شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (128)

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، أيُّها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلًا ومرحبًا بكم إلى لقاء جديد في برنامجكم: "شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح"، مع بداية حلقتنا يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور/ عبد الكريم بن عبد الله الخضير، فأهلًا ومرحبًا بكم شيخ عبد الكريم.

حياكم الله، وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين.

المقدم: لازلنا في كتاب العلم وفي مجموعةٍ من أحاديثه أيضًا من خلال قراءة أحاديث كتاب التجريد الصريح، نحن عند حديث عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- قال: قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: «لا حسد إلا في اثنتيْنِ: رجلٍ آتاه اللهُ مالًا، فسلَّطَ على هَلَكَتِه في الحقِّ، ورجلٍ آتاه اللهُ الحكمةً، فهو يَقضي بها ويُعلِّمُها».

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. راوي الحديث هو الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود الهذلي. مر التعريف به.

 والحديث ترجم عليه الإمام البخاري- رحمه الله تعالى-، باب الاغتباط في العلم والحكمة، وقال عمر- رضي الله عنه-:  تفقهوا قبل أن تسودوا أو تسوَّدوا، تفقهوا قبل أن تسوَّدوا، ويجوز تسودوا على ما سيأتي، قال أبو عبد الله- يعني المؤلف-: وبعد أن تسودوا، وقد تعلم أصحاب النبي- عليه الصلاة والسلام- في كبر سنهم، قال العلامة العيني- رحمه الله تعالى-: وجه المناسبة بين البابين يعني هذا الباب والذي قبله باب الفهم في العلم من حيث إنه في الباب الأول الفهم في العلم وفي هذا الباب الاغتباط في العلم، وكلما زاد فهم الرجل في العلم..

المقدم: زادت غبطته.

زادت غبطته، نعم، كلما زاد الرجل في العلم، كلما زاد فهم الرجل في العلم، زادت غبطته فيه؛ لأن من زاد فهمه وقوي يزداد نظره فيمن هو أقوى فهمًا منه، ويتمنى أن يكون مثله وهو الغبطة؛ لأن من زاد فهمه يغبط من هو فوقه في هذا الفهم، ويغبطه من هو دونه.

وقال الكرماني: الغبطة لغةً أن يتمنى مثل حال المغبوط من غير أن يريد زوالها عنه. والحسد أن تتمنى زوال نعمة المحسود إليك، وبناء الافتعال، الذي هو الاغتباط يدل على التصرف والسعي فيها لمجرد تمنٍّ عارٍ عن بذل السبب، والحكمة معرفة الأشياء على ما هي عليه، فهي مرادفةٌ للعلم، فالعطف عليه من باب العطف التفسيري، من باب العطف التفسيري إلا أن يفسر العلم بالمعنى الأعم من اليقين المتناول للظن أيضًا، أو تفسر الحكمة بما يتناول سداد العلم أيضًا.

المقصود أن الحكمة- وسيأتي بيانها- أخص من العلم، فهي من باب عطف العام على الخاص، وإن قال الكرماني: إنها من باب العطف التفسيري؛ لأنهما مترادفان عنده، فالحكمة هي العلم، والعلم هو الحكمة، العلم أعم من الحكمة، فهو يتناول المعلوم، والمعلوم في الأصل معرفة الشيء على ما هو عليه. يعني اليقيني، فلا يتناول في الأصل العلم لا يتناول في الأصل الظن إلا بمعناه الأعم، فإذا قيل مثلًا علم الفقه، وفي الفقه مجموعة من الأحكام المبنية على غلبة الظن، إذًا كيف نقول: علم، وهي مبينة على غلبة الظن؟

نقول: إطلاق العلم هنا بمعناه الأعم الأشمل. وقال أيضًا: قول عمر- رضي الله عنه- ليس من تمام الترجمة إذ لم يذكر بعده شيءٌ يكون هذا متعلقًا به، ليس في الحديث ما يدل على كلام عمر ليكون من تمام الترجمة. إلا أن يقال: الاغتباط في الحكمة على القضاء، لا يكون إلا قبل كون الغابط قاضيًا ويؤول حينئذٍ، «وقال عمر» بمعنى المصدر، أي قول عمر باب الاغتباط في ماذا؟ في العلم والحكمة. «وقال عمر» يعني وقول عمر باب الاغتباط، وقول عمر، فإذا أوَّلنا الماضي بالمصدر مشى الكلام عند الكرماني.

قال العيني: قلت كيف يأوَّل الماضي بالمصدر، وتأويل الفعل بالمصدر لا يكون إلا بوجود «أن» المصدرية؟ وقال ابن المنير: مطابقة قول عمر- رضي الله عنه- للترجمة أنه جعل السيادة من ثمرات العلم، وأوصى الطالب باغتنام الزيادة قبل بلوغ درجة السيادة، وذلك يحقق استحقاق العلم بأن يغبط صاحبه، فإنه سبب لسيادته. قال العيني: لا شك أن الذي يتفقه قبل السيادة يغبط في فهمه وعلمه، فيدخل في قوله باب الاغتباط في العلم الذي يتفقه قبل السيادة بحيث إذا ساد وانشغل عن التفقه.

المقدم: يكون عنده فقه.

نعم يكون انتهى، فيكون مغبوطًا، أما الذي لا ينتبه للتفقه إلا بعد أن يسود أو يسوَّد، وتشغله هذه السيادة عن الطلب، وقد يحمله ما يحتف بهذه السيادة من تكبّر عند بعض من يسود، فلا يتنازل ويتواضع لأخذ العلم عمن هو دونه في نظره.

المقدم: أو لا يختلط بالطلاب مثلًا إذا كان...؟

يأتي مزيد لهذا الكلام، يقول ابن حجر: بعد أن ذكر كلام ابن المنير، ابن المنير يقول: مطابقة قول عمر للترجمة أنه جعل السيادة من ثمرات العلم، وأوصى الطالب باغتنام الزيادة قبل بلوغ درجة السيادة. وذلك يحقق استحقاق العلم بأن يغبط صاحبه، فإنه سببٌ لسيادته. يقول ابن حجر بعد ذلك: كذا قال، والذي يظهر لي يعني كلام ابن المنير واضح أم ما هو بواضح؟

الأخ الحاضر: واضح.

واضح، فيه وضوح، يقول كذا قال، والذي يظهر لي أن مراد البخاري أن الرياسة وإن كانت مما يغتبط بها صاحبها في العادة، لكن الحديث دل على أن الغبطة لا تكون إلا بأحد أمرين السيادة يغتبط بها صاحبها، تبذل دونها الأنفس، فإما هي مما يغتبط صاحبها، لكن الحديث دل على أن الغبطة، يعني حقيقية التي دل عليها الحديث.

المقدم: لا تكون.

لا تكون إلا بأحد أمرين العلم والجود. ولا يكون الجود محمودًا إلا إذا كان بعلمٍ، فكأنه يقول: تعلموا العلم قبل حصول الرياسة لتغتبطوا إذا غبطتم، لتغبطوا إذا غبطتم بحق، فمن يجمع بين الأمرين العلم والجود ينال السيادة أم ما ينال؟

بلا شك الشواهد على هذا ظاهرة، ويقول أيضًا: إن تعجلتم الرياسة التي من عادتها أن تمنع صاحبها من طلب العلم، فاتركوا تلك العادة، وتعلموا العلم؛ لتحصل لكم الغبطة الحقيقية. ابن بطال- رحمه الله- يقول: وقول عمر تفقهوا قبل أن تسودوا، فإن من سوده الناس يستحيي أن يقعد مقعد المتعلم خوفًا على رئاسته عند العامة؛ لأن بعض الناس يرى أن اختلاطه بالعامة يزيل هيبته، لكن هذا الخوف المظنون لا حقيقة له، بل العكس الذي يخالط الناس، ويجلس معهم، ويتواضع لهم هو الذي في أعينهم أكبر من غيره بلا شك لاسيما وإن كان عنده شيء من العلم، فالعلم يحمله على هذا بلا ريب. وقال مالك: كان الرجل إذا قام من مجلس ربيعة إلى خطبةٍ أو حكم لم يرجع إليه بعدهما، يريد بذلك أنه إذا انتهى من الطلب على ربيعة إلى الخطابة والقضاء لم يرجع إليه. لماذا؟

الأخ الحاضر: لأنه ينال.

لأنه لا يباشر الأعمال حتى ينتهي من الطلب، هذا في وقتهم، لا يباشر الأعمال حتى لا ينتهي من الطلب. قال يحيى بن نعيم: من عاجل الرئاسة فاته علمٌ كثير. يقول ابن حجر: «وقال عمر: تفقهوا قبل أن تُسودوا» هو بضم المثناة وفتح المهملة وتشديد الواو تسودوا، أي تجعلوا سادة هكذا ضبطه على هذا الوجه فقط أقول: ولا مانع أن يكون بتخفيف الواو تسودوا، والمرء كما يسود من قبل غيره.

المقدم: يسود.

يكون سيدًا بنفسه يقول الأفوه الأودي: لا يصلح الناس فوضى.

المقدم: لا سراة لهم.

لا سراة لهم ولا سراة.

المقدم: إذا جهالهم.

إذا جهالهم سادوا.

فدل على أن الشخص يسود بنفسه

والبيت لا يبتنى إلا له عمدٌ

 

ولا عماد إذا لم ترس أوتاد

فإن تجمع أوتادٌ وأعمدةٌ يوما

 

فقد بلغوا الأمر الذي كادوا

وهناك بيت آخر، ومن قذف الأشجار تنقاد ماذا؟

تمضى الأمور بأهل الخير ما صلحت

 

فإن تولت فبالأشجار تنقاد

وهذه الأبيات من أجمل ما قيل في هذا الباب. وأثر عمر أخرجه ابن أبي شيبة وغيره من طريق محمد بن سيرين عن الأحنف بن قيس، قال: قال عمر: فذكره وإسناده صحيح، وعقبه الإمام البخاري- رحمه الله تعالى- بقوله: وبعد أن تسودوا أي تفقهوا قبل مقتضى كلام عمر- رضي الله عنه- وتفقهوا بعد أن تسودوا، هذا تعقيب من الإمام البخاري- رحمه الله تعالى- نعم ليبين أن كلام عمر لا مفهوم له، يعني مفهومه تفقهوا قبل أن تسودوا، لكن إذا سدت خلاص انتهى، لا داعي للتفقه أو لا سبيل إليه يكون في هذا تيئيس، لكن البخاري- رحمه الله تعالى- قال: وبعد أن تسودوا ليبين أن كلام عمر لا مفهوم له، ويفتح آمالًا وآفاقًا للسادة أن يتفقهوا أيضًا إن كانوا قد تفقهوا قبل ذلك، وإلا فليزدادوا من الفقه؛ ليبين أن لا مفهوم له خشية أن يفهم أحدٌ من ذلك أن السيادة مانعةٌ من التفقه، وإنما أراد عمر أنها قد تكون سببًا للمنع، يعني من التفقه؛ لأن الرئيس قد يمنعه الكبر والاحتشام أن يجلس مجلس المتعلمين قد يلبس عليه إبليس أن مقامك.

المقدم: أعظم.

أعظم من أن تجلس بين هؤلاء. قد يلبس عليه الشيطان أيضًا بأن جلوسك مع هؤلاء يزيل الهيبة، وحينئذٍ يمتهن، ما وكل إليك من قضاء مثلًا إذا كان قاضيًا أو أعمال إذا كان مسؤولًا، وقد لبّس إبليس على بعضهم بحيث لا يرد السلام.

الأخ الحاضر..............

نعم بحيث لا يرد السلام، فنوقش في ذلك فقال: إذا كان رد السلام يذهب هيبة المسؤول من قاضٍ أو غيره فالمحافظة على هيبة العمل لنفاذ أمره...

المقدم: أولى.

أولى من مسألة رد السلام، فنوقش في ذلك، وقيل له: إن هذه مسألة شرعية لا تدخل فيها هذه الاحتمالات ولا هذه الأوهام ولا هذه الظنون، ويرد القول على من قال به إذا خالف النص، ورد السلام واجب «إذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها»، يعني أو أقل الأحوال ردوها؛ ولهذا قال مالك عن عيب القضاء: إن القاضي إذا عزل لا يرجع إلى مجلسه الذي كان يتعلم فيه. الإمام مالك يقول عن عيب القضاء: إن القاضي إذا عزل لا يرجع إلى مجلسه الذي كان يتعلم فيه، ولعل كلام الإمام مالك أغلبي.

المقدم: نعم.

أغلبي وإلا فيوجد من أهل السيادة والقيادة من يتابع التحصيل، من الأمراء والقضاة وغيرهم يحضرون الدروس في الحلقات بين يدي أهل العلم ومع عامة الناس، هذا موجودٌ، ولله الحمد.

المقدم: صحيح.

بل يوجد من القضاة من إذا أتاهم وافد من بلدٍ آخر من أهل العلم، يعطلون دروسهم ويحضرون عنده بطلابهم، وفي هذا من التحصيل والتواضع وتربية الطلاب على هذا الخلق الشيء العظيم.

المقدم: في بعض دوراتكم التي عقدت فضيلة الدكتور أيضًا خصوصًا خارج منطقة الرياض يعني ذكرتم أن هناك...

نعم يحضر المشايخ الذين لهم دروس يحضرون بطلابهم بما فيهم القضاة، والدعاة، وأهل الفضل. فسر أبو عبيد في غريب الحديث أثر عمر فقال: معناه تفقهوا وأنتم صغار قبل أن تصيروا سادة فتمنعكم الأنفة عن الأخذ عمن هو دونكم، فتبقوا جهالًا. وفسره شمر اللغوي بالتزوج، يعني تفقهوا قبل أن تتزوجوا. فإنه إذا تزوج صار سيد أهله لا سيما أن ولدًا له يعني هل الزواج يعوق عن تحصيل العلم؟

المقدم: عند بعضهم نعم يا شيخ.

الأخ الحاضر: لا شك أن هناك ما يحول.

لكن هل الزواج والولد عمومًا قل والتعدد أيضًا هل يعوق من تحصيل العلم؟

المقدم: يا شيخ الملاحظ أن بعضهم يكون عائقًا له مع الأسف.

المسألة موازنة ومفاضلة إذا فضل هذا على هذا عاقه.

الأخ الحاضر: نعم.

لكن إذا أراد أن يستغل هذه النعمة فيما يعينه على طلب العلم. لا شك أنها نعمه وتعينه على طلب العلم. استبعد ابن حجر كلام شمر هذا يقول: إذا كان المراد بقوله تسودوا، السيادة وهي أعم من التزويج، ولا وجه لمن خصصه بذلك؛ لأنها قد تكون به وبغيره من الأشياء الشاغلة لأصحابها عن الاشتغال بالعلم، قل ما هو الأعظم من الزواج مثلًا الاشتغال بأمور الدنيا، واللهث وراء الدنيا.

الأخ الحاضر: نعم صحيح.

يلاحظ على بعض من ينتسب إلى طلب العلم أنه فجأةً ينقطع تسأل عنه إذا هو.

المقدم: في العقار.

في العقار مثلًا، أو في أي مهنة من المهن.

المقدم: ولا يُعاب.

ولا يعاب في هذا ولا يذم، لكن المسألة لا تنقلب المسألة لا تنقلب القضية، الله- جلَّ وعلا- يقول: {وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [سورة القصص:77]؛ لأن الإنسان إنما خلق لهدفٍ عظيم، لحكمة هي العبادة والعلم وتحصيله وبثه من أعظم أبواب العبادة، لا يكون همنا الدنيا ثم بعد ذلك نحتاج إلى من يقول لنا: "ولا تنسوا نصيبكم من الآخرة"، فتنعكس القضية الأصل أن الإنسان خلق للعبادة ومع ذلك لا ينسى نصيبه من الدنيا فيضيع نفسه ويضيع من يعول، وكفى به إثمًا أن يضيع...

المقدم: من يعول.

نعم، جوَّز الكرماني أن يكون تسودوا من التسويد الذي هو السواد ولعل الضبط يكون حينئذٍ تسوِّدوا غير تسودوا. تسوِّدوا إذا كان المراد من السواد، أي بعد أن سودوا لحاهم مثلًا، فينتظر إلى أن يظهر الشيب في لحيته ثم إذا سوده بالسواد يلتفت إلى طلب العلم، هذا احتمال من الكرماني، هذا احتمال جوزه الكرماني، جوز الكرماني أن يكون تسودوا، لعل المراد تسودوا على كلامه من التسويد الذي هو من السواد أي بعد أن سودوا لحاهم مثلًا أي في كبرهم، أو بعد زوال السواد أي في الشيب، والله أعلم بحقيقة الحال.

كذا قال، لكن قال ابن حجر: لا يخفى تكلفه، بعيد، هذا بعيد وإن كان اللفظ يحتمله؛ لأن السيادة قد تكون مع كبر السن، قد تكون السيادة تسود أو تسود مع كبر السن الذي فيه بياض اللحية، وبياض اللحية يحتاج إلى تغييره، وليس في هذا إقرار للتغيير بالسواد، فإن التغيير بالسواد جاء النهي عنه «وجنبوه السواد».

 قوله: «لا حسد» قال القسطلاني: لا حسد جائزٌ في شيءٍ إلا في شأن اثنتين، بتاء التأنيث أي خصلتين، ولمؤلف الاعتصام: اثنين بغير تاء، أي في شيئين، والحسد تمني زوال النعمة عن المنعم عليه، وخصه بعضهم بأن يتمنى ذلك لنفسه، يعني تمني زوال النعمة عن فلان من غير أن تعود إليه، هذا لا نسميه حسدًا؛ لأنه خصه بأن يتمنى زوال ذلك لنفسه.

قال ابن حجر: والحق أنه أعم، وسببه أن الطباع مجبولةٌ على حب الترفع على الجنس، فإذا رأى لغيره ما ليس له أحب أن يزول ذلك عنه؛ ليرتفع عليه، أو مطلقًا يعني ولو لم يرجع يعود إليه ليساويه، وصاحبه مذموم إذا عمل بمقتضى ذلك من تصميم أو قولٍ أو فعل، كيف من تصميم؟ مفهوم مقتضى كلامه أنه إذا وجد الحسد في النفس من غير أن يترتب عليه تصميم أو قول أو فعل أنه ماذا؟ لا أثر له ولا حرج فيه، وكأنه يستند في ذلك إلى «عفي لأمتي..».

المقدم: «الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه».

وما حدثت.

المقدم: «به أنفسها».

«ما لم تعمل أو تكلم»، نعم، كأنه يميل إلى هذا، وهو مقتضى كلام ابن الجوزي، والعلماء قاطبةً على أن الحسد من عمل القلب، فيكفي وجوده في القلب، مجرد تمني النعمة خبث.

المقدم: تمني زوال النعمة.

تمني زوال النعمة خبث نعم، يعاقب عليه. يبقى أنه إذا صمم، إذا كان خاطرًا فطرده لا أثر له. إذا كان هاجسًا طرده أيضًا فلا أثر له، قد لا يسلم إنسانٌ من هذا حديث النفس الذي يتردد، يصارع نفسه ويغالبها عليه يعني هذا جهاد، لكن إذا وصل إلى درجة الهم والعزم لا شك أنه مؤاخذٌ عليه. يقول: وينبغي من خطر له ذلك أن يكرهه كما يكره ما وضع في طبعه من حب المنهيات؛ لأنه منهي عنه، فيكون في ضمن المنهيات.

قال ابن حجر: استثنوا من ذلك- يعني الحسد- وتمني زوال النعمة عن الغير، استثنوا من ذلك ما إذا كانت النعمة لكافر قد يستعين بها على المسلمين أو كانت لفاسق يستعين بها على معاصي الله تعالى، فهذا حكم الحسد بحسب حقيقته، وأما الحسد المذكور في الحديث فهو الغبطة، وهي أن يتمنى أن يكون له مثل مال غيره من غير أن تزول عنه، والحرص على هذا يسمى منافسة، يعني يحرص أن يكون الإنسان أن يكون له مثل ما لغيره، فإن كانت في الطاعة فهذه المنافسة فهي محمودة، منها قوله تعالى: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [سورة المطففين:26]

المقدم: المتنافسون.

المتنافسون، وإن كانت في المعصية فهي مذمومة، ومنها قوله: «ولا تنافسوا» وإن كانت في الجائزة فهي مباحة، لكن على ألا تشغل عن أداء الواجبات أو تحمل على ارتكاب المحرمات، فكأنه قال في الحديث: لا غبطة أعظم أو أفضل من الغبطة في هذين الأمرين، ووجه الحصر في هذين الأمرين المال والحكمة، وجه الحصر أن الطاعات إما بدنية أو مالية أو كائنةً منهما، وقد أشار إلى البدنية بإتيان الحكمة والقضاء بها وتعليمها، ولفظ حديث ابن عمر: «رجلٌ آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار»، والمراد بالقيام به العمل به مطلقًا أهم من تلاوته داخل الصلاة أو خارجها، ومن تعليمه والحكم والفتوى بمقتضاه، فلا تخالف بين لفظي الحديثين، ويجوز حمل الحسد في الحديث على حقيقته على أن الاستثناء منقطع، والتقدير نفي الحسد مطلقًا، لكن هاتان الخصلتان محمودتان ولا حسد فيهما، فلا حسد أصلًا «إلا في اثنتين».

 قال الكرماني: فإن قلت: ما هذه الظرفية «في اثنتين» ما هذه الظرفية وكيف هي والحسد موجودٌ في الحاسد لا في الخصلتين؟

المقدم: نعم.

نعم، قلت: معناه لا حسد للرجل إلا في شأن هاتين الاثنتين.

المقدم: هاتين.

هاتين الاثنتين رجلٌ أو رجلٍ؟

المقدم: هي يعني ظاهرة لو كانت على الوصل «إلا في اثنتين» في رجلٍ.

رجلٌ أو رجلٍ؟

المقدم: هي يعني كانت على الوصل «إلا في اثنتين في رجلٍ».

رجلٌ بالرفع والتقدير خصلة رجل حذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه وعلى رواية اثنين.

المقدم: رجلٍ.

فرجل بالخفض على البدلية، ويجوز النصب بإضمار أعني، وهي رواية ابن ماجة، الأوجه في رجل، رجلٌ بالرفع، والتقدير «خصلة رجل» حذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، ما الذي دعانا أن نقدر مضاف؟ لأنَّه ما يمكن إبدال رجل من اثنتين.

المقدم: صحيح.

لا يمكن أن نبدل رجلًا من اثنتين على رواية اثنتين، لا نستطيع أن نقول: رجل لا نبدل رجلًا من اثنتين، وعلى رواية اثنين..

المقدم: يكون بالخفض، واضح.

يكون رجلٍ بالخفض على البدلية.

المقدم: لكن على رواية اثنتين ما نقدر خصلة.

لابد خصلة.

المقدم: خصلة رجلٍ.

خصلة رجلٍ.

المقدم: نعم.

خصلة رجل حذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، ويجور النصب بإضمار أعني، وهي رواية ابن ماجة.

المقدم: أحسن الله إليكم، ونفع بعلمكم، ونسأل الله تعالى أن يفقهنا وإياكم في دينه، ويعلمنا ما ينفعنا، وينفعنا بما علمنا، ويزيدنا وإياكم علمًا وعملًا إنه جواد كريم.

أيها الإخوة والأخوات بهذا نصل وإياكم إلى ختام هذه الحلقة في برنامجكم" شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح. لقاؤنا بكم بإذن الله تعالى في حلقةٍ قادمة؛ لنستكمل قراءة أبواب هذا الكتاب بإذن الله، وأنتم على خير.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.