كتاب الفتن من صحيح البخاري (06)

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

هذا سؤال يتعلق بالدرس الماضي، يقول: بناءً على شرح الأمس على فتنة مقتل عثمان -رضي الله عنه-، يتبادر على الذهن سؤال: أين الجيش الذي قاتل علي -رضي الله عنه- في موقعة الجمل؟ وكذلك في موقعة صفين عن حماية عثمان -رضي الله عنه- عندما حوصر في بيت الإمارة؟

أين الجيش الذي قاتل علي؟ قل: أين علي -رضي الله عنه-؟ إذا وقعت مثل هذه الفتن لا تسأل بـ(أين)، لا تسأل عن (أين) ولا بـ(أين) إذا وقعت الفتن، {لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً} [(44) سورة الأنفال] وإذا تيسر الأسباب أسباب الفتن فالخلاص منها وحسمها في غاية الصعوبة إذا بدأت، فهي تبدأ فتية شابة، ثم تنتهي عجوز هرمة، كما تقدم بالأمس، فليس لسائلٍ أن يقول: أين علي؟ أين طلحة؟ أين الزبير؟ أين عائشة؟ هذه فتن، أقول: هذه الفتن إذا بدأت صار الحليم حيراناً، صار الحليم حيران، حينئذٍ يصعب حلها، والخلاص منها، نسأل الله السلامة من الفتن ما ظهر منها وما بطن.

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: "باب: إذا أنزل الله بقومٍ عذاباً"، جوابه في الحديث: «أصاب العذاب من كان فيهم، ثم بعثوا على نياتهم».

يقول الإمام -رحمه الله تعالى-: "حدثنا عبد الله بن عثمان" العتكي المروزي المعروف بعبدان، يروي عنه باسمه ولقبه، قال: "أخبرنا عبد الله" ابن المبارك، قال: "أخبرنا يونس" وهو ابن يزيد الأيلي، قال: "أخبرني حمزة بن عبد الله بن عمر أنه سمع بن عمر -رضي الله عنه-" نعم؟

طالب: يونس عن الزهري.

نعم، "أخبرنا يونس عن الزهري قال: أخبرني حمزة بن عبد الله بن عمر أنه سمع بن عمر -رضي الله عنهما- يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إذا أنزل الله بقومٍ عذاباً»" يعني إذا عمهم الله بعذاب لظهور المعاصي، وفشوا المنكرات استحق الناس العذاب العام، نسأل الله العافية، كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام- في الحديث لما قيل له: "أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: «نعم، إذا كثر الخبث» وهؤلاء الصالحون يبعثون على نياتهم، يعمهم العقاب فيموتون مع الناس لكنهم يبعثون على نياتهم، فإذا جهر الناس بالمعاصي من غير نكير أصاب الجميع العذاب، ثم بعثوا على نياتهم، إن كانت صالحة هذه النيات فالعقبى صالحة وإلا فسيئة، فذلك العذاب طهرة للصالح، تكفير لما حصل منه من تفريط بالأمر والنهي، ونقمة على الفاسق.

أخرج ابن حبان والبيهقي عن عائشة -رضي الله عنها- مرفوعاً: «إن الله تعالى إذا أنزل سطوته بأهل نقمته وفيهم الصالحون قبضوا معهم، ثم بعثوا على نياتهم وأعمالهم» وفي السنن الأربعة من حديث أبي بكر -رضي الله عنه- سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعذاب» هذا يبين أهمية الأمر والنهي، وأن الله -سبحانه وتعالى- يرفع به العذاب، وأنه سبب تفضيل هذه الأمة وخيريتها، {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} لماذا؟ لأنكم عرب؟ لسببٍ واحد، {تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [(110) سورة آل عمران]، ولماذا لعن بنو إسرائيل؟ {كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ} [(79) سورة المائدة] هذا أمر في غاية الأهمية، حتى عده جمع من أهل العلم سادس الأركان الأمر والنهي، وهذه الفئة المكلفة بهذا الأمر الذين هم أهل الحسبة من قبل ولي الأمر لا شك أن الله -سبحانه وتعالى- يرفع بسببهم العذاب، لكن قد لا يسقط بهم الواجب لكثرة المنكرات، فيتعين على جميع من رأى منكر أن يغيره، ولا يعتمد على أهل الحسبة، كل شخص كل مسلم يتجه إليه الخطاب من المكلفين مكلف بقوله -عليه الصلاة والسلام-: «من رأى منكم منكراً فليغيره» التغيير لا بد منه، لكن على حسب القدرة والطاقة «بيده» مرتبة أولى «بيده» وهذا يستطيعه بالنسبة لعموم الناس ولاة الأمور، وبالنسبة لمن تحت اليد من النساء والذراري والأتباع يستطيع أن يغيره ولي الأمر الخاص، وما عدا ذلك ينتقل فيه إلى المرتبة الثانية وهي اللسان، على الإنسان أن يغير إن لم يستطع بيده فبلسانه، «فبلسانه» واللسان بالأسلوب المناسب بالطريقة التي لا تثير، ولا يترتب عليها منكر أعظم، يستطيع الإنسان أن يغير كثير من المنكرات، ولو تتابع الناس على الإنكار لما تتابع أهل المعاصي على عصيانهم، لخفت هذه المنكرات، بل انقطع دابرها، لكن تواطأ الناس على السكوت وهذه ضرائب السكوت، ينتشر المنكر بحيث يكون مما عمت به البلوى، لكن لو كان الأمر أول ما بدأ أنكر، ثم ظهر ثانية أنكر، وثالثة وهكذا، بحيث لا يراه مسلم إلا أنكره ما انتشرت المنكرات بهذا المستوى، ما ظهرت الفواحش إلى هذا الحد، وماذا نجني من المواطئة على السكوت؟ نجني العقوبة العامة، نسأل الله -جل وعلا- أن يلطف بنا.

«إذا أنزل الله بقومٍ عذاباً أصاب العذاب من كان فيهم» يعني من الصالحين وغيرهم، «ثم بعثوا على أعمالهم» كلٌ يبعث على ما مات عليه من نية وعمل.

والناس إزاء المنكرات على ثلاثة أقسام: كما بين الله -جل وعلا-، منهم من يقع في المنكر، ومنهم من ينكر، ومنهم من يسكت، {وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} [(165) سورة الأعراف] ولا شك أن المنكِر سالم، القسم الثالث الذي سكت يقول بعض السلف: أنهم سكتوا فسكت عنهم، {أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} [(165) سورة الأعراف] هؤلاء الذين ينهون، {وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} [(165) سورة الأعراف] بقي صنف ثالث وهم سكتوا، يقول بعض السلف: سكت عنهم، والصحيح أنهم هؤلاء الذين سكتوا مع القدرة على الإنكار ظلموا، هؤلاء الذين سكتوا مع القدرة على الإنكار مع الذين ظلموا؛ لأن عدم إنكار المنكر ظلم، فهم داخلون في الظالمين، الحديث فيه التحذير، التحذير الشديد، والوعيد الأكيد بالنسبة لمن سكت عن النهي فكيف بمن داهن؟! فكيف بمن رضي؟! فكيف بمن أعان؟! يعني يسر أسباب انتشار المنكر هذا أمره أعظم، هذا شريك، فكيف بمن برر وجود المنكرات؟! نسأل الله السلامة والعافية.

ثم بعد هذا يقول الإمام -رحمة الله عليه-: "باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم- للحسن بن علي: «إن ابني هذا لسيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين»".

يقول: "حدثنا علي بن عبد الله" يعني ابن المديني، قال: "حدثنا سفيان" هو ابن عيينة "حدثنا إسرائيل بن موسى أبو موسى" البصري، قال سفيان: "ولقيته بالكوفة" سفيان لقي إسرائيل بالكوفة، جاء إلى عبد الله بن شبرمة القاضي، قاضي الكوفة في خلافة أبي جعفر، "جاء إلى القاضي فقال له: أدخلني على عيسى" ابن موسى بن محمد ابن أخي المنصور، وكان أميراً على الكوفة إذ ذاك، يطلب من القاضي أن ييسر له الدخول على الوالي من أجل أيه؟ من أجل ينكر عليه -رحمه الله-، "فقال: أدخلني على عيسى فأعظه"، من أجل أن أعظه، أعظه منصوب وإلا مرفوع؟

طالب:.........

ها؟ فأعظه، منصوب بإيش؟

طالب:.........

نعم؟

طالب:.........

يصير مجزوم، لو وقع في جواب الطلب صار مجزوم، بـ(أن) الواقعة بعد (فاء) السببية المتعقبة للطلب.

"فكأن ابن شبرمة خاف عليه فلم يفعل" ما مكنه من الدخول على الأمير، خاف على إسرائيل من بطش عيسى؛ لأن إسرائيل كان -رحمة الله عليه- يصدع بالحق، فربما لا يتلطف في الوعظ، تحمله الغيرة على أن لا يبحث عن الأسلوب المناسب من غيرته فيبطش به عيسى لما عنده من حدة الشباب، وعزة الملك، فلم يفعل، قال إسرائيل: "حدثنا الحسن البصري" الكلام هذا في القرون المفضلة يا الإخوان، الكلام هذا متى؟ ما هو في آخر الزمان في القرون المفضلة، فعلى طالب العلم إذا أراد أن يأمر أو ينهى أو ينكر أو يعظ أو أراد أن يغير عليه بالأسلوب المناسب الذي لا يترتب عليه مفاسد، وليتوقع الأذى، هذا الطريق ليس بالأمر الهين، طريق الأنبياء، الأنبياء منهم من قتل، لكن قتل الأنبياء عظيم، وقرن معه قتل الذين ها؟

طالب:........

نعم، الذين يأمرون الناس بالقسط.

قال إسرائيل: "حدثنا الحسن البصري قال: لما سار الحسن بن علي -رضي الله عنهما- إلى معاوية - ابن أبي سفيان- بالكتائب" جمع كتيبة، طائفة من الجيش، وكان ذلك بعد قتل علي -رضي الله عنه-، "قال عمرو بن العاص لمعاوية: أرى كتيبة لا تولي" يعني لا تدبر، بل تثبت عند القتال "حتى تدبر أخراها" وهذا يختلف الشراح في معناه: حتى تدبر أخراها يعني خصومها، أو أنه يدبر آخر فرد منها، أو آخر مجموعة منها التي لا تطيق الثبات، وأما البقية يثبتون حتى يقتلوا، "قال معاوية لعمروٍ: من لذراري المسلمين؟" يعني إذا كان الأمر كذلك فمن لذراري المسلمين؟ ولا شك أن معاوية رجل عاقل داهية، يعني مع هذه الظروف التي يعيشها ظروف حرب يفكر بذراري المسلمين، فإذا قتل الآباء من للذراري من النساء والأطفال، وفيه اهتمام معاوية -رضي الله عنه- بذراري المسلمين، ولا يقول قائل: إذا كان فيه هذا العطف وهذا الحنو لماذا يدخل في هذه الحروب؟ هو يرى أنه على الحق، هو يرى أنه لا بد من المطالبة بدم عثمان، وإن كان رأيه مرجوحاً -رضي الله عن الجميع-، والراجح هو قول علي -رضي الله عنه- ورأيه، "فقال -عمرو-: أنا"، يعني أكفلهم، وهو بذلك يحرض معاوية على متابعة القتال، "فقال عبد الله بن عامر وعبد الرحمن بن سمرة: نلقاه" أي نلقى معاوية "فنقول له: الصلح" أي نطلب منه الصلح، "قال الحسن: ولقد سمعت أبا بكرة" نفيع بن الحارث "قال: بينا النبي -صلى الله عليه وسلم- يخطب جاء الحسن" يعني ابن علي "فصعد المنبر، فقال: النبي -عليه الصلاة والسلام-: «إن ابني هذا سيد»" والمراد بالابن ابن البنت السبط "«إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين»" طائفة الحسن وطائفة معاوية، وهكذا وقع، ففي الحديث علم من أعلام النبوة، وفيه أن السيادة لا تنال إلا بواسطة النفع العام، السيادة من كانت فيه مصلحة عامة للأمة يستحق أن يلقب بالسيد، لما حقن دماء المسلمين استحق هذا اللقب، فهذه مصلحة عامة، والآن يطلقون السيد على أنذل الناس وأرذلهم، كل الناس سيد، وبعض الناس يطبع الخطابات مطبوعة السيد جاهز، مع أنه جاء النهي عن إطلاق السيد على الفاسق، لا يجوز أن يقال للفاسق: سيد، متى استحق الحسن بن علي السيادة؟ «إن ابني هذا سيد» استحقها بهذا الأمر العظيم الذي حقن به دماء المسلمين، فمن نفع الناس نفعاً عاماً لا شك أنه يستحق السيادة.

ثم قال -رحمه الله-: "حدثنا علي بن عبد الله" ابن المديني، قال: "حدثنا سفيان" ابن عيينة "قال: قال عمرو:" وهو ابن دينار "أخبرني محمد بن علي" ابن الحسن بن علي المعروف بالباقر "أن حرملة مولى أسامة بن زيد أخبره قال عمرو -بن دينار-: وقد رأيت حرملة" يعني المذكور مولى أسامة بن زيد، يعني أدركته، رأيته يعني أدركته؛ ليؤكد أنه سمعه منه بغير واسطة، "قال: أرسلني أسامة" ابن زيد من المدينة "إلى علي" رضي الله عنه بالكوفة، يسأله شيئاً من المال، إيش العلاقة بين أسامة وعلي والحسن والحسين؟ أسامة بن زيد مولى وهؤلاء سادات الأمة، إيش العلاقة بينهم؟

طالب:........

نعم؟

طالب:........

بلى، وضع الحسن على فخذه الأيمن وأسامة على فخذه الأيسر، بينهما ارتباط ومولى القوم منهم، وأسامة حب النبي -عليه الصلاة والسلام- وابن حبه، فبينهم ارتباط وثيق.

"قال: أرسلني أسامة" يعني من المدينة إلى علي بالكوفة يسأله شيئًا من المال، "وقال" أسامة "إنه" يعني علياً "سيسألك الآن" عن إيش؟ هذا جالس بالمدينة أسامة بن زيد، وهذا مبتلى بحروب، ومرسِل يطلب مال، يعني بيسألك وينه؟ هذا يطلب مال لماذا لا يأتي للمساعدة؟ "وقال: إنه سيسألك الآن فيقول: ما خلف صاحبك؟" يعني عن مساعدتنا في الجمل وصفين وغيرهما، ما الذي خلفه؟ "فقل له: يقول لك: لو كنت في شدق الأسد لأحببت أن أكون معك" يعني موافقة تامة لعلي -رضي الله عنه-، "ولكن هذا أمر لم أره" لم يرَ القتال بين المسلمين، ولا يرى الدخول فيه، رأى أن هذه فتنة، قتال بين مسلمين ولا يريد أن يتلطخ بدمٍ مسلم مهما كان المبرر، وهذا بعد أن عاتبه النبي -عليه الصلاة والسلام- في قتل شخصٍ يقال له: مرداس بعد أن قال: لا إله إلا الله، «أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله؟» في الصحيح، «أقتلته بعد أن قال: لا إله إلا الله؟»، «أقتلته..؟» «ماذا تصنع بلا إله إلا الله؟» وهو من ذلك الحين ودماء المسلمين في نفس أسامة لها شأن عظيم، والأمر كذلك، ويبقى أن المسألة مثل ما ذكرنا، إذا لم تترجح كفة أحد الفريقين فالمتعين العزلة، إذا ترجحت بأن كان هناك إمام للمسلمين وجماعة، وأراد شخصٌ أو أشخاص ولو كان من خير الناس بتأويل سائغ أن يخرج على هذا الإمام الذي استتب له الأمر، ولزمت طاعته ولو كان من خير الناس، فإنه حينئذٍ لا بد من..، إذا لم يرضَ بالصلح {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [(9) سورة الحجرات] هذا المتعين، {فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} [(9) سورة الحجرات] فالبغاة يجب قتالهم، ولو ترك البغاة باعتبار أنهم مسلمون بحجة أنهم مسلمون ترك البغاة ما استتب أمن إطلاقاً، الملك كلٌ يريده، ولولا ما ورد في ذلك من النصوص التي تشدد في إراقة دماء المسلمين من جهة، وفي حفظ حق ولي الأمر؛ لحفظ حقوق المسلمين من جهة أخرى لما كان الأمر كما هو عليه الآن، الأمور مضبوطة ضبطاً متقناً في الشرع.

"فقل له: يقول لك: لو كنت في شدق الأسد لأحببت أن أكون معك" كناية عن تمام الموافقة، "ولكن هذا" يعني القتال بين المسلمين "أمرٌ لم أره، فلم يعطني شيئاً" علي -رضي الله عنه- في نفسه شيء، يعني يجلس بالمدينة ويطلب مال والناس في حروب؟! "فلم يعطيني شيئاً فذهبت إلى حسن وحسين" يعني لما بينهما من سابقة "وعبد الله بن جعفر فأوقروا لي راحلتي" من الثياب وغيرها، يعني حملوا الراحلة من العطاء لأسامة بن زيد.

ثم قال الإمام -رحمه الله تعالى-: "بابٌ: إذا قال عند قوم شيئاً ثم خرج فقال بخلافه".

قال: "حدثنا سليمان بن حرب" الواشحي، قال: "حدثنا حماد بن زيد" ابن درهم "عن أيوب" السختياني "عن نافع" مولى ابن عمر "قال: لما خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية جمع ابن عمر حشمه" جماعته الملازمين لخدمته، "حشمه وولده، فقال: إني سمعت النبي –عليه الصلاة والسلام- يقول: «ينصب لكل غادر لواء»" ليشهر به بين الخلائق "«يوم القيامة» وإنا قد بايعنا هذا الرجل" يزيد بن معاوية، "وإن قد بايعنا هذا الرجل على بيع الله ورسوله"، يعني على شرط ما أمر الله به ورسوله من بيعة الإمام، بايعنا، يزيد لا شك أنه صاحب فسوق، وليس على الجادة، رجل فاسق، لكن هل هذا مبرر لخلعه؟ لما خلع أهل المدينة يزيد له فجور وفسوق، فهل فسق الإمام مبرر لخلعه؟ وما النتيجة التي حصلت من جراء خلعه؟ ما النتيجة؟ تأتي النتيجة، أهل العلم يختلفون في لعن يزيد، الإمام أحمد في رواية: لا يرى بذلك بأساً، حتى قال له ابنه: لمَ لا تلعنه؟ قال: وهل رأيتَ أباك لعاناً، المقصود أن مثل هذا ما لم يرَ الكفر البواح لا مبرر شرعي للخروج، ولا مبرر شرعي للخلع.

"فقال: إني سمعت النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: «ينصب لكل غادرٍ لواء -يشتهر به- يوم القيامة» وإن قد بايعنا هذا الرجل -يزيد بن معاوية- على بيع الله ورسوله"، يعني على شرط ما أمر به من بيعة الإمام، "وإني لا أعلم غدراً أعظم من أن يبايع رجل على بيع الله ورسوله، ثم ينصب له القتال"، وفي المسند: "وإن من أعظم الغدر بعد الإشراك بالله -عز وجل- أن يبايع الرجل رجلاً على بيع الله ثم ينكث بيعه"، هذا من أعظم الغدر، نسأل الله العافية، "وإني لا أعلم أحداً منكم خلعه"، يعني من ولده وحشمه الذين سبقت الإشارة إليهم، "وإني لا أعلم أحداً منكم خلعه" يعني يزيد "ولا بايع أحداً في هذا الأمر إلا كانت الفيصل"، يعني مقاطعة بيني وبينه، ففيه وجوب طاعة الإمام الذي انعقدت له البيعة، على ما عنده من فسوق، وعلى ما عنده من فجور، وعلى ما عنده من ظلم، ما لم يرَ الكفر البواح، هذا الحد الفاصل، ومع رؤية الكفر البواح لا بد من القدرة على التغيير، وإلا إذا لم توجد القدرة عرضت دماء المسلمين للإهدار، وصاروا طعاماً للسيوف من دون فائدة، فإذا وجد الكفر البواح ووجدت القدرة على التغيير حينئذٍ غير، أما إذا لم يرَ الكفر البواح مهما بلغ من الفجور من الفسوق من الظلم، لا يجوز نزع الطاعة من يده، لا تجوز مخالفته إذا لم يرَ الكفر البواح، إذا رئي الكفر البواح ينظر أيضاً، يجوز الخروج عليه لكن مع القدرة.

ففي ذلك وجوب طاعة الإمام الذي انعقدت له البيعة والمنع من الخروج عليه ولو جار، وأنه لا يخلع بالفسق، ولننظر نتيجة ما ذكر من نقض بيعة يزيد، ما الذي حصل؟ يعني يزيد عنده فجور، عنده فسوق، ومولى على خيار الناس، على الصحابة والمهاجرين، من الصحابة من المهاجرين والأنصار يعني من بقي منهم، ما الذي حصل نتيجة هذا الخلع؟ ما ذكر من نقض البيعة من استباحة المدينة، استبيحت المدينة، وقتل من أخلاط الناس أكثر من عشرة آلاف، منهم جمعٌ من حملة القرآن، وجالت الخيل في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وذكر أن المدينة خلت من أهلها، وبقيت ثمارها للعوافي من الطير والسباع، وكان ذلك سنة (63هـ)، هذه نتيجة الخروج على الأئمة.

وكم من أمير تمنى الناس زواله، بل قام الناس عليه وأطاحوا به، فصاروا يبكون عليه أشد البكاء، في القديم والحديث، ولا يأتي زمانٌ إلا والذي بعده شرٌ منه، والله المستعان.

على كل حال مطابقة الحديث للترجمة من حيث أن الذي ينقض البيعة قال في الغيبة خلاف ما قاله في الحضور، الترجمة: بابٌ: إذا قال عند قومٍ شيء ثم خرج فقال بخلافه، عند القوم بايع، فلما خرج نقض البيعة هذه وجه المطابقة.

ثم قال الإمام -رحمه الله-: "حدثنا أحمد بن يونس" اليربوعي، قال: "حدثنا أبو شهاب" عبد ربه بن نافع الحناط "عن عوف" ابن أبي جميلة الأعرابي "عن أبي المنهال" سيار بن سلامة "قال: لما كان ابن زياد" يعني عبد الله بن زياد "ومروان" ابن الحكم "بالشام ووثب ابن الزبير بمكة" يعني خرج على يزيد "ووثب القراء بالبصرة"، القراء من هم؟ الخوارج، "ووثب القراء بالبصرة فانطلقت مع أبي" سلامة هذا أبو المنهال سيار بن سلامة يقول: "انطلقت مع أبي –سلامة- إلى أبي برزة -نضلة بن عبيد- الأسلمي حتى دخلنا عليه في داره وهو جالس في ظل علية" غرفة من قصب في يومٍ شديد الحر "فجلسنا إليه، فأنشأ بي يستطعمه الحديث" يستدرجه في الحديث، يستطعمه الحديث يطلب منه الحديث بالتدريج، "فقال: يا أبا برزة ألا ترى ما وقع فيه الناس؟ فأول شيء سمعته تكلم به: إني احتسبت عند الله أني أصبحت ساخطاً على أحياء قريش"، يعني على قبائلها، "إنكم يا معشر العرب كنتم على الحال الذي علمتم من الذلة والقلة والضلالة، وإن الله أنقذكم -من ذلك كله- بالإسلام وبمحمد -صلى الله عليه وسلم- حتى بلغ بكم ما ترون -من العزة والكثرة والهداية يعني خلاف ما تقدم- وهذه الدنيا التي أفسدت بينكم" إذ ذاك، "وهذه الدنيا التي أفسدت بينكم، إن ذاك الذي بالشام" يعني مروان بن الحكم، "والله إن يقاتل إلا على الدنيا"، يعني لما كان الاجتماع على الدين، والدنيا لا ينظر إليها لعلمهم بحقيقتها وأنها دار ممر، وأنها لا تستحق كل هذا النزاع والتشاحن، وأنها لا تعدل عند الله جناح بعوضة أموركم مستقيمة، مستقرة، "وهذه الدنيا التي أفسدت بينكم، إن ذاك الذي بالشام" يعني مروان "والله إن يقاتل إلا على الدنيا"، يعني لا يقاتل إلا على الدنيا، وجاء أيضاً في رواية أبي ذر: "وإن هؤلاء الذين بين أظهركم والله إن يقاتلون إلا على الدنيا، وإن ذاك الذي بمكة والله إن يقاتل إلا على الدنيا" يعني ابن الزبير، كلٌ منهم يقاتل يريد الحكم، والحكم لا شك أنه مطلبٌ من مطالب الدنيا، إلا إذا تعين على شخص وألزم به مثل هذا يرى أنه خدمة للدين وأهله، هذا لا يقاتل عن الدنيا، عمر بن عبد العزيز -رحمة الله عليه- مثله لا يقاتل على الدنيا، لكن في الجملة الملك من مطالب الدنيا، ومما يتوصل به إلى أغراض الدنيا.

فهذا الذي بالشام مروان بن الحكم يقاتل على إيش؟ "والله إن يقاتل إلا على الدنيا"، ابن الزبير الذي بمكة يقاتل على الدنيا يريد الملك، غيره الذين بين أظهركم بالمدينة وغيرها من القراء في البصرة كل هؤلاء يقاتلون على الدنيا، هذا من وجهة نظر أبي برزة.

الذي لم يدخل في مثل هذه الأمور قد لا يقدر حقيقة الحال على وجهها، هو حكم على هؤلاء أنهم يقاتلون من أجل الدنيا، وقد يكون فيهم من يقاتل لإحقاق حق، يعني إذا قلنا مثل هذا في ابن الزبير مثلاً، قد يقوله قائل في علي -رضي الله عنه- إن يقاتل إلا على الدنيا، قد يقوله في معاوية -رضي الله عنه-، مع أن كلاً منهم مجتهد في قتاله، ولذا لا يؤثّم بل يؤجر الفريقان لاسيما في مسألة علي ومعاوية -رضي الله عن الجميع-، نعم الإصابة مع علي، ومعاوية ومن معه مخطئون لكنهم لا يحرمون أجر الاجتهاد، هذا المقرر عند أهل العلم، ومع ذلكم الظاهر الذي يظهر للناس أن القتال من أجل الدنيا، كلٌ يريد الملك لنفسه، هذا الذي يظهر للناس، ولذا حكم أبو برزة على هؤلاء أنهم يقاتلون من أجل الدنيا، والله إن يقاتل إلا على الدنيا، يعني على ما ظهر له بالقرائن، وإلا فالنيات الله أعلم بها.

ووجه المطابقة للترجمة الذين عابهم أبو برزة كانوا يظهرون أنهم يقاتلون لأجل القيام بأمر الدين، كانوا يظهرون أن المقاتلة التي قاموا بها من أجل القيام بأمرِ الدين ونصر الحق، هذا الذي أظهروه وهم في الباطن إنما يقاتلون لأجل الدنيا، والترجمة: إذا قال عند قومٍ شيئاً ثم خرج فقال بخلافه.

يعني لو جاء مجموعة وثاروا على إمام استتب له الأمر، نعم هناك مبررات هناك تأويل سائغ، وهؤلاء يسمون في عرف الشرع إيش؟ بغاة، ثاروا على الإمام، وظاهر دعواهم أنهم يريدون إحقاق الحق، مع أنهم بغاة، يريدون إحقاق الحق هذا في الظاهر، والله أعلم بالبواطن، وقد يكونوا صادقين، وإنما يحكم عليهم بظواهرهم، أبو برزة لما ظهر له من القرائن التي دلته على أن خروجهم وقتالهم إنما هو من أجل الدنيا، وأيضاً الذي يريد الحق ليس هذا طريقه، أنت ممنوع من هذا العمل مهما كان المبرر، ما لم يرَ الكفر البواح، وإلا فأي فسقٍ يصل إلى حد فسق يزيد، وليس هذا بمبرر للخروج عليه كما تقدم في كلام ابن عمر وغيره، وإن اجتهد من اجتهد، وإن أراد الإصلاح من أراده، فمثل هذا لا يبرر ما لم يرَ الحد الذي حدده الشارع، ما لم يرَ الكفر البواح، الذي فيه من الله برهان، فوجه لومهم أنهم أظهروا أنهم يريدون القيام بأمر الله، وهم إنما أرادوا القتال لأجل الدنيا.

وذكرنا مراراً أن الشخص قد يطلب ما هو مباح في أصله، أو يعمل عملاً مباحاً في الأصل، كأن يهاجر، كأن ينتقل من بلد إلى بلد يريد التجارة يلام؟ ما يلام، بحث عن زوجة في هذا البلد ما وجد انتقل إلى بلد آخر يريد أن يتزوج يلام؟ ما يلام، وسيق في حديث الأعمال بالنيات على سبيل الذم: «من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه» قد يهاجر من أجل الدنيا، وقد يهاجر من أجل الزواج، ويؤجر على ذلك، والسياق في الحديث سياق ذم، لكنه إنما ذم؛ لأنه أظهر خلاف ما يبطن، أظهر للناس أنه هاجر لله، بحث عن زوجة ما وجد في هذا البلد، فأشاع في الناس أن هناك في البلد الفلاني أناس عباد أخيار يروح يتعبد معهم، وهو ما قصده هذا، قصده الزوجة، أشاع في الناس أن هناك من العلماء من يلازمهم، وهم أولى من غيرهم بالملازمة وأحق، وهو يريد التجارة، فإذا أظهر خلاف ما يبطن جاء الذم، وإلا فالأصل أن الهجرة من أجل المباح مباحة، وذكرنا مثال: لو أن شخصاً إذا بقي على أذان المغرب يوم الاثنين من كل أسبوع نصف ساعة، أخذ التمر معه والماء والشاي والقهوة وجاء إلى المسجد، وفل السماط وانتظر، الأكل في المسجد مباح ما فيه شيء، هو ما صام، فل السماط وكل من دخل اتفضل يا أخي اتفضل، وانتظر إلى الأذان لما أذن قال: بسم الله وأكل التمر، وهو ما صام، هذا يذم وإلا ما يذم؟ هذا يذم بلا شك، وإن كان الأصل الأكل مباح والأكل في المسجد ما فيه إشكال، لكن ترتيبه هذه الأمور ليدل على أنه..، ليظهر للناس أنه صائم، من هذه الحيثية يذم، وإلا فالأكل لا شيء فيه، والأكل في المسجد أيضاً مباح.

طالب:.......

خاصة إذا كان من الأخيار، يعني مثل ابن الزبير -رحمه الله-، إذا كانوا من أهل الفضل والخير، أبو برزة استدل بشيء وهو أنه وإن كان ظاهره الصلاح وقد نهي عن مثل هذا القتال؛ لأنه لم يرَ الكفر البواح، نهي عن مثل هذا القتال دل على أنه لا يريد الخير، هذا استنباط منه، فكونك منهي عن هذا القتال وتقاتل رغم أنك منهيٌ عنه شرعاً وتريد الخير هذا القرينة تدل على غير ذلك، وإلا ما يمنع أن يوجد أهل الغيرة والخير لا يعجبهم الوضع، ولا يصبرون على الضيم والظلم والأَثرة فيقول: نريد إحقاق الحق، لكن تريد إحقاق الحق من وجهه يا أخي لا من الوجوه التي نهي عنها، كلٌ يريد الخير، وكلٌ يريد الإصلاح لكن مع الوجوه الشرعية، والطرق المتاحة.

ثم قال الإمام -رحمه الله تعالى-: "حدثنا آدم بن أبي إياس"، قال: "حدثنا شعبة" ابن الحجاج "عن واصل" ابن حيان "الأحدب عن أبي وائل" شقيق بن سلمة "عن حذيفة بن اليمان قال: إن المنافقين اليوم شر منهم على عهد النبي -عليه الصلاة والسلام- كانوا يومئذ يسرون، واليوم يجهرون"، على عهد النبي -عليه الصلاة والسلام- يسرون الكفر، ويظهرون الإسلام، واليوم يجهرون، يسرون الكفر فلا يتعدى شرهم إلى غيرهم، واليوم يجهرون، وهذه سنة إلهية أنه إذا قوي الحق اختفى الباطل والعكس إذا ضعف الحق ظهر الباطل، فالمنافقون يخشون من سطوة الحق، يسرون، لكن إذا ضعف الحق برزوا ونجم النفاق.

"إن المنافقين اليوم شرٌ منهم على عهد النبي -عليه الصلاة والسلام-" كانوا يسرون يبطنون الكفر، فلا يتعدى شرهم إلى غيرهم، واليوم يجهرون، إذا جهر المنافق وش صار؟ إيش يصير؟ كافر، أيهما أعظم شراً المنافق وإلا الكافر؟ أيهم أعظم شر؟ المنافق شره على نفسه، نعم ضرره على نفسه أعظم، ولذا استحق أن يكون في الدرك الأسفل من النار، لكن الشر إذا ظهر وأعلن تعدى ضرره إلى الآخرين، فيجهرون بنفاقهم ويطعنون في الدين وأهله علناً، ولا شك أن هذا نتيجة ضعف الحق وأهل الحق، فاليوم يجهرون كانوا يسرون واليوم يجهرون، كانوا يسرون لقوة الحق، وضعف أهل النفاق في مقابل أهل الحق، واليوم لما ضعف الحق صاروا يجهرون به فيطعنون في الدين وأهله علناً، هذا كلامُ من؟ كلام حذيفة -رضي الله عنه-، وما أشبه الليلة بالبارحة، يطعنون في الدين وأهله علناً، وذلك لضعف الحق وأهله، وهذا قاله حذيفة متى؟ في القرن الأول، يعني فلا نستغرب أن يوجد مثل هؤلاء بين أظهرنا، لا نستغرب بعد هذه القرون، بعد أن طال العهد بالناس واندرس كثيرٌ من العلم، اندرست كثيرٌ من معالم الدين، وصار أمور الناس كلها موالاتهم ومعاداتهم ومؤاخاتهم كلها على أمر الدنيا، وإذا كان هذا ابن عباس يقوله في عصره في القرن الأول، ولقد صارت عامة مؤاخاة الناس على إيش؟ على أمر الدنيا، عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا في القرن الأول، فكيف بوقتنا؟ والله المستعان.

هؤلاء الذين كانوا يسرون ويبطنون كفرهم صاروا يعلنونه ويظهرونه، ويخرجون على الأئمة، ومطابقة الحديث للترجمة من حيث أن جهرهم بالنفاق، وشهر السلاح على الناس هو القول بخلاف ما بذلوه من الطاعة، بذلوا الطاعة بالبيعة، فخروجهم على الأئمة، وشهرهم السلاح في وجوه الناس هذا خلاف ما بذلوه علناً، حتى حين بايعوا من بايعوا أولاً وخرجوا عليه آخراً، قاله ابن بطال.

على كل حال كلام حذيفة ظاهر، وهو الواقع، وهو الجاري على مر العصور والدهور أنه إذا قوي الحق اختفى الباطل وأهله، وأخفى الناس ما عندهم من دخلٍ ودخن ودغل، فإذا ضعف الحق برزوا، وهما كفتان، والدنيا والآخرة ضرتان كما هو مقرر عند أهل العلم، لا شك أنه إذا رجحت كفة خفت الأخرى، والصراع أمرٌ لا بد منه، وطريق الجنة ليس بالأمر السهل، والجنة حفت بالمكاره، لا بد أن يجد الإنسان في طريقه شيء لكن إن صبر وصابر وترسم النصوص الشرعية، ورسم منهجه على مراد الله -عز وجل- مثل هذا يصل، وهو على الصراط المستقيم، لكن إن تخبط يوم كذا ويوم كذا ويوم..، هذا في الغالب لا ينجح لا في أمور دينه ولا دنياه.

ثم قال -رحمه الله-: "حدثنا خلاد" يعني ابن يحيى السلمي، قال: "حدثنا مسعر" وهو ابن كدام "عن حبيب بن أبي ثابت" الكوفي "عن أبي الشعثاء" سليم من أسود المحاربي، في أبو الشعثاء ثاني، اسمه إيش؟

جابر بن زيد، هذا أبو الشعثاء سليم بن أسود المحاربي "عن حذيفة بن اليمان قال: إنما كان النفاق" يعني موجوداً "على عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-" يعني لخفائه "فأما اليوم فإنما هو الكفر بعد الإيمان"، يعني الآن ما في نفاق خلاص، إذا جهر المنافق بكفره وأعلن كفره انتهى النفاق؛ لأن النفاق أن يبطن الإنسان خلاف ما يظهر، وهذا يظهر ويبطن شيء واحد، ما عنده شيء يخالف الظاهر الباطن، فصار كافراً، ولذا قال: "فأما اليوم فإنما هو الكفر بعد الإيمان"، يعني لظهوره.

ثم بعد هذا قال -رحمه الله-: "بابٌ: لا تقوم الساعة حتى يغبط أهل القبور"

معلوم أن الغبطة تمني مثل ما للغير من غير طلبٍ أو تمنٍ لزواله "حتى يغبط أهل القبور" وذلك حينما لا يكون للحياة حلاوة ولا طعم، يعني وجود الإنسان وعدمه، بل عدمه أفضل، وحينئذٍ يتمنى الموت، والمسلم إنما يتمنى الزيادة في العمر ليعمر هذه الأيام والليالي بما يرضي الله -عز وجل-، فإذا كان لا يتمكن من ذلك فالموت خيرٌ له، وإذا خشي أن يفقد ما هو أعظم من ذلك، قد يفقد رأس ماله من الفتن حينئذٍ يسوغ له أن يتمنى ذلك، وإلا فقد جاء النهي عن تمني الموت، «لا يتمنين أحدكم الموت لضرٍ نزل به» هذا في أمور الدنيا، لكن إذا خشي على دينه من الفتن، لا يصبر ولا يستطيع مقاومتها فإنه حينئذٍ يسوغ له ذلك؛ لأن طول الحياة إنما يطلب من أجل الزيادة والتزود، {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [(197) سورة البقرة]، إذا لم يتمكن من التزود أو خشي على رأس المال الذي هو الدين فلا قيمة للبقاء في هذه الحياة.

"لا تقوم الساعة حتى يغبط أهل القبور".

قال: "حدثنا إسماعيل" ابن أبي أويس، قال: "حدثني مالك" وهو ابن أنس "عن أبي الزناد" عبد الله بن ذكوان "عن الأعرج" عبد الرحمن بن هرمز "عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول: يا ليتني مكانه»"، أي: يا ليتني كنت ميتاً، وذلكم عند ظهور الفتن، وخوف ذهاب الدين لغلبة الباطل وأهله، فإذا خشي الإنسان على دينه ساغ له أن يتمنى الموت، وطلب الحياة وطول الأمل إنما يرجى لزيادة العمل، فإذا لم تكن زيادة العمل ممكنة فلا مانع من تمني هذا الموت.

ثم قال: "باب: تغيير الزمان" يعني عن حاله الأول "حتى يعبدوا الأوثان"، وفي رواية أبي ذر: "حتى تعبد الأوثان"، "حتى يعبدوا الأوثان" إعراب يعبدوا؟

طالب:.......

طيب منصوب بـ(حتى).

طالب:.......

ينصب بإيش؟ كذا؟ ينصب بحذف النون؟

طالب:.......

حتى يعبدَ الأوثان.

طالب: في واو؟

ما في، حتى يعبدوا، الآن الأفعال الخمسة... "حتى يقيموا" نعم.

طالب:.......

"حتى يعبدوا الأوثان"، والأوثان جمع وثن، والوثن معروف، مرَّ مراراً.

قال: "حدثنا أبو اليمان" وهو الحكم بن نافع، قال: "أخبرنا شعيب" بن أبي حمزة "عن الزهري قال: قال سعيد بن المسيب: أخبرني أبو هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" في رواية أبي ذر: "أن أبا هريرة قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول"، "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تقوم الساعة حتى تضطرب -يعني تتحرك- أليات نساء دوس» يعني عجائزهن، نساء دوس قبيلة أبي هريرة، هو دوسي من دوس، «على ذي الخلصة» وذو الخلصة طاغية دوس" أي صنمهم، "طاغية دوس التي كانوا يعبدون في الجاهلية" من دون الله -عز وجل-، فذو الخلصة طاغية دوس، يعني الصنم نفسه، أو موضعٌ ببلاد دوس فيه صنمٌ اسمه الخلصة، وعلى هذا الصنم الخلصة والموضع ذو الخلصة، يعني اللي في كتاب المغازي من الصحيح ما يؤيد أن ذا الخلصة المكان، وهنا الظاهر من اللفظ أن ذو الخلصة طاغية دوس، هل يستقيم أن نقول: ذو الخلصة طاغية دوس ونريد بذي الخلصة المكان والطاغية الصنم؟ يستقيم وإلا ما يستقيم؟ الآن طاغية دوس، ذو الخلصة طاغية دوس، الآن هذا طاغية خبر عن ذو؟ ذو الخلصة طاغية مبتدأ وخبر، فيكون ذو الخلصة هو الطاغية، وعلى هذا يكون هو الصنم، لكن إذا قلنا: ذو الخلصة طاغية دوس، جعلنا طاغية وصف للخلصة نفسها، أو بدل منها، بدل منها أو بيان، وحينئذٍ تتفق الرواية هنا مع التي في المغازي، لكن لا يوجد رواية بالجر من روايات الصحيح.

"طاغية دوس أي صنمهم التي كانوا يعبدون في الجاهلية"، وقد يطلق المحل ويراد به الحال والعكس، فلعل هذا منه، تغيير الزمان حتى يعبد الأوثان، هذا الحديث مناسب للشق الثاني من الترجمة وهو عبادة الأوثان.

ثم قال: "حدثنا عبد العزيز" يعني ابن عبد الله الأويسي، قال: "حدثنا سليمان" يعني ابن بلال "عن ثور" ابن زيد "عن أبي الغيث" سالم مولى عبد الله بن مطيع "عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه» هذا من تغيير الزمان، ووجه كونه تغييراً للزمان أن هذا الذي يسوق الناس بعصاه لكونه والياً عليهم، وهو من قحطان، والأصل أن الأئمة من قريش، فلا شك أن هذا فيه تغيير.

يقول القسطلاني نقلاً عن التذكرة للقرطبي: "لعل هذا الرجل هو الرجل الذي يقال له: الجهجاه"، القحطاني هذا يقال له: الجهجاه المذكور عند مسلم، وأصل الجهجهة: الصياح، تعقبه ابن حجر بأن هذا قحطاني، يعني من الأحرار، وذاك من الموالي، لا شك أنه غيره.

الآن أحاديث القحطاني التي جاءت فيه تدل على أنه ممدوح وإلا مذموم؟ «لا تقوم الساعة حتى يخرج رجلٌ من قحطان يسوق الناس بعصاه» إما أن يسوقهم إلى الحق أو يسوقهم عنه؟ الاحتمال قائم، ووجه إدخال المصنف لهذا الحديث في هذا الباب أن تولي غير قريش من تغيير الزمان، «الأئمة من قريش» جاء من طرق كثيرة جداً قد تبلغ حد التواتر حديث: «الأئمة من قريش»، ولابن حجر جزء أسماه: (لذة العيش في طرق حديث الأئمة من قريش) فهذا وجه التغيير، وهذا وجه إدخال الحديث في الباب، ثم بعد هذا: "باب خروج النار من أرض الحجاز".

"وقال أنس: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أول أشراط الساعة -يعني علامات قيامها- نار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب»، وهذا سبق موصولاً، «أول أشراط الساعة نارٌ تحشر الناس من المشرق إلى المغرب» هذه النار التي هي في حديث أنس هل هي النار التي خرجت من المدينة؟ الواردة في حديث أبي هريرة؟

طالب:.......

نعم؟ غيرها؛ لأن هذه التي في حديث أنس ما وقعت إلى الآن، وفي حديث أبي هريرة يقول الإمام -رحمه الله-: "حدثنا أبو اليمان" وهو الحكم بن نافع، قال: "حدثنا شعيب" ابن أبي حمزة "عن الزهري، قال سعيد بن المسيب: أخبرني أبو هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تقوم الساعة حتى تخرج -يعني تنفجر- نار من أرض الحجاز تضيء أعناق الإبل ببُصرى» وبُصرى بالشام، قريبةٌ جداً من حوران، بينها وبين دمشق ثلاث مراحل، بُصرى بلد ابن كثير وغيره من أهل العلم، «لا تقوم الساعة حتى تخرج نارٌ من أرض الحجاز -وهي ثارت من المدينة- تضيء أعناق الإبل ببُصرى» هذه حصلت سنة (654هـ) أربعة وخمسين وستمائة، يعني قبل سقوط بغداد بسنتين.

الحافظ ابن كثير -رحمه الله- أطال، أطال جداً في هذه النار وغيره من المؤرخين؛ لأنها فيها شيء من....، يعني وقعت على طبق ما أخبر به النبي -عليه الصلاة والسلام- بعد وفاته بستة قرون ونصف تقريباً، ستمائة وأربعة وخمسين.

طالب:.......

من النار؟

طالب:.......

لا، الحرة موجودة في عهد النبي -عليه الصلاة والسلام-، الحرة موجودة، الحرتان موجودتان في عهده -عليه الصلاة والسلام-، والحرة معروفة أنها الأرض تكسوها الحجارة السود، فهذا من أصلها.

يقول الحفاظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- في تأريخه كلام طويل للحافظ ابن كثير نقلاً عن أبي شامة وغيره بتاريخه عن هذه النار...

طالب:.......

ثم دخلت، نعم.

طالب: قال -رحمه الله-: "ثم دخلت سنة أربع وخمسين وستمائة فيها كان ظهور النار من أرض الحجاز التي أضاءت لها أعناق الإبل ببصرى كما نطق بذلك الحديث المتفق عليه، وقد بسط القول في ذلك الشيخ الإمام العلامة الحافظ شهاب الدين أبو شامة المقدسي في كتابه: (الذيل وشرحه) واستحضره من كتب كثيرة وردت متواترة إلى دمشق من الحجاز بصفة أمر هذه النار التي شوهدت معاينة، وكيفية خروجها وأمرها، وهذا محرر في كتاب: (دلائل النبوة) من السيرة النبوية، في أوائل هذا الكتاب، ولله الحمد والمنة.

وملخص ما أورده أبو شامة أنه قال: "وجاء إلى دمشق كتب من المدينة النبوية على ساكنها أفضل الصلاة والسلام بخروج نار عندهم في خامس جمادى الآخرة من هذه السنة، وكتبت الكتب في خامس رجب والنار بحالها، ووصلت الكتب إلينا في عاشر شعبان ثم قال.."

في شهر كامل من خامس جماد الآخرة إلى خامس رجب والنار بحالها، والله المستعان.

"ثم قال: بسم الله الرحمن الرحيم، ورد إلى مدينة دمشق في أوائل شعبان من سنة أربع وخمسين وستمائة كتب من مدينة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فيها شرح أمرٍ عظيم حدث بها، فيه تصديق لما في الصحيحين من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصرى» فأخبرني من أثق به ممن شاهدها أنه بلغه أنه كُتب بتيماء على ضوئها الكتب"

كم بين تيماء والمدينة؟ كم من تيماء إلى المدينة؟

طالب: 450 كيلو تقريباً.

إيه، لا بس عاد المسألة ما هو مع الخطوط، كُتبت الكتب على ضوء هذه النار التي خرجت من تيماء، وأبلغ من ذلك ما جاء في الحديث: «تضيء لها أعناق الإبل ببصرى» أبعد، أكثر من الضعف.

قال: وكنا في بيوتنا تلك الليالي، وكأن في دار كل واحد منا سراج، ولم يكن لها حر ولفح على عظمها، إنما كانت آية من آيات الله -عز وجل-"، قال أبو شامة: وهذه صورة ما وقفت عليه من الكتب الواردة فيها:

لما كانت ليلة الأربعاء ثالث جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة ظهر بالمدينة النبوية دوي عظيم ثم زلزلة عظيمة رجفت منها الأرض والحيطان والسقوف والأخشاب والأبواب ساعة بعد ساعة إلى يوم الجمعة الخامس من الشهر المذكور، ثم ظهرت نار عظيمة في الحرة قريبة من قريظة نبصرها من دورنا من داخل المدينة كأنها عندنا، وهي نار عظيمة إشعالها أكثر من ثلاث منارات.

يعني في الطول، لو جعل ثلاث منارات واحدة فوق الأخرى لكانت أعلى منها، لها أضواء تصاعدت إلى السماء أكثر من ذلك.

وقد سالت أودية بالنار إلى وادي شظا مسيل الماء، وقد مدت مسيل شظا وما عاد يسيل، والله لقد طلعنا جماعة نبصرها فإذا الجبال تسيل نيراناً، وقد سدت الحرة طريق الحاج العراقي، فسارت إلى أن وصلت إلى الحرة فوقفت بعد ما أشفقنا أن تجيء إلينا، ورجعت تسيل في الشرق، فخرج من وسطها سهود وجبال نيران تأكل الحجارة، فيها أنموذج عما أخبر الله تعالى في كتابه: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ} [(32-33) سورة المرسلات]، وقد أكلت الأرض، وقد كتبت هذا الكتاب يوم خامس رجب سنة أربع وخمسين وستمائة والنار في زيادة ما تغيرت، وقد عادت إلى الحرار في قريظة طريق عير الحاج العراقي إلى الحرة كلها نيران تشتعل نبصرها في الليل من المدينة كأنها مشاعل الحاج، وأما أم النار الكبيرة فهي جبال نيران حمر، والأم الكبيرة التي سالت النيران منها من عند قريظة، وقد زادت وما عاد الناس يدرون أي شيء يتم بعد ذلك، والله يجعل العاقبة إلى خير، فما أقدر أصف هذه النار.

الله أكبر، لا إله إلا الله ما أعظمه! وما أهون الخلق عليه إذا هم عصوه، هذه نار قد لا يكون لها سبب إلا غضب الجبار -جل وعلا-، فالله -سبحانه وتعالى- يغار إذا انتهكت محارمه، هذه نار تضيء تكتب عليها الكتب، علامة، علمٌ من أعلام نبوة محمد -عليه الصلاة والسلام-، فنخشى أن يعمنا بعقابٍ من نار أو بركان أو زلزال أو يسلط بعضنا على بعض لوجود هذه المنكرات التي عمت وصار إنكارها مما يصعب تصوره على كثيرٍ من الناس، والأمر يسير، لو تعاون الناس وتكاتفوا على الإنكار وتواطؤوا عليه، وتحملوا ما يصيبهم من سببه وجرائه، فعذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة، هذه نار أكثر من ألوف الكليوات تضيء أعناق الإبل هناك، أمره إذا أراد شيء أن يقول له: كن فيكون، أمرٌ يسير، يعني هزة خفيفة في الجزائر راح ضحيتها ألوف، ألوف مؤلفة، هزة يسيرة، وبعض المناطق مهدد، والله المستعان، قال أبو شامة، نعم.

قال أبو شامة: وفي كتاب آخر فظهر في أول جمعة من جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة، ووقع في شرقي المدينة المشرفة نار عظيمة بينها وبين المدينة نصف يوم انفجرت من الأرض وسال منها وادٍ من نار حتى حاذى جبل أحد، ثم وقفت وعادت إلى الساعة، ولا ندري ماذا نفعل؟ ووقت ما ظهرت دخل أهل المدينة إلى نبيهم -عليه الصلاة والسلام- مستغفرين تائبين إلى ربهم تعالى، وهذه دلائل القيامة.

المطلوب في مثل هذه الظروف والأحوال الفزع إلى الله -عز وجل-، فهو الكاشف لمثل هذه الأمور، ولا كاشف سواه، لا محمد -عليه الصلاة والسلام- أشرف الخلق ولا غيره، إنما يكشف هذه الأمور الله -عز وجل- ولا غيره.

قال: وفي كتاب آخر لما كان يوم الاثنين مستهل جمادى الآخرة سنة أربع وخمسين وستمائة وقع بالمدينة صوت يشبه صوت الرعد البعيد تارة وتارة، أقام على هذه الحالة يومين، فلما كانت ليلة الأربعاء ثالث الشهر المذكور تعقب الصوت الذي كنا نسمعه زلازل، فلما كان يوم الجمعة خامس الشهر المذكور انبجست الحرة بنار عظيمة، يكون قدرها مثل مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وهي برأي العين من المدينة نشاهدها وهي ترمي بشرر كالقصر، كما قال الله تعالى.

قطع، لهب، الله أكبر، لا إله إلا الله.

وهي بموضع يقال له: أجيلين، وقد سال من هذه النار وادٍ يكون مقداره أربع فراسخ، وعرضه أربعة أميال وعمقه قامة ونصف، وهي تجري على وجه الأرض، ويخرج منها أمهاد وجبال صغار، وتسير على وجه الأرض، وهو صخر يذوب حتى يبقى مثل الآنك، فإذا جمد صار أسود، وقبل الجمود لونه أحمر، وقد حصل بسبب هذه النار إقلاع عن المعاصي، والتقرب إلى الله تعالى بالطاعات، وخرج أمير المدينة عن مظالم كثيرة إلى أهلها.

هذه فوائد مثل هذه الأمور، هذه النذر التي يخوف الله بها عباده، لو عقلها الناس، لكن النذر لا تغني عن قومٍ لا يؤمنون، حتى أن أهل النار لو ردوا لعادوا، ومسخ القلوب لا حيلة معه، لا حيلة مع مسخ القلوب، تحصل الكوارث والزلازل والبراكين والفيضانات والحروب، ويعود الناس أسوأ مما كانوا -نسأل الله العافية-، {وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} [(101) سورة يونس]، وجاء في بعض الآثار أن الرجلين يمضيان لمعصية في آخر الزمان فيمسخ أحدهما خنزير، فماذا يصنع الثاني؟ هل يقول: الحمد لله على السلامة ويرجع؟ لا، يستمر إلى معصيته، ومسخ القلوب أعظم من مسخ الأبدان؛ لأن مسخ الأبدان عقوبة دنيا، ومسخ القلوب عقوبته آجلة في الآخرة، هؤلاء استفادوا، أقلعوا عن المعاصي، تقربوا إلى الله تعالى بالطاعات، والأمير أيضاً خرج عن المظالم. نأخذ شيء من القصيدة التي بعد ورقة.

قال -رحمه الله-: وقد قال فيها بعضهم أبياتاً:

يا كاشف الضر صفحاً عن جرائمنا
نشكو إليك خطوباً لا نطيق لها
زلازل تخشع الصم الصلاب لها
أقام سبعاً يرج في الأرض فانصدعت
بحرٌ من النار تجري فوقه سفنٌ
كأنما فوقه الأجبال طافيةٌ
ترمي لها شرراً كالقصر طائشة
تنشق منها قلوب الصخر إن زفرت
منها تكاثف في الجو الدخان إلى
قد أثرت سفعة في البدر لفحتها
تحدث النيرات السبع ألسنها
وقد أحاط لظاها بالبروج إلى
فيا لها آية من معجزات رسول
فباسمك الأعظم المكنون إن عظمت
فاسمح وهب وتفضل وامح واعف وجد
فقوم يونس لما آمنوا كشف العذاب
ونحن أمة هذا المصطفى ولنا
هذا الرسول الذي لولاه ما سُلكت فارحم وصل على المختار ما خطبت

 

لقد أحاطت بنا يا رب بأساء
حملاً ونحن بها حقاً أحقاء
وكيف يقوى على الزلزال شماء؟!
عن منظرٍ منه عين الشمس عشواء
من الهضاب لها في الأرض أرساءُ
موج عليه لفرط اليهج وعثاء
كأنها ديمة تنصب هطلاء
رعباً وترعد مثل السعف أضواء
أن عادت الشمس منه وهي دهماء
فليلة التم بعد النور ليلاء
بما يلاقي بها تحت الثرى الماء
أن كاد يلحقها بالأرض إهواء
الله يعقلها القوم الألباء
منا الذنوب وساء القلب أسواء
واصفح فكل لفرط الجهل خطاء
عنهم وعم القوم نعماء
منه إلى عفوك المرجو دعاء
محجة في سبيل الله بيضاء
على منبر الأوراق ورقاء

 

صلِ وسلم على عبدك ورسولك محمد.

"