أهمية العناية بالألفاظ في أمور الاعتقاد

سُئِلَ بعضُ مُرجئةِ الجهميَّةِ عنِ الإيمانِ فقالَ: قولٌ وعمَلٌ. فقالَ الإمامُ أحمدَ: (هذا أخبَثُ قول)؛ لأنَّه يقولُ هذا الكلام مِن بابِ المُداراةِ أو المُداهنَةِ، حيث معروفٌ مِن مذهبِهم أنَّهم يرَون أنَّ المعرفةَ هي الإيمانُ، وعلَى هذا فإبليسُ مؤمنٌ عندَهم، والمشركونَ الذينَ عرفُوا اللهَ -جلَّ وعلا- في حالِ الشدِّةِ كلُّهم مؤمنونَ عندَهم. وإنَّما أرادوا بهذا: قولَ القلبِ وعمله. وهذا من تصرف بعضِ الناسِ في العباراتِ والألفاظ حتَّى لا تُعرفَ حقيقتُه. وقد ذكروا عن الزمخشري أنه افتتح تفسيره بقوله: (الحمد لله الذي خلق القرآن). فقيل له: (أنت مجنون)، يعني أن كتابك لن يقرأ، ثم غيَّر (خلق) إلى (جعل) وقال: (هي معناها). ولذلك حينَما قالَ ابن تيمية عن الإيمان هو: (قولٌ وعمل) فسر وبيَّن أنه أراد بذلكَ قولَ القلب اللِّسانِ، وعملَ القلبِ واللسان والجوارحِ. فالقولُ قولُ القلبِ وكذلك قولُ اللِّسانِ، ويطلَق القول كذلك على أعمال الجوارح فلو قالَ: (الإيمانُ قولٌ)، ثُمَّ فسَّرَه بقولِه: (قولُ القلبِ واللِّسانِ والجوارحِ) لكان ذلك غايةَ الاختصارِ، لكنه لا يكفِي في مثلِ هذا المَوطنِ الشَّائكِ الذي تَباينَت فيه الأقوالُ، ولا ينفعُ فيه حملُ اللَّفظِ علَى أضعفِ الاحتمالاتِ، وهو احتمالٌ مرجوحٌ وإن كانَ المَعنى صحيحًا، فالقولُ إذا أُطلِقَ فحقيقتُه قولُ اللِّسانِ، ويَدخُلُ فيه أيضًا قولُ القلبِ. وقولُ القلبِ يُرادُ بهِ الاعتقادُ الجازمُ الذي لا يُخالطُه رَيبٌ ولا شكٌّ، وليس هو حديث النفس المعفو عنه كما قد يفهمه من لا يعرف حقيقة الأمر؛ لأن حديث النفس مما عفي عنه فلا يمكن أن يكون أحد أجزاء الإيمان. وقولُ اللِّسانِ معروفٌ لا يتردَّدُ في فَهمِه أحدٌ، وهو الأصلُ في إطلاقِ الكلمَةِ. وعملُ القلبِ هو الحُبُّ للهِ -جلَّ وعلا- ولرسولِه ولدينِه ولأوليائِه، والبغضُ لأعدائِه، والخوفُ والرجاءُ والتوكُّلُ والرغبةُ والرهبةُ والخشيةُ، كلُّ هذه مِن أعمالِ القلبِ، وأعمالُ القلوبِ كثيرةٌ. وعملُ اللِّسانِ: ما لا يُؤدَّى إلَّا به، سواءً كانَ علَى جهةِ اللِّزومِ كالواجباتِ، ومِن ذلكَ النُّطقُ بالشهادتينِ التي لا يدخلُ الإنسانُ الإسلامَ إلَّا بهما، كما في قوله ﷺ: «أُمرتُ أن أُقاتِلَ النَّاسَ حتَّى يقولوا لا إلهَ إلَّا اللهُ» [البخاري: 392]، وما أوجبَه اللهُ -جلَّ وعلا- ممَّا يُنطقُ به، أو علَى جهةِ الندب إليه كتلاوةِ القرآنِ والأذكارِ. وعملُ الجوارحِ ظاهرٌ، كالصلاةِ والحجِّ والجهادِ وغيرِ ذلكَ مِن شرائعِ الدِّينِ. والتَّركُ عملٌ، كالصيام ، ومن ذلك قول الصحابة -رضي الله عنهم-:

لئن قعدنا والنبي يعمل

 

فذاك منا العمل المُضلِّل

وَهَذِه الأمورُ كُلُّها داخلةٌ في مُسَمَّى الإيمانِ، سَواءً مِنها مَا يتعلَّقُ بالقلبِ أو اللِّسانِ أو الجَوارحِ، بل هيَ أجزاؤُه.