ما ينسى الكتابة؛ لأنه يزاول الكتابة؛ لكن العلم إذا مضى عليه سنة نسي قدر من علمه، سنتين ينسى أكثر، ثلاث سنوات ينسى، خمس سنوات عشر سنوات يعود عامي أو في حكم العامي، فعلينا أن نتابع التحصيل والنشر، التعلم والتعليم.

فالتعلم لا حد له، "تفقهوا قبل أن تَسُودُوا"، أو "تُسوّدوا"، قال أبو عبد الله البخاري: "وبعد أن تسودوا" لأنكم إذا سودتم ووقفتم على الحد نسيتم ذلك.

يقول: "فإذا استمع العبد إلى كتاب الله تعالى وسنة نبيه -عليه الصلاة والسلام- بنية صادقة على ما يحبه الله"، يعني على الجادة المعروفة المأثورة عن سلف هذه الأمة، المبنية على الدليل على ما يحبه الله، ألهمه كما يحب، وجعل له في قلبه نوراً، فهو ينظر بنور الله.

هناك أمور ولا أريد أن أكرر ما ذكرته في اللقاء السابق، ولا ما ذكرته في مناسبات وسجلت وتداولها الإخوان من كلام؛ لكن عندنا فيما يتعلق في ظرفنا الذي نعيشه:

-       واجب طالب العلم في أوقات الفتن.

-       وعندنا أيضاً: مسئولية حمل العلم وتبليغه.

-       وأيضاً: فقه تطبيق العلم.

هذه مسائل لا بد أن نكون على بصيرة منها.

واجب طالب العلم في أوقات الفتن:

عليه أن يعتصم بكتاب الله وسنة نبيه -عليه الصلاة والسلام-، والعصمة من هذه الفتن بالاعتصام بالكتاب والسنة، ويقلل بقدر الإمكان إلا بقدر الحاجة، إلا بقدر ما يُحتاج إليه من الأمور التي يخوض فيها الناس، يقلل منها، ويقتصر منها على قدر الحاجة، بعض الناس في أوقات الفتن، والفتن مذهلة، والإنسان متشوق إلى أن يعرف ماذا حصل؟ وماذا قيل؟ وماذا قالوا؟ تجده يقضي من وقته أكثر من نصف الوقت في الجرائد والمجلات والمواقع والقنوات، ماذا قال فلان؟ وماذا قيل عن فلان؟ على أمور هي لا شيء إن لم تضر لم تنفع، نعم ينبغي أن يعرف الإنسان ما يدور حوله بقدر الحاجة، وأن يكون ديدنه كتاب الله وسنة نبيه -عليه الصلاة والسلام-، وما يعين على فهم الكتاب والسنة، وأن يُعنى بالعبادات الخاصة، يُعنى بالعبادات الخاصة مثل الذكر، سواءً كان المطلق أو المقيد في أوقات خاصة أو على العموم في جميع الأوقات، ومثل تلاوة القرآن على الوجه المأمور به.

وأيضاً الصلاة، يكون له نصيب من الصلاة، وأيضاً الصيام، وغير ذلك من العبادات المتنوعة التي جاءت النصوص بفضلها، ((والعبادة في الهرج كهجرة إلي)) كما في الحديث الصحيح، فعلينا أن نهتم بهذا الأمر ونعنى به، ونلتف على أنفسنا، ونصلح ما فيها من خلل، ونعنى بأمراض القلوب كي نعالجها من كل ما جاءنا في شرعنا، ولا نحتاج إلى غيره، لا نحتاج إلى أن فلان العالم النفساني الأمريكي قال كذا، أو البريطاني قال كذا، لسنا بحاجة، عندنا العلاج لكل داء، {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء} [(82) سورة الإسراء] شفاء لإيش؟ لأدواء القلوب وأمراضها، ولأدواء الأبدان أيضاً، وأمراضها، فعندنا الشفاء، وفي كلام أهل العلم ما يعين على ذلك، وللإمام المحقق شمس الدين ابن القيم من ذلك القدح المعلى، وكتبه مملوءة من هذا الشيء، فيعنى بها أيضاً؛ لأنها تعين على فهم الكتاب والسنة، فعلى الإنسان أن يهتم بأمر العمل، وإذا صدق اللجأ إلى الله -جل وعلا- أعانه على كل ما يريد من علم وعمل.

مسئولية حمل العلم وتبليغه:

سمعنا في الآية: فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ} لماذا؟ إذا أنذروهم إيش يترتب على هذا؟ {لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [(122) سورة التوبة] يحذرون مما يُخاف، أمام الإنسان مخاوف، أمامه مخاوف في دنياه، فتن الدنيا، وأمامه أيضاً فتنة القبر، أمامه فتنة في المحيا، أمامه فتنة في الممات، أمامه أيضاً إما نعيم دائم لا ينقطع، أو عذاب سرمدي لا ينتهي، فيحمل هذا العلم بإخلاص وصدق، ويبلغه قومه إذا رجع إليهم، والنتيجة {لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} وبعض الإخوان كما بلغنا قام بهذا على خير وجهه في بلده فرجع، وبعضهم انشغل بأمور الدنيا وأمور المعاش وعاد كغيره، ولا أثر له في المجتمع، وسمعنا مسألة تبليغ العلم ونشر العلم، وما يترتب عليه من عظائم الأجور.

فالعلم مسئولية عظيمة، لا بد من تبليغها، ((بلغوا عني ولو آية)) ((نظر الله امرأً سمع مني حديثاً فوعاه، ثم ألقاه كما سمعه)) فلا بد من تبليغ ما سئل، أبو هريرة لما انتقد في كثرة التحديث قال: "لولا آية في كتاب الله ما حدثت، {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلعَنُهُمُ اللّهُ} [(159) سورة البقرة] فالكتمان أمره عظيم، إيش معنى أني أحفظ القرآن وأنام عنه؟! إيش معنى أنني أحمل العلم ولا أبلغه للناس؟! هذا وبال على صاحبه.

فقه تطبيق العلم:

عرفنا أنه لا بد من تطبيق العلم، وأن العلم بلا عمل كشجر بلا ثمر، عندنا مسألة نحتاج إليها، كثير من الإخوان يحرص على التعلم، و ما وجدت هذه الجموع إلا من أجل هذا، والحرص دليل على إرادة الله -جل وعلا- للإنسان الخير، ومع ذلك يحرص على التطبيق، تطبيق العلم، وهو الثمرة المرجوة من العلم؛ لكن قد يخفى على بعض طلاب العلم فقه التطبيق.

إيش معنى فقه التطبيق؟ حمل حديثاً يتضمن سنة، فعلم هذا الحديث، حرص على تطبيقه وطبقه بالفعل؛ لكنه لم يفقه ما يحتج بهذا الحديث من معارض مثلاً، فعلى سبيل المثال: طالب علم عرف ما جاء في التراص في الصفوف في الصلاة، وأن الصحابة كانوا يلصقون أقدامهم بأقدام من جاورهم في الصلاة، التراص في الصف أمر جاء الحث عليه، ((لا تدعوا فرجات للشيطان)) لكن مع ذلك هل نفقه أن نطبق هذا، بعض الناس يظن أن التطبيق لا يحصل إلا بالجفاء، حتى أنه وجد من -من حرصه على تطبيق السنة- لكن مع عدم الفقه لتطبيقها من يكون بعض أصابع جاره تحت قدمه، موجود هذا، ووجدت ردود أفعال ممن حصل معهم بعض هذه القضايا؛ لأن ربى بعض الأظافر لمثل هذا، هذه كارثة، هل هذا تطبيق لسنة؟ هذا حريص على تطبيق السنة، ويلصق القدم بالقدم؛ لكن ليس معنى هذا أنك تؤذي جارك، وتطأ على رجله، وإلا.....، هذا شيء، بعض الناس ما يتحمل، تصير قدمه عندها شيء من الحساسية، يعني إذا وجد طالب علم مشهود له قطع صلاته من أجل إيش؟ خيط رفيع جداً ينزل من ثوبه على قدمه، وهو حساس شديد الحساسية، خرج قطع الصلاة، ظنه حشرة أو شيء، فكيف من يجعل بعض الأصابع تحت قدمه؟ وإذا سجد جافى بين عضديه حتى يضر بالآخرين، يا أخي ما هكذا تطبيق السنة، أنت مطالب ألا تدع فرجة للشيطان؛ لكن بقدرها، والمحاذاة ليست بالأقدام فقط، ولذا بعض الناس يظن أن الحل في عدم ترك الفرج بأن يفحج بين رجليه، يجعل بدل ما حجمه....... في الأصل، يجعل بين رجليه أكثر من متر، هل هذا تطبيق للسنة؟ أين المحاذاة بالمناكب؟ هذا ليس هو تطبيق السنة، إنما يحرص الإنسان أن يحاذي بالمناكب والأقدام، ودين الله -جل وعلا- بين الغالي والجافي.

بعض الناس يحرص على تطبيق السنة، أولاً: لا يفقه السنة، فتجده يتورك في كل جلسة، وفي بدنه ثقل، وفي جيبه مفاتيح، ومحافظ وجوال، وما أدري إيش؟ ثم يرمي بنفسه على جاره، هل هذا يفقه تطبيق السنة؟ لا بد من فقه التطبيق، يعني إذا كانت هذه السنة معارضة، مثل المجابهة، المجابهة سنة؛ لكن بجوارك آخر تؤذيه، ((والملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه، ما لم يؤذِ، ما لم يحدث)) وأي أذىً في أن تجعل مرفقيك في أضلاع أخيك؟ فننتبه في هذا، ولا شك أن الذي يحرص على السنة يؤجر على قدر حرصه؛ لكن لتمام أجره لا بد أن يفقه كيف يطبق هذه السنة؟ لا بد أن يفقه كيف يطبق هذه السنة؟ وليس معنى هذا التقليل من شأن التراص في الصفوف، وإلصاق الأقدام؛ لكن أيضاً إذا رأيت جاري من النوع الحساس أترك له فرصة، بعض الناس من يكبس في صلاته إلى أن يسلم وقلبه كالمرجل من خشية الله؟ ومن تأمل ما يقرأ؟ لا، على صاحبه، يغلو كالمرجل على صاحبه وجاره، على أخيه المسلم، لماذا؟ لأنه ضايقه، وهذا حساس ما يتحمل، والناس في طباعهم في بعضهم شدة، ما يتحمل مثل هذه الأمور، ووجدت تصرفات أثناء الصلاة، تجعل طالب العلم متسماً في جميع أفعاله بالرفق واللين، وليكن داعية خير بفعله قبل قوله ليقبل، فعلينا أن نهتم بهذه الأمور، ولا نريد أن نكرر ما ذكرته سابقاً، فهذه مسائل ثلاث رأيت أهميتها في مثل هذا الوقت.

وطلب الكثير من الأخوة يقولون: الإجابة على الأسئلة هي التي تحل بعض الإشكالات عند بعض الإخوان وقد يكون في الكلام المرسل المكرر شيء من التكرار، فالإجابة على الأسئلة لا شك أنها حاجة قائمة للإخوان، فنقتصر على هذا، ونبدأ في الأسئلة، ولعله يرد فيها ما ينفع -إن شاء الله-.

 

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.