التعليق على الموافقات (1428) - 09

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه، وبعد:

قال المؤلف –رحمه الله-: "المسألة الثامنة:

وذلك أن مخالفة ما تهوى الأنفس شاقٌ عليها، وصعبٌ خروجها عنه؛ ولذلك بلغ أهل الهوى في مساعدته مبالغ لا يبلغها غيرهم، وكفى شاهدًا على ذلك حال المحبين، وحال من بُعِث إليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من المشركين وأهل الكتاب، وغيرهم ممن صمم على ما هو عليه، حتى رضوا بإهلاك النفوس والأموال، ولم يرضوا بمخالفة الهوى؛ حتى قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:23] الآية.

وقال: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} [النجم:23].

وقال: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد:14] وما أشبه ذلك".

مراد المؤلف –رحمه الله تعالى- أن الشريعة جاءت؛ لإخراج الناس من عبودية غير الله –جلَّ وعلا- إلى عبوديته، وتحقيق ذلك، فقد كانوا يعبدون أهوائهم {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} [النجم:23].

{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23] واتباع الهوى مُخالفته في غاية المشقة على النفس، بدليل أن المُحب يعرف أنه يُعرِّض نفسه للجلد أو الرجم، يُعرِّض نفسه لهذا الخطر العظيم، ومع ذلك يتجاوز أمر الله –جلَّ وعلا-، ويرتكب الفاحشة، ويُعرِّض نفسه للإتلاف، ولا يهون عليه مخالفة هواه، ومثله المشرك بصدد أن يُقتل على شِركه، ومع ذلك لا يستجيب لداعي الإيمان اتباعًا لهواه إلا من كتب الله له السعادة.

ونعرف من قُتل دفاعًا شِركه في المغازي النبوية، حيث يلتقي الصفان من المؤمنين ومن الكفار، والكافر يُقدم نفسه فداءً لهواه، نسأل الله العافية.

فالشريعة جاءت لإخراج الناس من عبودية الهوى إلى عبودية الله –جلَّ وعلا-، وحتى يكون المسلم تبعًا لِما جاء به النبي –عليه الصلاة والسلام-.

"ولكن الشارع إنما قصد من وضع الشريعة إخراج المكلف عن اتباع هواه".

قد يكون هواه في اللذة، قد يكون هواه في الأكل والشرب، قد يكون هواه في جمع المال، وتجد من يقدم الهوى –في هذه الأبواب- تجده يُخالف ما جاء به الشرع؛ اتباعًا لهواه، ويتخطى الشبهات إلى المحرمات، ويعرف أن هذا أمر مُحرمٌ عليه، وأنه مُعاقبٌ به، متوعدٌ عليه، ومع ذلك يُقدم هواه، والشريعة إنما جاءت لجعل الناس عبادًا لله –جلَّ وعلا- مخلصين في عباداتهم؛ ولذا حُفت النار بالشهوات، يعني بما تهواه الأنفس، وحُفت الجنة بالمكاره.

"حتى يكون عبدًا لله، فإذًا مخالفة الهوى ليست من المشقات المُعتبرة في التكليف".

نعم، فلا يُقال: إن المشقة تجلب التيسير، قد يقول قائل: والله ترك الربا مشقة عظيمة، -ألفناه وأخذنا عليه-، لكن ما نستطيع نتركه، فهل في مثل هذا يُقال: المشقة تجلب التيسير؟ نعم هي غاية المشقة عند مَن أُشرِب قلبه حب المال، هذه غاية المشقة عنده، ومع ذلك هل مثل هذه المشقة تجلب التيسير؟ لا.

"وإن كانت شاقةً في مجاري العادات".

يعني الهوى والحب، والعشق، والغرام، والتتيم كل هذا قد يؤول بالإنسان إلى أن يفقد عقله، فهل نقول: مادام الأمر كذلك، وحفظ العقل من الضرورات، هل نقول: إنه يُمكَّن من هذه المرأة؛ لئلا يفقد عقله؟ هل مثل هذا مما يدخل في قاعدة المشقة تجلب التيسير؟ أبدًا؛ إنما جاء الدين لحرب هذا الهوى.

"إذ لو كانت معتبرةً حتى يُشرع التخفيف لأجل ذلك، لكان ذلك نقضًا لما وضِعت الشريعة له، وذلك باطل، فما أدى إليه مثله، وبيان هذا المعنى مذكورٌ بعد، إن شاء الله تعالى.

المسألة التاسعة: كما أن المشقة تكون دنيوية، كذلك تكون أخروية، فإن الأعمال إذا كان الدخول فيها يؤدي إلى تعطيل واجبٍ أو فعل محرم، فهو أشد مشقةً باعتبار الشرع من المشقة الدنيوية التي هي غير مُخلةٍ بدين، واعتبار الدين مقدم على اعتبار النفس وغيرها في نظر الشرع".

لا شك أن الدين مُقدم على اعتبار النفس؛ ولذلك شُرِع الجهاد، وتُقدم فيه النفس فداءً للدين، نعم.

"فإذا كان كذلك، فليس للشارع قصدٌ في إدخال المشقة من هذه الجهة، وقد تقدم من الأدلة التي يدخل تحتها هذا المطلب ما فيه كفاية.

المسألة العاشرة: قد تكون المشقة الناشئة من التكليف تختص بالمكلف وحده، كالمسائل المتقدمة".

يعني المشقة خالصة بالشخص، يعني أثرها على الشخص وجودًا وعدمًا لا تتعداه إلى غيره، وهناك من المشقات ما يتعدى أمره إلى الغير: كالولايات العامة مثلاً، كالإمامة، والقضاء وما أشبه ذلك مما يتعدى أمره إلى الغير.

"وقد تكون عامةً، له ولغيره، وقد تكون داخلةً على غيره بسببه.

ومثال العامة له ولغيره: كالوالي المفتقر إليه لكونه ذا كفاية فيما أُسند إليه، إلا أن الولاية تشغله عن الانقطاع إلى عبادة الله والأنس بمناجاته، فإنه إذا لم يقم بذلك عمَّ الفساد والضرر، ولحقه من ذلك ما يلحق غيره".

يعني إذا وجِد الكفء لهذه الوظيفة العامة، لكن هذه الوظيفة إذا نُظِر إلى شخصه لا شك أنها سوف تكون على حساب أعماله الخاصة، لكن يُنظر فيها إلى النفع المتعدي، وقد يتضرر بالوظيفة: كالقضاء مثلاً ويُعرِّض نفسه للفتنة، ومع ذلك قد يُلزم بها، وكثيرٌ من السلف رفضوا القضاء، ورفضوا الولايات من هذا الباب، لكن إذا استشار الإنسان، طالب من طلاب العلم الكفء واختير لولايةٍ ما، وجاء يستشير، ونعرف أن هذه الولاية فيه مزلة قدم، وقد تزل به القدم، وقد يفقد بعض الأمور من الأمور الخاصة التي يُعانيها، فبمَ يُشار عليه؟ يُشار بالمصلحة العامة ولو تضرر؛ لأن المصلحة العامة مُقدمة على الخاصة، ولولي الأمر أن يُلزم بمثل هذا إذا رأى الكفء لاسيما إن تعين عليه، ويأثم إن تأخر أو تردد مع تعين الأمر عليه إذا لم يُوجد كفؤ غيره.

طالب:.........

نعم إذا عاقه عنه ما أُلزم به يثبت -إن شاء الله-.

"ومثال الداخلة على غيره دونه: كالقاضي والعالم المفتقر إليهما، إلا أن الدخول في الفُتيا والقضاء يجرهما إلى ما لا يجوز، أو يشغلهما عن مهمٍ دينيٍّ أو دنيوي، وهما إذا لم يقوما بذلك، عمَّ الضرر غيرهما من الناس، فقد نشأ هنا عن طلبهما لمصالحهما المأذون فيها والمطلوبة منهما فسادٌ عام.

وعلى كل تقدير، فالمشقة من حيث هي غير مقصودةٍ للشارع تكون غير مطلوبة، ولا العمل المؤدي إليها مطلوبًا كما تقدم بيانه".

المشقة لا يخلو إما أن تكون وسيلة أو غاية، كونها وسيلة إلى غايةٍ مطلوبة تكون مطلوبة للشارع، ويُثاب عليها المكلَّف، أما إذا كانت غاية فليست بمطلوبة، ولا الوسائل المؤدية إليها مطلوبة.

"فقد نشأ هنا نظرٌ في تعارض مشقتين، فإن المكلف إن لزم من اشتغاله بنفسه فسادٌ ومشقةٌ لغيره، فيلزم أيضًا من الاشتغال بغيره فسادٌ ومشقةٌ في نفسه، وإذا كان كذلك تصدى النظر في وجه اجتماع المصلحتين مع انتفاء المشقتين إن أمكن ذلك، وإن لم يمكن، فلا بد من الترجيح، فإذا كانت المشقة العامة أعظم، اعتُبر جانبها وأُهمل جانب الخاصة، وإن كان بالعكس، فالعكس، وإن لم يظهر ترجيحٌ، فالتوقف كما سيأتي ذكره في كتاب التعارض والترجيح، إن شاء الله".

طالب:........

لكون الإنسان يقصد المشقة، يقصد تعذيب نفسه، ينذر مثلاً أن يصوم في الشمس هذه مشقة قصدها المكلَّف لذاتها، وليست مقصودةً للشرع، والله –جلَّ وعلا- عن تعذيب الإنسان نفسه غني، فهذه المشقة غاية عنده جعلها غاية، فهذه لا تُطلب ولا الوسائل لتحصيلها مطلوبة.

"المسألة الحادية عشرة: حيث تكون المشقة الواقعة بالمكلف في التكليف خارجةً عن معتاد المشقات في الأعمال العادية، حتى يحصل بها فسادٌ ديني أو دنيوي، فمقصود الشارع فيها الرفع على الجملة، وعلى ذلك دلت الأدلة المتقدمة؛ ولذلك شرعت فيها الرخص مطلقًا.

وأما إذا لم تكن خارجةً عن المعتاد، وإنما وقعت على نحو ما تقع المشقة في مثلها من الأعمال العادية، فالشارع وإن لم يقصد وقوعها، فليس بقاصدٍ لرفعها أيضًا.

والدليل على ذلك أنه لو كان قاصدًا لرفعها لم يكن بقاء التكليف معها؛ لأن كل عملٍ عادي أو غير عادي يستلزم تعبًا وتكليفًا على قدره، قَل أو جَل".

نعم الأعمال في الجملة لا بُد فيها من مشقة، لكن هناك المشقة المحتملة العادية التي يحتملها الناس في أمورهم العادية، هذه محتملة في الأمور الشرعية، يعني إذا كان الإنسان في متجره يتعرض لحر الشمس ولا يترك التجارة، فهو في صيامه إذا تعرض للشمس لا يترك الصيام؛ لأنها مشقة محتملة وعادية، وإن كان فيها شيء من المشقة في الأمور العادية وغير العادية، إذا كان يحتمل هذه المشقة فلا أن يحتملها في العبادة من باب أولى، ولا يُطلب رفعها شرعًا إذا كانت مما يحتملها الإنسان.

َل أو جَل إما في نفس العمل المكلف به، وإما في خروج المكلف عما كان فيه إلى الدخول في عمل التكليف، وإما فيهما معًا، فإذا اقتضى الشرع رفع ذلك التعب، كان ذلك اقتضاءً لرفع العمل المكلف به من أصله، وذلك غير صحيح، فكان مما يستلزمه".

فكان ما يستلزمه.

طالب: ما؟

فكان ما يستلزمه غير صحيح.

"فكان ما يستلزمه غير صحيح، إلا أن هنا نظرًا، وهو أن التعب والمشقة في الأعمال المعتادة مختلفةٌ باختلاف تلك الأعمال، فليست المشقة في صلاة ركعتي الفجر كالمشقة في ركعتي الصبح".

لأن ركعتي الفجر مبناهم على التخفيف، وعائشة –رضي الله عنها- تقول: صلى ركعتين خفيفتين لا أدري أقرأ بفاتحة الكتاب أم لا؟

أما ركعتا صلاة الصبح فمبناها على التطويل، والمشقة فيها أشد من المشقة في ركعتي الفجر، نعم.

"ولا المشقة في الصلاة كالمشقة في الصيام، ولا المشقة في الصيام كالمشقة في الحج، ولا المشقة في ذلك كله كالمشقة في الجهاد، إلى غير ذلك من أعمال التكليف، ولكن كل عملٍ في نفسه له مشقةٌ معتادةٌ فيه توازي مشقة مثله من الأعمال العادية، فلم تخرج عن المعتاد على الجملة".

نعم مشقة الحج التي يمكث فيها الأيام والليالي، تعب نهار وحر الشمس، وأيضًا سهر ليل وما أشبه ذلك، بالنسبة للأمور العادية هل المشقة اللاحقة بالحاج أيسر ولا المشقة اللاحقة بالصياد في وقت الصيد؟ يعني إذا جاء وقت الصيد تجد بعض الناس يخرج الشهر كامل لهث وراء الصيد في الأيام الحارة، هل هذا أسهل ولا الحج؟ الناس يتجاوزون مثل هذا في الأمور العادية.

وأحيانًا رحلة نزهة يكون فيها من المشقة أعظم مما في الحج، وهي طلعة للنزهة وترويح النفس، ومع ذلك يحتملها الناس.

فمثل هذه المشقات المعتادة محتملةٌ في الأمور العادية، وفي أمور العبادات، أما ما خرج عن حد العادة مما لا يحتمله الناس في أمورهم العادية، فإنها أيضًا لا تُحتمل في الأمور العبادية، نعم.

يعني يُوضح هذا أن كثيرًا من الناس إذا جاء المطر في جوٍّ معتدل، جوٍّ ربيعيٍّ مناسب جدًّا، والخروج فيه إلى المسجد متعة، تجد كثيرًا من الناس يُطالب بالجمع؛ لوجود المطر، ومع ذلك إذا جمع بيت الصلاتين خرج إلى البرية؛ لينظر مواقع القطر، وخرج أيضًا لرحلات واستراحات، وهذا المشقة فيه مُحببة للنفس، لكن ما الذي يمنعك أن تخرج مرةً ثانية إلى المسجد؛ لتؤدي صلاة العشاء؟ فالإنسان ينظر إلى أموره إذا كان هذا الأمر يشق عليه، وبعد صلاته يجلس في بيته لمشقة الخروج –والله المستعان-.

"ثم إن الأعمال المعتادة ليست المشقة فيها تجري على وزانٍ واحد، في كل وقت، وفي كل مكان، وعلى كل حال، فليس إسباغ الوضوء في السبرات يساوي إسباغه في الزمان الحار".

"السبرات" يعني: الأوقات الباردة لاسيما أوائل آخر الليل وأول الصبح مثلاً.

"ولا الوضوء مع حضرة الماء من غير تكلفٍ في استقائه يساويه مع تجشم طلبه أو نزعه من بئرٍ بعيدة".

ولا يُدرك مثل هذا الكلام إلا الذين عاشوا في مثل هذه البلاد قبل أربعين وخمسين سنة، الآن بإمكانك وأنت جالس تفتح البزبوز أو الصنبور وتتوضأ وأنت ماشي لا يُكلفك شيئًا، وجاء بعدها أمور أسهل من ذلك مجرد ما تضع يديك يصب الماء، وكانوا يذهبون إلى الفلوات، وإلى القفار يبحثون عن الماء، يذهبون إلى الآبار في المزارع، وفي الأماكن البعيدة يستقون منها الماء قبل صلاة الصبح؛ ليُحضروا ما يكفيهم في هذا اليوم، مشقات –والله المستعان- نعم.

"وكذلك القيام إلى الصلاة من النوم في قِصر الليل أو في شدة البرد، مع فعله على خلاف ذلك.

وإلى هذا المعنى أشار القرآن بقوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّه فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ } [العنكبوت:10] بعد قوله: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:1-2] إلى آخرها.

وقوله: {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:10-11] .

ثم مدح الله من صبر على ذلك وصدق في وعده بقوله: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23] الآية.

وقصة كعب بن مالك وصاحبيه -رضي الله عنهم- في تخلفهم عن غزوة تبوك ومنع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مكالمتهم، وإرجاء أمرهم: {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ} [التوبة:118].

وكذلك ما جاء في نكاح الإماء عند خشية العنت، ثم قال: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [النساء:25].

إلى أشباه ذلك مما يدل على أن المشقة قد تبلغ في الأعمال المعتادة ما يظن أنه غير معتاد، ولكنه في الحقيقة معتاد، ومشقته في مثله مما يعتاد؛ إذ المشقة في العمل الواحد لها طرفان وواسطة، طرفٌ أعلى بحيث لو زاد شيئًا لخرج عن المعتاد".

يعني ولو يسيرًا، يعني كالقشة التي تقطع ظهر البعير، يعني يصل إلى حد بحيث لا يقبل الزيادة، فإذا زاد عجز، إذا وصل إلى هذا الحد هذا هو الطرف الأعلى، ودونه الواسطة، ثم دونه الطرف الأدنى.

وهذه كلها أمور مختلفة باختلاف الأشخاص في التحمل، فمنهم من يتحمل، ومنهم مَن الطرف الأعلى بالنسبة لبعض الناس يكون هو الأدنى بالنسبة لأخرين، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، إذا وصل إلى حدٍّ يتضرر به فإن له أن يترخص.

"وهذا لا يخرجه عن كونه معتادًا، وطرفٌ أدنى بحيث لو نقَّص شيئًا لم يكن ثَم مشقةٌ تنسب إلى ذلك العمل، وواسطة هي الغالب والأكثر، فإذا كان كذلك، فكثيرٌ مما يظهر ببادئ الرأي من المشقات أنها خارجةٌ عن المعتاد لا يكون كذلك لمن كان عارفًا بمجاري العادات، وإذا لم تخرج عن المعتاد، لم يكن للشارع قصدٌ في رفعها، كسائر المشقات المعتادة في الأعمال الجارية على العادة، فلا يكون فيها رخصة، وقد يكون الموضع مشتبهًا فيكون محلاً للخلاف.

فحيث قال الله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} [التوبة:41]، ثم قال: {إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [التوبة:39] كان هذا موضع شدة".

العطف بـ(ثُم) "ثم قال"، والآية الثانية بعد الأولى أم قبلها؟

طالب: بعدها.

في الترتيب في القرآن؟

طالب: نعم.

أيهما الأولى في الترتيب؟

طالب:..........

نعم إذًا العطف بـ (ثم) هو للترتيب الذِّكري، يعني هنا.

"لأنه يقتضي أن لا رخصة أصلاً في التخلف، إلا أنه بمقتضى الأدلة على رفع الحرج محمولٌ على أقصى الثُّقل في الأعمال المعتادة، بحيث يتأتى النفير ويمكن الخروج، وقد كان اجتمع في غزوة تبوك أمران: شدة الحر، وبُعد الشقة، زائدًا على مفارقة الظلال، واستدرار الفواكه والخيرات، وذلك كله زائدٌ في مشقة الغزو زيادةً ظاهرة، ولكنه غير مُخرجٍ لها عن المعتاد".

نعم لو زادت شدة الحر، وزاد بُعد المشقة؛ لحصلت الرخصة، عن الأمر الذي لا يُطاق، عن الأمر المعتاد، لكن ما قيل بعد ذلك مما لا يُعد ضرورة من "مفارقة الظلال، واستدرار الفواكه والخيرات" مثل هذا لا يُمكن أن يُنظر إليه في رفع التكليف؛ لأن هذا يكون من باب إيثار الفانية على الباقية، ومن أجله حُكم على بعضهم بالنفاق حيث آثر الفانية على الباقية.

أما من تعذر بالمشقة والمشقة حقيقية، وزادت عن طوقه واختياره، فهذا مُحتمل.

"فلذلك لم يقع في ذلك رخصة، فكذلك أشباهها، وقد قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31].

وقد قال ابن عباس في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78]: إنما ذلك سعة الإسلام، ما جعل الله من التوبة والكفارات".

يعني بالنسبة للأديان السابقة {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] بحيث يشق عليكم مشقةً تخرج عن العادة والقدرة كالأديان السابقة، حيث فيها الآصار والأغلال، وقد رُفِعت عن هذه الأمة.

وقال عكرمة: ما أحل لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع.

وعن عبيدٍ بن عمير، أنه جاء في ناس من قومه إلى ابن عباس، فسأله عن الحرج، فقال: أولستم العرب؟! ثم قال: ادعُ لي رجلاً من هُذيل".

قبل ذلك "فسألوه ثلاثًا، كل ذلك يقول: أولستم العرب؟! ثم قال: ادع لي رجلاً من هُذيل" نعم.

"فقال: ما الحرج فيكم؟ قال: الحرجة من الشجر ما ليس له مخرج. قال ابن عباس: ذلك الحرج؛ ما لا مخرج له.

فانظر كيف جعل الحرج ما لا مخرج له".

لا أنه ما اشتمل على مشقة.

"وفسَّر رفعه بشرع التوبة والكفارات، وأصل الحرج الضيق، فما كان من معتادات المشقات في الأعمال المعتاد مثلها، فليس بحرجٍ لغةً ولا شرعًا، كيف وهذا النوع من الحرج وضع لحكمةٍ شرعية؛ وهي التمحيص والاختبار؛ حتى يظهر في الشاهد ما علمه الله في الغائب، فقد تبين إذًا ما هو من الحرج مقصود الرفع، وما ليس بمقصود الرفع، والحمد لله".

"حتى يظهر في الشاهد ما علمه الله في الغائب" يعني أن فلانًا يمتثل ويُوجِد هذا العمل المطلوب شرعًا، ولو كان فيه مشقة، والثاني يأبى ولا ينقاد مُعللاً تركه بالمشقة، هذا في علم الله موجود قبل التكليف، لكن كُلِّف بهذا مع أن هذا يمتثل، وهذا يترك "حتى يظهر في الشاهد ما علمه الله في الغائب" ولا يكون لأحدٍ حجة.

"فصل: قال ابن العربي: إذا كان الحرج في نازلةٍ عامةٍ في الناس، فإنه يسقط، وإذا كان خاصًا لم يُعتبر عندنا، وفي بعض أصول الشافعي اعتباره. انتهى ما قال.

وهو مما ينظر فيه، فإنه إن عنى بالخاص الحرج الذي في أعلى مراتب المعتاد، فالحكم كما قال، ولا ينبغي أن يختلف فيه؛ لأنه إن كان من المعتاد فقد ثبت أن المعتاد لا إسقاط فيه، وإلا لزم في أصل التكليف، فإن تُصوِّر وقوع اختلاف، فإنما هو مبنيٌّ على أن ذلك الحرج من قبيل المعتاد".

يعني من قال: برفعه، رأى أنه خرج عن حد المعتاد، ومن قال: بعدم رفعه، رأى أنه لم يخرج عن حد المعتاد.

"أو من قبيل الخارج عن المعتاد، لا أنه مختلفٌ فيه مع الاتفاق على أنه من أحدهما".

نعم، لا يختلف الإمام الشافعي مع ما أصَّله المالكية من أنه لا يُنظر إليه مع اتفاقهم على تحديد هذا الحرج وهذه المشقة أنها خارجة أو غير خارجة، فمن قال برفعه، رأى أنها خارجة عن المعتاد، ومن قال بعدم رفعه، قال: إنها لا تخرج عن المعتاد، وحينئذٍ لم يتحرر هنا محل النزاع، محل النزاع إذا وجِد الخلاف في مسألةٍ يتفقون على تحريرها.

أما إذا لم يُحرر مورد الخلاف هنا غير مورد الخلاف هناك، فلا خلاف حينئذٍ.

"لا أنه مختلفٌ فيه مع الاتفاق على أنه من ، وأيضًا فتسميته خاصًا يُشاح فيه، فإنه بكل اعتبارٍ عامٌ غير خاص، إذ ليس مختصًا ببعض المكلفين على التعيين دون بعض.

وإن عنى بالحرج ما هو خارجٌ عن المعتاد، ومن جنس ما تقع فيه الرخصة والتوسعة، فالعموم والخصوص فيه أيضًا مما يُشكل فهمه، فإن السفر مثلاً سببٌ للحرج مع تكميل الصلاة والصوم، وقد شُرِع فيه التخفيف، فهذا عام، والمرض قد شُرع فيه التخفيف وهو ليس بعام، بمعنى أنه لا يسوغ التخفيف في كل مرض؛ إذ من المرضى من لا يقدر على إكمال الصلاة قائمًا أو قاعدًا، ومنهم من يقدر على ذلك، ومنهم من يقدر على الصوم، ومنهم من لا يقدر، فهذا يخص كل واحدٍ من المكلفين في نفسه".

وإن اتحدوا في نفس المرض، يعني صار المرض عامًّا وباءً، ما نقول: إن الرخصة إذا حلت لفلان؛ لأنه أُصيب بهذا الوباء تحل لفلان؛ لأن هذا خاص وإن شمل الناس كلهم؛ لأن نصيب كل واحدٍ منهم من هذا المرض يختلف عن نصيب الآخر، فتجد الجميع مرضى بمرضٍ واحد، لكن منهم من يستطيع أن يُصلي قائمًا، ومنهم لا يستطيع، ومنهم من لا يستطيع إلا إيماء، ومنهم من يستطيع أن يصوم، ومنهم من لا يستطيع إلا أن الأمراض تمكُنها في الأبدان متفاوت بخلاف السفر وصف وقيد مؤثِّر يتفق فيه الجميع.

"ومع ذلك، فقد شُرع فيه التخفيف على الجملة، فالظاهر أنه خاصٌ، ولكن لا يخالف فيه مالكٌ والشافعي".

الشافعي.

طالب: ما فيه واو عندك؟

لا لا؛ لأن الخلاف في أصل المسألة بينهما ما أصَّله في أصل المسألة خلاف مالك مع الشافعي.

طالب:.........

لا لا، بدون واو.

"ولكن لا يخالف فيه مالكٌ الشافعي إلا أن يكونوا جعلوا هذا من الحرج العام عند تقييد المرض بما يحصل فيه الحرج غير المعتاد، فيرجع إذ ذاك إلى قسم العام، ولا يُخالف فيه مالكٌ الشافعي أيضًا، وعند ذلك يصعب تمثيل الخاص، وإلا فما من حرجٍ يُعد أن يكون له تخفيفٌ مشروعٌ باتفاقٍ أو باختلافٍ إلا وهو عام، وإن اتفق أن لا يقع منه في الوجود إلا فردٌ واحد".

نعم التخفيف على المريض لا يُلاحظ فيه مريض واحد { وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [النساء:43] لا يُلاحظ فيه مريض واحد، إنما يُلاحظ فيه كل من اتصف بهذا المرض مع عدم القدرة، فهو من جهة فيه عموم، ومن جهة فيه خصوص، الوصف المؤثِّر المرض يشمل جميع المرضى، لكن تفاوت المرضى في تمكن المرض من كل واحدٍ منهم يجعلهم يتفاوتون في الأحكام، وإلا فأصل مقتضي التخفيف موجود.

"وإن قُدِّر أن يكون التشريع له وحده أو لقومٍ مخصوصين، فهذا غير متصورٍ في الشريعة إلا ما اختص به النبي- صلى الله عليه وسلم-".

والخصائص النبوية معروفة، وقد أُلِّف فيها المؤلفات، للسيوطي الخصائص في ثلاث مجلدات، نعم.

"أو خص به أحد أصحابه".

أو خُص.

 أو خُص به أحد أصحابه، كتضحية أبي بردة بالعناق الجذعة".

يعني حينما ضحى قبل صلاة الإمام هذه لا تُجزئ، فقيل له: بالإعادة أعد، فقال: ما عندي إلى جذعة، فقال: «ضح بها ولا تُجزئ عن أحدٍ غيرك»، فالجمهور على أن الجذعة لا تُجزئ، الجذعة من الماعز لا تُجزئ عند عامة أهل العلم، وشيخ الإسلام جعل الخصوص في الوصف، من كان في مثل وصفه تُجزئ عنه بأن سبق الإمام وضحى، ثم بعد ذلك ما وجد إلا جذعة تُجزئ، فحمل الخصوص على الحال لا على الشخص، فلو كان في مثل حاله تُجزئ عنه ولا تُجزئ عن أحدٍ غيره في غير حاله، ولا شك أن كلام شيخ الإسلام فيه ما فيه؛ لأن الظاهر في النفي «ولا تُجزئ عن أحدٍ غيرك» شخصه لا حاله.

"وشهادة خزيمة، فذلك مختصٌّ بزمان النبوة دون ما بعد ذلك".

شهادة خزيمة يُكتفى بها عن شهادة اثنين؛ لأنه شهد للنبي –عليه الصلاة والسلام- بحدوث البيع، وقال: نُصدقك على خبر السماء، ولا نُصدقك في صفقة بيع، فجعل شهادته بشهادة اثنين وهذا خاصٌّ به.

"فإن قيل: لعله يريد بالخصوص والعموم ما كان عامًّا للناس كلهم، وما كان خاصًّا ببعض الأقطار، أو بعض الأزمان، أو بعض الناس، وما أشبه ذلك.

فالجواب: أن هذا أيضًا مما يُنظر فيه، فإن الحرج بالنسبة إلى النوع أو الصنف عام في ذلك الكلي لا خاص؛ لأن حقيقة الخاص ما كان الحرج فيه خاصًّا ببعض الأشخاص المتعينين".

المُعينين.

"أو بعض الأزمان المعينة، أو الأمكنة المعينة، وكل ذلك إنما يُتصور في زمان النبوة، أو على وجهٍ لا يُقاس عليه غيره".

نعم العموم والخصوص منه العموم المطلق، ومنه العموم المُقيد، فمثلاً القارن والمفرد يلزمه الدم، دم المتعة والقران، لكن إن كان مكيًّا كان أهله من حاضري المسجد الحرام، نعم لا يلزمه، {ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:196]، لكن هل هذا شخص أم جماعة؟ هو خاص من حيث المكان، لكنه عامٌ في الأشخاص، افترض أن في مكة من الحجاج مائة ألف، حج من أهل مكة مائة ألف كلهم قرنوا بين الحج والعمرة أو تمتعوا إن كان يحق لهم التمتع على قول.

المقصود أن هذا عامٌّ بالنسبة للأشخاص، خاصٌّ بالنسبة للجهة.

"كنهيه عن ادخار لحوم الأضاحي زمن الدافة".

نعم الدافة قوم وفدوا إلى المدينة في أيام عيد الأضحى، فنهى النبي –عليه الصلاة والسلام- عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث؛ من أجل الدافة، من أجل هؤلاء لو أُبيح لهم الادخار ما تُصُدُّق على هؤلاء، لكن لمَّا منعوا من الادخار، فلا يستطيعون أكل كل ما ذبحوا في ثلاثة أيام لا بُد من أن يتصدقوا على هذا، ثم بعد ذلك نُسخ النهي عن الادخار وبُيِّن أن العلة إنما هو من أجل الدافة.

"وكتخصيص الكعبة بالاستقبال، والمساجد الثلاثة بما اشتهر من فضلها على سائر المساجد، فتصوُّر مثل هذا في مسألة ابن العربي غير متأتٍّ.

فإن قيل: ففي النوع أو الصنف خصوص من حيث هو نوعٌ أو صنفٌ داخلٌ تحت جنسٍ شاملٍ له ولغيره.

قيل: وفيه أيضًا عموم من جهة كونه شاملاً لمتعددٍ لا ينحصر، فليس أحد الطرفين وهو الخصوص أولى به من الطرف الآخر، وهو العموم، بل جهة العموم أولى؛ لأن الحرج فيها كليٌّ، بحيث لو لحق نوعًا آخر أو صنفًا آخر للحق به في الحكم، فنسبة ذلك النوع أو الصنف إلى سائر الأنواع أو الأصناف الداخلة تحت الجنس الواحد نسبة بعض أفراد ذلك الجنس في لحوق المرض أو السفر إلى جميع أفراده، فإن ثبت الحكم في بعضها ثبت في البعض، وإن سقط سقط في البعض، وهذا متفقٌ عليه بين الإمامين، فمسألتنا ينبغي أن يكون الأمر فيها كذلك".

فيعود أن سبب الاختلاف السبب في اختلاف تحقيق المناط، يعني المسألة التي يُخالف فيها مالك غير المسألة التي يُخالف فيها الشافعي، وسبب اختلافهم عدم تحرير محل النزاع، هو فيه نزاع ،هذا ينحى إلى المنع، وهذا ينحى إلى الجواز، لكن الممنوع عند مالك هو غير الجائز عند الشافعي.

"فإن قيل: لعله يريد بذلك ما كان مثل التغير اللاحق للماء بما لا ينفك عنه غالبًا، وهو عام، كالتراب والطحلب وشبه ذلك، أو خاص، كما إذا كان عدم الانفكاك خاصًّا ببعض المياه، فإن حكم الأول ساقطٌ؛ لعمومه، والثاني مختلفٌ فيه؛ لخصوصه، وكذلك اختُلف في ماء البحر، هل هو طهورٌ أم لا؟ لأنه متغيرٌ خاص، وكالتغير بتفتت الأوراق في المياه خصوصًا، ففيه خلاف".

وإذا قيل: إن كونه طهورًا إنما هو للمشقة الحاصلة بسبب اتقاء هذا المُغيِّر، فالتفتت غير التفتيت، إذا تغير بالتفتت صار شاقًّا، أما بالنسبة للتفتيت كونه يُوضع فيه هذا لا يشق توقيه ولا التحرز منه.

وإذا اختلف اثنان في ماءٍ هل هو متغير أو غير متغير؟ هم يتفقون على حكم أنه إذا تغير لا يجوز الوضوء به، إلا أنهما واحد يقول: إنه تغير وصل إلى حد التغير، والثاني يقول: لم يصل إلى حد التغير، ومثل هذا التغير محتمل، يكون مثل مسألة اختلاف مالك والشافعي.

طالب: يا شيخ العبارة هذه التي كتبتها أنا مستقيمة (السبب في الاختلاف بين الإمامين عائدٌ إلى الاختلاف في جهة تحقيق المناط، أي: عدم تحرير محل الخلاف)؟

فالمسألة الصورة التي يُخالف فيها مالك غير الصورة التي يُخالف فيها الشافعي، مثل ما قلنا في الماء المتغير سواء، هم كلهم يتفقون على أن المتغير ينتقل من كونه طهورًا إلى كونه طاهرًا، لكن واحد منهما يقول: وصل إلى الحد الذي يُمنع، والثاني يقول: ما وصل إلى الحد الذي يُمنع.

"والطلاق قبل النكاح إن كان عامًّا سقط، وإن كان خاصًّا ففيه خلاف".

نعم "إن كان عامًا" فقال: كل امرأةٍ أتزوجها فهي طالق، هذا يسقط؛ لأن فيه حرج ومشقة، يعني معناه أنه يحرم نفسه من النكاح مطلقًا، وهذا على خلاف هدي المصطفى وسائر المرسلين -عليهم الصلاة والسلام-.

"وإن كان خاصًّا ففيه خلاف" يعني قال: إن تزوجت من قبيلة كذا أو إن تزوجت فلانة هذا ليس فيه من المشقة مثل ما في الطلاق قبل النكاح على جهة العموم.

 "كما إذا قال: كل امرأة أتزوجها من بني فلان أو من البلد الفلاني أو من السودان أو من البيض أو كل بكرٍ أتزوجها أو كل ثيبٍ وما أشبه ذلك، فهي طالق، ومثله كل أمةٍ اشتريتها فهي حرة، هو بالنسبة إلى قصد الوطء من الخاص، كما لو قال: كل حرة أتزوجها طالق، وبالنسبة إلى قصد مُطلق المِلك من العام فيسقط، فإن قال فيه: كل أمةٍ اشتريتها من السودان كان خاصًّا، وجرى فيه الخلاف، وأشباه ذلك من المسائل.

فالجواب أن هذا ممكن، وهو أقرب ما يؤخذ عليه كلامه، إلا أن نص الخلاف في هذه الأشياء وأشباهها عن مالكٍ بعدم الاعتبار، وعن الشافعي بالاعتبار يجب أن يُحقق في هذه الأمثلة وفي غيرها بالنسبة إلى علم الفقه، لا بالنسبة إلى نظر الأصول".

ما الفرق بين الفقه والأصول؟ بالنسبة إلى علم الفقه في المسائل الجزئية، يعني في كل مسألة جزئية في الطهارة، في الصلاة، في الزكاة كل مسألة جزئية، لكن بالنسبة إلى علم الأصول في الأصول العامة التي هي أصول الفقه التي يُستمد منها هذه المسائل الجزئية.

"إلا أنه إذا ثبت الخلاف، فهو المراد ها هنا، والنظر الأصولي يقتضي ما قال، فإن الحرج العام هو الذي لا قدرة للإنسان في الانفكاك عنه، كالأمثلة المتقدمة، فأما إذا أمكن الانفكاك عنه، فليس بحرجٍ عامٍ بإطلاق، إلا أن الانفكاك عنه قد يكون فيه حرجٌ آخر وإن كان أخف؛ إذ لا يطرد الانفكاك عنه دون مشقة؛ لاختلاف أحوال الناس في ذلك.

وأيضًا فكما لا يطرد الانفكاك عند دون مشقة كذلك لا يطرد مع وجودها، فكان بهذا الاعتبار ذا نظرين، فصارت المسألة ذات طرفين وواسطة: الطرف العام الذي لا انفكاك عنه في العادة الجارية، ويقابله طرف خاص يطرد الانفكاك عنه من غير حرج كتغير هذا الماء بالخل والزعفران ونحوه، وواسطة دائرة بين الطرفين هي محل نظر واجتهاد.

 والله أعلم".

 

اللهم صلِّ على محمد وعلى آله وصحبه.