التعليق على الموافقات (1433) - 13

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

طالب: أحسن الله إليك.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد،

فيقول الإمام المؤلف -رحمه الله- صاحب الموافقات: "الطرف الثاني: في الأدلة على التفصيل".

كل ما تقدم من بحوث تتعلق بالأدلة على سبيل الإجمال، فهي مشتركة بين الأدلة كلها. وشرع الآن في بحث ما يتعلق بالأدلة تفصيلًا، ما يتعلق بالكتاب على حدة، وما يتعلق بالسنة على حدة، وما يتعلق بالأدلة الأخرى، كسائر المصنفات في هذا العلم.

طالب: يقول: "الطرف الثاني".

وكثير مما تقدم من البحوث الإجمالية لا توجد في أي كتاب من كتب الأصول.

طالب: "الطرف الثاني في الأدلة على التفصيل، وهي: الكتاب، والسنة، والإجماع، والرأي. ولما كان الكتاب والسنة هما الأصل لما سواهما، اقتصرنا على النظر فيهما. وأيضًا، فإن في أثناء الكتاب كثيرًا مما يفتقر إليه الناظر في غيرهما، مع أن الأصوليين تكفلوا بما عداهما كما تكفلوا بهما، فرأينا السكوت عن الكلام في الإجماع والرأي، والاقتصار على الكتاب والسنة، والله المستعان.

فالأول أصلها، وهو الكتاب، وفيه مسائل:

المسألة الأولى: إن الكتاب قد تقرر أنه كلية الشريعة، وعمدة الملة".

يعني والجامع لأطرافها كلها: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38].

طالب: "وعمدة الملة، وينبوع الحكمة، وآية الرسالة، ونور الأبصار والبصائر، وأنه لا طريق إلى الله سواه، ولا نجاة بغيره، ولا تمسُّك بشيء يخالفه".

ومع ذلك فالتقصير حاصل من العلماء وطلاب العلم، فضلًا عن غيرهم، من الاهتمام اللائق بهذا الكتاب، ما تجد الاهتمام اللائق بالقرآن عند طلاب العلم، يهتمون بالفقه، يهتمون بالحديث، يهتمون بفروع المعرفة الأخرى، واهتمامهم بالقرآن الذي يجب أن يكون هو ديدنهم وهو هجيراهم؛ حفظًا وقراءة، وتلاوة، وتدبرًا وتفكرًا واستنباطًا، علمًا وعملًا، كما كان الصحابة -رضوان الله عليهم- لا يتجاوزون عشر آيات حتى يتعلموا ما فيها من علم وعمل. نعم.

طالب: "وهذا كله لا يحتاج إلى تقرير واستدلال عليه".

يعني لا أحد ينازع في أن الاهتمام بالقرآن من الأولويات؟ أينازع أحد؟ هذا يحتاج إلى دليل؟ ما يحتاج إلى دليل.

طالب: "لأنه معلوم من دين الأمة".

يعني بالضرورة، من ضرورات هذا الدين، معلوم بالضرورة من الدين.

طالب: "وإذا كان كذلك، لزم ضرورةً لمن رام الاطلاع على كليات الشريعة، وطمع في إدراك مقاصدها، واللحاق بأهلها، أن يتخذه سميره وأنيسه، وأن يجعله جليسه على مر الأيام والليالي، نظرًا وعملًا، لا اقتصارًا على أحدهما، فيوشك أن يفوز بالبُغية، وأن يظفر بالطلبة، ويجد نفسه من السابقين وفي الرعيل الأول".

يعني يحاكيهم، يحاكي السابقين والرعيل الأول الذين هذا ديدنهم، وهذه طريقتهم ومنهجهم مع كتاب الله -جل وعلا-، كما أن من أراد أن يحاكي السابقين في الاستنباط فليسلك ما سلكوا، من أراد أن يحاكي السابقين في التصحيح والتضعيف وعلل الأحاديث فليدم النظر في كلامهم، ويحاكي طريقتهم ومسلكهم، وقل مثل هذا في كل العلوم.

طالب: "فإن كان قادرًا على ذلك، ولا يقدر عليه إلا من زاول ما يعينه على ذلك من السنة المبينة للكتاب، وإلا فكلام الأئمة السابقين والسلف المتقدمين آخذ بيده في هذا المقصد الشريف، والمرتبة المنيفة".

نعم. لا بد من أن تعرف ما يعينك على فهم القرآن، وما يعينك على فهم السنة، تأتي إلى كتاب الله وأنت غُفل، أو إلى سنة النبي -عليه الصلاة والسلام- وليست لك يد ولا مشاركة فيما يعين على فهم النصوص، وتريد أن تفهم، تريد أن تستنبط، تريد أن تشرح، تريد أن توضح للناس؟ تَضل وتُضل.

طالب: "وأيضًا، فمن حيث كان القرآن معجزًا أفحم الفصحاء، وأعجز البلغاء أن يأتوا بمثله، فذلك لا يُخرجه عن كونه عربيًّا جاريًا على أساليب كلام العرب، ميسرًا للفهم فيه عن الله ما أمر به ونهى".

{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 17]، الكلام موجه لمن؟ لمن يريد أن يتذكر، لمن يريد أن يتفهَّم، لمن يريد أن يعتني بكتاب الله -جل وعلا- يُيسّر عليه. أما من يريد أن يدعي أنه له عناية بكتاب الله، وفي الحقيقة هو بعيد كل البعد عنه؛ فهذا ما ييسر عليه، بل يعسر عليه.

طالب: "لكن بشرط الدربة في اللسان العربي، كما تبيَّن في كتاب الاجتهاد؛ إذ لو خرج بالإعجاز عن إدراك العقول معانيه، لكان خطابهم به من تكليف ما لا يُطاق".

معنى كونه معجزًا يعني أنه لا يفهمونه؟ لا، {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص: 29]، فمن زاول العلم تعلَّم، فالعلم بالتعلُّم، والفقه بالتفقُّه، والحلم بالتحلُّم، ابذل السبب تصل، إن شاء الله تعالى.

طالب: "وذلك مرفوع عن الأمة، وهذا من جملة الوجوه الإعجازية فيه؛ إذ من العجب إيراد كلام من جنس كلام البشر في اللسان والمعاني والأساليب".

نعم. مؤلّف من الثمانية والعشرين حرفًا، ما جيء بكلام أعجمي أو طلاسم وطُلب فهمه وإدراكه والعمل به، جيء بكلام من جنس كلام العرب، يعني كونه معجزًا لا يعني أنه لا يُفهم، أن الناس يعجزون عن فهمه، يعجزون عن محاكاته والإتيان بمثله.

طالب: "إذ من العجب إيراد كلام من جنس كلام البشر في اللسان والمعاني والأساليب، مفهوم معقول، ثم لا يقدر البشر على الإتيان بسورة مثله، ولو اجتمعوا وكان بعضهم لبعض ظهيرًا، فهم أقدر ما كانوا على معارضة الأمثال، أعجز ما كانوا عن معارضته، وقد قال الله تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 17]، وقال: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} [مريم: 97]".

{بِلِسَانِكَ}: بلغتك، بلغة العرب.

طالب: "وقال: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت: 3]، وقال: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 195]. وعلى أي وجه فُرض إعجازه، فذلك غير مانع من الوصول إلى فهمه وتعقُّل معانيه، {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29]، فهذا يستلزم إمكان الوصول إلى التدبُّر والتفهُّم، وكذلك ما كان مثله، وهو ظاهر.

المسألة الثانية: معرفة أسباب التنزيل لازمة لمن أراد علم القرآن، والدليل على ذلك أمران".

فمعرفة السبب تُورِث العلم بالمسبَّب، ويستوي في ذلك معرفة أسباب نزول القرآن، ومعرفة أسباب ورود الحديث، أنه يقال: ينزل في مناسبة، من لا يعرف هذه المناسبة قد يخفى عليه فهم المقصود. وكذلك الحديث يقوله النبي -عليه الصلاة والسلام- في ظرف أو في مناسبة، من لا يعرفه لا يمكن وصوله إلى مقصوده. وأهل العلم يقررون أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالذي لا يعرف السبب، ويعمل بعموم اللفظ جارٍ على القاعدة، لكن إذا كان السبب يتوقف عليه الفهم أو وُجد معارض لهذا النص لا يمكن التوفيق بينهما إلا بمعرفة السبب.

طيب لو سمعنا قوله -عليه الصلاة والسلام- لعمران بن حصين: «صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب»، وسمعنا قوله -عليه الصلاة والسلام-: «صلاة القاعد على النصف من أجر صلاة القائم»، سمعنا النصين مجردين، وكلاهما صحيح، فكيف نفهم أن القيام مع القدرة شرط في الفريضة لا في النفل؟ وكيف نُنْزِل الحديث الأول على الفرض، والحديث الثاني على النفل، ونحن ما عرفنا السبب؟ ما يمكن، تحكُّم، فإذا عرفنا السبب، عرفنا أن الحديث، حديث عمران محمول على الفرض، وأن ذلك ركن من أركان الصلاة لا تصح إلا به، إذا كانت فريضة لا تصح إلا من قيام إلا مع العجز: «فإن لم تستطع فقاعدًا»، وأما بالنسبة للنفل فتصح من قعود، ولو كان قادرًا عليها، لكن ليس له من الأجر إلا النصف. ما الذي أدرانا أن هذا في الفرض، وهذا في النفل؟ رجعنا إلى السبب، النبي -عليه الصلاة والسلام- دخل المسجد والمدينة محمّة، فوجدهم يصلون من قعود، فقال: «صلاة القاعد على النصف من أجر صلاة القائم»، فتجشّم الناس الصلاة قيامًا. وماذا عرَّفنا أنها في النفل؟ ما يمكن أن يصلوا قبل حضوره -عليه الصلاة والسلام-، هم يتنفلون بلا شك؛ لأنهم ما يصلون إلا وراءه. والذي يدرينا أنها في القادر على القيام؛ لأن الذي يصلي نافلة وهو عاجز على القيام أجره على النصف؟

طالب: كامل.

كامل، أجره كامل؛ لأنهم تجشموا القيام فقاموا، استطاعوا القيام، فدل على أن ذلك في حق المتنفل القادر على القيام.

طالب: "أحدهما: أن علم المعاني والبيان الذي يُعرف به إعجاز نظم القرآن فضلًا عن معرفة مقاصد كلام العرب، إنما مداره على معرفة مقتضيات الأحوال: حال الخطاب من جهة نفس الخطاب، أو المخاطِب، أو المخاطَب، أو الجميع؛ إذ الكلام الواحد يختلف فهمه بحسب حالين، وبحسب مخاطبين، وبحسب غير ذلك، كالاستفهام: لفظه واحد، ويدخله معانٍ أخر من تقرير وتوبيخ وغير ذلك، وكالأمر: يدخله معنى الإباحة والتهديد والتعجيز وأشباهها، ولا يدل على معناها المراد إلا الأمور الخارجة، وعمدتها مقتضيات الأحوال، وليس كل حال يُنقل...".