تعليق على البلبل في أصول الفقه (09)

نعم.

بسم الله الرحمن الرحيم.

 الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال المؤلف -عفا الله عنه-: "وَأَمَّا الثَّانِي: وَهِيَ شُرُوطُ الْمُكَلَّفِ بِهِ. فَأَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْحَقِيقَةِ لِلْمُكَلَّفِ، وَإِلَّا لَمْ يَتَوَجَّهْ قَصْدُهُ إِلَيْهِ. مَعْلُومًا كَوْنُهُ مَأْمُورًا بِهِ، وَإِلَّا لَمْ يُتَصَوَّرْ مِنْهُ قَصْدُ الطَّاعَةِ وَالِامْتِثَالِ. مَعْدُومًا، إِذْ إِيجَادُ الْمَوْجُودِ مُحَالٌ.

وَفِي انْقِطَاعِ التَّكْلِيفِ حَالَ حُدُوثِ الْفِعْلِ خِلَافٌ، الْأَصَحُّ يَنْقَطِعُ، خِلَافًا لِلْأَشْعَرِيِّ".

"وَأَمَّا الثَّانِي" قسيمه الأول وهو شرط المُكلَّف، والمراد بالمكلَّف: من يتجه إليه الأمر والنهي من الجن والإنس، وقسيمه الثاني شرط المكلَّف به، شرط الفعل المكلَّف به، ماذا يشترط لفعل المكلَّف به؟

يقول: "أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْحَقِيقَةِ لِلْمُكَلَّفِ" لو أعطى الأب ابنه ريالاً، وقال: اشترِ، ولا بيَّن له ماذا يشتري، كيف يتم الامتثال؟ يمكن الامتثال؟ لو قال الشارع: {أَقِيمُوا الصَّلَاةَ} ولا بُيِّنت ولا عرف الناس كيفيتها، يتم الامتثال أم ما يتم؟ حينئذٍ لابد أن يكون المُكلَّف به معلومًا، معلوم الحقيقة عند المكلَّف، وإلا لم يتوجه قصده إليه، ولذا لما جاء جبريل إلى النبي عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ في أول بدء الوحي، فقال له: «اقرأ»، ماذا كان الجواب؟ «ما أنا بقارئ»، وفي بعض الروايات: «ماذا أقرأ؟» إلى أن قال له: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1]، عرف ماذا يقرأ، وإلا قبل ما يعرف، فلابد أن يكون الفعل المكلَّف به معلومًا عند المكلَّف.  

"وَإِلَّا لَمْ يَتَوَجَّهْ قَصْدُهُ إِلَيْهِ. مَعْلُومًا كَوْنُهُ مَأْمُورًا بِهِ" لابد أن يعرف المكلَّف أن هذا الفعل الذي كلِّف به مأمور به، لو وجد الأب ابنه نائمًا فوضع عند رأسه مبلغًا من المال، انتبه الابن ما يعرف ماذا يفعل؟ ثم لما جاء الأب من عمله قال: لماذا لم تشترِ اللحم؟ قال: ما علمت أنك أمرتني بشراء لحم! نعم. لابد أن يكون معلومًا أنه مأمور به.

"وَإِلَّا لَمْ يُتَصَوَّرْ مِنْهُ قَصْدُ الطَّاعَةِ وَالِامْتِثَالِ" ما يمكن أن يُتصور منه قصد الطاعة والامتثال.

"مَعْدُومًا، إِذْ إِيجَادُ الْمَوْجُودِ مُحَالٌ" تقول لشخص: نصلي، وقد رأيته يصلي، تقول له: صلِّ! جاء بصلاة مجزئة مسقطة للطلب بشروطها وأركانها وواجباتها، صلى المغرب صلاة صحيحة شرعًا، تقول له: صلِّ! لابد أن يكون المأمور به معدوم لا موجود، "إِذْ إِيجَادُ الْمَوْجُودِ مُحَالٌ" نعم إيجاد الموجود محال. لو التفت إلى واحد منكم أقول له: أحضر الكتاب، وأنا أشوف الكتاب بيده، أحضر الكتاب معك، تقول: هذا الكتاب بيدي، لا، أحضر الكتاب، ما معنى أحضر الكتاب وهو معك؟! ليس موجودًا معك؟! نعم، هذا لغو، واللغو محال على الشارع.

طالب: يعني محال في حق الشارع يقصد.

حتى في حق العقلاء كلهم.

طالب: ..الحين مثال صلاة المغرب يا شيخ، لو صليت صلاة المغرب تصليها مرة ثانية، هذا محال، ممكن يصليها لكنه ممتنع شرعًا.

ممتنع شرعًا نعم.

طالب: ...

كيف؟

 عندك أولاً: أن يكون معلوم الحقيقة.

 الثاني: أن يكون معلومًا كونه مأمورًا به.

 الثالث: أن يكون معدومًا، إِذْ إِيجَادُ الْمَوْجُودِ مُحَالٌ، مثل ما قلت لك، لو أرفع صوتي: أحضر الكتاب يا أخي، ما معك كتاب. تقول: هذا الكتاب! وأكرر عليك الأمر: أحضر الكتاب، يتصور هذا؟! ما يتصور، إيجاد الموجود محال، هو موجود، لكن إيجاد المعدوم واضح ظاهر.

"وَفِي انْقِطَاعِ التَّكْلِيفِ حَالَ حُدُوثِ الْفِعْلِ خِلَافٌ، الْأَصَحُّ يَنْقَطِعُ، خِلَافًا لِلْأَشْعَرِيِّ". يعني انقطاع تكليف المكلف بالمأمور به حال حدوث الفعل، يعني الآن انقطاع التكليف يكون بانقضاء الفعل أو بابتدائه؟

طالب: ...

شخص كبر تكبيرة الإحرام هل يؤمر بالصلاة؟

طالب: ما يتوجه إليه الأمر.

ما يتوجه إليه الأمر.

طالب: يتوجه إليه الأمر بإتمامه يا شيخ.

الكلام التكليف بالفعل، هل نقول لشخص كبر تكبيرة الإحرام: صلِّ؟ يقول: "وَفِي انْقِطَاعِ التَّكْلِيفِ حَالَ حُدُوثِ الْفِعْلِ خِلَافٌ، الْأَصَحُّ يَنْقَطِعُ، خِلَافًا لِلْأَشْعَرِيِّ".

طالب: يكون بالابتداء يا شيخ.

بالابتداء نعم، ما يتجه إلى أمر، أنت خلاص، بدأ، نعم. لكن لو تُصوّر أنه بدأ فأحدث في أثناء صلاته هل نقول: إن إعادته للصلاة بالأمر الأول أو بأمر جيد يتجه إليه؟

طالب: على هذا الأمر الجديد.

الأمر الأول تم امتثاله بالتكبير، عرفنا الفرق يا إخوان على كلامه؟ وإلا فعلى كلام الأشعري أن التكليف الأول ما زال قائمًا حتى ينتهي من العبادة على وجه مشروع. ما فائدة الخلاف؟ فيه فائدة للخلاف؟

طالب: ...

إذا كبَّر للإحرام ثم جاء بركعة كاملة ثم مات أثناء السجود، أو دعنا مما لا يقبل النيابة، الحج مثلاً: أحرم وطاف ووقف بعرفة ومات بعرفة، هل يُكلَّف من يُتِم عنه الحج؟ أو نقول: إن الامتثال يتم بالشروع وانتهى الإشكال؟ هل يلزمهم أن يحضروا من يكمل له حجه أو يحج عنه؟

طالب: يقول الأشعري: لا.

لا بد من ذلك، وعلى القول الصحيح أو الأصح: خلاص، مادام شرع انتهى التكليف.

طالب: نأخذ يا شيخ في كل العبادات مادام شرع فيها ينتهي التكليف إذا مات أو حصل شيء يرفع عنه التكليف، وإلا في الحج والعمرة يا شيخ؛ لأن الله- جلَّ وعلا- قال: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] فمن بدأ أو شرع بهما يلزمه -يا شيخ أحسن الله إليك- إتمامهما.

يلزمه الإتمام، لكن شخص مات بعرفة، كالذي وقصته دابته.

طالب: ... يلزم أولياؤه ومن ينيبون عنه يتمون المناسك أو يحجون عنه من قابل؟

لكن هل أُمر من وقصته دابته أُمر وليه أن يحج عنه أو يحجج عنه؟ ما أُمر.

طالب: ...

لو كان واجبًا لأُمر به، بيان في وقت الحاجة ما يتأخر عن وقت الحاجة. –بودي ما نتأخر في مثل هذه الأشياء-، وأن يكون ممكنًا، يكون الفعل ممكنًا لا ممتنعًا في ذاته؛ لأن المُكلَّف به مُسْتَدْعىً حصوله، مطلوب من المكلَّف أن يفعله، فإذا كان ممتنعًا فكيف يُكلَّف بما هو ممتنع؟!

 يأمر الأب ابنه بحمل صخرة لا يطيقها، هذا ممكن أو غير ممكن؟ لا يمكن. في الأصل: أن المأمور به والمكلَّف به مُسْتَدْعىً حصوله، ومثل هذا لا يمكن حصوله.

"وَذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ تَصَوُّرَ وُقُوعِهِ، وَالْمُحَالُ لَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُ، فَلَا يُسْتَدْعَى حُصُولُهُ، فَلَا يُكَلَّفُ بِهِ" هذا من حيث الإجمال.

يقول: "أَمَّا التَّفْصِيلُ: فَالْمُحَالُ ضَرْبَانِ، مُحَالٌ لِنَفْسِهِ، كَالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ، وَلِغَيْرِهِ، كَإِيمَانٍ مَنْ عِلْمِ الله تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ".

"مُحَالٌ لِنَفْسِهِ" يعني يكلف الإنسان بأن يفعل ولا يفعل، يفعل الشيء الواحد ولا يفعله، بأن يكون موجودًا معدومًا في آنٍ واحد، لا يمكن، هذا محال في نفسه.

محال لغيره: "كَإِيمَانٍ مَنْ عِلْمِ الله تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ" محال إيمان أبي لهب، لماذا؟ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كتب عليه أنه لا يؤمن، فهذا محال؛ لأن ما في علم الله لا يختلف.

"فَالْإِجْمَاعُ عَلَى صِحَّةِ التَّكْلِيفِ بِالثَّانِي، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى امْتِنَاعِهِ بِالْأَوَّلِ؛ لِمَا سَبَقَ، وَخَالَفَ قَوْمٌ، وَهُوَ أَظْهَرُ".

الإجماع على صحة التكليف بالثاني: هل نقول بأن أبا لهب -مع علمنا يقينًا أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كتب له ألا يؤمن- مُكلَّف بالإيمان أو غير مكلَّف؟ مُكلَّف مع أنه محال في حقه.

يقول: "فَالْإِجْمَاعُ عَلَى صِحَّةِ التَّكْلِيفِ بِالثَّانِي" وهو المحال لغيره، "وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى امْتِنَاعِهِ" التكليف بالمحال لذاته ممتنع عند الأكثر "لِمَا سَبَقَ" لماذا؟

لأنه مستدعًى حصوله ولا يمكن حصوله؛ لأنه ممتنع لذاته.

"وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى امْتِنَاعِهِ بِالْأَوَّلِ، لِمَا سَبَقَ، وَخَالَفَ قَوْمٌ، وَهُوَ أَظْهَرُ" يعني: الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى له أن يكلِّف، ولذا جاء في آخر سورة البقرة: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة: 286].

 يعني: كونه يقع الدعاء ويجابون إليه يدل على أنه ممكن في ذاته، أن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يكلف العباد ما لا يطيقون، لكن الخلاف هل وقع أو لم يقع؟ أما كونه ممكنًا، ولا يوجد المانع منه شرعًا ولا عقلاً، لكن هو لم يقع شرعًا، ولله الحمد والمنة، لاسيما في هذه الأمة.

يقول: "لَنَا، إِنْ صَحَّ التَّكْلِيفُ بِالْمُحَالِ لِغَيْرِهِ" يعني: إن صح لنا تكليف أبي لهب بالإيمان، "صَحَّ بِالْمُحَالِ لِذَاتِهِ" صحَّ أن يكلف الإنسان أن يحمل صخرة لا يطيقها، لكن كونه وقع أو لم يقع شيء آخر.

"وَقَدْ صَحَّ ثَمَّ، فَلْيَصِحَّ هُنَا" وما جاء فيمن كذب في الرؤيا أن يكلف أن يعقد بين شعيرتين، هذا ممكن أم محال؟ لا يمكن، محال.

ما جاء بالنسبة للمصوِّر أنه يكلَّف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ، الإمكان ممكن، لكن هل وقع في الدنيا أو لم يقع في شريعتنا؟ لم يقع، ولله الحمد والمنة؛ لأن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أجاب الدعوة التي في آخر البقرة.

أما الملازمة...

بقي شيء من الوقت يا أبا عبد الله؟

طالب: ...

نعم.

طالب: في حالة غيبوبة .. تجزئه الصلاة يا شيخ، إذا قلنا بالقول الأصح يا شيخ؟

إذا زال عقله خلاص انتهت عبادته.

طالب: ...

هو لا ينتقض وضوؤه بهذا الزوال؟

طالب: ينتقض يا شيخ.

يتيمم ويصلي من جديد كمن بطلت صلاته وهو سوي، أحدث وهو في الصلاة بطلت صلاته.