شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (052)

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

إخوتنا وأخواتنا المستمعين الكرام والمستمعات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحبًا بكم إلى حلقة جديدة ضمن برنامجكم: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح.

مع مطلع حلقتنا يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، وأشكر له تفضله بإجابة الدعوة، فأهلاً ومرحبًا بكم شيخ عبد الكريم.

حياكم الله وبارك فيكم.

المقدم: توقفنا عند حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أُريت النار فإذا أكثر أهلها النساء...» إلى آخر الحديث.

أشرتم إلى شيء من معاني الحديث، وتبقى مجموعة من القضايا فيه، نرجو أن نستكملها مع الإخوة المستمعين -أحسن الله إليكم-.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

انتهى الكلام عن مفردات الحديث وبقي ما يتعلق بفوائد الحديث وأطرافه، النووي -رحمه الله تعالى- يقول: في هذا الحديث أنواع من العلم، منها ما تُرجِم له، وهو أن الكفر قد يُطلَق على غير الكفر بالله -سبحانه وتعالى-، يقول: ويؤخذ منه صحة تأويل من يتأوَّل الكفر في الأحاديث التي ذكرناها ونحوها على كفران النِّعَم والحقوق. ونعرف أن التأويل لا بد له من مستند، لا بمجرد الهوى، إذا ارتكب الشخص أمرًا مكفِّرًا مُخرِجًا عن الملة وقيل له: هذا كفر مُخرِج، على ما يراه أهل العلم، قال: لا، هذا كفر دون كفر، فلا يُفهَم من كلام النووي: يؤخذ منه صحة تأويل من يتأوَّل الكفر في الأحاديث التي ذكرناها ونحوه على كفران النِّعَم ما يقول: هذا كفر نعمة، بل العبرة والعمدة في تفسير النصوص على أقوال السلف لا على التشهِّي، إذا ارتكب الإنسان أمرًا مخرجًا قال: كفر دون كفر، لا، فلا يؤخذ كلام النووي على إطلاقه.

وفيه: وعظ الإمام وأصحاب الولايات وكبار الناس رعاياهم وأتباعهم وتحذيرهم المخالفات وتحريضهم على الطاعات، كما جاء في رواية أخرى في الصحيح: «يا معشر النساء تصدقن».

وفيه: مراجعة المتعلم العالم، والتابع المتبوع فيما قاله إذا لم يظهر له معناه؛ لأنه في الحديث قيل: "أيكفرن بالله؟" لما قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: «يكفرن» أو «بكفرهن» ما سكتوا؛ لأن الأمر خطير "قيل: أيكفرن بالله؟ قال: «يكفرن العشير»" فمراجعة العالم والمتبوع من قبل المتعلم والتابع والاستيضاح والبيان في وقت الحاجة إليه أمر لا بد منه، وفيه تحريم كفران الحقوق والنِّعَم، إذ لا يدخل النار إلا بارتكاب حرام.

يقول القسطلاني: وفيه: أن المعاصي تُنقِص الإيمان؛ لأنه جعله كفرًا، ولا يَخرُج إلى الكفر الموجب للخلود في النار، وأن إيمانهن يزيد بشكر نعمة العشير، فثبت أن الأعمال من الإيمان؛ لأن المعاصي تنقص الإيمان؛ لأنه جعله كفرًا، ولا يُخرِج عمل المعاصي إلى الكفر الموجب للخلود في النار، وأن إيمانهن يزيد بشكر نعمة العشير، يعني إذا كان إيمانهن ينقص بكفر نعمة العشير، فإيمانهن يزيد بشكر نعمة العشير، فثبت أن الأعمال من الإيمان.

يقول ابن حجر، وهذا كلام مهم فيمن يبحث في منهج الإمام البخاري، يقول ابن حجر: حديث ابن عباس المذكور طرف من حديث طويل أورده المصنف في باب صلاة الكسوف بهذا الإسناد تامًا، وسيأتي الكلام عليه ثَم، يعني يأتي الكلام عليه باستيفاء في صلاة الكسوف؛ لأن الحديث المذكور جزء من حديث ابن عباس في كسوف الشمس على عهد النبي -عليه الصلاة والسلام- الطويل، يقول: ننبه هنا على فائدتين: إحداهما: أن البخاري -رحمه الله تعالى- يذهب إلى جواز تقطيع الحديث إذا كان ما يَفْصِله لا يتعلق بما قبله ولا بما بعده تعلقًا يفضي إلى فساد المعنى، فصنيعه كذلك يوهم من لا يحفظ الحديث أن المختصَر غير التام، لاسيما إذا كان ابتداء المختصَر من أثناء التام، كما وقع في هذا الحديث، فإن أوله هنا قوله -عليه الصلاة والسلام-: «أريت النار...» إلى آخر ما ذكر منه.

المقدم: كأن هذا الحديث قطعة من حديث تام.

نعم.

المقدم: وأخذ البخاري هذا الجزء.

هذه جُمَل من حديث طويل، وردت في أثناء حديث طويل، لكن هذا الكلام مستقل، لا تعلق له بما قبله ولا بما بعده، وتقطيع الحديث جائز عند جمهور أهل العلم بهذا القيد الذي ذكره الحافظ، إذا كان ما يفصله منه لا يتعلق بما قبله ولا بما بعده، كما هو معلوم.

المقدم: وصاحب التجريد سيذكر الحديث في باب الكسوف؟

يذكر ما يتعلق بالكسوف هناك.

المقدم: ويزيل هذا الجزء ولو لم يزله البخاري أو لا يصنع هذا في الغالب؟

هو في الغالب يسوق لفظ البخاري، هو اعتمد هذا، ونص عليه في المقدمة، لكن صنيع المختصَر حقيقة مع أنه المختصِر جيد، وصنيعه يقرِّب الكتاب للناس، لكن ذهب علينا حديثان مناسبان في كتاب الإيمان؛ لأنهما تقدما، كل ما تقدم بنا الوقت، وأخذنا جملة من الأحاديث يكثر النقص، حتى يصل الحد إلى أن أحاديث كتاب الرقاق في الصحيح مائة وثلاثة وتسعين.

المقدم: وفي التجريد؟

في التجريد سبعة، أحاديث في غاية الأهمية في ذلك الكتاب، مَن يبحث في كتاب الرقاق، ويريد أن يرجع إلى الأحاديث السابقة؟! وهذا يبيِّن لنا أهمية العناية بالأصل الذي هو الصحيح، من أراد أن يبحث في الفتن مثلاً يجد الأحاديث متكاملة في كتاب الفتن في مواضعها بتراجمها، بينما في التجريد لا يجد إلا شيئًا يسيرًا؛ لأنها تقدمت، جُلها تقدم، والله المستعان.

المقدم: ومعنا هنا أيضًا حديث سقط يا شيخ.

اثنين.

المقدم: الأول نبَّهْنا عليه في حلقات ماضية، لما مر بنا نبهنا عليه.

نعم.

المقدم: لكن هنا في هذه الحلقة الحديث السابع والعشرين...

الحديث الذي قبله.

المقدم: نعم، الذي قبله مباشرة؟

حديث: أي الإسلام خير؟ قال: «تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف» هذا تقدَّم.

يقول الحافظ وننبِّه هنا على فائدتين: إحداهما: أن البخاري يذهب إلى جواز تقطيع الحديث إذا كان ما يفصله منه لا يتعلق بما قبله ولا بما بعده تعلُّقًا يفضي إلى فساد المعنى، فصنيعه كذلك يوهِم من لا يحفظ الحديث أن المختصَر غير التام، لا سيما إذا كان ابتداء المختصَر من أثناء التام، كما وقع في هذا الحديث، فإن أوله هنا قوله -عليه الصلاة والسلام-: «أريت النار...» إلى آخر ما ذكرنا، وأول التام عن ابن عباس قال: "خَسَفَت الشمس على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" فذكر قصة صلاة الخسوف، ثم خطبة النبي -عليه الصلاة والسلام-، وفيها القدر المذكور هنا، فمن أراد عَدَّ الأحاديث التي اشتمل عليها الكتاب يظن أن هذا الحديث حديثان أو أكثر لاختلاف الابتداء، وقد وقع في ذلك من حكى أن عِدَّة أحاديث البخاري بغير تكرار أربعة آلاف أو نحوها، كابن الصلاح والشيخ محيي الدين ومن بعدهما. يعني كالحافظ العراقي:

 ..................................

أربعة آلاف والمكررُ

 

 

...... وفي البخاري           

فوق ثلاثة ألوفًا ذكروا

 

كلهم تواطؤوا على أن البخاري بغير تكرار أربعة آلاف، لكن يقول الحافظ: وليس الأمر كذلك، بل عدته على التحرير ألفا حديث وخمسمائة حديث وثلاثة عشر حديثًا، الفرق شاسع، ألف وخمسمائة حديث الفرق، كما بينتُ ذلك مفصَّلاً في المقدمة، هنا قال في هذا الموضع: بل عِدَّتها على التحرير ألفا حديث وخمسمائة وثلاثة عشر حديثًا، لكنه في المقدمة لما عَدَّ ما لكل صحابي من الأحاديث، قال: فجميع ما في صحيح البخاري من النصوص الموصولة بلا تكرير ألفا حديث وستمائة وحديثان الفرق كم؟ تسعين حديث تقريبًا.

ومن المتون المعلَّقة المرفوعة التي لم يوصلها في موضع آخر من الجامع المذكور مائة وتسعة وخمسون حديثًا، في موضع آخر قال: مائة وستين، يعني فرق واحد مقبول، لكن الفرق ألف وخمسمائة حديث! هذا..!، الحافظ يرجع هذا الاختلاف الكبير إلى ما أشار إليه من أن الإمام البخاري يختصر فيظنه العادُّ أكثر من حديث، وهو في الحقيقة حديث واحد، لكن إذا عرفنا طريقة السلف وأهل العلم، المتقدمون منهم لا يعتنون بالعَدِّ على التحرير، بل على التقرير والتقريب، فمسند الإمام أحمد قالوا عنه: فيه أربعين ألف حديث، ومنهم من قال: ثلاثين ألف، صحيح مسلم قالوا: فيه ثمانية آلاف، وقيل: اثنا عشر ألف حديث، فرق كبير، كل هذا لأنهم لا يهتمون بالعَدِّ على التحرير؛ لأن هذا ليس من متين العلم، كون الإنسان ينفق وقت ليعد واحد اثنين ثلاثة أربعة إلى آخره، ينظرون الأحاديث ويقدِّرون فيه كذا، بينما اتجهت عناية المتأخرين إلى هذا النوع من فضول العلم، العد بدقة، والتفصيل بالحرف حتى أنهم عدوا حروف، وذكرنا في مناسبات شخصًا من أهل اليمن أشكلت عليه القراءة في تفسير الجلالين، هل يتوضأ أو لا يتوضأ؟ فقيل له: الحكم للغالب، فعد حروف القرآن وحروف التفسير، ويقول: العدد إلى سورة المزمل واحد، ومن المدثر إلى آخر القرآن زاد التفسير قليلاً، فانفرجت عنده، فصار يقرأ في التفسير بدون وضوء، لا تجد من السلف من يصنع مثل هذا، يعني هذا العمل الذي عمله بدلاً من أن يعد الوقت الطويل ليحفظ من القرآن ما يحفظ أو من السنة ما يحفظ.

المقدم: أو يتوضأ إذا أراد أن يقرأ.

لا، أما أن يتوضأ كل مرة هذه...!!

على كل حال عناية المتقدمين غير عناية المتأخرين، المتأخرون يهمهم الأمور الشكلية والتنظيمية، بينما المتقدمون يهمهم المضمون.

الفائدة الثانية...

نعود إلى فائدة اختصار الحديث، ونزيدها إيضاحًا وهو أنه إذا جاز الاختصار في القرآن والاقتصار على المراد منه، فلأن يجوز في الحديث من باب أولى، بالشرط المذكور، فإذا كان الحديث عن الأمانة مثلاً، وقلنا استدللنا بقوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [سورة النساء 58] هل يلزمنا أن نقول: {وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ} [سورة النساء 58]؟ لا، بينما إذا كان الكلام عن العدل لا يلزمنا أن نقول: {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [سورة النساء 58] وهكذا.

فالحديث من باب أولى، فإذا أرادنا أن نسوق حديثًا أو نسوق جملة من حديث اشتمل على جُمَل، نهى عن بيع حبل الحبلة، ونهى عن النجش، ولا يبيع حاضر لباد، جُمَل جاءت، أربع جمل سيقت مساقًا واحدًا، في حديث واحد، يرويه الإمام أحمد عن الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر في المسند، وهو موجود في الصحيح مفرَّق، لكن إذا أردنا الحديث عن النجش فقط، يلزمنا أن نقول: نهى عن بيع حبل الحبلة؟ لا يلزمنا، ولا بد من اعتبار القيد الذي ذكره الحافظ، وذكره غيره من أهل العلم، ألا يكون المحذوف له تعلُّق بالمذكور أو العكس.

الفائدة الثانية: تقرَّر أن البخاري لا يعيد الحديث إلا لفائدة؛ لكن تارة تكون في المتن، وتارة تكون في الإسناد، وتارة فيهما، وحيث تكون في المتن خاصة لا يعيده، يعني بحروفه، بل يتصرف فيه فإن كثرت طرقه أورد لكل باب طريقًا، وإن قلت اختصر المتن أو الإسناد، وقد صنع ذلك في هذا الحديث.

وقال في أوائل الكتاب، قال ابن حجر في أوائل الكتاب: عرف بالاستقراء من صنيعه أنه لا يذكر الحديث الواحد في موضعين على وجهين، بل إن كان له أكثر من سند على شرطه ذكره في الموضع الثاني بالسند الثاني، وهكذا ما بعده، وما لم يكن على شرطه فإنه يعلِّقه في الموضع الآخر تارة بالجزم إن كان صحيحًا، وتارة بغيره إن كان فيه شيء، وما ليس له إلا سند واحد يتصرفُ في متنه بالاقتصار على بعضه بحسب ما يتفق.

يقول: ولا يوجد فيه حديث واحد مذكور بتمامه سندًا ومتنًا في موضعين أو أكثر إلا نادرًا، يقول: فقد عُني بعض من لقيته بتتبع ذلك فحصل منه نحو عشرين موضعًا في الصحيح كله، نحو عشرين موضعًا كرر البخاري الأحاديث بأسانيدها ومتونها من غير زيادة ولا نقصان، وهذه العشرين ذكرها القسطلاني في مقدمته إرشاد الساري.

هذا وقد خرَّج الإمام البخاري الحديث في ستة مواضع:

الأول: هنا في كتاب الإيمان، باب كفران العشير، وكفر دون كفر، فيه عن أبي سعيد الخدري عن النبي -عليه الصلاة والسلام-. قال -رحمه الله-: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فذكره، وسبقت الإشارة إلى المناسبة.

وحديث أبي سعيد الذي أشار إليه الإمام أخرجه المؤلف في الحيض وغيره من طريق عياض بن عبد الله عنه، وفيه قوله -صلى الله عليه وسلم-: «تصدقن، فإني رأيتكن أكثر أهل النار» فقلن: ولِمَ يا رسول الله؟! قال: «تكثرن اللعن، وتكفرن العشير» الحديث.

قال ابن حجر: ويحتمل أن يريد بذلك -يعني البخاري- حديث أبي سعيد أيضًا «لا يشكر الله من لا يشكر الناس» قاله القاضي أبو بكر بن العربي، والأول أظهر وأحرى على مألوف المصنف. يقول العيني: قال بعضهم -يعني ابن حجر-: يحتمل أن يريد بذلك حديث أبي سعيد «لا يشكر الله من لا يشكر الناس» قلت: هذا بعيد، ومراده ما ذكرناه -يعني حديث أبي سعيد «تصدقن» إلى آخره- ويؤيده ما في حديث ابن عباس من قوله: «وتكفرن العشير» كذا في حديث أبي سعيد، وترجمة الباب بهذه اللفظة، ولا يناسب الترجمة إلا حديثاهما فافهم. لكن استدراك العيني على ابن حجر "قال بعضهم -يعني ابن حجر-: يحتمل أن يريد بذلك حديث أبي سعيد..." هل ابن حجر اقتصر على هذا، أو ذكر الأول وقرره؟

المقدم: ذكر الأول ثم قال: ويحتمل.

وهو الأظهر، والثاني: قال: يحتمل، وقاله ابن العربي، ما نسبه إلى نفسه، فمثل هذا الاستدراك... وإن كان أبداه ابن حجر على سبيل الاحتمال، لو لم يذكر هذا الاحتمال ابن حجر، بل اقتصر على نسبته لابن عربي، وقال ابن عربي: المراد به كذا، لكن المراد الأول، الحديث الأول حديث أبي سعيد المذكور في الحيض لكان أولى.

الموضع الثاني: كتاب الصلاة، باب من صلى وقدامه تنور أو نار أو شيء مما يُعبَد فأراد به الله، قال: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن عباس قال: "انخسفت الشمس فصلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم قال: «أريت النار، فلم أرَ منظرًا كاليوم قط هو أفضع»" والمناسبة للترجمة ظاهرة حيث أري النبي -عليه الصلاة والسلام- النار أمامه وهو يصلي، لكن الإمام البخاري نوزع في ذلك، فقال الإسماعيلي: ليس ما أرى الله نبيه من النار بمنزلة نار معبودة لقوم يتوجه المصلي إليها، يعني نار الآخرة غير نار الدنيا.

وقال ابن التين: لا حجة فيه على الترجمة؛ لأنه لم يفعل ذلك مختارًا، أري النار، لكن هل قصد التوجه إلى النار؟ لا حجة فيه على الترجمة؛ لأنه لم يفعل ذلك مختارًا، وإنما عرض عليه ذلك للمعنى الذي أراده الله -سبحانه وتعالى- من تنبيه العباد، وتُعقِّب بأن الاختيار وعدمه في ذلك سواء منه -عليه الصلاة والسلام-؛ لأنه لا يُقِرُّ على باطل، فدل على أن مثله جائز، ما معنى هذا الكلام؟ يقول: لما أري النار لماذا لم يحد عنها يمنة أو يسرة، ما دامت الصلاة إلى النار ممنوعة؟ وتفرقة الإسماعيلي بين القصد وعدمه وإن كانت ظاهرة، لكن الجامع بين الترجمة والحديث وجود نار بين المصلي وقبلته في الجملة، فالمناسبة ظاهرة.

قال ابن حجر: وأحسن من هذا عندي أن يقال: لم يفصح المصنف في الترجمة بكراهة ولا غيرها، فيحتمل أن مراده التفرقة بين من بقي ذلك بينه وبين قبلته وهو قادر على إزالته أو انحرافه عنه، وبين من لا يقدر على ذلك، فلا يُكرَه في حق الثاني، الذي لا يقدر على الإزالة مثلاً، فلا يُكرَه في حق الثاني وهو المطابق لحديثي الباب، ويُكرَه في حق الأول، يعني كون الإنسان يصلي إلى نار مختارًا قادرًا على التنحي عنها كما سيأتي التصريح بذلك عن ابن عباس في التماثيل، وكما روى ابن أبي شيبة عن ابن سيرين أنه كره الصلاة إلى التنور وإلى بيت نار.

لا شك أن المسألة التوجه إلى ما يعبده غير المسلمين لا شك أن فيه تشبه بهم، فإن كان الإنسان مختارًا ذاكرًا عالمًا فإنه لا يسوغ له، ولا ينبغي أن يتوجه إلى مثل هذه الأمور، وإن كانت صلاته خالصة لله -عز وجل-، ويتحرَّج كثير من الناس من المدافئ الكهربائية فيقول: كيف نصلي إليها وهي نار تُحرِق؟ لكنها تختلف عن النار، بلا شك أنها تختلف اختلافًا كبيرًا، وهي في الحقيقة ليست بنار، نعم يصدر منها الدفء لكنها ليست بنار ذات لهب كالنار التي تُعبَد من دون الله التي يعبدها المجوس.

أيضًا أحيانًا توضع المدخنة المبخرة التي فيها الطيب وهي فيها نار، أمام المصلين إذا انتهوا من التطيب نعم ينبغي ألا تكون في قبلة المصلين، لكن إذا وضعها شخص وإنسان في صلاته وإزالتها...، يعني وضَعها شخص وإنسان يصلي بغير طوعه واختياره وصارت في قبلته، وإزالتها من قِبَله يخل بصلاته فإن ذلك لا يضره -إن شاء الله تعالى-.

الموضع الثالث: كتاب الأذان، باب رفع البصر إلى الإمام في الصلاة، قال: حدثنا إسماعيل، قال: حدثني مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن عباس -­رضي الله عنهما- قال: "خسفت الشمس على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فصلى، فقالوا: يا رسول الله رأيناك تتناول شيئًا في مقامك، ثم رأيناك تكعكعت".

كتاب الأذان، باب رفع البصر إلى الإمام في الصلاة، قال القسطلاني: مطابقة الحديث للترجمة في قوله: "رأيناك تكعكعت" رفع البصر إلى الإمام في الصلاة كيف يعرفون أنه تكعكع؟ إذا رفعوا أبصارهم إليه، ولذا يقول القسطلاني: مطابقة الحديث للترجمة في قوله: "رأيناك تكعكعت" لأن رؤية تكعكعه -عليه الصلاة والسلام- تدل على أنهم كانوا يراقبونه -عليه الصلاة والسلام-.

المقدم: هذا في الصلاة.

هذا في الصلاة نعم.

المقدم: لكن علاقته بالأذان؟

الباب باب الأذان أو كتاب الأذان دخل فيه كثيرٌ من أبواب الصلاة، والروايات تختلف في هذا، كما سيأتي في كتاب الصلاة -إن شاء الله تعالى-، يدل على أنهم كانوا يراقبونه -عليه الصلاة والسلام-، قال ابن حجر: موضع الترجمة قوله: "رأيناك تكعكعت" ويحتمل أن يكون مأخوذًا من قوله: "فأشار بيده قِبَل قِبْلَة المسجد" فإن رؤيتهم الإشارة تقتضي أنهم كانوا يراقبون أفعاله.

قلت: لكن يطرق هنا احتمال أن يكون سبب رفع بصرهم إليه وقوع الإشارة منه، لا أن الرفع كان مستمرًّا، يعني لما أشار رفعوا أبصارهم.

ويحتمل أن يكون المراد بالترجمة أن الأصل نظر المأموم إلى موضع سجوده؛ لأنه المطلوب في الخشوع إلا إذا احتاج إلى رؤية ما يفعله الإمام ليقتدي به مثلاً، نعم قد يحتاج المأموم النظر إلى الإمام، لا سيما إذا كان لا يسمع صوتًا مثلاً، إذا بَعُد عن الإمام مثلاً يحتاج إلى أن ينظر غيره، إذا كان أصم لا يسمع يحتاج إلى أن ينظر، وتحصيل مصلحة تمام الصلاة، والإتيان بها على الوجه المطلوب أولى من تحصيل النظر، مصلحة النظر إلى موضع السجود، وإن كان أقرب إلى الخشوع.

الموضع الرابع: كتاب الكسوف، باب صلاة الكسوف جماعة، قال: حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن عباس قال: "انخسفت الشمس على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-... فذكر الحديث بطوله، والمناسبة ظاهرة، "انخسفت الشمس على عهد رسول الله فصلى..." إلى آخره، وهو صلى بهم جماعة، ولذا قال: كتاب الكسوف، باب صلاة الكسوف جماعة.

الموضع الخامس: كتاب بدء الخلق، باب صفة الشمس والقمر، قال: حدثنا إسماعيل بن أبي أويس، قال: حدثني مالك عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن عبد الله بن عباس قال: قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله» فذكر الحديث مختصَرًا، والمناسبة ذِكْر الشمس والقمر، وأنهما آيتان من آيات الله، وهذه من أوصافهما، وأن من أوصافهما أنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فالمناسبة لباب صفة الشمس والقمر ظاهرة.

الموضع السادس: كتاب النكاح، باب كفران العشير، وهو الزوج، وهو الخليط من المعاشرة، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف، قال: أخبرنا مالك عن زيد بن أسلم عن عبد الله بن عباس أنه قال: "خَسَفَت الشمس على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" فذكره مطولاً، وفيه قال: «يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان» والمناسبة ظاهرة، يكفرن العشير، والباب باب كفران العشير وهو الزوج، والكتاب كتاب النكاح، ومناسبة الزوج للنكاح ظاهرة، ومناسبة كفران العشير للباب أظهر.

والحديث أيضًا مخرَّج في صحيح مسلم، فالحديث متفق عليه.

السائل: أحسن الله إليك هذا ما فيه تكرار للترجمة التي في كتاب الإيمان؟ كفران الشعير التي في النكاح كتاب النكاح؟

نعم، لكن وإن كان ظاهرها التكرار إلا أنها سيقت في كتاب الإيمان للفظ الكفر «كفران»، وسيقت في كتاب النكاح للفظ العشير، فالمناسب للإيمان كفران، والكفر ضد الإيمان، والمناسب للنكاح العشير الذي هو الزوج ظاهر أو ليس بظاهر؟

السائل: بلى -عفا الله عنك-.

كفران العشير -أحسن الله إليك- ألا يقال: إنه من كبائر الذنوب بهذا اللفظ لو قالت المرأة لزوجها: «ما رأيت منك» أو بأي لفظ أو بأي فعل؟

لا شك أنه ما دام أُطلِق عليه الكفر وأنه موجب لدخول النار «أريت النار فإذا أكثر أهلها النساء، يكفرن» وفي رواية: «بكفرهن» هذا سبب من أسباب دخول النار، ومعروف أن السبب المنصوص عليه دخوله في النص قطعي، فهو سبب لدخول النار، وما دام سببًا لدخول النار فلا شك أنه من كبائر الذنوب، والله أعلم.

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

المقدم: أحسن الله إليكم ونفع بعلمكم.

أيها الإخوة والأخوات، انتهت حلقة هذا الأسبوع من برنامجكم: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح.

نلقاكم -بإذن الله تعالى- في حلقة قادمة وأنتم على خير.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.