شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح - كتاب الاعتكاف - 14

 

المقدم:

 

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمدلله، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد،،

فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلًا ومرحبًا بكم مستمعينا الكرام إلى هذا اللقاء الجديد فى برنامجكم شرح التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، هذا البرنامج الذي يُسعدنا أن نستضيف فيه معالي الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير- وفقه الله- عضو هيئة كبار العلماء، وعضو اللجنة الدائمة للإفتاء، الذي يُسعدني أن أرحب به في مطلع هذا اللقاء، فأهلًا وسهلًا بكم معالي الشيخ.

حياكم الله وبارك فيكم والإخوة المستمعين.

المقدم: وفيكم حفظكم الله، لا يزال الكلام موصولًا أيها الإخوة حول حديث عائشة– رضي الله عنها- قالت: «وإن كان رسول الله– صلى الله عليه وسلم- ليُدخِل عليَّ رأسَه وهو في المسجد فأرجّله، وكان لا يدخُل البيت، إلا لحاجة إذا كان معتكفًا».

الحمدلله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.

فيما يتعلق بالمسألة الأخيرة: وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة، إذا كان معتكفًا، هناك فروع لهذه الجملة (خروج المعتكِف من المسجد الذى يعتكف فيه)، وذكرنا شيئًا منها، وتتمةً لذلك، فيما ذكره النووي في المجموع في شرح المُهذّب، وذكرنا في مناسباتٍ كثيرة هذا الكتاب، وأنهُ من أنفس كتب الفقه الإسلامي المُقارِن، باعتباره كتاب فقه في الأصل، إلا أنه فيه النفس الحديثي، وفيه الكلام على الأحاديث، وعلى عِللها، وجرح رواتها وتعديلهم، فهو من خير ما يقتنيه، أو من أولى ما يقتنيه طالب العلم، ويهتم به، ولو كمُل هذا لكتاب، لكان فيه غُنية لطالب العلم؛ لأنه يذكر المذاهب بأدلتها، ويصحح ويضعف، ويجرح ويعدل.

والإمام النووي– رحمه الله- وإن كان فقيهًا، إلا أن له عناية بالحديث، تقارب أو توازي وتُعادل، إن لم نقل إنها تفوق عنايته بالفقه، ومع ذلك يُلاحظ عليه ما يُلاحظ من مسائل الاعتقاد، الأسماء والصفات، وما يتعلق باعتقاده الأشعري، لكن يبقى أنه في باب الفقه والحديث من أئمة هذا الشأن، كتابه هذا من أنفس ما يقتنيه طالب العلم، مثل ما ذكرنا إنه إن كان كتاب فقه، وله عناية بالأقوال، وفيه النفس الحديثي من الجرح والتعديل، وفيه أيضًا الفقه المقرون بشيءٍ من المسحة الوعظية، فليس من الفقه الجاف، كما فعله كثير مِمن صنّف في هذا الباب.

المقدم: مرد هذا إلى ماذا يا شيخ؟

طبيعة النووي– رحمه الله تعالى- طبيعة الرجل مع كونه عالمًا عابدًا، وظهر لعبادته أثر فى مصنفاته، حتى في كلامه على الرواة، تجد هذه المسحة، تجد النووي إذا تكلم في راوٍ عابد من العُباد، أفاض في ترجمته، وذكر من مناقبه ما لا يذكره غيره ممن همه الجرح والتعديل.

فترجمة النووي للراوي غير ترجمة ابن حجر، الذي يهمه (ابن حجر) ما يصحّح، ويضعّف الحديث، لكن النووي يهمه أن يبرز هذا العمل المتعلق بجانب العبادة، فتجده في التراجم تختلف تراجمه عن تراجم ابن حجر.

 في المجموع شرح المهذب فرعٌ: إذا كانت داره بعيدةً بعدًا فاحشًا، فإن لم يجد فى طريقه موضعًا كسقايةٍ أو بيت صديقٍ يأذن فيه، فله الذهاب إلى داره وجهًا واحدًا؛ لأنه مضطر إلى ذلك، ما في بديل مضطرٌ إلى ذلك، وإن وجد البديل كالسقاية أو بيت الصديق، وكان لا يليق به دخوله غير داره فله الذهاب إلى داره أيضًا بلا خلاف، وإلا فوجهان مشهوران حكاهما البندنيجي، والدارمي، والفوراني، وإمام الحرمين، والبغوي، والسرخسي، وصاحبا العُدة والبيان، وآخرون...

ذكروا الوجهين إذا كان ما عنده مشكلة، يليق به أن يدخل دار غيره، لكنه أنِف من أن يدخل، وكان من عادته أنه لا يأنف، لكنه أنف فله أن يدخل وله أن.. نأن

هذان وجهان، فله الذهاب إلى داره أيضًا، بلا خلاف، هذا إذا كان.

المقدم: دار الصديق أو السقاية أقرب من بيته.

نعم، إذا كان لا يليق به ذلك، فله الذهاب إلى داره، وإن كان يليق به ذلك، فوجهان مشهوران، يقول أصحهما: لا يجوز الذهاب إلى داره؛ لأنه يذهب جملة مقصودة من أوقات الاعتكاف في الذهاب والمجيء، وهو غير مضطرٍ إليهِ.

تصور أن داره كيلوات وهنا زحام في مثل هذه المواسم، ويحتاج إلى ساعة ذهاب، وساعة إياب أو أكثر، أصحهما: لا يجوز الذهاب إلى داره؛ لأنه يذهب جملةٌ مقصودة من أوقات الاعتكاف بالذهاب والمجيء، وهو غير مضطر إليه.

والثاني: يجوز يعني أن يذهب إلى داره؛ لأنه يشُق قضاء الحاجة بغير بيته، وهو الوجه، وهو ظاهر نص الشافعي.

 ثم قال: فرعٌ، قال أصحابنا: لا يشترط في الخروج لقضاء الحاجة، شدة الحاجة؛ لأن باعتبارها ضررًا بيّنا، ونقل إمام الحرمين اتفاق الأصحاب على هذا، لا يُشترط الخروج لقضاء الحاجة، شدة الحاجة، يعنى لا ينتظر حتى يزداد عليه الأمر، بحيث لا يطيق البقاء أكثر من هذه المدة، لا يشترط في الخروج لقضاء الحاجة، شدة الحاجة؛ لأن باعتباره ضررًا بينًا؛ لأنه قد يضر عليه، نعم، ونقل إمام الحرمين اتفاق الأصحاب على هذا؛ يعني وبالمقابل هل كل ما أحس بأدنى حاجة له أن يخرج؟

المقدم: لا.

بحيث يتردد على بيته مرارًا باسم الحاجة، والحاجة ليست داعية، بحيث لا يطيق البقاء معها، فلا هذا ولا هذا، المسألة بالتوسط.

فرعٌ قال أصحابنا: إذا خرج لقضاء الحاجة لا يُكلف الإسراع، بل له المشي على عادته، قال المُتولي: ويُكره له أن يُنقص عن عادة مشيه، يعني لا يسرع عن العادة، ولا يتريث (يتماوت).

المقدم: يطيل.

نعم، يتماوت من أجل أن يذهب الوقت؛ لأن بعض الناس يستثقل هذه العبادة، فيقضيها بمثل هذا، لا يكلف الإسراع، بل له المشي على عادته، قال المُتولي: ويُكره له أن يُنقص عن عادة مشيه؛ لأنه لا مشقة في تكليف المشي على العادة.

وفي فتح الباري قال: وفي الحديث: جواز التنظف، والتطيب، والغُسل، والحلق، والتزين، إلحاقًا بالترجل. يعني المعتكف له ذلك؛ يتنظف، ويتطيب، ويغتسل، ويحلق، ويتزين، إلحاقًا بالترجل، والجمهور على أنه لا يُكره فيه، إلا ما يُكره في المسجد؛ يعني الاعتكاف ليس لو وصف زائد على المسجد.

يعني ما يُكره للمعتكف أن يفعله في المسجد إلا ما يُكره لغيره. ولذلك قال: والجمهور على أنه لا يُكره فيه إلا ما يُكره في المسجد، وعن مالك: (تُكره فيه الصنائع، والحرف، حتى طلب العلم)؛ لأن الظرف ظرف عبادة خاصة: صلاة، ذكر، دعاء، تلاوة.

قال: وفي الحديث: استخدام الرجل امرأته في الصحيح في كتاب (الحيض)، في باب غسل الحائض غسل رأس زوجها وترجيله، قال- رحمه الله-: حدثنا إبراهيم بن موسى قال: أخبرنا هشام بن يوسف: أن ابن جريج أخبرهم قال: أخبرني هشام، عن عروة أنه سُئل: "أتخدمني الحائض، أو تدنو مني المرأة وهى جُنب؟ فقال عروة: كل ذلك علي هين".

وكل ذلك تخدمني، وليس على أحدٍ في ذلك بأس، أخبرتني عائشة: أنها كانت ترجل (تعنى رأس رسول الله–صلى الله عليه وسلم-) وهى حائض، ورسول الله– صلى الله عليه وسلم- حينئذٍ مجاور في المسجد، يُدني لها رأسه وهى في حجرتها، فترجله وهى حائض.

عروة استدل بالحديث على أن المرأة وإن كانت حائضًا، تخدم زوجها وتباشره، ما يكون من حائل، نعم، الحديث فيه استخدام الرجل امرأته بالنسبة لما جرت به العادة، بحيث لا يكلفها أكثر مما جرت به العادة، ولا ترفض أن تخدمه بما جرت به العادة، وهذه طريقة السلف.

فقد اشتكت فاطمة بنت الرسول– عليه الصلاة والسلام، رضي الله عنها وأرضاها- الكَلَف في المهنة، وطلبت منه– عليه الصلاة والسلام- أن يمنحها خادمة تُعينُها، فأرشدها إلى التسبيح، والتحميد، والتهليل، والتكبير، مما يدل على أن النساء يخدمن أزواجهن.

 وكذلك صنيع أسماء مع زوجها الزبير في مزرعته، وغير ذلك، هذا ما جرى عليه عمل الأمة سلفًا وخلفًا، لكن التوسط في هذا هو الأصل، وما جرت به العادة، لا تُكلف أكثر مما تُطيق، ومع ذلك تخدم زوجها ولا ترفض، وإن كان بعض أهل العلم يرى أنها لا تخدمه إلا فيما هو مقصود الأصل في النكاح الذي هو الفراش، لكن إذا نظرنا إلى عمل سلف هذه الأمة بدءًا من الصحابة، وبدءًا من نسائه–عليه الصلاة والسلام- فكن يخدمن أزواجهن من غير نكير، لكن بما جرت به العادة، ولا تُكلف ما لا تُطيق أو يشُق عليها.

المقدم: أحسن الله إليكم فضيلة الشيخ، ونفع بما قُلتُم، أيها الإخوة وبهذا نصل إلى ختام هذه الحلقة من برنامجكم التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، الذي سعدنا باستضافة معالي الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير- وفقه الله- عضو هيئة كبار العلماء، وعضو اللجنة الدائمة للإفتاء، فجزاه الله عنا خيرًا، ونفعنا بعلمه، إلى هُنا نصل إلى ختام هذه الحلقة، نلقاكم بإذن الله تعالى وأنتم بخيرٍ وعلى خير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.