شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (144)

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلًا بكم إلى حلقة جديدة ضمن برنامجكم شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح.

مع مطلع حلقتنا يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير، فأهلًا ومرحبًا بكم شيخ عبد الكريم.

حياكم الله، وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين.

المقدم: لا زلنا في "باب الْفُتْيَا وهو واقفٌ على الدابة وغيرها" في "كتاب العلم" في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله تعالى عنهما- في وقوف النَّبي -صلى الله عليه وسلم- في حجة الوداع بمِنَى للناس يسألونه، توقفنا عند هذه اللفظة، وأشرتم إلى شيء من معانيها، أحسن الله إليكم، نستكمل لو تكرمتم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

في الحديث يقول: «فَجَاءَه رَجُلٌ» قال ابن حجر:" لم أعرف اسم هذا السائل، ولا الذي بعده في قوله: «فَجَاءَه آخر» يقول ابن حجر: "والظاهر أن الصحابي لم يُسمِّ أَحَدًا لم يُسمِّ أَحَدًا؛ لكثرةِ من سأل إذْ ذَاك".

فقال: «لَمْ أَشْعُر» بضم العين، أي: لم أعلم ولم أفْطَن، يقال: شَعَرَ يَشْعُرُ من باب: نَصَرَ يَنْصُرُ شَعْرًا وشُعُورًا، يقول الصاغاني: شَعَرتُ بالشيء؛ علمتُ به وفَطنتُ له، ومنه قولهم: ليْتَ شِعْري معناه: ليْتَني أشعر، نعم في العباب.

يقول: «فَحَلَقْتُ قبْلَ أَنْ أَذْبَح» يعني: فحلقت شعري قبل أن أذبح هَدْيي، و«أَنْ» مصدرية؛ أي: قبل الذبح، فقال: «اذْبَح» هَديَك «وَلا حَرَجَ» أي: لا شيء عليك، أي: لا إثم ولا فدية.

المقدم: لكن «لَمْ أَشْعُر» ممكن أن تأتي في الجَهْلِ يا شيخ؟

نعم.

المقدم: «لَمْ أَشْعُر» ممكن تأتي للجهل، ممكن أن تأتي نسيان.

كل هذا سيأتي إن شاء الله، تأتي الإشارة إليه هنا، ومَوْضِعُه في كتاب..

المقدم: الحج

"الحج"، -إن شاء الله تعالى- «فَجَاءَ آخَرُ» تقدم كلام ابن حجر، في عدم تعين المبهم هنا أيضًا. فقال: «لَمْ أَشْعُر فَنَحَرتُ» يعني: هَدْيي «قَبْلَ أَنْ أَرْمِي» يعني الجمرة، و«أَنْ» مصدرية؛ أي: قبل الرمي، والفاء في "حَلَقتُ ونَحَرتُ" سببية، كأنه جعل الحلق والنحر كلاًّ منهما مُسبَّبًا عن عدم الشعور، كأنه يعتذر لتقصيره، يعتذر لتقصيره، وحذف مَفَاعِيل هذه الأفعال للعلم بها وبقرينة المقال؛ لأنه قال: «لَمْ أَشْعُر فَحَلَقْتُ» حَلَقْتُ ماذا؟

المقدم: الشَّعْر.  

الشَّعْر ما ذَكَرَ المفعول؛ للعلم به، «قبْلَ أَنْ أَذْبَح» ما ذَكَرَ المفعول..

المقدم: للعلم به.

 للعلم به نعم، «قَبْلَ أَنْ أَرْمِي» حذف المفعول للعلم به أيضًا، فحذف مَفَاعِيل هذه الأفعال للعلم بها وبقرينة المقام، قال: «ارْمِ ولا حَرَجَ» يعني: الجمرة ولا حَرَجَ عليك في هذا التقديم والتأخير.

«فَمَا سُئِلَ النَّبِيُ -صَلى الله عَليْه وَسَلَم- عَنْ شَيءٍ» أي: مما هو من أعمال يوم النحر، وهو: الرمي، والحلق، والطواف، والسعي قُدِمَ على غيره ولا أُخر عن غيره إلا قال -عليه الصلاة والسلام-:

المقدم: افعل ولا حرج

«افْعَلْ وَلَا حَرَجَ» أي: لا شيء عليك مطلقًا من الإثم لا في الترتيب ولا في ترك الفدية، هذا ظاهره، وقال بعض الفقهاء: "المراد نفي الإثم فقط". قال ابن حجر: "وفيه نظر؛ لأن في بعض الروايات الصحيحة: «ولَمْ يَأمُرْه بِكَفَارَةٍ»، وسيأتي مباحث ذلك في كتاب الحج، -إن شاء الله تعالى".

يقول الكرماني: "اختلف العلماء في ترتيب هذه الأربعة على الترتيب المذكور، يعني: على ترتيب فعله -عليه الصلاة والسلام- في أنه سنَّة لا شيء في تركه، أو واجب يتعلق الدم بتركه؟ فإلى الأول: أنه سنَّة لا شيء في تركه ذهب الإمامان: الشافعي وأحمد -رحمهما الله تعالى- وإلى الثاني: أنه واجب يتعلق الدم بتركه، ذهب الإمامان: مالك وأبو حنيفة -رحمهما الله تعالى- وأول قوله: «لَا حَرَجَ» على رفع الإثم دون الفدية"، على رفع الإثم دون الفدية.

والصحيح: عدم الوجوب، إذ «لَا حَرَجَ» معناها: لا شيء عليك مطلقًا من الإثم لا في ترك الترتيب ولا في ترك الفدية، وقد صرح في بعض الروايات: بتقديم الحلق على الرمي، قُلتُ: وقد صرح في بعض الروايات أيضًا: بتقديم السعي على الطواف في حديث أسامة بن شريك.

يقول ابن بطال: فيه من الفقه أن العالم يجوز سُؤاله راكبًا وماشيًا وواقفًا وعلى كل أحواله، يعني يجوز أن يسأل، ويجوز أن يجيبه، سواء ماشيًا، راكبًا، جالسًا، مضطجعًا، لا مانع من ذلك كله، وقد تقدم؛ أن الجلوس على الدابة للضرورة جائز، هذا كلام ابن بطال، كما كان جلوسه -عليه الصلاة والسلام- عليها في حجته ليشرف على الناس، ولا يخفى عليهم كلامه لهم. هذه حاجة فيجوز الجلوس على الدابة للحاجة، جاء النهي عن اتخاذ ظهور الدواب منابر، وهذا محمول على عدم الحاجة إليها، أما مع وجود الحاجة إليها فلا بأس، وقد فعله النبي -عليه الصلاة والسلام-، والحديث خَرَّجَه الإمام البخاري في ستة مواضع: ستة مواضع هنا في كتاب "العلم" في باب "الفُتْيَا وهو واقفٌ على الدابة".

قال: حدثنا إسماعيل، قال حدثني مالك عن ابن شهاب، عن عيسى بن طلحة بن عُبَيد الله، عن عبد الله عمرو بن العاصي أو العاص؟

المقدم:..........

والأصل في هذه الكلمة..

المقدم: أنها العاصي.

العاصي نعم؛ لأنه منقوص وفيه أل؛ لأن الياء في المنقوص إنما تحذف إذا لم يكن مقترنًا بأل في حالتي: الرفع والجر، رأيت قاضي يثبت، جاء قاضٍ، ومررت بقاضٍ، وهنا يحذفونها كثيرًا.

المقدم: في كلمة: العاصي.

لعلها تخفيف، قد يقول قائل: {الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد:9]؟ محذوفة هذه محذوفة والأصل ماذا؟ "المتعالي" حُذِفَت؛ مراعاة لرؤوس الآيّ، ومنهم مَنْ يجيز الحذف مطلقًا، وهذا كثير في استعمالهم، «أَنْ رَسُولَ الله -صَلى الله عَليْه وَسَلَم- وَقَفَ فِي حَجةِ الْوَدَاع بمِنَنً للنَّاسِ يَسْألُونَه» فذكره، وسبق ذكره المناسبة، الموضع الثاني في كتاب العلم أيضًا، في باب "السؤال والفُتْيَا عند رمي الجمار".

قال الإمام البخاري -رحمه الله-: حدثنا أبو نعيم، حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة، عن الزهري، عن عيسى بن طلحة، عن عبد الله بن عمرو قال: «رَأيْتُ النَّبِي -صَلى الله عَليْه وَسَلَم- عِنْدَ الْجَمْرة وهو يُسْأل» فذكره، المناسبة، السؤال فُتية والمناسبة ولكتاب عن ظاهر، عند رمي الجمار.

المقدم: قال: بمنى.

عند الجمرة.

المقدم: وعند الجمرة نص عليه.

الموضع الثالث والرابع والخامس.

المقدم: متسلسل.

 الموضع الثالث والرابع والخامس نعم متسلسل، في "كتاب الحج" في باب واحد، في باب "الفُتْيَا على الدابة عند الجمرة"، قال في الموضع الأول الذي هو الرابع، الثالث بالنسبة لما عندنا: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن عيسى بن طلحة، عن عبد الله بن عمرو: «أَنْ رَسُولَ الله -صَلى الله عَليْه وَسَلَم- وَقَفَ فِي حَجةِ الْوَدَاع» فذكره.

وقال في الموضع الرابع الذي هو الثاني بالنسبة لكتاب الحج: حدثنا سعيد بن يحيي بن سعيد قال: حدثنا أبي قال: حدثنا ابن جريج قال: حدثني الزهري، عن عيسى بن طلحة، عن عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنهما- حدثه أنه: «شَهِدَ النَّبي -صَلى الله عَليْه وَسَلَم- يَخْطُبُ يَوْمَ النَّحْر، فَقَامَ إلَيْه رَجلّ فَقَالَ: كُنتُ أَحْسِبُ أَنْ كَذَا قَبْل كَذَا..

أَحْسِبُ: يعني أَظُنّ.

..ثُمَّ قَامَ آخَر فَقَالَ: كُنتُ أَحْسِبُ أَنْ كَذَا قَبْل كَذَا، حلق قبل أن أنحر، نحرت قبل أن أرمي، وأَشْبَاه ذلك» فذكره بنحوه.

والموضع الخامس الذي هو الثالث بالنسبة لكتاب الحج، قال: حدثنا إسحاق قال: أخبرنا يعقوب بن إبراهيم قال: حدثنا أبي عن صالح عن ابن شهاب، عن ابن شهاب قال: حدثني عيسى بن طلحة بن عُبَيد الله، أنه سمع عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: «وَقَفَ رسول الله -صَلى الله عَليْه وَسَلَم- على ناقته» فذكر الحديث، تابعه يعني: صالح مَعْمَّر عن الزهري.

الآن رُوِيَ من طريق مالك عن إسماعيل في حديث الباب المشروح من طريق إسماعيل بن أبي أُوَيس ابن أخت مالك، وفي "كتاب الحج" رُوِيَ من طريق عبد الله بن يوسف التنيسي قال: أخبرنا مالك، في حديث الباب: حدثنا إسماعيل قال: حدثني مالك، وفي "كتاب الحج" قال: حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا مالك، هل اختلاف الصيغة له أثر؟

المقدم: هذه دائمًا كان يجيب عليها الأخ الشرفي كان متابعًا دائمًا لنا.

أحد الحضور: التَّحْدِيث والإخْبَار عند كثير من المحدثين بمعنى واحد.

لكن بالنسبة لمراعاة الاصطلاح بمعنى واحد؟ تختلف، التَّحْدِيث: بالنسبة لمن تحمل بطريق السَّمَاع، والإخْبَار: لمن تحمل بطريق العَرْضِ هذا عند مَنْ يُفَرِق، والإمام البخاري لا يُفَرِق.

المقدم: لا يفرق.

نعم، والإمام مالك -رحمه الله- ما عُرِفَ عَنْه أنه حَدَّثَ أحدًا، إنَّما يُقْرَأ عليه، فَالَّلائِق في مثل هذه المواضع: أخبرنا، لكن قد يقول قائل: إسماعيل بن أبي أُوَيس ابن أخت مالك.

المقدم: قد يقول.

وهذا عبد الله بن يوسف من كبار الآخِذِينَ عنه وصاحب رواية من روايات الموطأ، فيكون عبد الله بن يوسف أخَذَ الموطأ عنه والروايات كلها عن مالك بطريق العَرْض يعني: قرأ على مالك، إسماعيل بن أبي أُوَيس لقربه منه، احْتِمَال أنه سمع منه بعض الأحاديث، ولولا إِنِّي وقفتُ في صحيح مسلم عن إسماعيل قال: حدثني مالك، ومسلم مِمَّن يُفَرِق بين صِيَغِ الأداء، مِمَّن يُفَرِق بين صِيَغِ الأداء؛ أنا قلت إن الإمام مالك - كما قُلْتُ-: على عادته لا يُحَدِّثُ أحدًا.

الموضع الثالث في كتاب "الحج" قال: حدثنا إسحاق قال: أخبرنا يعقوب بن إبراهيم قال: حدثنا أبي عن صالح، عن ابن شهاب قال: حدثني عيسى بن طلحة بن عُبَيد الله، أنه سمع عن عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنهما - قال: «وَقَفَ رسول الله -صَلى الله عَليْه وَسَلَم- على ناقته» فذكر الحديث، تابعه مَعْمر عن الزهري. والمناسبة بين الحديث بِطُرُقِه الثلاثة لباب "الفُتْيَا على الدَّابَة عِنْدَ الْجَمْرة" في كتاب "الحج" ظاهرة.

الموضع السادس -وهذا يحتاج إلى انتباه- في "كتاب الأيمان والنذور" في "كتاب الأيمان والنذور" باب: "إذا حَنَثَ ناسيًا في الأَيْمَان"، "إذا حَنَثَ ناسيًا في الأَيْمَان"، حدثنا الإمام البخاري -رحمه الله: حدثنا عثمان بن الهيثم، أو محمد عنه، عن ابن جريج قال: سمعت ابن شهاب يقول: حدثني عيسى بن طلحة، أن عبد الله بن عمرو بن العاص، فذكره بلفظه، بلفظ الحديث الرابع الذي تقدم في الحج، بلفظ الحديث الرابع الذي تقدم في الحج في قوله: «كُنتُ أَحْسِبُ أَنْ كَذَا قَبْل كَذَا» باللفظ هذا، بلفظ كنت أَحْسِبُ، يقول: حدثنا عثمان بن الهيثم، أو محمد عنه، كيف؟ قالها في موضعين: هنا وفي كتاب "اللباس" أيضًا، حدثنا عثمان بن الهيثم، أو محمد عنه عن ابن جريج، على سبيل الشك والتردد، يعني: الإمام البخاري -رحمه الله- شك هل تلقى هذا الحديث عن شيخه عثمان بن الهيثم، وهو من شيوخ البخاري أخرج عنه عدة أحاديث بلا واسطة، هل تلقى هذا الحديث عنه بدون واسطة أو بواسطة محمد؟ وهو: ابن يحيى الذهلي، عن عثمان بن الهيثم، عن ابن جريج قال: سمعتُ ابن شهاب يقول.. فمعنى ذلك التردد، على سبيل الشك والتردد، بواسطة أو بدون واسطة؟

مناسبة الحديث لباب "إذا حَنَثَ ناسيًا أن الحديث.. مناسبة الحديث لباب "إذا حَنَثَ ناسيًا أن الحديث فيه ما يدل على عدم الشعور وعدم الحُسْبَان، "كتاب الأيمان والنذور" إذا حنث ناسيًا في الأيمان، مناسبة الحديث، الحديث فيه: «لَمْ أَشْعُر»، وفيه أيضًا: «كُنتُ أَحْسِبُ» الحديث فيه ما يدل على عدم الشعور وعدم الحُسْبَان، وهما قريبان من النِّسْيَان، وهما قريبان من النِّسْيَان وهما مما يُعْذَر به المكلَّف، فلا يؤاخَذ في التقديم والتأخير في أعمال يوم النحر؛ نصًّا، ولا يؤاخذ إذا حلف ناسيًا، قياسًا على ذلك؛ لأن الأحكام طريقها واحد، وقد أردف الإمام البخاري -رحمه الله - الترجمة باب: "إذا حَنَثَ ناسيًا في الأَيْمَان" أردف الترجمة بقوله: وقول الله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} [الأحزاب:5].

وقال: { لا تُؤَاخِذْنَا..}.

المقدم: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}.

نعم، {إن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}، لا أراد البخاري الآية الأخرى وقوله: {قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ} [الكهف:73]

 الله -جلّ وعلا- رفع الحرج عن الناس؛ لأنه قال في آخر سورة البقرة: قد فَعَلْتُ، يعني اسْتَجَبتُ دعاءكم.

هل النَّاسِي لا يُؤَاخَذُ بِاطِّرادٍ؟ أو يُؤَاخَذُ في حال دون حال؟

المقدم: يُؤَاخَذُ في حال دون حال.

كيف؟

المقدم: يعني مثل لو أسقط ركنًّا في الصلاة يؤاخذ، يؤاخذ ولو ناسيَّا.

لماذا؟ أولاً: هذا فيما يتعلق بحقوق الله -جلا وعلا-، أما ما يتعلق بحقوق العباد: فهو مُؤَاخَذ؛ لأنه مبني على المُشَاحَة، ومُؤَاخَذَتُه ليست من باب التكليف مع النِّسْيَان، إنما هي من باب: الحُكْم الوَضْعِي، من باب: ربط الأسباب بالمُسَبَبَات، نعم يبقى أنه في حقوق الله - جلّ وعلا- قد يؤاخذ؛ متى؟ القاعدة عند أهل العلم في النِّسْيَان، القاعدة عندهم في النسيان، أن النِّسْيَان يُنَزِّل الموجود منزلة المعدوم، يُنَزِّل الموجود منزلة المعدوم، ولا يُنَزِّل المعدوم منزلة الموجود..

أحد الحضور: يعني يبقى عليه فعل.

فعل ما ترك، يعني لو قال شخص: صَلْيتُ الظهر خمسً ناسياً؟ نقول لا شيء عليك، لماذا؟ لأن النِّسْيَان نَزَّل الموجود هذه الركعة الزائدة منزلة المعدوم كأنها لم توجد، لكن لو قال: نسيت وصَلْيتُ الظهر ثلاثًا؟ نقول: لا عليك الإعادة، لماذا؟ لأن النِّسْيَان لا يُنَزِّل المعدوم منزلة الموجود، فلابد من الإتيان به، لو قال: نَسِيتُ وصَلْيتُ بدون طهارة والله -جلّ وعلا- يقول: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286] والناسي ما عليه شيء، نقول: لا، النِّسْيَان لا يُنَزِّل المعدوم منزلة الموجود، فعليك أن تتطهر وأن تعيد الصلاة، لكن لو قال: نَسِيتُ وتوضأتُ ثانية مثلًا؟ نقول: لا شيء في ذلك.

أحد الحضور: كيف ننزل هذه القاعدة على الركن والواجب في الصلاة؟

المقدم: نعيده مرة أخرى سؤال الأخ، كيف ننزل هذه القاعدة على الركن والواجب في الصلاة؟

النِّسْيَان يُنَزِّل الموجود منزلة المعدوم، يعني: عملتَ عملاً زائدًا، وأنت ناسيًا لا مُؤَاخَذَة عليك، عمل زائد، لكن نقص من عملك ناسيًا مما يجب فعله فلا بد أن تأتي به؛ هناك أحكام ومسائل متعلقة في هذا الباب: تدل على أن هناك فرقًا بين الأركان والواجبات، فمَنْ ترك سجدة..

المقدم: ركن.

هل نقول إن النِّسْيَان هنا لا يؤاخذ؟

المقدم: لا؛ لا بد من الإتيان بها على أي حال.

لا؛ لا بد من الإتيان بها على أي حال، لكن نسيت واجبًا، نسيت التشهد الأول مثلًا، وقمت إلى الركعة الثالثة هل نقول: إن النِّسْيَان لا يُنَزِّل المعدوم منزلة الموجود ارجع؟ هناك تفصيل في المسألة، أهل العلم يقولون: إذا لم يستتم قائمًا يلزمه الرجوع، وإذا استتم قائمًا كُرِه الرجوع، وإذا شرع في القراءة حَرُمَ الرجوع، والعمدة في ذلك حديث عبد الله بن بحينه "أَنَّ النَّبي -عليه الصلاة والسلام- صَلْى الظُهْر فَقَامَ مِنْ رَكْعَتَينِ لَمْ يَجْلِس لِلْتَشَهد، سَبَّحُوا بِهِ وَلَمْ يَرْجِع -عليه الصلاة والسلام- ثُمَّ سَجَدَ قَبْلَ السَّلام"، لا يقول قائل: إن النِّسْيَان يُنَزِّل المعدوم منزلة الموجود لا بد من الإتيان به، هناك فرق بين ما تَرْكه مُخِلّ بالصلاة اتفاقًا، وما تَرْكه لا يُخِلُ بها بل يُجْبَر، يجبر، فمثل الواجب يُجْبَر مع النِّسْيَان والسهو، أما الركن فلا بد من الإتيان به على أي حال. والحديث خَرَّجَه أيضًا الإمام مسلم، فهو متفقٌ عليه.

قال -رحمه الله -: عن أَبَي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «يُقْبَضُ الْعِلْمُ، وَيَظْهَرُ الْجَهْلُ وَالْفِتَنُ، وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ: وَمَا الْهَرْجُ؟ فَقَالَ: هَكَذَا بِيَدِهِ، فَحَرَّفَهَا كَأَنَّه يُرِيدُ الْقَتْلَ».

نعم، راوي الحديث أبو هريرة الصحابي الجليل حافظ الصحابة بل حافظ الأمة على الإطلاق، تقدم التعريف به مرارًا، وهذا الحديث ترجم عليه الإمام البخاري بقوله: "باب مَنْ أجاب الفُتْيا بإشارة اليد والرأس".

المقدم: بإشارة اليد والرأس.

نعم، وذكر قبله –البخاري- حديث ابن عباس "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سُئِلَ فِي حَجَّتِهِ، فَقَالَ: ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ، فَأَوْمَأ بِيَدِهِ: قَالَ وَلَا حَرَجَ، قَالَ: حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ، فَأَوْمَأ بِيَدِهِ: وَلَا حَرَجَ". المُخْتَصِر الزَّبِيدي: اكْتَفَى بحديث أبي هريرة؛ لدلالته على المطلوب؛ لأن فيه الإشارة باليد، وهو الإيماء باليد، وأما تركه لحديث ابن عباس اكْتِفَاءً بحديث: عبد الله بن عمرو بن العاص الذي سبق شرحه، اكتفى به، أما الإيماء بالرأس - شِق الترجمة - فدلِيلُه حديث أسماء الآتي بعد هذا -إن شاء الله تعالى.

 ومناسبة الحديث للباب ظاهرة؛ لأن فيه: «فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ» والباب: "باب مَنْ أجاب الفُتْيا بإشارة اليد والرأس" وأما المناسبة بين البابين: هذا الباب "باب مَنْ أجاب الفُتْيا بإشارة اليد والرأس"، والترجمة السابقة باب "الفُتْيَا وهو واقفٌ على الدابة وغيرها" فظاهرة أيضًا، المناسبة ظاهرة، هناك: "باب الفُتْيَا وهو واقفٌ على الدابة"، وهنا "من أجاب الفتيا بإشارة.." كلها في الفُتْيَا، ظاهرة؛ لأنهما جميعًا في الفُتْيَا، الأَوْلَى بصريح الكلام، الأُوْلَى الفتيا بصريح الكلام، والثانية بالإشارة، وقد عَمِلَ بذلك أهل العلم، فأفتوا بالإيماء والإشارة وغيرهما، قد عَمِلَ بذلك أهل العلم، فأفتوا بالإيماء والإشارة وغيرهما، وهذا كثيرٌ جدًّا عند الإمام المُتَّبِع المُقْتَدي الْمُؤتَسي أحمد بن حنبل-رحمه الله- كثيرًا ما يُجِيبُ بالإيماء والتنبيه والإشارة.

المقدم: لكن ما تحتمل الفهم الخاطئ أحيانًا من بعض الناس يا شيخ؟

 إذا وُجِدَ هذا الاحتمال، إذا وُجِدَ هذا الاحتمال فلا شك أنه يتعين القول الصريح؛ لأن الفتوى بيان عن الله- جلّ وعلا-، فلا يتم البيان بالأمر المحتمل، إذا كان الأمر محتملًا لا يتم البيان، بل يبقى الأمر مجملًا فلا بد من البيان.

المقدم: كان حتى في تمعر وجهه -عليه الصلاة والسلام- كانوا يعرفون استنكاره لأمورٍ فضلًا عن حركة يده -عليه الصلاة والسلام- من حديث عائشة -رضي الله عنها- «لَمَّا وَضَعت نَمَارق فَدَخَل فَعَرَفَت تَغَير وَجْهه» -عليه الصلاة والسلام- هل يعتبر ذلك؟

ما فيه شك أن الشخص الذي ليس في قلبه هوى يُدْرِك من أول وهلة، أما إذا كان يَحْدّه الهوى فقد يفهم من الإشارة أو من بعض التصرفات خلاف مراد المشير، فمثلًا: لمَّا ضحك النَّبي -عليه الصلاة والسلام - لمَّا قال اليهودي: «إنَّ الله يَجْعل السَّمَوات على إصْبَع والأَرْضِينَ على إصْبَع» ضحك النَّبي -عليه الصلاة والسلام- تعجب من كلامه، وإقرارًا له، بعض المبتدعة الذين ينفون الصفات قالوا: ضحك..

المقدم: استنكارًا.

إنكارًا عليه، وإلا فسلف الأمة قاطبة وعلماء الأمة وأئمتها ومن يُعْتَدُّ بقوله من أهل العلم: كلهم فهموا ما أراده النَّبي -عليه الصلاة والسلام-.

المقدم: أحسن الله إليكم، لعلنا نستكمل بإذن الله ما تبقى في هذا الحديث وهذا الباب أيضًا في حلقات قادمة بإذن الله، أيها الإخوة والأخوات، بهذا نصل وإياكم إلى ختام هذه الحلقة من شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.