شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (205)

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة والأخوات، سلام الله عليكم ورحمة وبركاته، أهلًا بكم إلى حلقة جديدة في شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، مع صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير فأهلًا بكم فضيلة الدكتور.

حياكم الله، وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين.

المقدم: قال المصنف -رحمه الله تعالى-، عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: لما اشتد بالنبي- صلى الله عليه وسلم- وجعه قال: «ائتوني بكتاب أكتب لَكم كتابًا لا تضلوّا بعده» فقال عمر -رضي الله عنه-: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- غلبه الوجع، وعندنا كتاب الله تعالى حسبنا، فاختلفوا، وكثر اللغط، فقال: قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد، فراوي هذا الحديث هو حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مر ذكره مرارًا.

 والحديث ذكره الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- ضمن الترجمة السابقة، باب كتابة العلم ومطابقته للترجمة ظاهرة، حيث طلب النبي -عليه الصلاة والسلام- من الصحابة أن يأتوه بما يكتب به من أدوات «ائتوني بكتاب» هل يأتي بالكتاب أو بما يكتب به؟

المقدم: يكتب به.

بما يكتب به، «ائتوني بكتاب» طلب النبي -عليه الصلاة والسلام- من الصحابة -رضوان الله عليهم- من يأتوه بما يكتب به من أدوات كالقلم والدواة ونحوهما، ليكتب لهم كتابًا، وكل ما جاء عنه -عليه الصلاة والسلام- فهو علم، والترجمة باب كتابة العلم، فأراد النبي-عليه الصلاة والسلام- أن يكتب لهم، فالمطابقة لكتابة العلم ظاهرة.

«لما اشتد» أي قوي، و(لما) ظرف بمعنى حين، «وجعه» فاعل اشتد، وكان ذلك في مرض موته -عليه الصلاة والسلام-، وللمصنف في المغازي لما حضرت النبي -صلى الله عليه وسلم- الوفاة، وله من حديث سعيد بن جبير أن ذلك كان يوم الخميس، وقبل موته -عليه الصلاة والسلام- بأربعة أيام، لما اشتد بالنبي-صلى الله عليه وسلم- وجعه «قال» قال هذه جواب لما، جواب لما، «ائتوني بكتاب» أي بأدوات الكتاب كما تقدم، قال ابن حجر: "ففيه مجاز الحذف"، وعند من يثبت المجاز يقول بمجاز الحذف {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82]. اسأل أهل القرية.

وقد صرح بذلك في رواية لمسلم قال: «ائتوني بالكتف والدواة»، «بالكتف والدواة» والمراد بالكتف عظم الكتف؛ لأنهم كانوا يكتبون فيها، «أكتب» مجزوم جواب الأمر، ويجوز الرفع للاستئناف، يقول ابن حجر: "وفيه مجاز أيضًا" من أي جهة؟ لأن قوله: «أكتب»...

المقدم: لأنه لا يكتب -عليه الصلاة والسلام-.

ظاهره أن يكتب بيده، لكن يقول: فيه مجاز أيضًا أي آمر بالكتابة، ويحتمل أن يكون عليه ظاهره كما سيأتي البحث في المسألة في كتاب الصلح إن شاء الله تعالى، كيف يكون على ظاهره؟

المقدم: أنه -عليه الصلاة والسلام- يكتب.

أنه -عليه الصلاة والسلام- كتب، إن شاء الله تعالى، وفي مسند أحمد من حديث علي: أن المأمور أنه (يعني علي) المأمور بذلك، ولفظه: "أمرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن آتيهُ بطبق أي كتف يكتب فيه أو يكتب ما لا تضل أمته من بعده، وما وعد به ابن حجر في كتاب الصلح هو في كتاب المغازي لا في كتاب الصلح.

المقدم: القائل.

أين؟

المقدم: الذي يستدرك على ابن حجر.

لا ابن حجر نفسه، ابن حجر يقول: وكما سيأتي البحث في المسألة في كتاب الصلح إن شاء الله تعالى؛ هو في الحقيقة ليس في كتاب الصلح لا يوجد في كتاب الصلح، إنما يوجد في كتاب المغازي، قال ابن حجر في كتاب المغازي في الجزء السابع صفحة ثلاثة وخمسمائة، وأربعة أيضًا، «فأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الكتاب وليس يحسن يكتب، فكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله»؛ لأنه لما كتب علي -رضي الله تعالى عنه- هذا ما قاضى محمد رسول الله، اعترضوا، لو اعترفنا أنك رسول الله ما حاربناك، اكتب اسمك واسم أبيك، فعلي ما قبل -رضي الله عنه- قال: "هنا"، فأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الكتاب وليس يحسن يكتب فكتب، هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله، يقول: تقدم هذا الحديث في الصلح عن عبيد الله بن موسى بهذا الإسناد، وليست فيه هذه اللفظة «ليس يحسن يكتب»، ولهذا أنكر بعض المتأخرين على أبي مسعود نسبتها إلى تخريج البخاري، وقال: ليس في البخاري هذه اللفظة ولا في مسلم، وهو كما قال عن مسلم، هي ليست موجودة عند مسلم، فإنه أخرجه من طريق زكريا بن أبي زائدة عن أبي إسحاق بلفظ: فأراه مكانها فمحاها، فأشار إليه في مكانه، وإلا فهو أيضًا لا يقرأ -عليه الصلاة والسلام-، فمحاها وكتب ابن عبد الله، انتهى.

وقد عرفت ثبتوها في البخاري، في مظنة الحديث، يعني مظنة الحديث كتاب المغازي، ففي مظنته، وكذلك أخرجها النسائي عن أحمد بن سليمان عن عبيد الله بن موسى مثل ما هنا سواء، وكذا أخرجها أحمد عن حُجين بن المثنى، عن إسرائيل ولفظه: فأخذ الكتاب، «وليس يحسن أن يكتب، فكتب مكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا ما قاضى عليه محمدٌ بن عبد الله»، وقد تمسك بظاهر هذه الرواية أبو الوليد الباجي، فادعى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كتب بيده، بعد أن لم يكن يحسن يكتب، فشنع عليه علماء الأندلس في زمانه ورموه بالزندقة، وأن الذي قاله يخالف القرآن؛ لأن القرآن نص على أنه أمي، وأيضًا سيأتي من قوله- جل وعلا-: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} [العنكبوت:48].

 المقصود أن أبا الوليد الباجي استدل بهذه اللفظة في هذا الحديث، وادعى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كتب بيده بعد أن لم يكن يحسن الكتابة، فشنع عليه علماء الأندلس في زمانه ورموه بالزندقة؛ لأنه جاء بما يخالف صريح القرآن، وأن الذي قاله يخالف القرآن حتى قال قائلهم:

برئـت ممن شرى دنيا بآخرة

وقال إن رسول الله قد كتب

فجمعهم الأمير، فاستظهر الباجي عليهم، يعني غلبهم بحجته، غلبهم وهذا الإشكال، مثل هذه الواقعة فيها إشكال كبير، ولذا الذي ما عنده من العلم ما يكفي وعنده من حضور البديهة وسرعة الاستحضار ما يكفي، مثل هذا لا يصلح للمناظرة، لماذا؟ لابد من العلم التام، بحيث يكون على مستوى خصمه أو أعلم، الأمر الثاني أن يكون سريع البديهة يستحضر ما يريد؛ لأن بعض الناس لا علم عنده، فيتصدى للمناظرات، فإذا غُلب من قبل من هو أعلم به وظُهر عليه بالحجة، قد يكون لما ينصره من حق من الحجج ما خفي عليه، فالسامع يظن أنه ما عند أهل الحق إلا هذا الكلام، فيغلب جانب المخالف، لاسيما وأن المناظرات زادت في هذه الأيام مع وجود هذه القنوات، فلا بد أن يكون من يتصدى للمناظرة لديه علم تام، ولو فيما يناظر فيه. هؤلاء غلبهم الباجي؛ لأنه أقوى منهم حجة، استظهر عليهم بالحجة، فإذا ظهر صاحب الباطل على صاحب الحق؛ لضعف صاحب الحق العلمي؛ السامع ماذا عنده؟ السامع، السامع عوام وأشبه عوام يصدقون، فالأمير هنا صدق؛ لأنه ظهر عليهم الوليد الباجي بحجته.

 الأمر الثاني: لا بد من سرعة الاستحضار، بعض الناس عنده علم، لكن متى يذكر؟ يذكر إذا استوى على فراشه ذكر الدليل، ما ينفع هذا، ولذا يوصى الإخوان ومشايخ وطلاب العلم الذي يتصدرون لهذه المناظرات أن يتصفوا بهذه الأوصاف، لاسيما من يدافع عن الحق؛ لأنه إذا انقطع نُسب الانقطاع إلى ما ينصره من حق، فقال من يسمع: أهل الحق ما عندهم إلا هذا، فينتبه لمثل هذا، فجمعهم الأمير فاستظهر عليهم الباجي بما لديه من المعرفة وقال للأمير: هذا لا ينافي القرآن، بل يؤخذ من مفهوم القرآن، القرآن نص على أنه أمي، وهو عن النبي-عليه الصلاة والسلام- قال: «نحن أمة أمية» ومعروف أن الأمي لا يقرأ ولا يكتب، طيب بل يؤخذ من مفهوم القرآن؛ لأنه قيد النفي بما قبل ورود القرآن، فقال: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ}[العنكبوت:48]، لكن بعده؟ مفهوم قوله: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ}[العنكبوت:48] أنك بعده تتلو كتابه وتخطه بيمينك، وبعد أن تحققت أميته -عليه الصلاة والسلام-، وتقررت في ذلك معجزته، وأُمن الارتياب في ذلك لا مانع من أن يعرف الكتابة من بعد ذلك من غير تعليم، فتكون معجزة أخرى، هذا كلام الباجي.

وذكر ابن دحية أن جماعة من العلماء وافقوا الباجي في ذلك، منهم شيخه أبو ذر الهروي، وأبو الفتح النيسابوري من علماء أفريقية وغيرها، واحتج بعضهم لذلك بما أخرجه ابن أبي شيبه، وعمر بن شبة، من طريق مجاهد، عن عون بن عبد الله قال: "ما مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حتى كتب وقرأ". وقال مجاهد: فذكرته للشعبي فقال: صدق قد سمعت من يذكر ذلك، وذكر أحاديث وآثارًا تدل على هذا، لكن أجاب الجمهور بضعف هذه الأحاديث كلها، ما عندنا في الباب إلا ما رواه البخاري في قصة الحديبية، ما رواه استدل بها في الأصل الباجي، وأجاب الجمهور بضعف هذه الأحاديث، وعن قصة الحديبية بأن القصة واحدة، والكاتب فيها "علي"، وقد صرح في حديث المِسور بأن عليًّا هو الذي كتب، يعني كتب ابن عبد الله، فيحمل على أن النكتة في قوله: فأخذ الكتاب وليس يحسن يكتب؛ لبيان أن قوله: أرني إياها، لو كان يحسن يكتب يحتاج أن يقول: أرني إياها؟

المقدم: أبدًا.

أبدًا؛ لبيان أن قوله: أرني إياها ما احتاج إلى أن يريه موضع الكلمة التي امتنع عليٌّ من محوها إلا لكونه لا يحسن الكتابة، وعلى أن قوله بعد ذلك: فكتب، فيه حذف تقديره فمحاها فأعاداها لعلي فكتب، فهو بهذا جزم ابن التين، وأطلق كتب بمعنى أمر بالكتابة، كتب أمر بالكتابة، وهو كثيرٌ، كقوله: كتب إلى قيصر، وكتب إلى كسرى، يعني هو الذي كتب؟ لديه كتّاب، يعني أمر بذلك، ويقول على تقديره حمله على ظاهره، أن كتب بيديه -عليه الصلاة والسلام-، فلا يلزم من كتابة اسمه الشريف في ذلك اليوم وهو لا يحسن الكتابة أن يصير عالمًا بالكتابة، ويخرج عن كونه أميًّا، فإن كثيرًا ممن لا يحسن الكتابة، يعرف تصور بعض الكلمات، ويحسن وضعها بيده، كثير من كبار السن الذين لا يقرؤون ولا يكتبون تجده يوقع اسمه، يوقع، احتاج إلى ذلك فتعلم التوقيع، وفي زماننا هذا العوام يشاهدون الأشياء المكتوبة بكثرة.

المقدم: فيعرف موضع اسمه أحيانًا.

يعرف، وبعد عندك العامي الذي جلس في متجره، وأمامه بضاعة معينة، هي أقرب البضائع إليه، مثلًا عنده بضائع كثيرة، لكن هذه البضائع أو بضاعة موحدة، عنده مثلاً نوع من القماش مكتوب عليه كذا، يعني وارد فلان هذا القماش، أو صنع في كذا من كثرة ما يرى يعرف أن يكتب صنع في كذا، من كثرة ما يرى، فلا تخرجه عن كونه أميًّا لأنه لو أردت أن تزيد عليه كلمة واحدة...

المقدم: ما عرف.

ما عرف، فالكلمة الواحدة لا تخرجه عن كونه أميًّا، وعلي تقدير حمله على ظاهره، فلا يلزم من كتابة اسم الشريف في ذلك اليوم وهو لا يحسن الكتابة أن يصير عالمًا بالكتابة ويخرج عن كونه أميًّا، يعني هل هذا يخالف كلام الباجي، أو هو نفسه كلام الباجي، لماذا شنعوا على الباجي؟

لا، الباجي يقول: صار يحسن يكتب، صار بعد ذلك يحسن القراءة والكتابة، وهذه معجزة؛ لأنه تعلمها بغير معلم، هذا وجه الإنكار على الباجي وإلا لو قال إنه يكتب كلمة واحدة ما ضر، هذا ما يقرره، وعلى تقدير حمله على ظاهره فلا يلزم من كتابة اسمه الشريف في ذلك اليوم وهو لا يحسن الكتابة أن يصير عالمًا بالكتابة، ويخرج عن كونه أميًّا، فإن كثيرًا ممن لا يحسن الكتابة يعرف تصور بعض الكلمات، ويحسن وضعها بيده، وخصوصًا الأسماء، ولا يخرج بذلك عن كونه أميًّا ككثير من الملوك.

الحافظ ابن كثير-رحمه الله- في تفسيره، في تفسير الآية، آية العنكبوت، يقول: من زعم من متأخري الفقهاء كالقاضي أبي الوليد الباجي، ومن تابعه أنه -عليه السلام- كتب يوم الحديبية: هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله، فإنما حمله على ذلك رواية في صحيح البخاري «ثم أخذ فكتب»، يقول الحافظ ابن كثير- رحمه الله-: وهذه محمولة على الرواية الأخرى، «ثم أمر فكتب»، ولهذا اشتد النكير من فقهاء المشرق والمغرب.

المقدم: على الباجي.

على من قال بقول الباجي، وتبرؤوا منه، وأنشدوا في ذلك أقوالًا وخطبوا به في محافلهم، وإنما أراد الرجل- أعني الباجي- فيما يظهر عنه أنه كتب ذلك على وجه المعجزة، لا أنه كان يحسن الكتابة كما قال- صلى الله عليه وسلم- إخبارًا عن الدجال: «مكتوبٌ بين عينيه كافر»، وفي رواية "ك ف ر"، لكن هل في هذا دليل أو بالوحي لأنه عن غيب؟

المقدم: وحي.

ما معنى تقطيع كلمة كافر "ك ف ر" هل يحتمل أن رسمها له -عليه الصلاة والسلام- أنه مكتوب بين عينيه كذا "ك ف ر"، أو أنه...

المقدم: من باب ما جاءه.

من باب من جاءه -عليه الصلاة والسلام- ومن باب تأكيد هذه اللفظة ذكرها مجموعة وذكرها مقطعة- عليه الصلاة والسلام-، يقرأها كل مؤمن. وما أورده بعضهم من الحديث أنه لم يمت -عليه الصلاة والسلام- حتى تعلم الكتابة فضعيف لا أصل له.

 لكم كتابًا مصدر كتب قال ابن حجر: قوله «كتابًا» بعد قوله بكتاب فيه الجناس التام، «ائتوني بكتاب».

المقدم: أكتب لكم كتابًا.

«أكتب كتابًا» فيه الجناس التام بين الكلمتين، متى يكون الجناس؟ إذا أريد بكلمة مطابقة في الصورة لكلمة أخرى معنى غير معناها، غير معنى الثانية، «فائتوني بكتاب» غير «أكتب كتابًا»؛ لأن «ائتوني بكتاب» أدوات الكتابة، يقول: هنا فيه الجناس التام بين الكلمتين، وإن كان إحداهما بالحقيقة والأخرى بالمجاز، وابن حجر ممن يرى المجاز، والخلاف فيه معروف، وأهل التحقيق شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم ومن يقول بقولهم ينفون المجاز؛ لأنه فيه مدخل لأهل البدع؛ لتحقيق مآربهم.

 «لا تضلوا» قال ابن حجر: هو نفي، وحذفت النون في الروايات التي اتصلت لنا، الأصل لا تضلون مادام نفيًا، التي اتصلت لنا؛ لأنه بدل من جواب الأمر «أكتب».

المقدم: لا تضلوا.

نعم، يقول: هو بدل من جواب الأمر، وتعدد جواب الأمر من غير حرف العطف جائز، وفي شرح الكرماني: لن تضلوا، وفي بعضها، يعني في بعض الروايات: «لا تضلوا» بكسر الضاد، ابن حجر يقول: «لا تضلوا» في الروايات التي اتصلت لنا، يعني لو كان هناك رواية أخرى بـ (لن) لذكرها، وهنا في الأصل في اليونينية «أكتب كتابًا لا تضلوا»، ما فيه ولا إشارة لأي راوٍ من رواة الصحيح، والكرماني اعتمد لن تضلوا، قال الكرماني ماذا يقول؟

شرح الكرماني يقول: «لن تضلوا»، وفي بعضها «لا تضلوا» بكسر الضاد، فالكرماني ما يعول عليه في مثل هذا؛ لأنه ليست له عناية بالروايات مثل ابن حجر والقسطلاني مثلًا له عناية فائقة في هذا، يقول، قال الجوهرى: الضلالة ضد الرشاد، وضللت بفتح اللام أضل بكسر الضاد، ضللت أضل بكسر الضاد وهي الفصيحة، وأهل العالية يقولون: ضللت بالكسر أضل بالفتح عكس الفصيح، وجاء يضل بالكسر بمعنى ضاع وهلك، بعده بالنصب على الظرفية.

 يقول الخطابي: هذا يتأول على وجهين، يعني ما أراد أن يكتبه النبي -عليه الصلاة والسلام- يتأول على وجهين، أحدهما أنه أراد أن يكتب اسم الخليفة بعده، أنه أراد أن يكتب اسم الخليفة بعده؛ لئلا يختلف الناس ولا يتنازعون فيؤديهم ذلك إلى الفتنة والضلال، والوجه الآخر أنه -صلى الله عليه وسلم- قد هم أن يكتب لهم كتابًا يرتفع معه الاختلاف بعده في أحكام الدين شفقةً على أمته وتخفيفًا عنهم، فلما رأى اختلاف أصحابه في ذلك قال: «قوموا من عندي، وتركهم على ما هم عليه» كلام الخطابي وجيه أم غير وجيه؟

المقدم: محتمل.

لكن غيب ما صار، هذا مجرد التماس، يعني مجرد إيراد احتمالات، الاحتمالات العقلية في هذا الفن لها مدخل أم ما لها مدخل؟ إذا لم تؤيد بالدليل فما لها مدخل.

المقدم: لكن يمكن هو فهم لا تضلوا بعده، على أساس أنها تتعلق بأمور وحدتهم وعدم تفرقهم؟

لكن ألا يحتمل أن يكون فيه أمور غير هذين الأمرين؟ فالاحتمال قائم، يقول: أحدهما أنه أراد أن يكتب اسم الخلفية بعده لئلا يختلف الناس ولا يتنازعوا فيؤديهم ذلك إلى الفتنة والضلال، لكن هل حصل أم ما حصل؟ ما حصل، إذا من يدعي التنصيص على خلافة...

المقدم: أبي بكر.

علي مثلًا وأنه الوصي بعده، وعلي -رضي الله عنه- يقول: ما عندنا شيء، ليس عندنا شيء، قلت لعلي: هل عندكم كتاب؟ قال: لا، إلا كتاب الله، أو فهم يعطيه رجل مسلم، فهذا ينفي ويرد على الشيعة الذين يزعمون أن النبي -عليه الصلاة والسلام- جعله وصيًّا من بعده، الوجه الآخر أنه -عليه الصلاة والسلام- قد هم أن يكتب لهم كتابًا يرتفع معهم الاختلاف بعده في أحكام الدين شفقة على أمته وتخفيفًا عنهم، فلما رأى اختلاف أصحابه في ذلك قال: «قوموا من عندي، وتركهم على ما هم عليه»، والذي يظهر أن الأمر أعم من ذلك، أعم من ذلك، كل ما يوجد أو ما يكون سببًا في الضلال يرتفع بهذا الكتاب، هذا الأصل؛ لأنه نفى «لن تضلوا»، يعني في المستقبل، أو «لا تضلوا»، فكل ما يؤدي إلى الضلال يرتفع بهذا الكتاب، لكن لماذا لم يكتب هذا؟ من شؤم الاختلاف والتنازع، وسيأتي بيانه.

وفي شرح ابن بطال: وفي قوله: «ائتوني بكتاب أكتب لكم» دليلٌ على أن للإمام أن يوصي عند موته بما يراه نظرًا للأمة، ولذا أوصى أبو بكر بالخلافة لعمر، وفي تركه الكتاب، الرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يهم إلا بما يجوز له فعله، فدل على أنه يجوز له أن يوصي، فللإمام بعده أن يوصي، هذا كلام ابن بطال، وفي تركه الكتاب إباحة الاجتهاد؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- أوكلهم إلى أنفسهم واجتهادهم.

المقدم: أحسن الله إليكم، ونفع بعلمكم.

 لعلنا نكتفي بهذا على أن نستكمل بإذن الله ما تبقى في حلقة قادمة. أيها الإخوة والأخوات، بهذا نصل وإياكم إلى ختام هذه الحلقة من شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، لقاؤنا يتجدد بكم بإذن الله في الحلقة القادمة، وأنتم على خير، شكرًا لكم.

 والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.