شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح - كتاب الاعتكاف - 25

 

المقدم:

 

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله مُحمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلًا ومرحبًا بكم مستمعينا الكرام إلى لقاء جديد في شرح التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، هذا البرنامج الذي يسعدنا أن نستضيف فيه معالي الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير -وفقه الله- عضو هيئة كبار العُلماء، وعضو اللجنة الدائمة للإفتاء، فأهلاً ومرحبًا بكم معالي الشيخ.

حياكم الله وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين.

المقدم: الكلام موصول مستعمينا الكرام في حديث صفية، وفيه عن صفية زوج النبي -صلى الله عليه وسلم ورضي عنها- أنها جاءت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تزوره في اعتكافه في المسجد في العشر الأواخر من رمضان، فتحدثت عنده ساعة ثم قامت تنقلب، فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- معها يقلبها، حتى إذا بلغت باب المسجد عند باب أم سلمة مر رجلان من الأنصار فسلما على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال لهما النبي -صلى الله عليه وسلم-: «على رسلكما، إنما هي صفية بنت حيي» فقالا: سبحان الله يا رسول الله، وكَبُر عليهما، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن الشيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئًا».

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد،،

ما زال النقل عن ابن بطال فيما يُشرع ويُباح، ويُمنع للمعتكف، في آخر الحلقة السابقة، قال مالك: لا يشتري إلا ما لا غنى له عنه من طعام إذا لم يكن له من يكفيه، وكره مالك والليث للمؤذن الصعود على المنارة، قالا: ولا يصعد على ظهر المسجد، وأجاز ذلك أبو حنيفة والشافعي قالا: ولو كانت المنارة خارج المسجد.

يعني هذا بالنسبة للمؤذن، وليس لكل معتكف، إنما تقدم الكلام في خروج المؤذن إلى المنارة، ولو كانت خارج المسجد، أو كان بابها على خارج المسجد.

وكذلك اختلفوا في حضور مجالس العلم، في حضوره يعني المعتكف مجالس العلم، فرخص في ذلك كثير من العلماء، رُوي ذلك عن عطاء والأوزاعي والليث والشافعي، وقال مالك: لا يشتغل في مجالس العلم، وكره أن يكتب العلم.

يعني مالك –رحمه الله- من عادته أنه إذا دخل رمضان، أنه تفرغ للقرآن، وترك الحديث، وأقبل على القرآن، بدون اعتكاف، فكيف بالمعتكف؟ وقال مالك: لا يشتغل في مجالس العلم، وكره أن يكتب العلم، وبعض الناس يتذرع بمثل هذا الكلام، فيترك أعمال الخير في رمضان عمومًا أو في الاعتكاف بحجة أنه يقتدي بالسلف.

ونقول: الاقتداء بالترك أمر سهل كل يستطيعه، لكن هل يفعل ما يفعله السلف من أعمال صالحة، هم يتفرغون لأعمال أخرى، يعطلون الحديث، ويعطلون الاشتغال بالعلم، وكثيرًا من الأعمال التي كانوا يزاولونها مما يقربهم إلى الله -جل وعلا-، ويقبلون على العبادات الخاصة؛ صلاة، ذكر، تلاوة.

لكن هل الإنسان الذي يتذرع بمثل هذا الكلام، يقبل على هذه العبادات مثل إقبالهم، نعم نقول الترك سهل، وقلنا مثل هذا الكلام وقاله غيرنا، لكن هل نقبل على العبادة مثل إقبالهم؟

لا يقبل على العبادة ويكون البديل من هذه الأعمال النافعة الصالحة المقربة إلى الله -جل وعلا-، إما كلام مباح أو نوم، نقول: لا، اشتغل بالعلم أفضل من الكلام العادي، أو السمر مع المعتكفين أو غيرهم من زواره، فيلاحظ مثل هذا.

وقال ابن المنذر: طلب العلم من أفضل الأعمال بعد أداء الفرائض؛ لانتشار الجهل ونقصان العلم، وذلك إذا أراد الله به طالبه، وعمل البر لا ينافي الاعتكاف، ومدارسة العلم لا شك أنها مما يقرب من الله -جل وعلا-، وهو أفضل من نوافل العبادة، العلم.. لكن يبقى أنه لو ترك هذا وأجَّله إلى ما بعد الاعتكاف، وأقبل على ما كان يفعله النبي -عليه الصلاة والسلام- في معتكفه، واحتجر حجرة أو بعد عن أنظار الناس وخلا بنفسه، وجمع قلبه، لاشك أن هذا مشابه لفعله -عليه الصلاة والسلام- وسلف الأمة.

وقال غيره: مجالس العلم شاغله له عن الاعتكاف، ومالك أسعد بأصله؛ لأنهم يوافقونه في أن المعتكف لا يعود مريضًا، ولا يشهد جنازة، وذلك من عمل البر، واحتج الطحاوي على جواز اشتغال المعتكف بالمباح من الأفعال بشغله -عليه الصلاة والسلام- في اعتكافه بمحادثة صفية، ومشيه معها إلى باب المسجد.

هذه الأمور اليسيرة لا تخل بالاعتكاف، ولا يتصور أن المعتكف مهما بلغت منزلته أنه صار مثل الملائكة نعم، على كل حال اعتكافه لا يخرجه من بشريته، فله حاجته وله مطالبه، وله حاجة أهله أيضًا، لكن يقلل من ذلك بقدر الإمكان، بخلاف ما يوجد الآن في صفوف المعتكفين من بعض المنتسبين إلى طلب العلم، تجد الوقت ينتهي كله في القيل والقال، وإذا سألته: كم قرأت اليوم؟ ما يذكر إلا شيئًا يسيرًا، يقرأه الإنسان وهو مشغول بأعمال دنياه، فضلاً عن أن يكون من أهل القرآن أو يكون في هذا المجال.

المقدم: يقول يشكل هنا فتحدثت عنده ساعة. قوله: ساعة.

ساعة مدة من الزمن ليس المراد بها ستون دقيقة، هذا نبهنا عليها سابقًا، لها مدة يسيرة يسمونها ساعة.

المقدم: أقول لارتباطه بالكلام الذي تقوله.

لا لا هذه أمور يسيرة، وقلنا إن الساعة قد تكون أقل، وقد تكون أكثر من الساعة الفلكية المعروفة الآن.

واحتج الطحاوي على جواز اشتغال المعتكف بالمباح من الأفعال بشغله -عليه الصلاة والسلام- باعتكافه في محادثة صفية ومشيه معها إلى باب المسجد.

قال المهلب: وفيه من الفقه أنه لا بأس بزيارة أهل المعتكف له في اعتكافه، وفيه أنه لا بأس أن يعمل في اعتكافه بعض العمل الذي ليس من أعمال المعتكف من تشييع قاصد، وبر زائر وإكرام مفتقر وما كان في معناه مما لا ينقطع به عن اعتكافه، يعني لا مانع أن يتصدق، ولا مانع أن يتحدث مع زائره شيئًا يسيرًا يجبر خاطره، ويشيع قاصده، كما فعل النبي -عليه الصلاة والسلام- مع صفية.

وفي التوضيح لابن الملقن: فيه استحباب التحرز من التعرض لسوء الظن، وطلب السلامة والاعتذار بالأعذار الصحيحة للأمة، يقول ابن الملقن: فرع إذا خرج المعتكف لحاجته قنّع رأسه حتى يرجع، أخرجه ابن أبي عاصم من حديث أنس مرفوعًا.

قنع رأسه، أيش معنى هذا؟ مهطعين مقنعي رءوسهم، كيف يقنّع رأسه؟ يغطيه؟ أو يطأطئه؛ لئلا ينتشر بصره يمينًا وشمالًا، ويتشتت قلبه، لكن الحديث المشار إليه حديث أنس الذي أخرجه ابن أبي عاصم ضعيف، فلا يستدل به إنما يمشي على عادته، ويحرص على حفظ قلبه وبصره.

ثم قال: فرع لا يتعدي في خروجه أقرب المواضع إليه، فإن خالف ابتدأ اعتكافه، قاله مالك فيما نقله ابن العربي، وسبق أنه إذا كان له مكان يقضي به حاجته قريب، فلا يذهب إلى البعيد، قال مالك فيما نقله ابن العربي، قال: ولا يقف لأداء شهادة إلا ماشيًا، فإن وقف ابتدأ، ولا يعزي أحدًا، ولا يصلي على جنازة إلا في المسجد، يعني الذي يعتكف فيه، ولا يخيط شيئًا إلا الشيء المفتق، يعني خشية أن يزداد، أو يكشف ما لا يجوز كشفه.

قال: وأجمع العلماء على أن من وطأ زوجته في اعتكافه عامدًا ليلاً كان أو نهارًا فسد اعتكافه، واختلفوا فيما دونه من القبلة واللمس والمباشرة، فقال مالك: من فعل شيئًا من ذلك ليلاً أو نهارًا فسد اعتكافه أنزل أو لم ينزل، وأظهر أقوال الشافعي أنه إن أنزل بطل، وإلا فلا.

وجاء النهي عن المباشرة، { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ }.

 فرع خروجه -صلى الله عليه وسلم- مع صفية للتشييع، فإن خرج بغير علة، العلة التشييع، فإن خرج يعني المعتكف من غير علة بطل اعتكافه، وقال النعمان: من النعمان؟ أبو حنيفة نعم، وقال النعمان: إن خرج ساعة بغير عذر استأنف، وقال صاحباه أبو يوسف ومحمد: يومًا أو أكثر من نصفه، أو أكثر من النصف، وأجاز مالك إذا اشتد مرض أحد أبويه، يعني أجاز مالك أن يخرج المعتكف، ويبتدئ يعني يستأنف انقطع اعتكافه، ويخرج للاغتسال من الحلم، يعني من الاحتلام وللجمعة وللحر، يعني يغتسل عند الحاجة فيه لا يطيق أو لا يتحمل تركه، الحلم هذا الغسل للاحتلام شرط لصحة الصلاة وغيرها، وأيضًا للمكث بالمسجد، وللجمعة سنة مؤكدة عند جماهير أهل العلم، وقيل بوجوبه، وللحر كما سلف، زاد عليه الحر ولم يطق البقاء، وأراد أن يغتسل للتبرد؛ لأن هذا مما لا يتم الاعتكاف إلا به؛ لأنه لو زاد عليه الحر يمكن ألا يطيق الاعتكاف، ومما يعينه على الاعتكاف أن يلطف هذه الحرارة بالاغتسال.

وفي الخروج لشراء الطعام خلاف، ثم قال: فرع لو شرط باعتكافه الخروج لعارض، أي عارض أن يطرأ يخرج، لو شرط في اعتكافه الخروج لعارض صح الشرط عندنا، هذا قول ابن الملقن، وهو شافعي على الأظهر، خلافًا لمالك؛ لأن مالك ما يجيز الشرط في هذا.

الآن بعض الناس يشترط أن يخرج للدوام، يداوم للوظيفة أو للدراسة أو لشيء يشترط، ويجيزون له الاشتراط، وهذا عند الحنابلة معروف والشافعية، لكن مالك: لا يجزئ مثل ذلك، ولا شك أن هذا يذهب معنى الاعتكاف.

المقدم: أحسن الله إليكم معالي الشيخ، ونفع بما قلتم، أيها الإخوة المستمعون الكرام، وبهذا نصل إلى  ختام  هذه الحلقة، نتقدم في ختامها بالشكر الجزيل لمعالي الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير -وفقه الله- عضو هيئة كبار العلماء، وعضو اللجنة الدائمة للإفتاء، شكر الله  له ولكم مستمعينا الكرام، ونلقاكم في حلقة مقبلة، بإذن الله تعالى، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.