التعليق على الموافقات (1429) - 02

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

أما بعد؛ قال الشاطبي -رحمه الله تعالى-: "فإذا تقرر هذا انبنى عليه قواعد؛ منها: أن كل عمل كان المتبع فيه الهوى بإطلاق من غير التفات إلى الأمر أو النهي أو التخيير".

يقول: "فإذا تقرر هذا".

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، يقول: "إذا تقرر هذا"، يعني: ما ذكره في ما مضى في أصل المسألة، وهو أن يكون هوى الإنسان تبعًا لما خُلق من أجله، وما أُرسل به رسوله -عليه الصلاة والسلام-، ضاربًا بما تهواه نفسه ويميل إليه هواه عرض الحائط. إذا تحرر من هوى النفس التي تدعوه إلى ما يخالف شرع الله ويوافق هوى الشيطان، ينبني على هذا قواعد منها ما ذكره.

طالب: "فهو باطل بإطلاق".

يقول: "منها أن كل عمل"، من أولها.

طالب: "منها أن كل عمل كان المتبع فيه الهوى بإطلاق، من غير التفات إلى الأمر أو النهي أو التخيير، فهو باطل بإطلاق؛ لأنه لا بد للعمل من حامل يحمل عليه، وداعٍ يدعو إليه، فإذا لم يكن لتلبية الشارع في ذلك مدخل، فليس إلا مقتضى الهوى والشهوة".

نعم؛ لأن مراد الله -جل وعلا- مناقض لما تهواه النفس، أو مضاد له على ما تقرر فيما سبق؛ لأنه قد يتحد الهوى مع مراد الشارع، لكن ينبغي أن يكون الملحوظ، وأن يكون الباعث هو اتباع الشرع. وما يأتي تبعًا لذلك مما يوافق ما جُبلت عليه النفس من هوى، هذا ليس له حكم، على ألا يكون هو الباعث. لكن إذا كان الباعث على ذلك اتباع الشرع، ثم بعد ذلك وافقه ما تهواه النفس أو ما يستفيد منه في دنياه، فما يثبت تبعًا لا يأخذ حكم ما يُفعل ابتداء وقصدًا. ففرق بين من يطوف بالبيت لكسب الحسنات المرتبة على الطواف، ولا ينظر في ذلك إلى شيء آخر ألبتة؛ هذا أجره محض وخالص. وبين من يطوف بالبيت للتخفيف، غير ناظر إلى ما جاء أو ما رُتب على الطواف من حسنات؛ هذا ليس له شيء، اللهم إلا إذا أظهر للناس أنه يطوف لله، وهو في الحقيقة إنما يطوف لمراعاة الصحة، فهذا يُذم بهذا الطواف، كمن هاجر لامرأة يتزوجها أو دنيا يصيبها ويظهر للناس أنه هاجر لله.

لكن من أدخل ما تهواه النفس وترغبه في هذا الأمر، من تخفيف، أو مراعاة لصحة، أو وُصف على أنه علاج -الذي هو المشي-، ثم بعد ذلك قال: أطوف، بدلاً من أن أمشي بالبراري والقفار، أو أجوب الشوارع طولاً وعرضًا، أطوف وأحصل على الأجر أجر الطواف، ولا يمنع أن يُشرَّك في مثل هذا طلب التخفيف أو طلب الصحة، هذا لا مانع منه، ولا يؤثر في أصل العمل، وإن كان الأجر أقل. ومثله من يصوم، يعني فرق بين من يضره الصيام وبين من ينفعه الصيام في صحته وبين من لا يؤثر فيه، الذي يضره الصيام ويصوم عرفنا أنه ليس للهوى أي مدخل في صيامه، ليس لهوى نفسه مدخل في صيامه، وإنما يصوم تعبدًا لله -جل وعلا-، لكن ينبغي أن يُلحظ أنه في مثل هذه الحالة إذا كان يتضرر به يُمنع منه، وهو مع ذلك ملاحظ لما رُتب على الصيام من أجر.

والنوع الثاني: من لا يتضرر به، ولا ينتفع به في صحته؛ هذا لا شك أنه ملاحظ لما رُتب عليه من ثواب، ولا يُمنع من أجل الضرر؛ لأنه لا ضرر فيه.

وأما الصنف الثالث: من نصحه الأطباء بالحمية، وقال: بدلاً من أن أحتمي بدون مقابل أحتمي بالصيام، أستفيد دنيا ودينًا، أستفيد في حال الصحة، وأستفيد الأجر المرتب على الصيام. نعم، هذا له أجره، لكنه ليس مثل أجر من صام غير ملاحظ لما ينفعه في دنياه.

فالمسألة مراتب، ولذا يقول: "إن كل عمل كان المتبع فيه الهوى بإطلاق، من غير التفات إلى الأمر أو النهي أو التخيير، فهو باطل بإطلاق"، يعني: يأتي إلى المطاف ويطوف من أجل التخفيف، ولم يستحضر أدنى شيء مما رُتب على الطواف من ثواب. ومع الأسف أن مثل هذه المواطن تُتخذ لهذا الأمر، يعني يوجد، ومع الأسف أننا وجدنا نساءً عليها ثياب رياض، ترينجات وكنادر جري، وجاءت إلى المطاف تطوف! عليها العباءة فوق ذلك، لكن الأمر واضح. هذه جاءت للطواف ترجو ما عند الله؟ النيات وما في القلوب لا يعلمها إلا علام الغيوب، لكن هناك قرائن تدل على بعض المنطويات وبعض النيات. أقول: هناك قرائن تدل على المطلوب، يعني ما لبست هذه الثياب إلا من أجل الرياضة، ثياب رياضة هي، والأصل أن المرأة لا دخل لها في هذا الباب وليست من أهله، يعني الرياضة. فكيف تُتخذ هذه العبادة المحضة وسيلة لتحقيق هذا الأمر المذموم؟! والله المستعان.

الذي يعمل هذه الأعمال غير ملتفت إلى الأمر أو النهي أو التخيير، غير ملتفت إلى الحكم الشرعي التكليفي؛ هذا عمله باطل، وإن أظهر أنه يزاول هذا العمل لله واتباعًا لسنة نبيه- عليه الصلاة والسلام- وحقيقة أمره خلاف ذلك؛ فلا شك أنه مذموم وآثم بهذا العمل.

طالب: "فإذا لم يكن لتلبية الشارع...".

نعم، نعم.

طالب: .....

نعم، لكن ما فيه باعث غير هذا؟

طالب: .....

هو إلى أن حسن النية مذموم، لكن إذا تعدلت النية وحسنت يُمدح على ذلك.

طالب: .....

لا لا، هذا النوع الثاني الذي جمع بينهما.

طالب: "فإذا لم يكن لتلبية الشارع في ذلك مدخل، فليس إلا مقتضى الهوى والشهوة، وما كان كذلك فهو باطل بإطلاق؛ لأنه خلاف الحق بإطلاق، فهذا العمل باطل بإطلاق بمقتضى الدلائل المتقدمة، وتأمل حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- في الموطأ: «إنك في زمان كثير فقهاؤه، قليل قراؤه، تُحفظ فيه حدود القرآن، وتُضيع حروفه، قليل من يسأل، كثير من يعطي، يطيلون فيه الصلاة ويقصرون فيه الخطبة، يُبَدُّون أعمالهم قبل...»".

"«يَبْدَءُون»".

طالب: أحسن الله إليك، في آخر ضبطها: "«يُبَدُّون»

"«يَبْدَءُون أعمالهم قبل أهوائهم»".

طالب: "«يَبْدَءُون أعمالهم قبل أهوائهم. وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه، كثير قراؤه، تُحفظ فيه حروف القرآن، وتُضيع حدوده، كثير من يسأل، قليل من يعطي، يطيلون فيه الخطبة ويقصرون الصلاة، يُبَدُّون»"؟

على ضبطه: "«يُبَدُّون»"، لكن: "«يَبْدَءُون فيه بأهوائهم قبل أعمالهم»".

طالب: "«يَبْدَءُون فيه أهواءهم قبل أعمالهم»".

يعني: فرق بين صدر هذه الأمة وبين آخرها، أعمال القلوب لها حظ عظيم في الأول، وأعمال الجوارح أقل من أعمال القلوب وهي موجودة، لكن المدار على القلب والنية، وتجد في المتأخرين، تجد الكلام الكثير والعمل القليل، تجد الإنسان يقرأ القرآن، ويجود القرآن، ويتقن القرآن، ومع ذلك لا يؤثر فيه، بينما في السابق لا يحفظ إلا الشيء اليسير من القرآن، وأثره فيه واضح، والله المستعان.

طالب: "فأما العبادات، فكونها باطلة ظاهر".

لأن شرط القبول إخلاص العمل لله -جل وعلا-، واتباع نبيه -عليه الصلاة والسلام-، وما اتبع فيه الهوى فهو على خلاف مراد الله.

طالب: "وأما العادات، فذلك من حيث عدم ترتب الثواب على مقتضى الأمر والنهي، فوجودها في ذلك وعدمها سواء، وكذلك الإذن في عدم أخذ المأذون فيه من جهة المنعم به، كما تقدم في كتاب الأحكام وفي هذا الكتاب. وكل فعل كان المتبع فيه بإطلاق الأمر...".

أما العبادات فالكلام فيها ظاهر؛ لتخلف شرط القبول، وأما العادات فهي خالية من الحكم الشرعي أمرها الإباحة، يعني لا ثواب فيها ولا عقاب، مستوية الطرفين، إلا إذا نوي بها التقوي على عبادة الله -جل وعلا-، فهي حينئذ تنقلب عبادات، ويؤجر عليها.

وأما ما ذكره في الآخر قال: "وكذلك الإذن في عدم أخذ المأذون فيه من جهة المنعم به، كما تقدم في كتاب الأحكام وفي هذا الكتاب".

المأذون به، الله -جل وعلا- هو المالك وهو المتصرف، في نفس الإنسان وفيما ينتفع به الإنسان. الأصل أن الله خلق ما في الأرض جميعًا لخلقه، يستفيدون منها وينتفعون بها؛ ولذلك أهل العلم يختلفون في الأعيان المنتفع بها قبل ورود الشرع هل هي على الإباحة أو على المنع؟ منهم من يقول: إن الله خلقها لنا ولا نحتاج فيها إلى شرع، ننتفع بالمباح ولو لم يؤذن لنا فيه. ومنهم من قال: لا، الأصل أنها ملك لله -جل وعلا-، فلا بد أن يأذن فيها، وأن نجد دليلاً يدل على إباحتها. هذا في الأعيان المنتفع بها.

أما بالنسبة للاستعانة بها على ما يرضي الله -جل وعلا-؛ فهذا لا شك بالانتفاع بها ولو لم يرد نص يبيحها إذا كانت لا تشتمل على مانع. وإذا كان يستعين بها على معصية الله، فلا شك في منعها.

فكل شيء وكل تصرف له حكمه الشرعي، فإما أن يكون عبادة أصل غاية، وإما أن يكون وسيلة إلى عبادة، وهذا كل شيء له حكمه.

طالب: "وكل فعل كان المتبع فيه بإطلاق، الأمر أو النهي أو التخيير، فهو صحيح وحق؛ لأنه قد أتى به من طريقه الموضوع له، ووافق فيه صاحبه قصد الشارع، فكان كله صوابًا، وهو ظاهر. وأما إن امتزج فيه الأمران، فكان معمولاً بهما، فالحكم للغالب والسابق".

نعم، هذا الذي تولى الإمامة والمأذنة من أجل الجُعل الذي جُعل على هذا العمل، ومن أجل البيت بيت الإمام أو بيت المؤذن، لا شك أن هذا مؤثر في أصل القصد، وقد يكون هو الباعث الوحيد على هذا الأمر، فيكون عمله باطلاً. وقد يكون الباعث له التعبد المحض، ويقول: إذا صرت إمامًا ما فاتتني تكبيرة الإحرام، وأعانني ذلك على حفظ القرآن، ولم يفتني شيء من الصلاة، وانضبطت في صلاتي وفي أموري كلها؛ لأن الصلاة بالنسبة للمسلم هي الضابط الذي يضبط جميع أحواله، وترون الذين لا يصلون حياتهم همل، ما عندهم بداية ولا نهاية إلا بالنسبة لأعمالهم المرتبة لوظائفهم وغيرها.

 أما بالنسبة للمسلم الملتزم بأحكام الله فهذا أحكامه منضبطة، تجد مواعيده كلها مرتبطة بالصلاة: بعد صلاة الفجر يفعل كذا، وبعد صلاة الظهر يفعل كذا، وبعد صلاة العصر... وهكذا، فالإنسان ينضبط بالصلاة. بينما إذا كان غير إمام، إمام ينضبط في مسجده، ومن أراده جاءه ووجده، وينضبط أو يكون حول بيته، أما إذا لم يكن إمامًا فتجده في كل وقت في حي، لا يستطيع أن ينضبط في مواعيده، ولا يستطيع أن ينتبه لأسرته وأولاده بدقة، بخلاف الإمامة. فإذا قصد هذا الأمر أنه ينضبط: في أموره الشرعية يثاب عليها، وفي أموره العادية لا حكم لها. لكن الحكم للغالب، إذا قال: والله الإمامة تعينني على الانضباط وحضور الصلاة من أولها ولا يفوتني شيء، لا تكبيرة الإحرام ولا ركعة ولا أكثر ولا أقل. وكذلك المؤذن يقول: أذهب إلى الصلاة قبلها بثلث ساعة، وأصلي الرواتب، وأقرأ القرآن، إذا كان قصده من المأذنة هذا، علمًا بأن المأذنة لها أجر عظيم، والمؤذن جاء فيه نصوص، فإذا قصد هذه الأمور لا شك أنه مثاب. ثم إن تبع ذلك ما رُتب على هذا العمل من أجر أو من جُعل أو بيت وما أشبه ذلك كله تبع. ومع ذلك فالحكم للغالب، والأمور بمقاصدها.

طالب: "وأما إن امتزج فيه الأمران فكان معمولاً بهما فالحكم للغالب والسابق، فإن كان السابق أمر الشارع بحيث قصد العامل نيل غرضه من الطريق المشروع، فلا إشكال في إلحاقه بالقسم الثاني، وهو ما كان المتبع فيه مقتضى الشرع خاصةً؛ لأن طلب الحظوظ والأغراض لا ينافي وضع الشريعة من هذه الجهة؛ لأن الشريعة موضوعة أيضًا لمصالح العباد، فإذا جعل الحظ تابعًا، فلا ضرر على العامل".

ومثل هذا: الابتغاء من فضل الله، والتكسب في الحج، وملاحظة الغنيمة في الجهاد؛ كل هذا لا يؤثر.

طالب: "إلا أن هنا شرطًا معتبرًا، وهو أن يكون ذلك الوجه الذي حصَّل أو يحصل به غرضه مما تبين أن الشارع شرعه لتحصيل مثل ذلك الغرض، وإلا فليس السابق فيه أمر الشارع، وبيان هذا الشرط مذكور في موضعه".

الشارع ما جعل هذا الأمر لتحصيل مثل ذلك الغرض، الشارع ما جعل الإمامة لتحصيل الجاه الدنيوي، فمثل هذا لا يجوز ملاحظته، لا يجوز أن يكون إمامًا ليقدَّم في المجالس مثلاً، لا يجوز؛ لأن هذا الغرض لم يلحظه الشرع بوجه من الوجوه. بينما الجعل قد يستفيد منه الإمام في الاستعانة به على ما يرضي الله.

قد يقول قائل: إن الجاه قد يستفيد منه الإمام ومن في حكمه لما يرضي الله -جل وعلا-، بحيث يشفع لغيره، يشفع للمساكين، للمحاويج، يقضي حوائجهم من خلال هذا الجاه. على كل حال: كل شيء له أجره، والله -جل وعلا- لا يضيع أجر من أحسن عملاً. لكن يبقى أن مثل هذه الأمور: الشرف والجاه وحب المال لذاته؛ هذه أمور كلها ضارة، وهي أضر على المسلم من الذئب الذي يُرسل، الذئب الجائع الذي يرسل للغنم: «ما ذئبان جائعان أُرسلا في زريبة غنم بأضر لدين المرء من حب الشرف والمال»، حب المال مهلك، وحب الشرف أيضًا قاتل، والله المستعان.

طالب: .....

لا، هذا كلام لا قيمة له. وكان السلف كلهم يفرون منه، ويُلزمون به إلزامًا.

طالب: "وإن كان الغالب والسابق هو الهوى...".

لكن بعض أهل العلم يتولى المنصب لا لذاته، وهذا موجود، منهم من تولاه لهذا القصد، ومنهم من استمر به لهذا القصد، وقال بالحرف: لولا الأمر والنهي وأمور المسلمين العامة والقدرة على مخاطبة الكبار من خلال هذا المنصب، لما بقينا فيه يومًا واحدًا. لكن هذا إنما يحصل بعدُ، ما يحصل قبلُ.

طالب: "وإن كان الغالب والسابق هو الهوى، وصار أمر الشارع كالتبع، فهو لاحق بالقسم الأول. وعلامة الفرق بين القسمين تحري قصد الشارع وعدم ذلك، فكل عمل شارك العامل فيه هواه، فانظر: فإن كف هواه ومقتضى شهوته عند نهي الشارع، فالغالب والسابق لمثل هذا أمر الشارع، وهواه تبع، وإن لم يكف عند ورود النهي عليه، فالغالب والسابق له الهوى والشهوة، وإذن الشارع تبع لا حكم له عنده، فواطئ زوجته وهي طاهر محتمل أن يكون فيه تبعًا لهواه، أو لإذن الشارع، فإن حاضت فانكف، دل على أن هواه تبع، وإلا دل على أنه السابق.

 فصل: ومنها أن اتباع الهوى طريق إلى المذموم، وإن جاء في ضمن المحمود؛ لأنه إذا تبين أنه مضاد بوضعه لوضع الشريعة، فحيثما زاحم مقتضاها في العمل كان مخوفًا. أما أولاً: فإنه سبب تعطيل الأوامر وارتكاب النواهي؛ لأنه مضاد لها. وأما ثانيًا: فإنه إذا اتبِع واعتيد، ربما أحدث للنفس ضراوةً وأنسًا به، حتى يسري معها في أعمالها، ولا سيما وهو مخلوق معها ملصق بها في الأمشاج، فقد يكون مسبوقًا بالامتثال الشرعي فيصير سابقًا له، وإذا صار سابقًا له صار العمل الامتثالي تبعًا له وفي حكمه، فبسرعة ما يصير صاحبه إلى المخالفة، ودليل التجربة حاكم هنا".

اتباع الهوى، يعني على ما تقدم أن الهوى مضاد للشرع، واتباع الهوى طريق إلى المذموم. لماذا؟ لأن الهوى والشهوة والشيطان، كلها إنما تدعوه هذه الأمور إلى مخالفة أمر الله؛ لأن النار حُفت بالشهوات، بما تهواه النفوس وتشتهيها. فعلى هذا: ما تهواه النفس المضادة لشرع الله لا شك أنه مذموم، وما يُتوصل به إليه فهو مذموم؛ هذا الأصل.

وقلنا: إنه قد يتفق الهوى مع الشرع في المسائل التي ذكرنا بعضها، أما إذا استقل الهوى عن الشرع فإنه مذموم مطلقًا، ومخالفته تكون في اتباع الشرع.

واتباع الهوى لا شك أنه تعطيل للأوامر، اتباع الهوى تعطيل للأوامر، الإنسان تنازعه نفسه إذا أراد فعل الخير، فعل المأمور تجد الصراع في النفس. فإن أطاع هواه عطل الأمر وارتكب النهي، وإذا خالف هواه اتبع أمر الله واجتنب نواهيه، أوامر الله واجتنب النواهي؛ لأن الهوى مضاد للشرع.

الهوى إذا اعتيد، إذا استرسل معه وصار عادة في النفس؛ لا شك أن النفس تعتاده، ويصير لها ضراوة فيه، ويصير جزءًا من تركه به لا يستطيع العدول عنه، لا يستطيع الترك. كما أنه إذا تعود على المباحات فقد تجره هذه المباحات إلى الشبهات والمكروهات، ثم إذا اعتاد هذه الشبهات وهذه المكروهات جرته شاء أو أبى إلى المحرمات.

فعلى الإنسان أن يفطم نفسه عن هواه، وأن يكون هواه تبعًا لما جاء به النبي -عليه الصلاة والسلام-.

طالب: "وأما ثالثًا: فإن العامل بمقتضى الامتثال من نتائج عمله الالتذاذ بما هو فيه، والنعيم بما يجتنيه، من ثمرات الفهوم وانفتاح مغاليق العلوم، وربما أُكرم ببعض الكرامات، أو وُضع له القبول في الأرض، فانحاش الناس إليه، وحلقوا عليه، وانتفعوا به، وأمُّوه لأغراضهم المتعلقة بدنياهم وأخراهم... إلى غير ذلك مما يدخل على السالكين طرق الأعمال الصالحة، من الصلاة والصوم وطلب العلم والخلوة للعبادة، وسائر الملازمين لطرق الخير. فإذا دخل عليه ذلك، كان للنفس به بهجة وأنس، وغنًى ولذة، ونعيم بحيث تصغر الدنيا وما فيها بالنسبة إلى لحظة من ذلك، كما قال بعضهم: لو علم الملوك ما نحن عليه لقاتلونا عليه بالسيوف. أو كما قال".

نعم، العبادة وأثرها في النفس لا شك أنها تجعل الناس يثقون بهذا الرجل، إذا عُرف بالأعمال الصالحة وثق الناس فيه وأموه وقصدوه وأحسنوا الظن به، أكثر من اشتمل على شيء أو اتصف بشيء من العلم دون العمل. ولذا جاء في صحيح مسلم: «أن رجلاً جاء يسأل ابن عمر عن بعض المناسك؟ فقال: انظر إلى ابن عباس»، يعني بالنسبة للعلم والفقه في الدين والتأويل لا شك أن ابن عباس أرسخ، وبالنسبة للعمل الظاهر والعبادة والاتباع والاقتداء ابن عمر من هذه الحيثية أرجح. يعني ولا يقال: إن ابن عباس مقصر في العمل، لا، لكن بعض الناس يرجح عنده جانب، وبعض الناس يكون الراجح عنده والغالب جانب آخر. فهذا السائل الذي جاء من العراق يسأل ابن عمر، قال: «هذا ابن عباس؟!»، قال: «ذاك رجل مالت به الدنيا ومال بها».

 يعني ما هو مثل إنسان عابد وناسك وملازم للعبادات شأنه كله ودهره كله. الناس يثقون بمثل هذا النوع، وقد يظهر لهم بينهم بعض الكرامات، فيزدادون به فتنة، فيحصل له بذلك ارتياح نفسي وانشراح صدر. لكن ما الذي يؤثره هذا الارتياح وهذا الانشراح؟ إن كان فرحًا بما قُدم له من ذكر حسن؛ فهذا لا يضره إن شاء الله تعالى، وهذا من عاجل بشرى المؤمن. وإن أخل ذلك في نيته؛ لأن المسألة مزلة قدم، ابتلاء، امتحان، قد يفتتن ويضل بسبب هذا. وكم من إنسان حصل له في أول عمره شيء من العلم والعمل، فغره الناس بالثناء وزادوا في ثنائه بصدق وغير صدق، ثم بعد ذلك فُتن وانقلب، نسأل الله السلامة والعافية. فلا شك أن مثل هذا له لذة إذا اعتاده وصار جزءًا من تركيبه، لا شك أن مثل هذا فيه لذة عظيمة. فالسلف أُثر عن كثير منهم أنهم جاهدوا أنفسهم لقيام الليل عشرين سنة، وتلذذوا به أكثر من ذلك، يعني بقية العمر تلذذوا به. فالإنسان لا شك أنه إذا تجاوز مرحلة المجاهدة، لا شك أنه يصل إلى مرحلة التلذذ، فإذا وصل إلى مرحلة التلذذ يبقى مسألة الثبات وعدمه، ويا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك.

طالب: "وإذا كان كذلك، فلعل النفس تنزع إلى مقدمات تلك النتائج، فتكون سابقةً للأعمال، وهو باب السقوط عن تلك الرتبة، والعياذ بالله".

نعم، إذا كان القصد من العبادة أن يحصل له مثل ما حصل للعباد، من تعلق الناس بهم وإحسان الظن بهم، يعني قبل أن يبدأ يستحضر هذا الهدف. هذا -نسأل الله العافية- خذلان وخلل في القصد والنية والباعث على العمل؛ لأنه ليس القصد أن يعبد الله -جل وعلا- على مراده، القصد أن يحصل له ما يحصل. وهو شر ممن قصد أمر الدنيا؛ لأن هذا يقتنص الناس بالدين، من أجل أن يثق به الناس ويقدمونه ويعظمونه ولا يردون له طلب ويصدرونه بالمجالس من أجل الدين، من أجل أن يقال: هذا فلان العابد الزاهد، الله المستعان.

المقصود أن مثل هذا خطر عظيم إذا قُدم قبلُ. أما إذا حصل بعد، صار نتيجة مرتبة على العبادة؛ هذا لا شك أنه حصل لكثير من المتقدمين من سلف هذه الأمة وأئمتها. ويبقى أنه ما أثره على العبد بعد ذلك؟

طالب: "هذا وإن كان الهوى في المحمود ليس بمذموم على الجملة، فقد يصير إلى المذموم على الإطلاق، ودليل هذا المعنى مأخوذ من استقراء أحوال السالكين وأخبار الفضلاء والصالحين، فلا حاجة إلى تقريره هاهنا. فصل: ومنها أن اتباع الهوى في الأحكام الشرعية مظنة لأن يحتال بها على أغراضه، فتصير كالآلة المعدة لاقتناص أغراضه، كالمرائي يتخذ الأعمال الصالحة سُلمًا لما في أيدي الناس، وبيان هذا ظاهر، ومن تتبع مآلات اتباع الهوى في الشرعيات وجد من المفاسد كثيرًا، وقد تقدم في كتاب الأحكام من هذا المعنى جملة عند الكلام على الالتفات إلى المسببات في أسبابها، ولعل الفِرق الضالة المذكورة في الحديث أصل ابتداعها اتباع أهوائها، دون توخي مقاصد الشرع".

نعم، هذا الكلام ظاهر: "اتباع الهوى في الأحكام الشرعية مظنة لأن يحتال بها على الأغراض، فتصير كالآلة"، يعني كآلة الصيد التي يصيد بها ما يراد صيده، ويقتنص بها ما يراد الحصول عليه. بعض الناس يقتنص ما عند الناس بالتنسك؛ هذا -نسأل الله العافية- {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} [الحج: 11]؛ لأن هناك أمور الدنيا لها أسباب شرعية شُرعت من المشرع، وتؤتى من أبوابها. أما أن تؤتى الأمور من غير أبوابها، تُعلِّم لغير الدين -نسأل الله العافية-، تعبد لغير رضا الله -جل وعلا- واتباع أوامره واجتناب نواهيه، كل هذا خذلان- نسأل الله السلامة والعافية- وخطر عظيم، ويخشى على صاحبه من أن يُمكر به -نسأل الله السلامة والعافية-.

نعم، "المسألة الثانية".

* * *

هذا يقول، واحد من الإخوان يقول: ما رأيكم لو قُدم سبل السلام على الموافقات؛ لأن الكلام فيها دقيق، وقل ما تجد من يشرحه، بخلاف سبل السلام لفواته علينا بسبب الحضور؟

يعني الآن الإخوان يحضرون درسًا بعد صلاة العشاء مباشرة، نعم، وإذا جاءوا إلى الموافقات فإذا بنا قد أخذنا من الوقت ما يفوت عليهم ويضيع عليهم، فيرون لو قُدم سبل السلام عليها؛ لأن سبل السلام يعني البلوغ شرحه الكثير، ويذكر أن الموافقات لا يشرحها إلا القلة، فقد لا يتسع لنا الحضور أكثر من درس في هذا الكتاب العظيم. فما رأيكم، نقدم السبل أم نجعله على هذا؟

طالب: الذي يوافقك.

لا، أنا واللهِ تبع المصلحة، ما عندي مشكلة، أنا جالس. لكن إذا كان مثل هذا كثيرًا، فلا بد من مراعاتهم، لا سيما إذا كان أصحاب السبل لا يتضررون بعدُ بتقديمه. فيه ما يمنع من تقديم السبل؟ علمًا بأن الكتاب الأول في الغالب يكون نصيبه أوفر؛ لأن الكتاب الثاني في الغالب في آخره يصحبه الملل، سواء كان من المعلم أو المتعلم، فيتأثر الكتاب الثاني في الجملة، فإن رأيتم تقديم السبل فأنا ما عندي إشكال، هما سيان. فيه إشكال يا إخوان؟

طالب: .....

واللهِ تعرفون الكتاب، تعرفون أنه يحتاج إلى شيء من الانتباه، والغالب أن الانتباه في الكتاب الأول يكون أكثر.

طالب: .....

نعم، لا سيما وأن السبل أمره سهل، يعني البلوغ قريبًا إن شاء الله ينتهي، ودرس السبل من الدروس التي ليست من المتون التي محل اهتمام الجميع من الإخوان، له بدائل. بينما الموافقات لا بديل له.

فعلى كل حال: يبقى كل شيء على ما هو عليه.

نعم ...

ولسنا نقلل من السنة أو من أحاديث الأحكام أو شيء من هذا، لا، عندنا أكثر من درس في أحاديث الأحكام، يعني البلوغ سينتهي إن شاء الله قريبًا، وعندنا المحرر، وعندنا تقريب الأسانيد، وكلها ماشية -ولله الحمد-.

 كلها في أحاديث الأحكام.

 

والغالب أن العناية تكون من الطرفين إنما هي في المتون، وأما قراءة الشروح فالعناية بها تكون أقل، العناية بالشروح تكون أقل، والسبل شرح، لكن لو قال الشرح البلوغ، المشروح الدرس في البلوغ يكون الدرس على وضعه هذا؟ ما يمكن، وهذا أمر معروف ومطروق عندنا وعند غيرنا.