عمدة الأحكام - كتاب الأشربة (1)

قال -رحمه الله تعالى-:

كتاب: الأشربة

عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن عمر -رضي الله عنه- قال على منبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أما بعد، أيها الناس إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة: من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير، والخمر ما خامر العقل، ثلاث وددت لو أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان عهد إلينا فيهن عهداً ننتهي إليه، الجد، والكلالة، وأبواب من أبواب الربا".

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:

كتاب: الأشربة

والكتاب سبق التعريف به، والأشربة ما يشرب ويتناول من السوائل عن طريق الفم، وإن كان داخل في المعنى العام للأطعمة؛ لأنها مما يطعم، والمراد بذلك الأشربة الممنوعة كالخمر وما يلحق به.

يقول -رحمه الله تعالى-:

"عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- أن عمر" أمير المؤمنين عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- "قال على منبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم-" في مسجد النبي -عليه الصلاة والسلام-: "أما بعد" يعني خطب، وقال في خطبته: "أما بعد" والإتيان بها سنة ثبتت عن ثلاثين من الصحابة، يعني رويت عن النبي -عليه الصلاة والسلام- من أكثر من ثلاثين طريقاً، كلها يقول في خطبه ومخاطباته ورسائله: ((أما بعد)) و(أما) حرف شرط وتفصيل, و(بعد) قائم مقام الشرط، مبني على الضم؛ لأنه قطع عن الإضافة مع نية المضاف إليه.

"أيها الناس" الأصل أن يقترن جوابها بالفاء "أما بعد فأيها الناس" لأنه شرط لا بد من أن يقترن جوابه بالفاء ويراجع الصحيح، لعله يراجع، نعم، "أيها الناس إنه نزل تحريم الخمر" {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} [(90) سورة المائدة] لأنه نزل تدريجي، نزل تحريمه تدريجياً، منع من قربانها وقت الصلاة، ثم بُين أن الضرر أكثر من النفع، ثم نزل التحريم القطعي لأنهم بهذا التدريج يتكيفون؛ لأنهم أشربت قلوبهم حب الخمر، العرب يحبون الخمر، ويشربونها ويزاولونها بكثرة، فمن رحمة الله -جل وعلا- أن نزل تحريمها تدريجياً فجاء في آخر الأمر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [(90) سورة المائدة] أخر ما نزل فيها، التحريم..، البت في تحريمها.

"نزل تحريم الخمر وهي من خمسة" يعني تتخذ من خمسة أشياء، مادتها تستمد من خمسة أشياء من العنب ومن التمر ومن العسل ومن الحنطة والشعير، فما يتخذ من العنب يسمى؟ خمر، إذا خامر خلاص انتهى صار خمر، ما نقول: نبيذ، النبيذ فترة قبل الإسكار، إذا صار خمر وأصله من العنب نقول: خمر، إذا كان أصله من التمر نقول: خمر، إذا كان أصله من العسل نقول: خمر، إذا كان أصله من الحنطة نقول: خمر، إذا كان أصله من الشعير نقول: خمر، لماذا؟ لأن عمر بن الخطاب عربي قح، والكلمة عربية الخمر، وأطلق عليها أنها تؤخذ من العناصر ومن المواد الخمسة، ثم جاء بقاعدة عامة، نعم "والخمر ما خامر العقل" لو وجدنا شيء يخامر العقل، ويغطي العقل من غير هذه الأمور الخمسة نسميه؟ خمر، هذا قول الجمهور، نزل تحريم الخمر والمدينة ما فيها إلا التمر فهل يعد ما يعتصر أو ما يخمر من التمر خمر؟ نعم يسمى خمر، يدخل في النص دخول قطعي، لكن الحنفية وش يقولون؟ الحنفية عندهم أن الخمر خاص بالعنب، على أن الخمر ما خامر العقل من أي مادة كانت، وقت نزول الخمر تتخذ الخمرة من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير، المسألة اصطلاحية، يعني إطلاق الخمر إطلاقاً حقيقاً عند الحنفية ما يطلقونه إلا على ما أتخذ من العنب، بينما غيرهم يطلقونه على كل ما خامر العقل، ولذا من أراد أن يعرف الخمر يرجع إلى أي كتاب، هناك كتب اعتنت بالاصطلاحات، لكن هل نذهب إلى الكتب التي اعتنت بالاصطلاحات متأثرة بالمذاهب؟ لا انتبهوا يا إخوان، ما نعرف الحقائق الشرعية من كتب تأثرت بالاصطلاحات المذهبية، مثلاً (المغرب) للمطرزي من أنفس كتب اللغة، هل نعرف منه الخمر؟ نقول: لا المطرزي حنفي، يعرف لنا الخمر بأنه عصير العنب، ولا نعتمد على مثل المصباح المنير أو المطلع لأنها تأثرت بالمذاهب، عندنا لغة نرجع إلى العرب الأقحاح، وعمر منهم؛ لأنه قال في النهاية: "والخمر ما خامر العقل" ومن أوضح الأدلة على ذلك أن المدينة ليس فيها عنب في وقت لما نزل الخمر، إنما فيها التمر.

"والخمر ما خامر العقل، ثلاثٌ وددت" يتمنى عمر -رضي الله تعالى عنه- أن يكون فيه نصوص قطعية، ما تحتمل تردد في المسائل الثلاث "وددت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان عهد إلينا فيهن" ثلاث مسائل عنده تردد في حكمها، فتمنى لو كان عنده نص قاطع من النبي -عليه الصلاة والسلام- يحسم الخلاف "ننتهي إليه، الجد" هل مثل الأب في الميراث؟ هل هو يحجب الإخوة؟ أو الإخوة يرثون مع الجد؟ المسألة خلافية بين أهل العلم، والقول المرجح أنه أب {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي} [(38) سورة يوسف] {يَا بَنِي آدَمَ} [(26) سورة الأعراف] وجد جد بعيد، فالجد أب فهو يحجب الإخوة كالأب.

"الجد والكلالة" الكلالة من مات ليس له ولد ولا والد {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ} [(176) سورة النساء] ولذلك قال: ألا تكفيك أية الصيف؟ نعم، فعمر -رضي الله تعالى عنه- أراد أن يكون هناك نص قاطع في هذه المسائل، ولا يعني أنه إذا خفي على عمر بعض هذه المسائل أن الأمة بكاملها خفي عليها الحكم، لا النبي -عليه الصلاة والسلام- ما ترك شيء ما بينه، والكلالة وأبواب من أبواب الربا، مسائل من مسائل الربا خفيت على عمر -رضي الله تعالى عنه-، منهم من يقول: إن منها ربا الفضل، أما ربا النسيئة فهو متفق عليه ومقرر، لكن ربا الفضل قد يشك فيه من يسمع الحديث: ((إنما الربا في النسيئة)) جاء النص القطعي عنه -عليه الصلاة والسلام- في قوله: ((أوه إنه الربا)) لما باع الصاع بالصاعين، هذا ربا الفضل، فهو مقطوع بتحريمه، والإجماع قائم عليه.

الحديث الثاني.

وعن عائشة -رضي الله عنها- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه سئل عن البتع، فقال: ((كل شراب أسكر فهو حرام)).

البتع: نبيذ العسل.

يقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:

"وعن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- سئل عن البتع" البتع فسره المؤلف بأنه نبيذ العسل، النبيذ يتخذ شيء من العسل، ويجعل في مكان، وفي الغالب أن يكون المكان دافئ حار؛ لأنه لو حفظ في مكان بارد ما تغير، ويحكم إغلاقه، وقد يوضع عليه شيء مواد يتخمر، مثلما يتخذ من التمر أو من العنب أو من غيرهما، يحبس يوم يومين ثلاثة، والنبي -عليه الصلاة والسلام- كان ينتبذ له، لكن يشربه من يومه، أما إذا مضى عليه يومان أو ثلاث وتغير وقذف الزبد لا يجوز شربه، هذا النبيذ.

"فقال: ((كل شراب أسكر فهو حرام))" كل ما يسكر فهو حرام، ويلحق بالشراب المأكول المطعوم، الحشيشة حرام بالإجماع وهي مأكولة وليست مشروبة، عاد ما ندري وش يسوون بها الآن؟ وإلا كان تأكل على عهد النووي وعلى عهد شيخ الإسلام وهي محرمة بالإجماع، وغيرها مما يرد من حبوب وأبر وأمور نسأل الله السلامة والعافية، نسأل الله أن يقي  المسلمين من شرها، وردت عليهم وأثرت في عقولهم وأديانهم وأبدانهم وتصرفاتهم وأخلاقهم، أثرت فيها تأثيراً بالغاً نسأل الله -جل وعلا- أن يحصن الأمة منها، وأن يرد كيد الكائدين في نحورهم، فجاءت هذه القاعدة: كل شراب أسكر فهو حرام، ولو كان طيب، ولو كان مأكول مشروب أياً كان، إذا أسكر فهو حرام، وإن كان بالشم يسكر يغطي العقل فهو حرام داخل في هذه القاعدة، نعم.

وعن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: بلغ عمر -رضي الله عنه- أن فلاناً باع خمراً، فقال: قاتل الله فلاناً، ألم يعلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجمولها فباعوها)).

يقول المؤلف:

"وعن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال: بلغ عمر أن فلاناً" جاء تسميته في بعض الروايات أنه سمرة، صحابي جليل، لكن عرف تحريم الخمر ولم يعرف حكم بيع الخمر، عرف تحريم الشرب ولم يعرف حكم البيع، وخفي عليه أن الله -جل وعلا- إذا حرم شيئاً حرم ثمنه، وجاء النهي عن التجارة بالخمر "بلغ عمر أن فلاناً باع خمراً، فقال: قاتل الله فلاناً" دعا عليه، يستحق الدعاء، ولم يعزره، ولم يعاقبه، ولم يضربه، عذره بجهله وإلا فمثل هذا تجب عقوبته، هذه وظيفة السلطان، هذه وظيفة الحاكم، وكان عمر -رضي الله عنه- يضرب على أقل من هذا، الذي يصلي بعد صلاة العصر يضربه عمر بالدرة؛ لأنه خالف النهي، فكان عمر -رضي الله تعالى عنه وأرضاه- حازم، لكن هنا عذر صحابي جليل تأول، وما عرف أن البيع حرام فعذره "وقال: قاتل الله فلاناً" دعا عليه "ألم يعلم أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((قاتل الله اليهود))" عمر -رضي الله عنه- خفي عليه النص الذي يدل على تحريم التجارة في الخمر، فقاس بيع الخمر على بيع الشحوم، واستعمل القياس هنا، فقال: ((قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجمولها)) جمولها يعني أذابوها، قالوا: والله ما بعنا شحم، ولا أكلنا شحم، ولا أكلنا حرام، إحنا بعنا سمن، وهذا حلية من حيل اليهود التي عرفوا بها، ولذا جاء النهي عن التشبه بهم ((لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا ما حرم الله بأدنى الحيل)) هذه حيلة دنيئة، وكما فعلوا في الصيد يوم السبت ((قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها)) يعني وأكلوا ثمنها وإن لم يأكلوها، والله أعلم.

 

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.