التعليق على الموافقات (1430) - 15

 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

نعم.

أحسن الله إليك.

 الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد،  

فيقول المؤلف الإمام الشاطبي -رحمه الله تعالى-: "القسم الثاني من الكتاب: فيما يرجع إلى مقاصد المكلف في التكليف:

المسألة الخامسة: جلب المصلحة أو دفع المفسدة إذا كان مأذونًا فيه على ضربين: أحدهما ألا يلزم عنه إضرار الغير.

والثاني: أن يلزم عنه ذلك، وهذا الثاني ضربان:

أحدهما أن يقصد الجالب أو الدافع ذلك الإضراب كالمُرخِّص في سلعته؛ قصدًا لطلب معاشه، وصحبه قصد الإضرار بالغير.

 والثاني: ألا يقصد إضرارًا بأحد، وهو قسمان:

أحدهما أن يكون الإضرار عامًّا كتلقي السلع وبيع الحاضر للبادي والامتناع من بيع داره أو فدانه وقد اضطر إليه الناس لمسجد جامع أو غيره.

 والثاني أن يكون خاصًّا وهو نوعان: أحدهما: أن يلحق".

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد،

فقد جاء الشرع بجلب المصالح ودرء المفاسد، فمن كانت مصلحته محضة أو راجحة فهو مطلوب، وما كانت مفسدته محضة أو راجحة فهو مرفوض في الشرع، وهذه المصالح إما أن تكون مصالح عامة، لعموم المسلمين، أو خاصة بشخص بعينه، وكلاهما مطلوب إذا لم يعارض أو يعارَض ذلك بمفسدة سواءً كانت عامة أو خاصة، والمصلحة العامة مُقدَّمة في الشرع على المصلحة الخاصة، المصالح العامة مُقدَّمة في الشرع على المصالح الخاصة، وكثير من الناس قد يرتكب محظورًا على حدِّ زعمه أنه يُحقق مصلحة، يحقق مصلحة، وهذه المصلحة إن كانت تتعلق بعموم الناس فهذه له أن يجتهد في معارضتها بارتكاب المحظور الذي هو مفسدة، وإذا كانت خاصةً به، وكثيرٌ من الناس يلتبس عليه الأمر، فتجد بعض الناس في مسألة المزاحمة التي كثُر التشبث بها في هذا الزمان تجده يقول: أنا أتولى هذا العمل، وأقتحم غمرة هذه الجهة التي فيها ما فيها من محظورات؛ لأحقق مصالح عليا، لأحقق مصالح عليا، وعلى حدِّ زعمه وفيما يظهره للناس أنه يُحقق المصالح للأمة، لكن إذا تحققت وتبينتْ تجده في واقع الأمر يحقق مصلحته.

 قد يكون هناك من الأعمال ما تختلف فيه وجهات النظر، فمنهم من يحثُّ عليه، بناءً على أن المصالح موجودة، بغض النظر عن المفاسد، ومنهم من يُحذِّر منه؛ نظرًا إلى المفاسد المترتبة على اقتحامه في هذا العمل، مُنكِّبًا عن ذكر أو وجود المصالح التي قد تكون موجودة بالفعل، لذلك كثير من الناس يدخل في أعمال ينهاه عنها أهل التحري، ويأمره بها أهل الانفتاح الذين يرون أن المصالح لا بد أن تُحقَّق، وأن هذه الأمور إذا ما اقتحمها الأخيار وملئت بالأشرار زالت مصالحها بالكلية ومفاسدها موجودة، فالدخول في الانتخابات والبرلمانات وما أدري، والمجالس النيابية التي فيها ما فيها قد يُقرَّ فيها باطل، وأنت طرف في الباب، لكن قد تقول: إذا دخلت أنا بدلاً من أن يدخل غيري، أنا قد أحقق مصلحة للمسلمين، وعلى هذا جرت فتوى من أفتى، ويُذكر هذا عن شيخ الإسلام بأن للإنسان أن يعمل في المكوس إذا كان قصده التخفيف، تخفيف هذه المكوس على المسلمين، المكوس والضرائب مقررة بأرقام فاحشة، يقول: أنا أدخل في هذا العمل وبدلاً من يأخذ يأخذ غيري ألفًا، آخذ خمسمائة، يقول: أنت مأجور على هذه النية، لكن يبقى أنك عملت في مَكس، نسأل الله العافية.

 والشيخ محمد رشيد رضا -عفا الله عنا وعنه- سئل من قِبل بعض العلماء الهنود في وقت الاحتلال البريطاني للهند وقالوا: طُلبنا للقضاء، والقضاء معروف أنه على ضوء القانون البريطاني، لكن إذا دخلنا خففنا عن المسلمين، وقرّبناه إلى الشريعة، وإذا دخل غيرنا يطبق القانون بحذافيره، فحثّهم على ذلك؛ نظرًا إلى المصالح المترتبة على دخولهم في هذا، لكن هل هذا المنهج سليم؟

الآن نرى في الواقع من دخل بهذه النية وانجرف، فلا استطاع أن يحقق مصالح وتخوّض في المفاسد، على كل حال يوجد من أهل العلم من يحث على الدخول، ولا نعرف أحدًا من أهل التحري إلا وينهاه عن ذلك، ويقول له: على الإنسان أن يسعى في خلاص نفسه، قبل أن يسعى في خلاص غيره، قبل أن تدخل في هذه الأمور المشتبهة انظر هل تستطيع الخروج أم لا تستطيع؟

شخص يسأل يقول: والله أريد أن أدخل في دراسة القانون، أو آخر يقول: أنا أريد أن أدرس المنطق، لكي أطلع على كتب القوم، وأرد عليهم من كلامهم، كما فعل شيخ الإسلام، نقول: دخولك مُحقَّق وخروجك مظنون، فهل هذه المفسدة أو المصلحة تقاوم المفسدة المرتبة على ذلك؟ بحث الشيخ في هذه المسألة كله يدور حول هذا في المصالح والمفاسد، وأنت إذا حقَّقت مصلحة لنفسك وأنت مأمور بهذا، وترتب عليها مفسدة سواء كانت هذه المفسدة مقصودة أو غير مقصودة، ترتب عليها ضرر لغيرك، مقصود أو غير مقصود، عدلوه.

طالب:...

نعم؟

طالب:...

خامس واحد نعم.

طالب:...

أقول: هناك من يطلب المصلحة لنفسه، ولا يلام على ذلك، لكن قد يترتب على تحقيق هذه المصلحة مفسدة، وقد يقصد ذلك، وقد لا يقصد، أنت إذا تقدَّمت إلى المسجد، ووجدت مكانًا مريحًا وسبقت إليه وجلست، من حُرم من هذا المكان هو متضرر على كل حال، يعني لو سبقك لحصل له هذا المكان المريح، وارتفع عنه الضرر في المكان المقابل له، إذا تلقيت الجَلَب، إذا سبقت الناس، واشتريت سلعة، مُدِح كتاب مثلاً، وذهبت هرعت إلى المكتبات ما وجدت إلا نسخة واحدة، وطلاب العلم يبحثون، أنت حققت المصلحة لنفسك، لكن حرم منها غيرك، هذه لا يلام الإنسان بأي حال من الأحوال، بخلاف ما إذا كان عندك نسخة أو نُسخ من هذا الكتاب، وتعرف أن الطلاب في أمس الحاجة إليه، هذا تلام عليه.

 يقول -رحمه الله-: جلب المصلحة أو دفع المفسدة إذا كان مأذونًا فيه على ضربين: أحدهما ألا يلزم عنه إضرار الغير، جلب المصلحة، تذهب إلى المخبز، وتشتري خبزًا تدفع به الجوع عنك وعن أهل بيتك، وما ينتجه المخبز كافٍ للجماعة كلهم، ما يترتب عليه مفسدة، بوجه من الوجوه، لا يلزم عليه ضرر بالغير، لكن إذا ذهبت إلى المخبز، واشتريت قدر حاجتك مرتين أو ثلاثًا، ونقص عن الباقين فهذا ترتب عليه مفسدة، ألا يلزم عنه إضرار الغير، والثاني أن يلزم عنه ذلك، فإن كان مقصودًا أو غير مقصود، لا يجوز قصد الضرر، وإن كان غير مقصود فأنت ما أنت مسؤول عن حصول الضرر، هذا يحصل كثيرًا في الشفاعات، طالب ما قُبِل في الجامعة أو ما قُبِل في ديان الخدمة المدنية، تكتب له شفاعة، فيقبل بسبب شفاعتك، لكن يترتب على ذلك حرمان من هو أحقُّ منه، فهل يلتفت الشافع لمثل هذا الحرمان أو لا يلتفت؟ أو يقول: اشفع وتؤجر، والله أنا ما تعرضت لأحد، ولا تسببت لأحد، هذا غير مقصود، فلا يتردد الإنسان من الشفاعة إلا إذا كان المشفوع له غير كفء، فلا يجوز أن يغشُ به المسلمين، لكن إذا كان كفئًا، وأهلًا لهذا العمل أو لهذا القسم من أقسام العلوم ومن التخصصات بغض النظر عن غيره أنت تشفع وتؤجر، ألا يلزم عنه إضرار للغير هذا ما فيه إشكال.

 والثاني: أن يلزم عنه ذلك.

 وهذا الثّاني ضربان: أحدهما أن يقصد الجالب أو الدافع ذلك الإضرار كالمُرخِّص، أن يقصد الجالب أو الدافع ذلك الإضرار، كالمُرخِّص في سلعته قصدًا لطلب معاشه، يقصد الجالب دفع نفسه، ودفع الضرر عنها، لكن بغض النظر عن غيره، ويوجد في الأيام الأخيرة، يوجد أن يُرخِّص في سلعته بحيث يخسر من أجل الإسقاط، إسقاط من يعمل عمله، محل مواد غذائية أو كُتب، فتح محلًّا بين الكبار من أهل الصنعة، تكالبوا عليه، وأسبوع وهو مقفِّل، يضرون به، لأنهم يتحملون وهو ما يتحمل، وأيضًا المصادر تعينهم على شيء من هذا، هم يشترون بالتريلات، إذا اشتروا خمسًا أُعطوا سادسة مجانية، فتكون قيمة البضاعة أخف بكثير من شراء هذا المسكين الذي ما يشتري ولا نصف ترلة، ثم يضرون به، فيخرج من السوق، هذا لا شك في تحريمه.

 أما كونه يُرخِّص من أجل أن يكسب الزبائن من غير نظرٍ إلى غيره أو بحاجة ماسّة إلى ما يسمونه سيولة، مطالب بأموال، ويريد أن يصفي، هذا ما يُلام؛ لأنه لم يقصد الإضرار بالغير، كالمرخِّص في سلعته قصدًا لطلب معاشه، وصحبه قصد الإضرار بالغير.

والثاني ألا يقصد إضرارًا بأحد وهو قسمان: أحدهما أن يكون الإضرار عامًّا كتلقي السلع وبيع الحاضر للبادي؛ لأنه يضر بالناس كلهم هذا، ما يضر بشخص، نعم قد يضر بالشخص المتلقَّى، ويضر بعموم الناس في السوق.

 والامتناع من بيع داره أو فدانه، وقد اضطر الناس إليه لمسجد جامع أو غيره، الناس بحاجة ماسة في حي من الأحياء إلى مسجد، ورأوا أنسب ما في الحي هذا البيت، أو كان في الطريق، احتيج لتوسعة الطريق للناس، فقال لهم: والله ما أستطيع، أنا بيتي لا أستغني عنه، هذا يحتاجه الناس، ويُلزمه الإمام بهذا، يلزمه الإمام ببيعه؛ لأن المصلحة العامة مقدَّمة على المصلحة الخاصة.

والثّاني أن يكون خاصًّا وهو نوعان.

"والثاني: أن يكون خاصًّا، وهو نوعان: أحدهما: أن يلحق الجالب، أو الدافع بمنعه من ذلك ضرر فهو محتاج إلى فعله كالدافع عن نفسه مظلمة يعلم أنها تقع بغيره، أو يسبق إلى شراء طعامٍ، أو ما يحتاج إليه، أو إلى صيد، أو حطب، أو ماء، أو غيره عالمًا أنه إذا حازه استضر غيره بعدمه، ولو أخذ من يده استضر.

والثاني: أن لا يلحقه بذلك ضرر، وهو على ثلاثة أنواع: أحدها: ما يكون أداؤه إلى المفسدة قطعيًّا أعني القطع العادي".

الذي قد يتخلف، قطعيًّا، عادي وغالب على الظن يقرُب من القطعي، مثل لو حفر بئرًا وغطاها بما لا يمنع من السقوط فيها، حفر بئرًا وأتى بلوح خشبي خفيف جدًّا، وذرّ عليه شيئًا من الرمل بحيث صار لا يُدرى عنه، هذا الضرر قطعي، والمفسدة قطعية، كل من وقف على هذا اللوح يسقط، لكنه قد يتخلف، يتخلف بأن تكون الرجل الأولى قريبة من العزاء من حافة البئر، والثانية قريبة من الحافة الثانية فلا يسقط؛ لأن هذا اللوح كلما قرب مما يحمله يعطيه قوة، بخلاف ما لو وقف في الوسط، أو حفر بئرًا خلف الباب مباشرةً، خلف الباب مباشرة، هذا السقوط فيه قطعي، لكن قد يتخلف، يعني القطع العادي قد يتخلف بخلاف القطعي العقلي كما يقولون.

"كحفر البئر خلف باب الدار في الظلام بحيث يقع الداخل فيه بلا بد، وشبه ذلك. والثاني: ما يكون أداؤه إلى المفسدة نادرًا كحفر البئر بموضع لا يؤدي غالبًا إلى وقوع أحد فيه، وأكل الأغذية التي غالبها أن لا تضر أحدًا".

هذا البئر الذي يُحفَر ويُحتاط له، ويُغطى بالليل ولو كُشف بالنهار والناس مبصرون فهذا لا يقع فيه أحد إلا إن كان أعمى، ولذلك يقول: لا يؤدي غالبًا إلى وقوع أحد فيه.

"وأكل الأغذية التي غالبها أن لا تضر أحدًا وما أشبه ذلك".

طيب، وشخص عنده دواجن، وجاءت القطط وأكلتها، ثم جاء بدفعة ثانية، ووضع على السور أسلاكًا حديدية وشبكها بالكهرباء، لو اقترب منها إنسان هذا فيه ضرر، لكن باعتبار أن السور رفيع، نعم باعتبار أن السور رفيع هذا ما يؤذي أحدًا غالبًا إلا إذا كان إنسان مارًّا على شاحنة مرتفعة أو شيءٍ فالتمس بالسيارة أو شيء، بخلاف ما يقع من بعض اللصوص، يسرقون من المزارع الكيابل، كيابل الكهرباء، تمديدات، فجاء صاحب مزرعة وعكس الأسلاك بحيث كل من اقترب منها صُعِق، فجاء لص واقترب منها وحاول سرقتها فمات في مكانه، هذا كل من يمر به يحصل له هذا، أو من يحاول أن...، لكنه ما قصد الإضرار بغير هذا اللص الذي يستحق عقوبة، لكن لا يستحق قتل، يستحق عقوبة، لكن دون القتل، فهل يقاد به أو لا يقاد؟

طالب:...

ماذا؟

طالب:...

ماذا؟

طالب:...

لا شك أنه مُتَسبِّب أم مباشِر مُكلَّف؛ لأنه لو وُجِد مباشر مكلف انتقل الحكم إلى المباشِر وانتهى أثر التسبب، لكن إذا كان متسببًا، ولا يوجد مباشر مكلف فحكمه حكم المباشِر.

 وعلى كل حال مثل هذه المسائل اجتهادية، لكن هي تدخل في التسبب القطعي والتسبب النادر هنا.

"والثالث: ما يكون أداؤه إلى المفسدة كثيرًا لا نادرًا، وهو على وجهين: أحدهما: أن يكون غالبًا كبيع السلاح من أهل الحرب والعنب من الخمار، وما يغش به ممن شأنه الغش، ونحو ذلك."

نعم، لكن هذا من التعاون على الإثم والعدوان، بيع السلاح في حال الحرب حال الفتنة، ومن أهل الحرب هذا مضر بالمسلمين، فهو مُحرَّم، ويُذكر عن سفيان أنه قال: هو مالُك بعه ممن شئت، لكن هذا قول لا حظ له من النظر، ومثله بيع العنب ممن يتخذه خمرًا وهكذا.

والثاني: أن يكون كثيرًا لا غالبًا كمسائل بيوع الآجال، فهذه ثمانية أقسام: فأما الأول فباقٍ على أصله من الإذن، ولا إشكال فيه، ولا حاجة إلى الاستدلال عليه؛ لثبوت الدليل على الإذن ابتداءً.

وأما الثاني، فلا إشكال في منع القصد إلى الإضرار من حيث هو إضرار لثبوت الدليل على أن لا ضرر ولا ضرار في الإسلام، لكن يبقى النظر في هذا العمل الذي اجتمع فيه قصد نفع النفس، وقصد إضرار الغير: هل يمنع منه، فيصير غير مأذون فيه، أم يبقى على حكمه الأصلي من الإذن، ويكون عليه إثم ما قصد؟".

يعني هل يمكن أن تنفك الجهة أو لا يمكن؟ هل يقال: هو مأذونٌ له في الأصل، وممنوعٌ من قصد الإضرار، أو نقول: الجهة واحدة لا يمكن أن يُؤذن فيه ويُمنع منه في آنٍ واحد، علمًا أن الإضرار بالغير مُقدَّم على مصلحة النفس بحيث إذا تساويا يُمنَع، فلا يُمكن أن يُباح للشخص أن يقتُل إذا هُدِّد بالقتل إن لم يقتُل، حماية لنفسه وصيانةً لها، ولو أدى ذلك إلى قتله.

"هذا مما يتصور فيه الخلاف على الجملة، وهو جارٍ على مسألة الصلاة في الدار المغصوبة".

يعني على القول بانفكاك الجهة أو عدم انفكاك الجهة.

"ومع ذلك فيحتمل في الاجتهاد تفصيلاً: وهو أنه إما أن يكون إذا رفع ذلك العمل وانتقل إلى وجه آخر في استجلاب تلك المصلحة، أو درء تلك المفسدة حصل له ما أراد أو لا، فإن كان كذلك، فلا إشكال في منعه منه؛ لأنه لم يقصد ذلك الوجه إلا لأجل الإضرار، فليَنقل عنه، ولا ضرر عليه، كما يُمنَع من ذلك الفعل إذا لم يَقصِد غير الإضرار، وإن لم يكن له محيص عن تلك الجهة التي يستضر منها الغير فحق الجالب، أو الدافع مقدم، وهو ممنوع من قصد الإضرار، ولا يقال: إن هذا تكليف بما لا يطاق".

لأنه تكليف بالشيء ومنعٌ من ضده، فكيف يجتمع الضد مع ضده؟

"فإنه إنما كلف بنفي قصد الإضرار، وهو داخل تحت الكسب لا ينفي الإضرار بعينه. وأما الثالث: فلا يخلو أن يلزم مع منعه الإضرار".

مِن مِن.

"أن يلزم من منعه الإضرار به بحيث لا ينجبر أو لا، فإن لزم قُدِّم حقه على الإطلاق على تنازعٍ يضعف مُدركه عن مسألة التُّرس".

مِن.

"من مسألة التُّرس التي فرضها الأصوليون فيما إذا تترَّس الكفار بمسلم، وعلم أن الترس إذا لم يقتل استؤصل أهل الإسلام".

نعم إذا تترَّس العدو بمسلم أو بنساء المسلمين وذراريهم، أو بنساء الكفار الذين مُنعنا من قتلهن وصبيانهم، إذا تترسوا وصاروا يقتنصون المسلمين ويقتلونهم، ونحن نمتنع من قتلهم والردّ عليهم لوجود هذا التُّرس، فلا بد من النظر في المصلحة الراجحة أو المفسدة الراجحة، فإذا كان إبقاء التُّرس أرجح بمعنى أنهم لا يستطيعون القتل أو قتل شيءٍ يسير في مقابِل ترك هذا التُّرس فهذا يُقدَّم، وإذا كانت المفسدة راجحة بمعنى أن الكُفار يقتلون من المسلمين كيفما يشاؤون ونحن نمتنع لا نمتنع.

"وإن أمكن انجبار الإضرار ورفعه جملةً فاعتبار الضرر العام أولى، فيُمنع الجالب، أو الدافع مما هم به; لأن المصالح العامة مقدمة على المصالح الخاصة، بدليل النهي عن تلقي السلع، وعن بيع الحاضر للبادي، واتفاق السلف على تضمين الصناع مع أن الأصل فيهم الأمانة، وقد زادوا في مسجد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من غيره مما رضي أهله، وما لا، وذلك يقضي بتقديم مصلحة العموم على مصلحة الخصوص، لكن بحيث لا يلحق الخصوص مضرة".

لا بد من لحوق الخصوص مضرة، لا بد، وإلا ما تدخل تحت هذا التقسيم، لا بد من وجود المضرة، كونك تأخذ بيت فلان، من غير رضاه، من أجل توسعة شارع أو مسجد يحتاجه الناس، يتضرر به هذا، لكنها مضرة ومفسدة مغمورة في جانب مصالح العامة.

"وأما الرابع: فإن الموضع في الجملة يحتمل نظرين".

نعم؟

طالب:...

والله إذا كان رضاه قريبًا، إذا كان رضاه قريبًا بمعنى أن هذا البيت يستحق خمسمائة ألف، وقال: أنا لا أرضى إلا بستمائة فهذا قريب، لكن لو طلب أضعافًا، يُعطى قيمة المثل، لا يزاد عليه، نعم.

"وأما الرابع: فإن الموضع في الجملة يحتمل نظرين، نظر من جهة إثبات الحظوظ، ونظر من جهة إسقاطها، فإن اعتبرنا الحظوظ، فإن حق الجالب، أو الدافع مقدم، وإن استضر غيره بذلك; لأن جلب المنفعة، أو دفع المضرة مطلوب للشارع مقصود، ولذلك أُبيحت الميتة، وغيرها من المحرمات الأكل، وأبيح الدرهم بالدرهم إلى أجل للحاجة الماسة للمقرِض والتوسعة على العباد، والرطب باليابس في العريّة للحاجة الماسة في طريق المواساة، إلى أشياء من ذلك كثيرة دلت الأدلة على قصد الشارع إليها، وإذا ثبت هذا فما سبق إليه الإنسان من ذلك قد ثبت حقه فيه شرعًا بحوزه له دون غيره، وسَبْقُه إليه لا مخالفة فيه للشارع فصحّ، وبذلك ظهر أن تقديم حق المسبوق على حق السابق ليس بمقصود شرعًا إلا مع إسقاط السابق لحقه، وذلك لا يلزمه، بل قد يتعين عليه حق نفسه في الضروريات، فلا يكون له خيرة في إسقاط حقه؛ لأنه من حقه على بينة".

يعني مثل هذا الإيثار، الإيثار الأصل أن ما يسبق إليه الإنسان يكون أحق به، لكن إن آثر غيره فإن كان في أمور الدنيا مُدِح، وقد مُدِح الأنصار بذلك، وإن كان في أمور الدين والقربات لا، يُذَم إلا إذا ترتب على الإيثار مصلحة راجحة، ولو كان في القربات، أما في الواجبات فلا، الكلام في المندوبات إذا ترتب على الإيثار في هذا المندوب مصلحة راجحة يعني في فرجة في الصف الأول، وجاء شخص مع أبيه فإذا آثر أباه في ذلك فمصلحة البِرّ مقدَّمة على مصلحة سدّ هذه الفرجة في الصف الأوّل، وهكذا.

طالب: شيخ يقول: أبيح الدرهم بالدرهم في الأجل.

قرض، قرض الأصل أن يكون يدًا بيد.

طالب:...

أُبيح نعم.

طالب:...

يباح، القرض مباح بالإجماع، يعني كون زيد يحتاج إلى مئة ريال، ويذهب إلى عمرو يقول: أقرضني مئة ريال بمئة ريال ما تزيد ولا تنقص، هذا القرض، لكن الأصل أنها يد بيد.

"ومن حق غيره على ظن أو شك، وذلك في دفع الضرر واضح، وكذلك في جلب المصلحة إن كان عدمها يضر به. وقد سُئل الداودي: هل ترى لمن قدر أن يتخلص من غرم هذا الذي يسمى بالخراج إلى السلطان أن يفعل؟ قال: نعم ولا يحلُّ له إلا ذلك".

نعم له أن يتحايل على إسقاط ما فُرِض عليه على غير الوجه الشرعي، وله أن يتحايل من أجل الوصول إلى إسقاطه، ما أوجبه الله عليه من أجل الوصول إلى فعل ما أوجبه الله عليه، فإن كانت الحيلة لإسقاط محرم أو الوصول إلى فعل واجب فهذه شرعية، وإن كانت الحيلة على العكس إلى ارتكاب محرم أو ترك واجب فهذه حيل اليهود، نسأل الله العافية.

طالب:...

ماذا؟

طالب:...

برشوة مثلاً. مُنع من دخول المسجد إلا برشوة، يدفع، الحيلة ذُكرت في القرآن في موضع الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، فيتحايل الذي لا يستطيع أن يهاجر من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، جاء الإذن له بالحيلة {لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا}[سورة النساء: 89].

طالب:...

يجوز، يجوز له أن يرشي، من أجل إسقاط المحرم الذي هو أعظم مما ارتكب، أما أن يرتكب محرمًا أعظم مما يتحاشاه فلا.

"قيل: له، فإن وضعه السلطان على أهل بلدة، وأخذهم بمالٍ معلومٍ يؤدونه على أموالهم هل لمن قدر على الخلاص من ذلك أن يفعل، وهو إذا تخلص أخذ سائر أهل البلد بتمام ما جعل عليهم؟ قال: ذلك له".

نعم، يعني فرض السلطان، هذا السلطان فرض على أهل هذا البلد وعدتهم مائة ألف، فرض عليهم مائة مليون، على كل واحد ألفًا، استطاع واحد أن يتخلص بحيلة أو بواسطة، المهم أنه دبَّر نفسه، هذا الألف سوف يشاع على الباقين، ما هو يسقط من المجموع يشاع على الباقين فيتضرر الباقون بسببه، هل له أن يتخلص أم لا يتخلص؟ نعم له أن يتخلص، له أن يتخلص وليس هو مسؤولًا عن الباقين.

"قال: ويدل على ذلك قول مالك -رضي الله عنه- في الساعي يأخذ من غنم أحد الخلطاء شاة وليس في جميعها نصاب: إنه مظلمة دخلت على من أُخذت منه".

نعم لو بين شخصين، لو أن بين شخصين ثلاثين شاة، هذه ما فيها زكاة، واحد له خمسة عشر له النصف والثاني له النصف، إذا جاء الساعي وأخذ من غنم أحدهما فما يرجع على الثاني، لمَ يرجع على الثاني بنصف الشاة ولو كانا خليطين؛ لأنه أُخذت منه بغير حق؟ فكيف يضمن الثاني بغير حق؟ نعم له أن يدافع عن نفسه، له أن يتسبب في خلاص شاته، لكن ليس له أن يحمل شريكه شيئًا منها.

 "لا يرجع من أخذت منه على أصحابه بشيء، قال: ولست بآخذ في هذا بما روي عن سُحنون; لأن الظلم لا أسوة فيه، ولا يلزم أحدًا أن يولج نفسه في ظلم؛ مخافة أن يوضع الظلم على غيره، والله تعالى يقول: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ}[سورة الشورى: 41]، هذا ما قال. ورأيت في بعض المنقولات نحو هذا عن يحيى بن عمر أنه لا بأس أن يطرحه عن نفسه مع العلم بأنه يطرحه على غيره، إذا كان المطروح جَورًا بينًا. وذكر عبد الغني في المؤتلَف والمختلَف".

المؤتلِف والمختلِف.

 "في المؤتلِف والمختلِف عن جمَّاد".

نعم.

"عن جمَّاد بن أبي أيوب قال: قلت لحماد بن أبي سليمان: إني أتكلم فترفع عني النوبة، فإذا رفعت عني وضعت على غيري فقال: إنما عليك أن تتكلم في نفسك، فإذا رفعت عنك، فلا تبالي على من وضعت. ومن ذلك الرشوة على دفع الظلم إذا لم يقدر على دفعه إلا بذلك، وإعطاء المال للمحاربين وللكفار في فداء الأسارى ولمانعي الحاج حتى يؤدوا خراجًا، كل ذلك انتفاع، أو دفع ضرر بتمكين من المعصية، ومن ذلك طلب فضيلة الجهاد".

فالرشوة معصية، وإعطاء المحارِب مالاً يتقوى به على المسلمين من أجل أن يُفكَّ الأسير المسلم الذي عندهم لا شك أنه فيه ضرر على المسلمين لكن فيه مصلحة راجحة، ولذا يقول ابن العربي: وفكُّ الأسير من المسلمين فرضٌ في بيت مالهم ولو لم يبق فيه درهم.

"ومن ذلك طلب فريضة الجهاد مع أنه تعرض لموت الكافر على الكفر".

نعم، الأصل أن هذا الكافر يُسعى في خلاصه من الكفر، ويتسبب في دخوله الجنة، لكن في القتال، يقول: والله ما أنا بقاتل هذا من أجل أن تطول به الحياة فيسلم؟ أنت إذا تركته يقتل مسلمًا.

"أو قتل الكافر المسلم، بل قال -عليه الصلاة والسلام-: «وددت أني أقتل في سبيل الله ثم أَحيَا»".

ثم أُحيا.

 "«ثم أُحيا ثم أقتل» الحديث. ولازم ذلك دخول قاتله النار، وقول أحد ابني آدم: إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك، بل العقوبات كلها جلب مصلحة، أو درء مفسدة يلزم عنها إضرار الغير، إلا أن ذلك كلَّه إلغاء لجانبِ المفسدة; لأنها غير مقصودة للشارع في شرع هذه الأحكام؛ ولأن جانب الجالب والدافع أولى".

نعم قطع يد السارق بالنسبة له مفسدة، لكن بالنسبة لعموم الناس مصلحة، فلا يلتفت إلى المفسدة الخاصة.

"وقد تقدم الكلام على هذا قبل. فإن قيل: هذا يشكل في كثير من المسائل، فإن القاعدة المقررة أن لا ضرر ولا ضرار، وما تقدم واقع فيه الضرر، فلا يكون مشروعًا بمقتضى هذا الأصل، ويؤيد ذلك إكراه صاحب الطعام على إطعام المضطر إما بعوض، وإما مجانًا مع أن صاحب الطعام محتاج إليه، وقد أُخِذ من يده قهرًا لما كان إمساكه مؤديًا إلى إضرار المضطر، وكذلك إخراج الإمام الطعام".

لكن لو كان صاحب الطعام مضطرًا إليه، ويوجد آخر مضطر إليه، يُقدَّم صاحب الطعام.

"وكذلك إخراج الإمام الطعام من يد محتكره قهرًا لما صار منعه مؤديًا لإضرار الغير، وما أشبه ذلك. فالجواب أن هذا كله لا إشكال فيه، ومع ذلك".

وذلك.

"وذلك أن إضرار الغير في المسائل المتقدمة والأصول المقررة ليس بمقصود في الإذن، وإنما الإذن لمجرد جلب الجالب، ودفع الدافع، وكونه يلزم عنه أضرار أمر خارج عن مقتضى الإذن. وأيضًا فقد تعارض هنالك إضراران: إضرار صاحب اليد والملك، وإضرار من لا يد له ولا ملك، والمعلوم من الشريعة تقديم صاحب اليد والملك".

إذا كان الضرر عليهما بنسبة واحدة، فيُقدَّم صاحب المِلك، ما يُقدَّم عليه غيره، لكن إذا كان صاحب المِلك ضرره يسيرًا بالنسبة لضرر المضطر فإنه يقدم عليه ضرر الكبير ارتكابًا لأدنى المفسدتين، ودفعًا لأعلاهما.

"ولا يخالف في هذا عند المزاحمة على الحقوق، والحاصل أن الإذن من حيث هو إذن لم يستلزم الإضرار، وكيف، ومن شأن الشارع أن ينهى عنه؟ ألا ترى أنه إذا قصد الجالب، أو الدافع الإضرار أثم، وإن كان محتاجًا إلى ما فعل، فهذا يدلك على أن الشارع لم يقصد الإضرار، بل عن الإضرار نهى، وهو الإضرار بصاحب اليد والملك.

وأما مسألة المضطر، فهي شاهد لنا; لأن المكره على الطعام ليس محتاجًا إليه بعينه حاجةً يضر به عدمُها، وإلا فلو فرضته كذلك لم يصحّ إكراهه، وهو عين مسألة النزاع، وإنما يكره على البذل من لا يستضر به فافهمه، وأما المُحتكِر، فإنه خاطئ باحتكاره، مرتكبٌ للنهي، مضرٌ بالناس، فعلى الإمام أن يدفع إضراره بالناس على وجه لا يستضر هو به. وأيضًا فهو من القسم الثالث الذي يحكم فيه على الخاصة لأجل العامة. هذا كله مع اعتبار الحظوظ، وإن لم نعتبرها فيتصور هنا وجهان:

أحدهما: إسقاط الاستبداد والدخول في المواساة على سواء، وهو محمود جدًّا، وقد فُعِل ذلك في زمان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وقال - عليه الصلاة والسلام-: «إن الأشعريين إذا أرملوا في الغزو، أو قل طعام عيالهم بالمدينة جمعوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد، فهم مني، وأنا منهم»، وذلك أن مَسقَط الحظ هنا قد رأى غيره مثل نفسه".

مُسقِط.

"أن مُسقط الحظ هنا قد رأى غيره مثل نفسه".

يعني التقسيم الأول جارٍ على مسألة العدل، وأخذ كل إنسان ما يستحقه باستيفاء، وأما الثاني فهو جارٍ على الفضل، والتنازُل، والتسامُح، ولا شك أن هذا أفضل، لكن فاعل الأول لا يُلام.

"وكأنه هو أخوه، أو ابنه، أو قريبه، أو يتيمه، أو غير ذلك ممن طلب بالقيام عليه ندبًا، أو وجوبًا".

وكأن مذهب أبي ذرّ الغفاري -رضي الله عنه- هو هذا النوع، هذا النوع، لكن على سبيل الإلزام، لا على سبيل الفضل.

"وأنه قائم في خلق الله بالإصلاح والنظر والتسديد، فهو على ذلك واحد منهم، فإذا صار كذلك لم يقدر على الاحتجان لنفسه دون غيره ممن هو مثله، بل ممن أمر بالقيام عليه كما أن الأب الشفيق لا يقدر على الانفراد بالقوت دون أولاده، فعلى هذا الترتيب كان الأشعريون -رضي الله عنهم-، فقال -عليه الصلاة والسلام-: «فهم مني، وأنا منهم»؛ لأنه -عليه الصلاة والسلام- كان في هذا المعنى الإمام الأعظم، وفي الشفقة الأب الأكبر؛ إذ كان لا يستبد بشيء دون أمته. وفي مسلم عن أبي سعيد قال: بينما نحن في سفر مع رسول الله، إذ جاء رجل على راحلة له قال: فجعل يصرف بصره يمينًا، وشمالاً، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «من كان معه فضلُ ظهرٍ فليَعُد به على من لا ظهر له، ومن كان معه فضلٌ من زاد فليَعُد به على من لا زاد له» قال: فذكر من أصناف المال ما ذكر، حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل".

يعني من شدة حثّه -عليه الصلاة والسلام- على المواساة.

"وفي الحديث أيضًا: «إن في المال حقًّا سوى الزكاة»، ومشروعية الزكاة والإقراض والعريّة والمنحة، وغير ذلك مؤكد لهذا المعنى".

يعني جاء بهذه «إن في المال حقًّا سوى الزكاة»، وجاء أيضًا: «ليس في المال حقٌ سوى الزكاة»، فمن يُثبت الخبرين يعني من يضعف الخبرين هذا ما عنده مشكلة، لكن الذي يثبت الخبرين يقول: إن في المال حقًّا سوى الزكاة على سبيل الندب، أو على سبيل الاضطرار يعني إذا اضطر إليه، والذي يقول: ليس في المال حق سوى الزكاة يقول: ليس هناك واجب سوى الزكاة في الظروف العادية.

"ومشروعية الزكاة والإقراض والعريّة والمنحة، وغير ذلك مؤكد لهذا المعنى وجميعه جارٍ على أصل مكارم الأخلاق، وهو لا يقتضي استبدادًا، وعلى هذه الطريقة لا يلحق العامل ضرر إلا بمقدار ما يلحق الجميع، أو أقل، ولا يكون موقعًا على نفسه ضررًا ناجزًا، وإنما هو متوقَّعٌ، أو قليل يحتمله في دفع بعض الضرر عن غيره، وهو نظرُ من يعد المسلمين كلهم شيئًا واحدًا على مقتضى قوله -عليه الصلاة والسلام-: «المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشدُّ بعضه بعضًا»، وقوله: «المؤمنون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»، وقوله: «المؤمن يحب لأخيه المؤمن ما يحب لنفسه»".

ولفظ الحديث الصحيح: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»، نعم.

"وسائر ما في المعنى من الأحاديث، إذ لا يكون شد المؤمن للمؤمن على التمام إلا بهذا المعنى، وأسبابه، وكذلك لا يكونون كالجسد الواحد إلا إذا كان النفع واردًا عليهم على السواء كل أحد بما يليق به كما أن كل عضوٍ من الجسد يأخذ من الغذاء بمقداره قسمة عدلٍ لا يزيد ولا ينقص، فلو أخذ بعض الأعضاء أكثر مما يحتاج إليه، أو أقل لخرج عن اعتداله، وأصل هذا من الكتاب ما وصف الله به المؤمنين من أن بعضهم أولياء بعض، وما أمروا به من اجتماع الكلمة والأخوة، وترك الفرقة، وهو كثير; إذ لا يستقيم ذلك إلا بهذه الأشياء وأشباهها مما يرجع إليها".

يكفي، يعني هذه المعاني من كون المسلمين كالبينان يشدُّ بعضهم بعضًا اختفى كثيرٌ منها لمّا فتحت الدنيا على الناس، وتوسعوا فيها، وزادت مطالبهم، واشتدت عليهم ظروف الحياة، كان الناس قبل أن تُفتح الدنيا عليهم صاحب البيت الذي يريد بناءه أو بناء شيء تحكم منه وتهدم يقف بباب المسجد ويقول: أعان الله من يعين، ثم يجتمعون يقيمون الجدار في ساعة، وينتهي، أو في أسبوع ينتهي البيت، في مثل هذه الظروف تتجلى هذه المعاني، أما إذا كان البيت يحتاج إلى إعمار سنتين وثلاث سنين في البيت المتوسط العادي، وصاحبه يتحمل الديون مئات الألوف بل الملايين، يمكن أن يعيش الناس بمثل هذه الظروف؟ في غاية الصعوبة، وإذا خالف الناس ما أمر الله به، من النظر المعتدِل للحياة تكلّفوا هذه التكاليف التي لا بركة فيها ولا خير فيها، وليست مخلوفة، لكن لو كانت مصاريف بقدر الحاجة لتعاون الناس عليها، وبارك الله -جل وعلا- للناس فيها، أما أن يستدين الشخص بحيث يبقى طول عمره مدينًا من أجل سيارة أو من أجل بيت، والأمر أهون من ذلك يكتفي بأقل من ذلك.

 امرأة تقول: عندها مائتان وخمسون ألفًا تريد أن تشتري بيتًا، تريد أن تشتري بيتًا، تجد بيتًا بهذه القيمة من دون أن تتحمل مبلغًا أي مبلغ، تقول: أريد أن أدفع هذا مقدَّمًا فوجدتُ بيتًا يحمِّلني دينًا ستة عشر سنة، كل شهر خمسة آلاف، والمائتان وخمسون نقدية، تنقد المائتين وخمسين نقدًا ثم تصير مدينة لمدة ستة عشر عامًا، كل شهر خمسة آلاف، وهي تستطيع أن تعيش ببيت بهذه القيمة، هل مثل هذا يعان على سداد دينه؟ أو يمكن أن يتعاون الناس على حلّ مشكلة هذه المرأة قبل أن تقع؟ تقول: أنا والله أشتري هذا البيت بهذه القيمة، وكل واحد يساهم معي، ما يطيعها الناس، لكن لو كانت الأمور بقدر الحاجة، الناس فيهم خير، لكن أيضًا ما يمكن أن يتوسع الناس على حساب الآخرين، ما يرضى الناس ومعهم حق في هذا.

 فأقول: إن كثيرًا من هذه المعاني التي تحدث عنها المؤلف -رحمه الله- كانت موجودة قبل أن تفتح الدنيا على الناس، ويتوسعوا فيها توسعًا غير مرضي، يعني ابن عمر لما بنى البيت بأسبوع، كل إنسان مستعد أن يحضر له اللبن، يحضر له الماء، يحضر له الطين؛ لأن المسألة بقدر الحاجة، ابن عمر يقول: إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، والإشكال أنه يكتب الآن ويقال في وسائل الإعلام إن مثل هذا الكلام غير مقبول إطلاقًا، وإن هذا تعطيل للحياة، المشكلة أنه يكتب من يعرف ومن لا يعرف، «كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل» حديث في البخاري، ماذا يبغي الكُتاب والصحفيون؟ نعم الله -جل وعلا- يقول: {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}[سورة القصص:77]، لكن هذا في مقابل تحقيق العبودية وعدم نسيان النصيب من الدنيا من أجل تحقيق العبودية لا لذاته، والناس يعيشون بعكس التوجيه الإلهي، يعيشون للحياة ويحتاج الواحد منهم أن يقال: لا تنس نصيبك من الآخرة، والله المستعان.

طالب:...

حاضر تفضل.

طالب:...

ماذا؟

طالب:...

نعم من باب أنه لا يدفع الضرر عن نفسه في مقابل الضرر عن غيره.

طالب:...

نعم.