التعليق على الموافقات (1433) - 17

يقول: ما رأيكم في طبعة كتاب الموافقات بتعليق الشيخ محمد الخضر حسين المطبوعة بالمطبعة السلفية؟

طبعة جيدة في الجملة، لكن الطبعة التي تليها وهي طبعة الشيخ محمد دراز أفضل منها وأكثر تعليقًا وتحقيقًا، وطبعة الشيخ الخضر حسين لا بأس بها، زين، وهي من الطبعات الأصلية المعتمدة التي اعتمد عليها كل من جاء بعده، وقد طبعها عن الطبعة التونسية، الطبعة هذه طبعة الخضر حسين مطبوعة عن الطبعة التونسية، الطبعة التونسية نادرة، لا تكاد توجد، وكذلك الطبعات الأخرى، لكن طبعة الشيخ الجديدة هذه طبعة أبي عبيدة مشهور طبعة جُمعت فيها محاسن الطبعات كلها، فهي نافعة، ويكتفي بها طالب العلم.

كتاب الإصابة الذي طُبع مع حاشية الاستيعاب هو طُبع أكثر من مرة، طُبع في مطبعة السعادة قديمًا بمصر، وعلى هامشه الاستيعاب، وطبع أيضًا بمطبعة الاستقامة وفي ذيل الصفحات كتاب الاستيعاب لابن عبد البر، ثم طُبع بمطبعة الكليات الأزهرية معه أيضًا الاستيعاب، وطبعة الاستقامة من أجودها.

 

هذا مر بنا في الموافقات في الدرس الماضي: الاستدلال بطلب موسى الرؤية من الله -جل وعلا- لما كلمه، وأن هذا من الاستحالة التي جاء الخبر عنها في كتاب الله وسنة نبيه -عليه الصلاة والسلام-، هذا أمر مستحيل، والاستدلال على ذلك بعدم سماع صوت المرأة فيه لَيّ للنص عجيب، واستدلال أو نوع من الاستدلال غريب.

هذا يقول: لعل الاستدلال الذي ذكره المؤلف عن بعضهم بقوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] على منع سماع المرأة، هو من جهة أن في الآية دلالة على أن من طبيعة الإنسان أنه إذا سمع كلام من هو محجوب عنه تطلع إلى رؤيته، فيؤخذ من ذلك منع سماع صوت المرأة؛ سدًّا لذريعة النظر إليها؟

أهل العلم يقررون أن الرواية عن النساء ومن ذلكم أمهات المؤمنين، أنه لا مانع منه إذا كان من وراء حجاب، ومنع منه شعبة، شعبة قال: لا تروي عن شخص لا تراه، لعله يكون شيطانًا وراء هذا الجدار وأنت ما تدري.

نعم.

طالب: الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه.

أما بعد، يقول المؤلف -رحمه الله-: "المسألة السابعة: العلوم المضافة إلى القرآن تنقسم على أقسام: قسم هو كالأداة لفهمه واستخراج ما فيه من الفوائد، والمعين على معرفة مراد الله تعالى منه، كعلوم اللغة العربية التي لا بد منها، وعلم القراءات، والناسخ والمنسوخ، وقواعد أصول الفقه، وما أشبه ذلك".

لأنه لا يستطيع أن يتعامل مع النص إلا بمعرفة هذه العلوم، ويشترط أهل العلم للمفسر شروطًا، أولها أن يكون عالمًا بهذه الأشياء: بلغة العرب، وأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، وغير ذلك مما يتطلبه التعامل مع النص من أصول الفقه، ومعرفة السنة وما يتعلق بها من علومها؛ لأن السنة مبيّنة للقرآن، فلا بد منها، ولا بد من معرفة ما يعين على ثبوتها من علوم الحديث.

طالب: "فهذا لا نظر فيه هنا. ولكن قد يُدعى فيما ليس بوسيلة أنه وسيلة إلى فهم القرآن، وأنه مطلوب كطلب ما هو وسيلة بالحقيقة، فإن علم العربية، أو علم الناسخ والمنسوخ، وعلم الأسباب، وعلم المكي والمدني، وعلم القراءات، وعلم أصول الفقه، معلوم عند جميع العلماء أنها معينة على فهم القرآن، وأما غير ذلك، فقد يعدُّه بعض الناس وسيلةً أيضًا ولا يكون كذلك".

قد يقول قائل: إن التاريخ لا بد منه للمفسر، لا بد من معرفة علم التأريخ للمفسر. وهذا له وجه؛ لأن الإخبار في القرآن عن الأمم الماضية، معرفة علم التاريخ يعين على فهم هذه الحوادث وهذه القصص.

 لكن ما الذي يُدخل علم الطب أو علم الهندسة أو علم الكلام أو الفلسفة في علم التفسير ويجعلونه مما يعين على فهم القرآن؟ لو قيل: إن هذه الأمور تصدّ عن القرآن: {انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ} [المرسلات: 30]، قال: هذا الهندسة، الهندسة تعين على فهمه، ما يعرف مثل هذا إلا مهندس!

{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31]، ما يمكن أن يفهم هذه الجملة إلا طبيب! ثم يقول: إن القرآن كله لا بد فيه من معرفة الطب والهندسة، حتى على سبيل تنزُّل هاتين الآيتين فيهما شيء من علم الهندسة على سبيل التنزُّل، هل يحتاج إلى الطب والهندسة في جميع القرآن؟ أبدًا.

علم الهيئة، يقول: ما يمكن أن تتفكر في السماوات والأرض إلا وأنت عندك علم من الهيئة والفلك، وإلا فكيف تستطيع أن تتفكر. الأعرابي الذي لا يقرأ ولا يكتب إذا اضطجع في فراشه، وليس بينه وبين السماء حجاب ونظر جعل يقلب نظره وبصره في السماء والأرض، وسعتها وما عليها وما فيها، ألا يستفيد من هذا النظر وهذا التفكُّر وهو لا يقرأ ولا يكتب؟ فكيف يقال: إن الذي لا يعرف علم الهيئة والفلك لا يمكن أن يفهم القرآن؟!

طالب: "كما تقدم في حكاية الرازي في جعل علم الهيئة وسيلةً إلى فهم قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق: 6]. وزعم ابن رشد الحكيم في كتابه"..

هل هذا يحتاج إلى هيئة أو شيء مما يتعلق بعلم الفلك؟ الله -جل وعلا- يخاطب أميين: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق: 6] تحتاج إلى علم فلك؟ واللهِ ما تحتاج إلى علم فلك، الذي يقول قائلهم بأمور مضحكة، عالم من علماء الفلك جاؤوا به في القنوات ويسألونه عن أمور، يقولون له: كيف تحدِّدون بالسنوات الضوئية ولا تحددون بالسنوات المعروفة عند الناس؟ يقول: لو حدّدنا بالسنوات المعروفة عند الناس ما وجدنا أوراقًا تحتمل الأصفار التي نريدها ونحدد بها، فثانية ضوئية يعدونها مسافة يقول: تصل إلى مكة وترجع بالثانية الضوئية، ما أدري كم مليون مرة!

الناس أعداء لما يجهلون، نحن لا نفهم هذا الكلام، لكن الأمر أهون من ذلك. القرآن أُنزل على أمة لا يقرءون ولا يكتبون، واستفادوا منه، وقادوا العالم به، فهل نحتاج إلى مثل هذا الكلام؟

سأل سائل: كم بقي على خراب العالم؟ قال: اثنين ونصف تريليون سنة! يعني قيام الساعة، وهي لا يعلمها إلا الله. هذا شيء سمعته أنا. قال: فما رأيك في بولان؟ قال: إمام من أئمتنا. قال: يقول: تقوم الساعة في ألفين واثني عشر، يعني بعد سنتين ونصف؛ لأنه في آخر سنة تسعة أو شيء من هذا. كم بينهم من صفر في التقدير؟ هذا سنتين ونصف، وهذا اثنين تريليون ونصف! قال: لكن فلان يقول: إنها تقوم سنة اثنتي عشرة؟ قال: هذا رأيه.

كلها أمور لا أساس لها، ولا دليل لها، ولا خطام لها، ولا زمام، ومع ذلك تُقرر على أنها علوم قطعية، ويعارض بها النصوص الشرعية، يعارضون «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته» بمثل هذه العلوم، يقول: إنها قطعيات، فكيف يُستدل بقول واحد بدخول شهر رمضان وقد يهم وقد يخطئ، وعلومنا قطعية لا تخطئ، يعني من ملايين السنين يمكن أن يحصل خطأ أو لا يحصل. نحن مطالبون بنص، بشرع، بدين نتدين به، أُمرنا أن نصوم لرؤيته وقد قال الثقة إنه رآه، انتهى الإشكال، هذه مقدمتنا شرعية، فنتيجتنا شرعية، ولا ننظر إلى ما وراء ذلك، ولسنا مطالبين بأكثر من هذا: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7]، والله المستعان.

طالب: "وزعم ابن رشد الحكيم في كتابه الذي سماه بفصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال، أن علوم الفلسفة مطلوبة، إذ لا يُفهم المقصود من الشريعة على الحقيقة إلا بها، ولو قال قائل: إن الأمر بالضد مما قال، لما بَعُدَ في المعارضة".

أن هذه الأمور، يعني لو قال قائل بضد ذلك، أن هذه الأمور تعوقه عن فهم الكتاب والسنة "لما بعُد"، وهذا هو الواقع، هذا هو الواقع.

طالب: "وشاهد ما بين الخصمين شأن السلف الصالح في تلك العلوم، هل كانوا آخذين فيها، أم كانوا تاركين لها أو غافلين عنها؟ مع القطع بتحقّقهم بفهم القرآن، يشهد لهم بذلك النبي والجمّ الغفير، فلينظر امرؤ أين يضع قدمه، وثَم أنواع أخر يعرفها من زوال هذه الأمور".

"زاول".

طالب: أحسن الله إليك. "وثَم أنواع أخر يعرفها من زاول هذه الأمور".

نعم. يعرفها، وثَم أمور أخرى يحتاجها المفسر، وأمور أخر ادُّعي أنها مما يحتاج إليه المفسر، وهي في الحقيقة عوائق عن فهم القرآن.

طالب: "وثَم أنوع أخر يعرفها من زاول هذه الأمور، ولا ينبئك مثل خبير، فأبو حامد ممن قتل هذه الأمور خبرةً، وصرح فيها بالبيان الشافي في مواضع من كتبه".

واقتحم غمراتها، وولج فيها ولوجًا بقوة، لكنه لم يستطع التخلص منها، بعد أن عرف أنها لا قيمة لها، فما استطاع أن يتخلص منها. يقول ابن العربي: شيخنا أبو حامد بلع الفلسفة، أو بلع الفلاسفة، يعني رؤساؤهم كلهم بما عندهم من علم، وأراد أن يتقيأهم فما استطاع. أمور خطرة جدًّا، يعني شبه تعلق بالقلوب، ما كلٌّ يوفق لاجتثاثها والتخلص منها.

طالب: .......

تاب وأناب، لكن هل استطاع أن يتخلص من الفلسفة؟ ما استطاع، حتى صرح أنه يموت على دين العجائز.

طالب: "وقسم هو مأخوذ من جملته من حيث هو كلام، لا من حيث هو خطاب بأمر أو نهي أو غيرهما، بل من جهة ما هو هو، وذلك ما فيه من دلالة النبوة، وهو كونه معجزةً لرسول الله ، فإن هذا المعنى ليس مأخوذًا من تفاصيل القرآن كما تؤخذ منه الأحكام الشرعية، إذ لم تنص آياته وسوره على ذلك مثل نصها على الأحكام بالأمر والنهي وغيرهما، وإنما فيه التنبيه على التعجيز أن يأتوا بسورة مثله، وذلك لا يختص به شيء من القرآن دون شيء".

أول ما تُحدوا بمثله، ثم بعشر سور، ثم بسورة، ولا أقل من ذلك، يعني ولو قصرت مثل سورة الكوثر. أما تحديهم بآية، فتقدم أنه لم يحصل ذلك؛ لأن من الآيات ما لا يمكن أو ما لا يعجز عنه المخاطب، مثل: {ثُمَّ نَظَرَ} [المدثر: 21]، وبقي أن هذه الآية: {ثُمَّ نَظَرَ} [المدثر: 21] في مكانها وفي موقعها بعد ما تقدم، وقبل ما سيأتي لا يمكن أن يقوم غيرها مقامها، وهذا وجه الإعجاز فيها.

طالب: "ولا سورة دون سورة، ولا نمط منه دون آخر، بل ماهيته هي المعجزة له، حسبما نبّه عليه قوله -عليه الصلاة والسلام-: «ما من الأنبياء نبي إلا أُعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيًا أوحاه الله إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعًا يوم القيامة»".

لأنه باقٍ إلى يوم القيامة، ومعجز إلى يوم القيامة، لكن معجزات الأنبياء انتهت بانتهائها، عصا موسى بقيت بعده؟

طالب: لا.

ما بقيت، وكذلك كل الآيات التي بهرت قومه، وكذلك الطب في عهد عيسى -عليه السلام- الذي آمن عليه من آمن من البشر بهذه المعجزة من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، لكنه انتهى بانتهائه. ولما كانت معجزة نبينا -عليه الصلاة والسلام- باقية إلى قيام الساعة حتى يُرفع في آخر الزمان، كان المتوقع أنه أكثر تبعًا، وهذا هو الواقع كما في حديث الإسراء.

طالب: "فهو بهيأته التي أنزله الله عليها دال على صدق الرسول -عليه الصلاة والسلام-، وفيها عجز الفصحاء اللُّسُن".

نعم.

طالب: بالضم أم ؟

"اللُّسُن".

طالب: "اللُّسُن والخصماء اللُّد عن الإتيان بما يماثله أو يدانيه، ووجه كونه معجزًا لا يحتاج إلى تقريره في هذا الموضع؛ لأنه كيفما تُصور الإعجاز به، فماهيته هي الدالة على ذلك، فإلى أي نحو منه مِلت، دلَّك ذلك على صدق رسول الله ، فهذا القسم أيضًا لا نظر فيه هنا، وموضعه كتب الكلام.

وقسم هو مأخوذ من عادة الله تعالى في إنزاله، وخطاب الخلق به، ومعاملته لهم بالرفق والحسنى من جعله عربيًّا يدخل تحت نيل أفهامهم، مع أنه المنزه القديم، وكونه تنزل لهم بالتقريب والملاطفة والتعليم في نفس المعاملة به، قبل النظر إلى ما حواه من المعارف والخيرات، وهذا نظر خارج عما تضمنه القرآن من العلوم، ويتبين صحة الأصل المذكور في كتاب الاجتهاد، وهو أصل التخلق بصفات الله والاقتداء بأفعاله".

فيما يمكن التخلق به والاتصاف به؛ لأن هناك صفات لا تليق بالمخلوق، فلا يجوز التخلق بها والاتصاف بها. أما ما يشترك فيه المخلوق مع الخالق، وكل له ما يخصه ويليق به من هذه الصفات، المخلوق مطالب بالرحمة، لكنه منهي عن أن يكون جبارًا متكبرًا، وهكذا. ولذلك "وهو أصل التخلق بصفات الله والاقتداء بأفعاله" ليس على إطلاقه.

طالب: "ويشتمل على أنواع من القواعد الأصلية والفوائد الفرعية، والمحاسن الأدبية، فلنذكر منها أمثلةً يستعان بها في فهم المراد؛ فمن ذلك:

عدم المؤاخذة قبل الإنذار، ودل على ذلك إخباره تعالى عن نفسه بقوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15]، فجرت عادته في خلقه أنه لا يؤاخِذ بالمخالفة إلا بعد إرسال الرسل، فإذا قامت الحجة عليهم {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]".

{فَلْيُؤْمِنْ} اللام لام الأمر.

طالب: "{فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] ولكل جزاء مثله. ومنها: الإبلاغ في إقامة الحجة على ما خاطب به الخلق، فإنه تعالى أنزل القرآن برهانًا في نفسه على صحة ما فيه، وزاد على يدي رسوله -عليه الصلاة والسلام- من المعجزات ما في بعضه الكفاية.

ومنها: ترك الأخذ من أول مرة بالذنب، والحلم عن تعجيل المعاندين بالعذاب، مع تماديهم على الإباية والجحود بعد وضوح البرهان، وإن استعجلوا به".

يعني وإن طلبوه من الله: {ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} [الأعراف: 77]، ولكن الله -جل وعلا- يمهل للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته.

طالب: "ومنها: تحسين العبارة بالكناية ونحوها في المواطن التي يُحتاج فيها إلى ذِكر ما يُستحى".

"يُستحيا".

طالب: "إلى ذِكر ما يُستحيا من ذِكره في عادتنا، كقوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43]، {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم: 12].

 وقوله: {كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ} [المائدة: 75]".

ومن لازم أكل الطعام.. لأنه ما هو بالذم في كونه يأكلان الطعام، لكن هذا كناية عما يترتب عليه.

طالب: "حتى إذا وضح السبيل في مقطع الحق، وحضر وقت التصريح بما ينبغي التصريح به، فلا بد منه، وإليه الإشارة بقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: 26]، {وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب: 53].

ومنها: التأني في الأمور، والجري على مجرى التثبت، والأخذ بالاحتياط، وهو المعهود في حقنا، فلقد أُنزل القرآن على رسول الله نجومًا في عشرين سنةً، حتى قال الكفار: {لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان: 32]، فقال الله: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان: 32]، وقال: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} [الإسراء: 106]. وفي هذه المدة كان الإنذار يترادف، والصراط يستوي بالنسبة إلى كل وجهة وإلى كل محتاج إليه، وحين أبى مَن أبى مِن الدخول في الإسلام بعد عشر سنين أو أكثر بُدئوا بالتغليظ بالدعاء، فشُرع الجهاد لكن على تدريج أيضًا، حكمةً بالغةً، وترتيبًا يقتضيه العدل والإحسان.

 حتى إذا كمل الدِّين، ودخل الناس فيه أفواجًا، ولم يبق لقائل ما يقول؛ قبض الله نبيه إليه وقد بانت الحجة، ووضحت المحجة، واشتد أُسُّ الدين، وقوي عضده بأنصار الله، فلله الحمد كثيرًا على ذلك".

أي لما قُبض النبي -عليه الصلاة والسلام- ما بقي من أمر الدين شيء إلا وبيَّنه ووضحه، أوضح المحجة، ونصح الأمة، وأدى الأمانة، فقبضه الله -جل وعلا- لتمام مهمته، وإكمال الدين. وقل مثل هذا في أتباعه: كل من وصل إلى المنزلة التي أُعدت له يقبضه الله -جل وعلا-، أتباعه على هديه ودينه ودعوته بالعلم والعمل، إذا بلغ المنزلة خلاص قيل له: قف، انتهى. والله المستعان.

طالب: "ومنها: كيفية تأدب العباد إذا قصدوا باب رب الأرباب بالتضرع والدعاء، فقد بيَّن مساق القرآن آدابًا استُقرئت منه، وإن لم ينص عليها بالعبارة، فقد أغنت إشارة التقرير عن التصريح بالتعبير، فأنت ترى أن نداء الله للعباد لم يأت في القرآن في الغالب إلا بـ(يا) المشيرة إلى بُعد المنادي؛ لأن صاحب النداء منزَّه عن مداناة العباد".

فهو مستوٍ على عرشه بائن من خلقه، ودعاؤهم له واحتياجهم إليه: {فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ} [البقرة: 186]، والغالب أن الدعاء من الخلق بدون (يا) التي تُشعر بنداء البعيد، فهو قريب، لكن في ندائه لهم: {يَا عِبَادِيَ} [العنكبوت: 56]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} [البقرة: 21]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 153]، إلى آخره.

طالب: "إلا بـ(يا) المشيرة إلى بُعد المنادي؛ لأن صاحب النداء منزه عن مداناة العباد، موصوف بالتعالي عنهم والاستغناء، فإذا قرر نداء العباد للرب، أتى بأمور تستدعي قرب الإجابة: منها:

إسقاط حرف النداء المشير إلى قرب المنادى، وأنه حاضر مع المنادي غير غافل عنه، فدل على استشعار الراغب هذا المعنى؛ إذ لم يأت في الغالب إلا (ربُّنا)".

"(ربَّنا)".

طالب: "إلا (ربَّنا) كقوله: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا} [البقرة: 286]، {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} [البقرة: 127]، {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي} [آل عمران: 35]، {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى} [البقرة: 260]".

كما جاء في آخر أو أواخر آل عمران، في آخر آل عمران: ربنا ربنا ربنا، تكرر ذلك خمس مرات، ثم قال: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ} [آل عمران: 195]، ولذا قرَّر جمع من أهل العلم منهم القرطبي وغيره: أن الداعي إذا دعا بهذه الصيغة (ربَّنا)، وكرَّرها خمس مرات، فإنه حري بالإجابة، والله المستعان.

طالب: "ومنها: كثرة مجيء النداء باسم الرب المقتضي للقيام بأمور العباد وإصلاحها، فكأن العبدَ متعلِّق بمن شأنُه التربية والرفق والإحسان، قائلًا: يا من هو المصلح لشؤوننا على الإطلاق أتم لنا ذلك بكذا، وهو مقتضى ما يدعو به، وإنما أتى اللهم في مواضع قليلة، ولمعانٍ اقتضتها الأحوال.

ومنها: تقديم الوسيلة بين يدي الطلب، كقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة: 5، 6]، {رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا} [آل عمران: 16]، {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ} [آل عمران: 53]، {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ} [آل عمران: 191]، {رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً} الآية [يونس: 88]، {رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ...} [نوح: 21] إلى قوله: {وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} [نوح: 28]، {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا} [البقرة: 127]. إلى غير ذلك من الآداب التي تؤخذ من مجرد التقرير، ومن ذلك أشياء ذُكرت في كتاب الاجتهاد في الاقتداء بالأفعال والتخلق بالصفات تضاف إلى ما هنا، وقد تقدم أيضًا منه جملة في كتاب المقاصد. والحاصل أن القرآن احتوى من هذا النوع من الفوائد والمحاسن التي تقتضيها القواعد الشرعية على كثير يشهد بها شاهد الاعتبار، ويصححها نصوص الآيات والأخبار.

وقسم هو المقصود الأول بالذِّكر، وهو الذي نبَّه عليه العلماء، وعرَفوه مأخوذًا من نصوص الكتاب منطوقها ومفهومها، على حسب ما أداه اللسان العربي فيه، وذلك أنه محتوٍ من العلوم على ثلاثة أجناس هي المقصود الأول: أحدها: معرفة المتوجه إليه، وهو الله المعبود سبحانه.

والثاني: معرفة كيفية التوجه إليه.

والثالث: معرفة مآل العبد ليخاف الله به ويرجوه".

نعم، "معرفة المتوجه إليه"؛ لأنه متى كان العبد بالله أعرف كان منه أخوف، ثم بعد ذلك كيف يتوجه إلى الله؟ وكيف يدعو الله؟ نعم. أن يعلم بما يدعو، وأن لا يدعو بما لا يجوز له الدعاء به من إثم أو قطيعة رحم، ثم بعد ذلك يعرف مآله، ويعرف أنه إن أطاعه فمآله الجنة، وإن عصى فمآله إلى النار، وبذلك يلتزم بالأوامر، ويجتنب النواهي.

طالب: "وهذه الأجناس الثلاثة داخلة تحت جنس واحد هو المقصود، عبر عنه قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]".

"المقصود" الذي هو الهدف من خلق الجن والإنس، وهو تحقيق العبودية لله -جل وعلا-. نعم.

طالب: "فالعبادة هي المطلوب الأول، غير أنه لا يمكن إلا بمعرفة المعبود؛ إذ المجهول لا يُتوجه إليه، ولا يُقصد بعبادة ولا بغيرها، فإذا عُرف -ومن جملة المعرفة به أنه آمر وناهٍ وطالب للعباد بقيامهم بحقه- توجه الطلب، إلا أنه لا يتأتى دون معرفة كيفية التعبد، فجيء بالجنس الثاني. ولما كانت النفوس من شأنها طلب النتائج والمآلات، وكان مآل الأعمال عائدًا على العاملين، بحسب ما كان منهم من طاعة أو معصية، وانجر مع ذلك التبشير والإنذار في ذكرها؛ أتى بالجنس الثالث موضحًا لهذا الطرف، وأن الدنيا ليست بدار إقامة، وإنما الإقامة في الدار الآخرة".

نعم. كل ينتظر، كل ينتظر دار القرار، وبقاؤه في هذه الدنيا يسير، وهي دار ممر وليست بمقر؛ ولذا لما قيل للإمام أحمد: لماذا لا تغير هذا النعل، كأنهم رأوه غير مناسب بالإمام؟ قال: نعل دون نعل حتى نصل إلى دار القرار. وبعض الشيوخ المعاصرين قيل له: لماذا لا تخرج عن هذا البيت وهو غير لائق بك؟ بيت رث وقديم وكذا؟ قال: ليس هذا هو البيت، نحن نعمر الآن بيتًا عسى الله أن يوصلنا بستر وسلامة، يعني القبر، والله المستعان.

طالب: "فالأول يدخل تحته علم الذات والصفات والأفعال، ويتعلق بالنظر في الصفات أو في الأفعال النظر في النبوات؛ لأنها الوسائط بين المعبود والعباد، وفي كل أصل ثبت للدين علميًّا كان أو عمليًّا، ويتكمل بتقرير البراهين، والمحاجة لمن جادل خصمًا من المبطلين. والثاني: يشتمل على التعريف بأنواع التعبدات من العبادات والعادات والمعاملات، وما يتبع كل واحد منها من المكملات، وهي أنواع فروض الكفايات، وجامعها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنظر فيمن يقوم به".

لأن الأمر بالمعروف أمر بالإتيان بالواجبات، والنهي عن المنكر نهي عن انتهاك المحرمات، فإذا تحقق الإتيان بالواجبات، وانتفى ارتكاب المحرمات تمت السعادة للفرد والمجتمع، نعم، بخلاف ما يُدعى إليه اليوم ويُتبنى من إضعاف للأمر بالمعروف، وتساهل في النهي عن المنكر، وهذا فيه واللهِ الفساد الذريع.

طالب: "والثالث: يدخل في ضمنه النظر في ثلاثة مواطن: الموت وما يليه، ويوم القيامة وما يحويه، والمنزل الذي يستقر فيه. ومكمل هذا الجنس الترغيب والترهيب، ومنه الإخبار عن الناجين والهالكين وأحوالهم، وما أداهم إليه حاصل أعمالهم. وإذا تقرر هذا تلخص من مجموع العلوم الحاصلة في القرآن اثنا عشر علمًا، وقد حصرها الغزالي في ستة أقسام؛ ثلاثة منها هي السوابق والأصول المهمة، وثلاثة هي توابع ومتممة.

فأما الثلاثة الأُوَل، فهي تعريف المدعو إليه، وهو شرح معرفة الله تعالى، ويشتمل على معرفة الذات والصفات والأفعال، وتعريف طريق السلوك إلى الله تعالى على الصراط المستقيم، وذلك بالتحلية بالأخلاق الحميدة، والتزكية عن الأخلاق الذميمة، وتعريف الحال عند الوصول إليه، ويشتمل على ذكر حالي النعيم والعذاب، وما يتقدم ذلك من أحوال القيامة.

وأما الثلاثة الأُخر، فهي تعريف أحوال المجيبين للدعوة، وذلك قصص الأنبياء والأولياء، وسره الترغيب، وأحوال الناكبين وذلك قصص أعداء الله، وسره الترهيب، والتعريف بمحاجة الكفار بعد حكاية أقوالهم الزائغة، وتشتمل على ذِكر الله بما يُنزَّه عنه، وذِكر النبي- عليه الصلاة والسلام- بما لا يليق به، وادِّكار عاقبة الطاعة والمعصية، وسره في جنبة الباطل والتحذير".

"التحذير".

طالب: "التحذير والإفضاح، وفي جنبة الحق التثبيت والإيضاح، والتعريف بعمارة منازل الطريق، وكيفية أخذ الأُهْبة والزاد".

نعم. "التعريف بعمارة منازل الطريق"؛ لأن الطريق طويل وشاق، ويحتاج إلى زاد، يحتاج إلى عمارة، الطريق لو تمشي في مفازة ليس فيها ما يعينك على قطع الطريق، فازة افترض آلاف الكيلومترات بدون بلدان وقرى وأشياء تمر عليها وفنادق وأشياء تشتري منها ما ينوبك وما تحتاج إليه، تتصور هذا الطريق أن تعيش؟ لا بد من التعريف بعمارة منازل الطريق، يعني إذا فتحوا خطًّا بين بلدين هو بمئات الكيلوات، مائتين ثلاثمائة خمسمائة، ووجد فيه محطات، يهمك هذا الطريق وتحتاط له وتأخذ معك الزاد الذي يكفيك والبنزين الذي يوصلك، فماذا عن الطريق الذي هو مفاوز كثيرة، وكله دحض ومزلة، تحتاج فيه إلى زاد يبلغك إلى المنازل الأخيرة؟

طالب: "ومعناه محصول ما ذكره الفقهاء في العبادات والعادات والمعاملات والجنايات، وهذه الأقسام الستة تتشعب إلى عشرة، وهي: ذِكر الذات، والصفات، والأفعال، والمعاد، والصراط المستقيم، وهو جانب التحلية والتزكية، وأحوال الأنبياء، والأولياء، والأعداء، ومحاجة الكفار، وحدود الأحكام".

اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك، اللهم صلِّ وسلم على البشير.

طالب: أحسن الله إليك.......

هكذا قال أهل العلم، والاستقراء يدل على هذا.

طالب: .......

هذا الاستقراء من نصوص الكتاب والسنة (ربنا)، وفي الحديث الصحيح حديث أبي ذر قال: «وذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه...»، إلى أن ذكر جميع الأسباب، «يديه إلى السماء: يا رب يا رب».

طالب: .......

نعم، لكن المانع موجود، فامتنعت الإجابة.

طالب: .......

نعم، هذا الأصل.