شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (311)

 

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم.

 

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أهلًا بكم إلى حلقة جديدة في شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح.

يتولى شرح أحاديث هذا الكتاب صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الكريم بن عبد الله الخضير، حيث نسعد بالترحيب به مع مطلع حلقتنا، فأهلًا بكم فضيلة الدكتور.

حياكم الله، وبارك بكم، وفي الإخوة المستمعين.

المقدم: ما زلنا في حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- في باب "لا يستنجى بروث" نستكمل ما تبقى من أحكامه ومسائل هذا الحديث، أحسن الله إليكم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد،،

مضى الحديث في.. الكلام على متن الحديث، وذكرنا في الحلقة السابقة أن الحديث أخرجه البخاري في هذا الموضع فقط، في كتاب الوضوء، باب "لا يستنجى بروث"، وذكرنا الإشكال الذي في إسناده، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا زهير، وابن معاوية الجعفي عن أبي إسحاق والسبيعي، قال: ليس أبو عبيدة ذكره، هذا إشكال، ولكن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه، أنه سمع عبد الله يقول: أتى النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – الغائط فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار، فذكر الحديث، ثم قال: وقال إبراهيم بن يوسف عن أبيه عن أبي إسحاق: حدثني عبد الرحمن، الإشكال في قوله: ليس أبو عبيدة ذكره، ولذا يقول الحافظ ابن حجر: قوله: ليس أبو عبيدة أي ابن عبد الله بن مسعود، وقوله: ذكره أي لي، ولكن عبد الرحمن بن الأسود أي هو الذي ذكره لي بدليل قوله في الرواية الثانية المعلقة التي ذكرها بعد سياق الحديث، حدثني عبد الرحمن، وإنما عدل أبو إسحاق عن الرواية عن أبي عبيدة إلى الرواية عن عبد الرحمن مع أن رواية أبي عبيدة أعلى له.

المقدم: الرواية المعلقة ذكرها في الصحيح؟

نعم، ثم قال بعد ذكر الحديث: وقال إبراهيم بن يوسف عن أبيه عن أبي إسحاق، حدثني عبد الرحمن.

المقدم: داخلة في نفس الحديث، ليست رواية مستقلة.

نفس الحديث، عقب الحديث بها، قال ابن حجر: وإنما عدل أبو إسحاق عن الرواية عن أبي عبيدة إلى الرواية عن عبد الرحمن مع أن رواية أبي عبيدة أعلى له؛ لكون أبي عبيدة لم يسمع من أبيه على الصحيح، فتكون منقطعة بخلاف رواية عبد الرحمن فإنها موصولة، ورواية أبي إسحاق لهذا الحديث عن أبي عبيدة عن أبيه عبد الله بن مسعود عند الترمذي وغيرهم، التي أضرب عنها البخاري، عند الترمذي وغيره من طريق إسرائيل بن يونس عن أبي إسحاق، فمراد أبي إسحاق هنا بقوله: ليس أبو عبيدة ذكره أي لست أرويه الآن عن أبي عبيدة، وإنما أرويه عن عبد الرحمن، هو لا ينفي رواية أبي عبيدة مطلقًا عن أبيه لهذا الحديث، وإن كانت غير متصلة، لكن الآن في هذا الإسناد الذي اختاره البخاري -رحمه الله- لا يرويه من طريق أبي عبيدة عن أبيه؛ لأن أبا عبيدة لم يدرك عبد الله بن مسعود فيكون منقطعًا.

 ثم قال ابن حجر في شرح الحديث بعد كلامه على الإسناد المعلق، وقال إبراهيم بن يوسف عن أبيه، يعني يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق السبيعي، عن أبي إسحاق وهو جده، قال: حدثني عبد الرحمن، يعني ابن الأسود بن يزيد بالإسناد المذكور أولًا، وأراد البخاري -رحمه الله تعالى- بهذا التعليق الرد على من زعم أن أبا إسحاق دلس هذا الخبر.

 الآن الصيغة عن أبي إسحاق قال: ليس أبو عبيدة ذكره، ولكن عبد الرحمن بن الأسود، وأبو إسحاق رُمي بالتدليس، فالصيغة ليس فيها تصريح أنه سمعه منه، لكن في المعلق عن أبي إسحاق حدثني عبد الرحمن، يعني تنتفي تهمة التدليس بالتصريح حدثني، أراد البخاري بهذا التعليق الرد على من زعم أن أبا إسحاق دلس هذا الخبر، كما حكي ذلك عن سليمان الشاذكوني، حيث قال: لم يسمع في التدليس بأخفى من هذا، قال: ليس أبو عبيدة ذكره، ولكن عبد الرحمن ذكره، يعني لا يقتضي أن يكون ذكره له، قال: ولكن عبد الرحمن ولم يقل: ذكره لي، وقد استدل الإسماعيلي أيضًا على صحة سماع أبي إسحاق لهذا الحديث من عبد الرحمن بكون يحيى القطان رواه عن زهير، فقال بعد أن أخرجه من طريقه: والقطان لا يرضى أن يأخذ عن زهير ما ليس بسماع لأبي إسحاق، وكأنه عرف ذلك بالاستقراء من صنيع القطان، أو بالتصريح من قوله: فانزاحت عن هذه الطريق علة التدليس، لكن التعليق الذي ذكره البخاري تنتفي معه تهمة التدليس؛ لأنه قال: عن أبيه، وقال إبراهيم بن يوسف عن أبيه، عن أبي إسحاق، قال: حدثني عبد الرحمن.

 يعني إذا كانت العبارة الأولى محتملة، ولكن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه، هذه محتملة، لكن العبارة صريحة في التعليق، قال إبراهيم بن يوسف، عن أبيه، عن أبي إسحاق: حدثني عبد الرحمن، فانزاحت حينئذٍ علة التدليس.

 قال ابن حجر: وقد أعله قوم بالاضطراب، وقد ذكر الدارقطني الاختلاف فيه، على أبي إسحاق في كتاب العلل، واستوفيته في مقدمة الشرح الكبير، وقفنا في حلقة مضت عند المراد بالشرح الكبير، ولم يتبين المراد به إلا أنه هو نفسه الفتح؛ إذ لا يوجد لابن حجر شرح أكبر منه، وهدي الساري هي مقدمة لفتح الباري، وكونه لم يصرح بكونه فتح الباري...

المقدم: قد يكون لم يسمه بعد.

احتمال أنه لم يسمه بعد، والإشكال باقٍ ما يزال؛ لأنه يقول: استوفيته في مقدمة الشرح الكبير، كأنه يتحدث عن كتاب آخر، كيف يقول في فتح الباري: استوفيته في مقدمة الشرح الكبير، قد يقول: في مقدمة هذا الكتاب على الأقل، وعلى شك أن أسلوب التجريد مألوف في لغة العرب، أسلوب التجريد يعني كأنه جرد من فتح الباري كتابًا ووصفه بكونه كبيرًا، وتحدث عنه، لكن رواية زهير هذه ترجحت عند البخاري بمتابعة يوسف حفيد أبي إسحاق، وتابعهما شريك القاضي وزكريا بن أبي زائدة وغيرهما، وتابع أبا إسحاق على روايته عن عبد الرحمن المذكور ليث بن أبي سليم، وحديثه يستشهد به، أخرجه ابن أبي شيبة، وإلا فالكلام في ليث بن أبي سليم معروف، لكنه في باب الشواهد والمتابعات يذكر.

 ومما يرجحها أيضًا استحضار أبي إسحاق لطريق أبي عبيدة، وعدوله عنها بخلاف رواية إسرائيل عنه عن أبي عبيدة، فإنه لم يتعرض فيها لرواية عبد الرحمن، كما أخرجه الترمذي وغيره، فلما اختار في رواية زهير طريق عبد الرحمن على طريق أبي عبيدة دل على أنه عارف بالطريقين، وأن روايته عن عبد الرحمن.. هو أن رواية عبد الرحمن عنده أرجح، والله أعلم.

 الإشكال في كون أبي إسحاق روى الحديث عن أبي عبيدة عن الترمذي، وهو هنا يقول: ليس أبو عبيدة ذكره لي، ولعله يريد الآن وقت التحديث، يعني لا أريد أن أروي الحديث من طريق أبي عبيدة، وإنما أرويه من طريق عبد الرحمن، وقال العيني: وقال بعضهم يريد بذلك...

المقدم: الأحناف.

لا، العيني هو حنفي.

المقدم: نعم، يقصد ابن حجر.

يريد ابن حجر نعم كعادته، وإنما عدل أبو إسحاق عن الرواية عن أبي عبيدة إلى الرواية عن عبد الرحمن، مع أن الرواية عن أبي عبيدة أعلى له؛ لكون أبي عبيدة لم يسمع من أبيه على الصحيح، فتكون الرواية منقطعة بخلاف رواية عبد الرحمن فإنها موصولة، قلت – العيني-: قول أبي إسحاق هذا يحتمل أن يكون نفيًا لحديثه، وإثباتًا لحديث عبد الرحمن، ويحتمل أن يكون إثباتًا لحديثه أيضًا، وأنه كان غالبًا يحدثه به عن أبي عبيدة، فقال يومًا: ليس هو حدثني وحده، ولكن عبد الرحمن أيضًا، وقال الكرابيسي في المدلسين: أبو إسحاق يقول في هذا الحديث مرة: حدثني عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله، ومرة: حدثني علقمة عن عبد الله، ومرة: حدثني أبو عبيدة عن عبد الله، ومرة يقول: ليس أبو عبيدة حدثنيه، وإنما حدثني عبد الرحمن عن عبد الله، وهذا دليل واضح أنه رواه عن عبد الرحمن بن الأسود سماعًا فافهم.

 وأما قول هذا القائل: لكون أبي عبيدة لم يسمع من أبيه فمردود بما ذكر في "المعجم الأوسط" أو بما ذكر في "المعجم الأوسط" للطبراني من حديث زياد بن سعد، عن أبي الزبير، قال: حدثني يونس، يونس بن عتّاب الكوفي، قال: سمعت أبا عبيدة بن عبد الله يذكر أنه سمع أباه، يقول: كنت مع النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – في سفر.. الحديث، وبما أخرج الحاكم من مستدركه، حديث أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن أبيه في ذكر يوسف -عليه السلام-، وصحح إسناده، وربما حسن الترمذي عدة أحاديث رواها عن أبيه، منها: لما كان يوم بدر وجيء بالأسرى، ومنها: كان في الركعتين الأوليين كأنه على الرضف، ومنها قوله: {ولا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [آل عمران: 169]، ومن شرط الحديث الحسن أن يكون متصل الإسناد عند المحدثين.

 الآن استدل العيني على سماع أبي عبيدة من أبيه، أولًا الحافظ ابن حجر يقرر أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه، العيني يتعقب الحافظ ابن حجر بأن أبا عبيدة سمع من أبيه، يقول: هذا مردود مما ذكر في المعجم الأوسط للطبراني من حديث زياد بن سعد عن أبي الزبير، قال: حدثني يونس بن عتاب الكوفي، سمعت أبا عبيدة بن عبد الله يذكر أنه سمع أباه يقول: كنت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم – في سفر، سمع أباه، كيف تكون منقطعة وسمع أباه؟ وبما أخرج الحاكم بمستدركه من حديث أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن أبيه في ذكر يوسف -عليه السلام- وصحح إسناده، فكيف يصحح إسناده وأبو عبيدة لم يسمع من أبيه؟ فيه انقطاع، وربما حسن الترمذي عدة أحاديث يقول العيني رادًّا على ابن حجر في ادعائه أن أبا عبيدة لم يسمع من أبيه، قال: ربما حسن الترمذي عدة أحاديث رواها عن أبيه، منها: لما كان يوم بدر وجيء بالأسرى، ومنها: إذا كان في الركعتين الأوليين كأنه على الرضف، ومنها قوله: {ولا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [آل عمران: 169]، ومن شرط الحديث الحسن أن يكون متصل الإسناد عند المحدثين، لكن ما يقتصر الترمذي على تحسينه، يقول فيه: حديث حسن، هذا كثير من طلاب العلم، أو من أهل العلم لاسيما وأن الواقع يشهد بذلك، يعني في كثير من المواضع قد يحسن ولا يرتقي إلى درجة الحسن، حتى ولا الحسن الذي حده، الذي اشترط له ثلاثة الشروط، فكونه يقتصر على تحسينه لا يعني أنه قد بلغ رتبة الحسن الذي يحتج به.

 ومحصل ما ذكره الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح التي أحال إليها سابقًا، مقدمة الشرح الكبير، محصل ما ذكره الحافظ في مقدمة الفتح الذي سماه الشرح الكبير مما أحال عليه سابقًا أن الدارقطني ذكر طرق الحديث، ثم قال: أحسنها سياقًا الطريق الأولى، التي أخرجها البخاري، ولكن في النفس منها شيء؛ لكثرة الخلاف فيه على أبي إسحاق، وقال الترمذي: هذا حديث فيه اضطراب، وتوقف فيه الدارمي والبخاري.

 ثم قال الحافظ: الاختلاف في الحديث لا يوجب أن يكون مضطربًا إلا بشرطين، الآن الحديث حديث الباب حديث ابن مسعود، قيل عنه: إنه مضطرب، لما ذكر ممن يرويه أبو إسحاق على وجوه متعددة، والحديث الذي يروى على وجوه متعددة مختلفة متساوية هذا الحديث المضطرب، فهل حديث الباب من هذا النوع؟ يقول ابن حجر: ثم قال الحافظ الاختلاف في الحديث لا يوجب أن يكون مضطربًا إلا بشرطين:

أحدهما: استواء وجوه الاختلاف، فمتى رُجح أحد الأقوال قُدِّم، ولا يُعل الصحيح بمرجوح، يعني إذا ترجح أحد الطرق على غيره انتفى الاضطراب؛ لأنه لا يحكم بالاضطراب إلا مع استواء هذه الوجوه المختلفة.

ثانيهما: مع الاستواء أن يتعذر الجمع على قواعد المحدثين، على قواعد المحدثين؛ لأنه إذا أمكن الجمع ارتفع الاختلاف، مع الاستواء أن يتعذر الجمع على قواعد المحدثين، ويغلب على الظن أن ذلك الحافظ لم يضبط ذلك الحديث بعينه، فحينئذ يحكم على تلك الرواية وحدها بالاضطراب، ويتوقف عن الحكم بصحة ذلك الحديث لذلك.

 على كل حال من شروط الاضطراب: أن يروى الحديث على أوجه، إن كان على وجه واحد لا يمكن أن يوصف بالاضطراب، أن يروى على أوجه تكون هذه الأوجه أيضًا مختلفة، إذا كانت متفقة لا يمكن أن يوصف بالاضطراب، أن تكون هذه الأوجه المختلفة متساوية، فإذا رجح بعضها على بعض إن لم تكن متساوية، رجح بعضها على بعض، فإنه حينئذٍ ينتفي الاضطراب. قال: وهنا يظهر عدم استواء وجوه الاختلاف على أبي إسحاق فيه؛ لأن الروايات المختلفة لا يخلو إسناد منها من مقال، غير الطريقين المقدم ذكرهما عن زهير وعن إسرائيل، مع أنه يمكن رد أكثر الطرق إلى رواية زهير، والذي يظهر بعد ذلك تقديم رواية الزهير؛ لأن يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق قد تابع زهيرًا، ثم إن ظاهر سياق زهير يشعر بأن أبا إسحاق كان يرويه أولًا عن أبي عبيدة عن أبيه، ثم رجع عن ذلك، وصيره عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه، فهذا صريح في أن أبا إسحاق كان مستحضرًا للسندين جميعًا عند إرادة التحديث، ثم اختار طريق عبد الرحمن، وأضرب عن طريق أبي عبيدة، إلى آخر ما ذكره -رحمه الله-.

ثم قال: إذا تقرر ذلك لم يبق لدعوى التعليل عليه مجال؛ لأن روايتي إسرائيل وإسحاق لا تعارض بينهما، إلا أن رواية زهير أرجح، وبذلك يظهر نفوذ رأي البخاري، وثقوب ذهنه، والله أعلم.

المقدم: قال -رحمه الله تعالى- عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: توضأ النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – مرة مرة.

راوي الحديث حَبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم –، مر ذكره مرارًا.

 وهذا الحديث ترجم عليه الإمام البخاري "باب الوضوء مرة مرة"، يقول العيني: أي هذا باب في بيان حكم الوضوء مرة مرة، يعني لكل عضو من أعضاء الوضوء مرة واحدة، الآن تكرار مرة مرة، ما قال: باب الوضوء مرة.

المقدم: تأكيد أن المرة لكل عضو، مرة.

لكل عضو، نعم.

لو أراد أنه لم يتوضأ إلا مرة واحدة لصلوات متعددة، قال: باب الوضوء مرة، أي هذا باب في بيان حكم الوضوء مرة مرة، يعني لكل عضو من أعضاء الوضوء مرة واحدة.

يقول: وجه المناسبة بينه وبين الأبواب التي قبله ظاهر، وهو أن تلك الأبواب في بيان أحكام الاستنجاء، وهذا في بيان حكم الوضوء، ولا شك أن الوضوء يتلو الاستنجاء، ومطابقة الحديث للترجمة ظاهرة، قوله: توضأ النبي – صلى الله عليه وآله وسلم-.

المقدم: هذا ما يستقيم طبعًا دائمًا على أبواب البخاري، الذي هو هذا الترتيب؛ لأنه فيه أحاديث سبقت عن الوضوء بغرفة، وغسل الوجه باليدين بغرفة واحدة.

البخاري ذكر الحافظ ابن حجر في مناسباته بين هذه الأبواب فيما تقدم، نظمها كلها في سلك واحد، تقدم الكلام في هذا.

المقدم: لكن أقصد أن يكون السبب من ذكر الوضوء بعد الاستجمار أو الاستنجاء أنه يأتي بعده.

هناك تفصيل، وهذا إجمال، يأتي بعد الاستنجاء على خلاف بين أهل العلم في حكم تأخير الاستنجاء على الوضوء.

المقدم: وإلا في خلاف.

نعم فيه خلاف قوي يرجح صاحب المغني...

المقدم: يجوز أن يتوضأ ثم يستنجي.

على كلامه نعم.

المقدم: ما ينتقض وضوؤه؟

بدون مس، كأنه أزال النجاسة من أي موضع، لكن المرجح أنه لا يجوز إلا بعد الاستنجاء، ولذا يقول الفقهاء: ولا يصح قبلهما.

المقدم: الاستنجاء.

نعم، ولا يصح قبلهما وضوء ولا تيمم.

قوله: توضأ النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – فغسل كل عضو من أعضاء الوضوء، قوله: مرة مرة أي لكل عضو، قال الكرماني: منصوب، قوله: مرة منصوب على الظرفية، أي توضأ في زمان واحد، ولو كان ثمة غسلتان أو غسلات لكل عضو من أعضاء الوضوء لكان التوضؤ في زمانين أو في أزمنة؛ إذ لابد لكل غسلة من زمان غير زمان الغسلة الأخرى.

واضح؟

 يقول: مرة مرة، منصوب على الظرفية، أي توضأ في زمان واحد، ولو كان ثمة غسلتان أو غسلات لكل عضو من أعضاء الوضوء لكان التوضؤ في زمانين أو في أزمنة؛ إذ لابد لكل غسلة من زمان غير زمان الغسلة الأخرى.

هذا إذا نظرنا إلى كل عضو بمفرده، لكن توضأ مرة مرة، غسل وجهه مرة، وغسل يده مرة، وغسل رجله مرة، هذه تحتاج إلى أزمنة، كما لو غسل كل عضو ثلاثًا مثلًا، كل غسلة تحتاج إلى زمان، يقول: أو منصوب على المصدر، أي توضأ مرة من التوضؤ، أي غسل الأعضاء غسلة واحدة، وكذا حكم المسح، مرة يُعنى بها الوحدة، فهل يكون هذا مفعولًا مطلقًا الذي هو المصدر مبين للعدد؟ مثل ضربته ضربتين، ضربته ثلاثًا، غسلته مرة، هذا أقرب، أقرب من الظرفية، أو منصوب على المصدر يتوضأ مرة من التوضؤ غسل الأعضاء غسلة واحدة، وكذا حكم المسح، فإن قلت: فعلى هذا التقدير يلزم أن يكون معناه: توضأ رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – في جميع عمره مرة واحدة، وهذا ظاهر البطلان، ليس بلازم، قلت: لا يلزم، بل تكرار لفظ مرة يقتضي التفصيل، والتكرير، أو نقول: المراد أنه غسل في كل وضوء كل عضو مرة؛ لأن تكرار الوضوء من رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – معلوم بالضرورة من الدين.

تعقَّبه العيني بقوله: قلت في الجواب الثاني نظر، في الجواب الثاني نظر.

المقدم:....

قلت: لا يلزم بالتكرار لفظ مرة يقتضي التفصيل والتكرير، أو نقول: المراد أنه غسل في كل وضوء كل عضو مرة؛ لأن تكرار الوضوء من رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – معلوم بالضرورة من الدين؟

 يعني هل اللفظ يحتمل أن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – توضأ مرة مرة في عمره كله؟ لا، كونه توضأ مرتين مرتين، وثلاثًا وثلاثًا سيأتي هذا، وأن الأفضل أن يتوضأ ثلاثً ثلاثًا. تعقبه العيني بقوله: قلت في الجواب الثاني نظر؛ لأنه يلزم منه أن جميع وضوء النبي – عليه الصلاة والسلام – في عمره مرة مرة وليس كذلك على ما لا يخفى، وقال القسطلاني: مرة مرة منصوب فيهما على المفعول المطلق المبين للكمية، مبين للعدد، وقيل على الظرفية أي توضأ في زمان واحد، وقيل على المصدر أي توضأ مرة من التوضؤ أي غسل الأعضاء غسلة واحدة، ولا شك أن أولاها أن يكون منصوبًا على المفعول المطلق، يقول العيني: استدل ابن التين بهذا الحديث على عدم إيجاب تخليل اللحية، يعني وجه الاستدلال؟

المقدم: أنه ما دام غسل مرة، ما يلزم أن يكون خلل اللحية.

نعم، لو أراد أن يخلل اللحية، يلزم غسلة ثانية.

المقدم: نعم.

قال: استدل ابن التين بهذا الحديث على عدم إيجاب تخليل اللحية؛ لأنه إذا غسل وجهه مرة لا يبقى معه من الماء ما يخلل به، وقال: وفيه رد على من قال: فرض مغسول الوضوء ثلاث، رد على من قال: فرض مغسول الوضوء ثلاث؛ لأنه توضأ مرة واحدة، مرة مرة.

 قلت: روى الترمذي عن عمار بن ياسر قال: رأيت رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – يخلل لحيته، وفي إسناده عبد الكريم بن أبي المُخارق، وهو ضعيف، ثم أردفه بإسناد فيه انقطاع، ولذا قال أبو حاتم في كتاب العلل: لا يثبت في تخليل اللحية حديث، وقال أحمد: ليس في تخليل اللحية شيء صحيح، وقال الترمذي: وفي الباب عن عثمان وعائشة وأم سلمة وأنس وابن أبي أوفى وأبي أيوب. وكثرة ما ورد فيه تدل على أن له أصلًا، وحديث عثمان أخرجه الترمذي بسنده عن عثمان بن عفان أن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – كان يخلل لحيته، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح، قال أبو عيسى: وقال بهذا أكثر أهل العلم من أصحاب النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – ومن بعدهم، رأوا تخليل اللحية، وبه يقول الشافعي، وقال أحمد: إن سها عن تخليل اللحية فهو جائز، وقال إسحاق: إن تركه ناسيًا أو متأولًا أجزائه، وإن تركه عامدًا أعاد.

 على كل حال تخليل اللحية كمال، لكنه لا يلزم منه بطلان الوضوء؛ لأنه غسل الوجه، والوجه ما تحصل به المواجهة، والمواجهة تحصل بظاهرها دون باطنها.

المقدم: أحسن الله إليكم.

 لعلنا نستكمل إن شاء الله ما تبقى في حلقة قادمة.

 أيها الإخوة والأخوات، بهذا نصل إلى ختام حلقتنا في شرح كتاب: "التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح"، لقاءنا بكم بإذن الله في الحلقة القادمة، وأنتم على خير، شكرًا لطيب المتابعة.

 والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.