شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح - كتاب الصوم (عام 1426 هـ) - 05

 

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم.

 

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحبًا بكم إلى حلقةٍ جديدة في شرح كتاب الصوم من كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح.

مع مطلع هذه الحلقة يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير، فأهلًا ومرحبًا بكم فضيلة الدكتور.   

حياكم الله، وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين.

المقدم: لازلنا في حديث سلمة بن الأكوع –رضي الله عنه– في باب إذا نوى بالنهار صومًا، توقفنا عند وعد المستمعين بالنقل عن صاحب المفهم، لعلنا نستكمل ما تبقى، أحسن الله إليكم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

تقدم الكلام في شرح الحديث نقلًا عن أهل العلم، ومحاورات بينهم ومناقشات، وكان من آخر ما ذكرنا كلام الخطابي تعليقًا على الحديث في قوله: قلت صوم بعض النهار لا يصح، ولا يكون صومًا، وإنما هو استحباب، ومعناه: مراعاة حق الوقت الذي لو أدرك أوله لصامه. وهذا الكلام سبق في كلام الحافظ ابن حجر ومناقشة العيني له.

يقول: وقد يقدم المسافر في نصف نهار رمضان فيُمسك عن الطعام بقية النهار في رأي جماعة من العلماء؛ احترامًا للوقت، واحترازًا من الفتنة؛ لئلا يظن به ظن السوء.

ثم بعد ذلك النقل عن القرطبي، قال في المفهم: في حديث سلمة جواز إحداث نية الصوم في أضعاف النهار–يعني في أثنائه– ولا يلزم التبييت. وقد اختُلف في ذلك فذهب أبو حنيفة والثوري والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور إلى جواز ذلك في النفل، وخصَّ طائفةٌ منهم جواز ذلك بما قبل الزوال منهم الشافعي في أحد قوليه.

يعني: إذا صارت النية تشمل أكثر النهار، أما إذا كانت لا تشمل أكثر النهار بأن كانت بعد الزوال فلا تجزئ؛ لأن الحكم للغالب.

وخصَّ طائفةٌ منهم جواز ذلك بما قبل الزوال منهم الشافعي في أحد قوليه.

الحكم للغالب يعني: لو نظرَّنا بما ذكرنا سابقًا من إدراك ركعة من صلاة الصبح، فإذا صلى ركعة من صلاة الصبح في الوقت، ثم ضم إليها أخرى بعد خروج الوقت، بعد طلوع الشمس، فقد أدرك الصبح؛ الحديث يدل على هذا «من أدرك ركعة من صلاة الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح»، ثم أضاف إليها أخرى بعد طلوع الشمس يكون مدركًا للصبح، وتكون كلها قضاءً عند الأكثر، والنية تنعطف في مثل هذا.

هذا يمشي في صلاة الصبح باعتبار أنه أدرك نصف الصلاة، لكن في صلاة العصر: لو أدرك ركعة من صلاة العصر ثم غربت عليه الشمس، ثم أضاف إليها ثلاثًا بعد غروب الشمس، الأكثر بعد خروج الوقت، فمقتضى قول هؤلاء أنها لا تكون أداءً، وإنما تكون قضاءً، لماذا؟

المقدم: لأن أكثرها في غير الوقت.

لأن الحكم للغالب.

وخصَّ طائفةٌ منهم جواز ذلك بما قبل الزوال منهم الشافعي في أحد قوليه؛ لأن الحكم للغالب، فإذا قلنا بهذا، طردناه في صلاة العصر بالنسبة لمن أدرك ركعة قبل غروب الشمس يكون الحكم للغالب فتكون قضاءً مع أنه في الحديث نص «ومن أدرك ركعةً من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر» يعني: أدركها في وقتها، يعني أدرك وقت العصر، وحينئذٍ تكون أداءً لا قضاءً، ومقتضى هذا أنه لا يُفرَّق بين ما قبل الزوال وما بعده.

قد يُفهم من الحديث الذي يستدل به من يفرق بين النفل والفرض أن النبي –عليه الصلاة والسلام– كما في حديث عائشة عند مسلم، يدخل عليها متى؟ ضحى، فيقول: «هل عندكم طعام»، وفي بعض الروايات «هل عندكم غداء»، فإذا قالوا: لا. قال: «إني صائم».

ما وقع منه -عليه الصلاة والسلام- يدل على أنه قبل الزوال، فيستروح بهذا إلى مثل هذا القول، ولكن لو افترضنا أن شخصًا نام إلى قبيل الغروب، ما أكل، استغرق في النوم فلما انتبه قُبيل الغروب، قال: ما بقي على الغروب إلا ساعة أو نصف ساعة أو ما أشبه ذلك لماذا لا أنوي؟ إني صائم، فإذا أذَّن أفطرت، هل يثبت له الأجر؟

هو أولًا: نام عن الفرائض، نام عن صلاة الظهر، إذا افترضنا أنه ما نوى الصيام في أول النهار ويسوغ له ذلك، صلى الصبح على أساس أنه ليس بصائم، ثم نوى الصيام بعد ذلك، لكنه نام عن صلاة الظهر وعن صلاة العصر، هذا إذا كان مفرطًا في نومه عن الفرائض فمثل هذا يتجه القول بأن مثل هذا الصيام مردود على صاحبه، لكن إذا افترضنا أنه غير مفرط؛ معذور.

من يقول بالتفريق بما قبل الزوال وما بعده، يقول: أن مثل هذا الصيام لا يصح، ولا يعتبر صيامًا؛ لأن الحكم للغالب، والغالب أنه لم ينوِ، غالب النهار لم ينوِه.

والذي لا يفرق بين ما قبل الزوال وما بعده يتجه القول بمثل هذا.

يقول: وذهب مالكٌ، وابن أبي ذئب، والليث، والمُزني إلى أنه لا يصح صوم إلا بنيةٍ من الليل. وذهب الكوفيون إلى أن كل ما فُرض من الصوم في وقتٍ معين–يعني وقت محدد– فإنه لا يحتاج إلى تبييت النية، ومنه رمضان، ومنه أيضًا حديث الباب عاشوراء؛ لأنه فُرض في وقت محدد، لا يُتصور أن يصوم فيه المكلف غير صيام هذا اليوم.

يعني: رمضان هل يتصور أن يقضي فيه رمضان سابق أو يصوم فيه نذرًا أو تطوعًا؟ لا يمكن، لكن صيام عاشوراء محدد لهذا اليوم.

المقدم: ويتصور لغيره.

يُتصور قضاءً مثلًا.

المقدم: الاثنين والخميس.

الاثنين والخميس ما تعارض عاشوراء، لكن قضاء عن رمضان، في ذمته قضاء عن رمضان.

المقدم: تعارضه إذا كان فريضة مثله، يعني على حكم من يقول فريضة ولا كيف يا شيخ؟ ما المقصود بـ (تعارضه)؟

يعني: هل الوقت لا يصح فيه صيام غير عاشوراء؟ افترض أن عاشوراء الآن حكمه الندب، وأن الوجوب على القول به نُسخ. إذا أراد أن يصوم يوم عاشوراء فتذكر يومًا من رمضان، عليه قضاء، وقيل له: إن التنفل لا يصح ممن في ذمته فرض، فنوى القضاء، فيصلح الوقت هذا لعاشوراء ولغيره، فلا يطرد كلامه.

وذهب الكوفيون إلى أن كل ما فُرض من الصوم في وقتٍ معين فإنه لا يحتاج إلى تبييت نية، لماذا؟ لأنه لا يختلط بغيره، والنية إنما يميز بها بين الأمور المختلطة، فالذي لا يختلط بغيره ما يحتاج إلى نية، هذا كلامهم.

فإنه لا يحتاج إلى تبييت نية، ويجزئه إذا نواه قبل الزوال وهو قول الأوزاعي، وإليه ذهب عبد الملك بن ماجشون، ورواه عن مالك فيمن لم يعلم برمضان إلا في يومه.

وذهب مالك في المشهور عنه، والشافعي، وأحمد، وعامتهم إلى أن الفرض لا يجزئ إلا بنيةٍ من الليل، وهذا هو الصحيح، ثم ذكر حديث حفصة وعائشة «لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل».

فخلصنا بهذا إلى أن القول الراجح: التفريق بين الفرض والنفل، وأن النفل يصح من أثناء النهار، وأن الفرض لا يصح إلا بالتبييت قبل طلوع الفجر.

ترجم ابن خزيمة..

المقدم: لكن بقي يا شيخ ترجيح هل يصح في النفل ما بعد الزوال؟

هذه مسألة خلافية، والقول بأن الحكم للغالب له أصل في الشرع، لكن يبقى أنه يرِد على القول الحكم للغالب على صلاة العصر الذي أوردناه آنفًا.

ترجم ابن خزيمة في صحيحه: باب الدليل على أن النبي –صلى الله عليه وسلم– أراد بقوله: «لا صيام لمن لم يُجمع الصيام من الليل» الواجب من الصيام دون التطوع منه. وذكر حديث عائشة: أن النبي – صلى الله عليه وسلم– كان يأتيها فيقول: «هل عندكم غداء؟ وإلا فإني صائم»، ولم يثبت هذا في يوم من رمضان.

وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يتعلق بيوم عاشوراء من ذِكر فضله وسبب مشروعيته، حيث يذكره المؤلف إن شاء الله تعالى بعد ثلاثين حديثًا، المؤلف سيذكر ما يتعلق بعاشوراء بعد ثلاثين حديثًا، لكن قدَّم هذا القدر منه تبعًا للأصل؛ لأنه يتعلق بالنية، بنية الصيام، والنية شرط، والشرط يتقدم على المشروط، وصيام عاشوراء في الأبواب المتأخرة، لماذا؟ لأنه نفل، وصوم النفل بعد صوم الفرض وشرائطه، فهذا الترتيب مناسب جدًّا.

وحديث سلمة خرَّجه الإمام البخاري في ثلاثة مواضع:

الأول: هنا في كتاب الصوم في باب إذا نوى بالنهار صومًا.

قال: حدثنا أبو عاصم، عن يزيد بن أبي عُبيد، عن سلمة بن الأكوع– رضي الله تعالى عنه-، أن النبي– صلى الله عليه وسلم– بعث رجلًا ينادي في الناس يوم عاشوراء.. فذكره، والمناسبة ظاهرة : باب إذا نوى بالنهار صومًا، والنبي– صلى الله عليه وسلم– بعث رجلًا يوم عاشوراء، يكون في النهار، والمناسبة ظاهرة.

الموضع الثاني: في كتاب الصوم أيضًا في باب صيام يوم عاشوراء.

قال: حدثنا المكي بن إبراهيم، قال: حدثنا يزيد بن أبي عُبيد، عن سلمة بن الأكوع– رضي الله عنه– قال: أمر النبي– صلى الله عليه وسلم– رجلًا من أسلم أن أذِّن في الناس «أن من كان أكل فليصم بقية يومه.. » الحديث. والمناسبة أيضًا ظاهرة.

والموضع الثالث: في كتاب أخبار الآحاد، باب ما كان يبعث النبي –صلى الله عليه وسلم– من الأمراء والرسل واحدًا بعد واحد.

فالدلالة على حجية وقبول خبر الواحد ظاهرة من هذا، النبي– عليه الصلاة والسلام– بعث رجلًا من أسلم ينادي في الناس، ولولا أن خبره مقبول عندهم لما بعثه بمفرده.

قال: حدثنا مسدد، قال: حدثنا يحيى –وهو القطان- عن يزيد بن أبي عُبيد، قال: حدثنا سلمة بن الأكوع أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال لرجلٍ من أسلم: «أذِّن في قومك أو في الناس يوم عاشوراء أن من أكل ..» فذكر الحديث.

والمناسبة ظاهرة، وذلك في الرواية الأخرى أوضح، ففي حديث الباب المشروح: بعث رجلًا ينادي، وهنا قال للرجل من أسلم: «أذِّن»، فبعث، باب ما كان يبعث النبي –صلى الله عليه وسلم- من الأمراء والرسل واحدًا بعد واحد.

المقدم: ولماذا لم يسق نفس اللفظ هناك يا شيخ؟

يحيل على ما تقدم وما سيأتي. البخاري قد لا يورد اللفظ الصريح في موضعه، وإنما يورد اللفظ المحتمل، وقد أورد الصريح في موضع آخر؛ ليربط القارئ بما تقدم وما سيأتي، ويشحذ ذهن القارئ لكي يبحث بلا شك.

المقدم: لماذا أيضًا لم يورد نفس السند هناك؟ أليس هو الأقوى هذا السند؟ من العوالي كما تسمى، الثلاثي هذا.

هو أورده عاليًا وأورده نازلاً. 

المقدم: لمَ لمْ يورده في نفس الموضع؟ أليس هو الأقوى والأولى أم يورد سندًا آخر لسبب يا شيخ؟

هو لا يكرر حديثًا في موضعين إلا لفائدة، إما في المتن أو في الإسناد، ولو في صيغ الأداء، لكن لا يكرر لفظ حديث بسنده ومتنه باللفظ لا يتغير فيه شيء إلا في نحو عشرين موضعًا، وأشرنا إلى هذا الكلام مرارًا، وهذه من طريقة البخاري –رحمه الله-.

فمناسبة الحديث لكتاب أخبار الآحاد ظاهرة؛ لأنه بعث رجلًا، قال لرجل من أسلم (باب ما كان يبعث النبي– صلى الله عليه وسلم- من الأمراء والرسل واحدًا بعد واحد) وأرسلهم إلى الآفاق، إلى الملوك برسائله، يرسل واحدًا، ولو كان خبر الواحد غير مقبول ما أرسل واحدًا؛ لأن إرسال شخص لا يُقبل خبره عبث، مآله إلى الرد.

فدل على أن خبر الواحد مقبول، وهذا قول جميع من يُعتد بقوله من أهل العلم، ولم يخالف في ذلك إلا من خالف السنة كالمعتزلة وغيرهم.

والحديث خرَّجه الإمام مسلم، فهو متفقٌ عليه.

المقدم: قال– رحمه الله–: عن عائشة وأم سلمة –رضي الله عنهما– أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- كان يدركه الفجر وهو جُنب من أهله، ثم يغتسل ويصوم.

راوي الحديث أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق –رضي الله عنها-، تقدم التعريف بها مرارًا، كما يرويه أيضًا أم سلمة –أم المؤمنين- واسمها هند بنت أبي أُمية بن مغيرة المخزومية، تزوجها النبي –صلى الله عليه وسلم- بعد أبي سلمة سنة أربع، وقيل: ثلاث، وعاشت بعد ذلك ستين سنة، بعد زواجها عاشت ستين سنة- رضي الله عنها-.

وهذا الحديث ترجم عليه الإمام البخاري بقوله: باب الصائم يصبح جُنبًا.

الآن ماذا نفهم من الترجمة؟ هل نفهم منها أن البخاري يُصحح صيامه أو لا يصححه؟

المقدم: هو إذا أبهم مثل هذه الترجمة أكيد أن عنده رأي في المسألة.

باب الصائم يصبح جُنبًا، قال ابن حجر: أي هل يصح صومه أو لا؟ وهل يُفرق بين العامد والناسي، أو بين الفرض والتطوع؟ وفي كل ذلك خلاف للسلف، والجمهور على الجواز مطلقًا، والله أعلم.

يجوز، يصح صومه سواء كان عامدًا أو ناسيًا في الفرض والتطوع. وفي شرح العيني: أي هذا بابٌ في بيان حكم الصائم حال كونه يصبح جُنبًا هل يصح صومه أم لا؟ وأطلق الترجمة للخلاف الموجود فيه.

لكن هو يجزم أحيانًا بالحكم والخلاف أقوى من الخلاف الموجود في هذه المسألة، وهذا على سبيل التتبع ثابت، يجزم بالحكم والخلاف أقوى من الخلاف الموجود في هذا الحكم.

المقدم: لاختياره، لأنه اختار رأيًا معينًا؟

أي رجَّح نعم؛ لأنه رجح واختار، لكن مثل هنا: كأنه رجح أم لم يُرجح المسألة شبه محسومة، يعني: أبو هريرة أقوى من تزعم الخلاف رجع عن قوله، هذا ما سيأتي، فصار وجود هذا الخلاف كلا خلاف، وجوده مثل عدمه.

نأتي إلى عبارة ابن حجر وعبارة العيني:

ابن حجر يقول: أي هل يصح صومه أو لا؟ والعيني يقول: هل يصح صومه أم لا؟

أيهما المناسب: (أو)، (أم)؟

المقدم: هل يصح صومه أو لا؟

ابن حجر يقول: هل يصح صومه أو لا؟ والعيني يقول: هل يصح صومه أم لا؟

المقدم: أم يا شيخ كأنها الأقوى.

لا، العكس، منهم مَن لا يجيز أم بعد هل.

المقدم: أم مع الهمزة.

مع الهمزة.

                    وأم بها اعطف إثر همز التسوية      .....      أو همزة عن لفظ أي مغنية

أما هل ما يجيء بعدها أم، يجيء بعدها أو، إذًا عبارة ابن حجر أدق.

مع أنه جاء في الصحيح وتكلف الشراح الجواب عنه: هل تزوجت بكرًا أم ثيبًا؟ في حديث جابر. فقالوا: إن هذا من تصرف الرواة.

الذي لا يحتج بالحديث في قواعد العربية يقول: هذا من تصرف الرواة، والرواة فيهم المتأخر الذي لا يُحتج بقوله، وإلا فالأصل أن النبي –عليه الصلاة والسلام– حجة في هذا الباب.

المقدم: ورد؟

في حديث جابر في الصحيح: «هل تزوجت بكرًا أم ثيبًا؟».

فذهب الشراح يتكلفون الجواب، وقال بعضهم: إن هذا من تصرف الرواة، ليس من لفظه -عليه الصلاة والسلام-، وهذه فرع من المسألة الكبرى وهي الاحتجاج بالحديث في قواعد العربية.

مطابقة الحديث للترجمة في قوله: كان يدركه الفجر وهو جُنب، الترجمة: باب الصائم يصبح جُنبًا.

يُدركه الفجر يعني: يصبح، يصبح يعني: يدخل في الصبح، يقال: أصبح وأمسى إذا دخل في الصباح أو في المساء، وأنجد وأتهم كل هذا يدل على الدخول في الوقت والمكان.

والحديث ذكره البخاري مطولًا، وفيه قصة، قال: حدثنا عبد الله بن مسلمة –يعني القعنبي- عن مالك عن سُميٍّ مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة، أنه سمع أبا بكر بن عبد الرحمن قال: كنت أنا وأبي..

أقول: هذا الحديث ذكره البخاري مطولًا، وفيه قصة، ونصه كما قال الإمام البخاري، قال: حدثنا عبد الله بن مسلمة وهو القعنبي، عن مالك عن سُمي مولى أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام بن المغيرة، أنه سمع أبا بكر بن عبد الرحمن قال: كنت أنا وأبي حين دخلنا على عائشة وأم سلمة، ح حدثنا أبو اليمان كذا في البخاري – ح حدثنا؛ لأن هذه حاء التحويل من إسنادٍ إلى آخر، والأصل أن يُعطف عليه بالواو– وحدثنا أبو اليمان قال: أخبرنا شعيب عن الزهري، قال: أخبرني أبو بكر وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن أباه عبد الرحمن أخبر مروان أن عائشة وأم سلمة أخبرتاه أن رسول الله كان يدركه الفجر وهو جُنب من أهله ثم يغتسل ويصوم. وقال مروان لعبد الرحمن بن الحارث: أُقسم بالله لتُقرِّعنَّ بها أبو هريرة، لماذا؟

لأن أبا هريرة يرى أن من أصبح بها وهو جُنب لا يصح صومه، فلما سمع مروان هذا الحديث منسوبًا إلى أميّ المؤمنين (عائشة وأم سلمة) وهما أعرف الناس بهذا الشأن؛ لأنه هذه من الأمور التي تخفى إذا لم يُنطق بها.

فقال مروان لعبد الرحمن بن حارث: أُقسم بالله لتُقرعنَّ بها أبا هريرة، ومروان يومئذٍ على المدينة فكره ذلك عبد الرحمن.

كرِه ذلك عبد الرحمن أن يواجه صحابيًّا جليلًا حافظ الأمة بمثل هذا الكلام.

ثم قُدِّر لنا أن نجتمع بذي الحليفة، وكانت لأبي هريرة هناك أرض، فقال عبد الرحمن لأبي هريرة: إني ذاكرٌ لك أمرًا، ولولا أن مروان أقسم عليَّ فيه لم أذكره لك، فذكر قول عائشة وأم سلمة. فقال: كذلك حدثني الفضل بن عباس وهنَّ أعلم.

لكن هل نقول: إن هذا وهم من أبي هريرة أو وهم من الفضل أو أنه كان الحكم كذلك ثم نُسخ؟ يأتي الكلام في هذا كله.

المقدم: لكنه يقول: وكذلك حدثني الفضل بما قالت عائشة وأم سلمة ولا بقولٍ آخر؟

لا، بما يُفتي به. هو يُفتي بأن من أدركه الصبح وهو جُنب فصيامه باطل.

المقدم: كأنه قال: وكذلك حدثني به الفضل.

فقال: كذلك حدثني الفضل بن عباس وهنَّ أعلم.

المقدم: كأنه إشارة إلى أنه رجع، سمع من الفضل ما قالته أم المؤمنين؟

لا، الفضل يحدثه بأنه لا يصح صيام الجُنب، وسيأتي هذا كله.

وقال همام وابن عبد الله بن عمر، عن أبي هريرة: كان النبي –صلى الله عليه وسلم– يأمر بالفطر، والأول أسند كذا في البخاري.

قوله: "كان يدركه الفجر" أي: يطلع عليه الفجر الذي يمنع الأكل وسائر المفطّرات، "وهو جنبٌ من أهله" أي: من جماع أهله، ففيه حذف المضاف.

وفي روايةٍ: كان يصبح جُنبًا من جماعٍ غير احتلام. وفي روايةٍ: ثم يصوم ذلك اليوم.

قال القرطبي في المفهم: هذا يفيد فائدتين:

إحداهما: أن النبي –صلى الله عليه وسلم– كان يُجامع ويؤخر غُسله حتى يطلع الفجر؛ ليبين المشروعية-يعني ليبين الجواز، لا أن ذلك مشروع بمعنى أنه أفضل من المبادرة بالغُسل أنه مستحب أو واجب لا، إنما يبين جواز التأخير- ليبين المشروعية كما قال: «عمدًا فعلته يا عمر»، وقد يقال: إن هذا أفضل بالنسبة له –عليه الصلاة والسلام- ليسن لأمته، وإن لم يكن أفضل في حق غيره، لماذا؟

لأنه مشرِّع، ولو لم يقع منه مثل هذا لما عرفنا الحكم، كما قال: «عمدًا فعلته يا عمر».

وثانيهما: دفع توهم من يتوهم أن النبي –صلى الله عليه وسلم– كان يحتلم في منامه، فإن الحُلم من الشيطان، وقد عصمه الله منه.

وقال غيره فيما نقله ابن حجر: في قولها من غير احتلام إشارة إلى جواز الاحتلام عليه.

يعني: هذا يوافق فهم القرطبي؟ يعارض؛ القرطبي يقول: ثانيهما دفع توهم من يتوهم أن النبي –صلى الله عليه وسلم– كان يحتلم في منامه، فإن الحُلم من الشيطان، وقد عصمه الله منه. وقال غيره فيما نقله ابن حجر: في قولها من غير احتلام إشارة إلى جواز الاحتلام عليه وإلا لما كان للاستثناء معنى، يعني: ما احتاج أن يقال: من أهله من غير احتلام.

المقدم: لأنه ما يقع منه.

لأنه في الأصل ما يقع.

ورُدَّ بأن الاحتلام من الشيطان، وهو معصومٌ منه. وأُجيب بأن الاحتلام يُطلق على الإنزال، وقد وقع الإنزال بغير رؤية شيءٍ في المنام، وأراد بالتقييد بالجماع المبالغة في الرد على من زعم أن فاعل ذلك عمدًا يفطر، وإذا كان فاعل ذلك عمدًا لا يفطر فالذي ينسى الاغتسال أو ينام عنه أولى بذلك.

المقدم: أحسن الله إليكم، لعلنا نستكمل بإذن الله بقية أحكام هذا الحديث في لقاءٍ قادم وأنتم على خير.

أيها الإخوة والأخوات بهذا نصل وإياكم إلى ختام هذه الحلقة من شرح كتاب الصوم في كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح.

نستكمل بإذن الله هذا الحديث في الحلقة القادمة وأنتم على خير، شكرًا لكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.