التعليق على تفسير القرطبي - سورة فاطر (02)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، سم.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، قال الإمام القرطبي- رحمه الله تعالى-

قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ}.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} هَذِهِ الرُّؤْيَةُ رُؤْيَةُ الْقَلْبِ وَالْعِلْمِ؛ أَيْ أَلَمْ يَنْتَهِ عِلْمُكَ وَرَأَيْتَ بِقَلْبِكَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ؛ فَ(أَنَّ) وَاسْمُهَا وَخَبَرُهَا سَدَّتْ مَسَدَّ مَفْعُولَيِ الرُّؤْيَةِ."

هذه الرؤية يقول المؤلف: إنها رؤية القلب والعلم، والماء الذي ينزل من السماء يُرى بالبصر، الرؤية بصرية، كما أنها تأملها بالقلب والسابق واللاحق منها يكون بالعلم، فالرؤى الثلاث كلها تتوافر في هذا؛ لأنه يُرى بالبصر، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} نزول الماء من السماء مرئي بالبصر.

والمؤلف يقول: هذه الرؤية روية القلب والعلم، لاشك أن القلب له مدخل في نسبة ما بين الإنزال والإخراج، مثل هذا يحدث تدريجيًا، يعرف بالعلم من السابق، ويعرف أيضًا أن تدرك النسبة بالقلب، والمطر يُرى بالبصر.

"{فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ} هُوَ مِنْ بَابِ تَلْوِينِ الْخِطَابِ. {مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا} نُصِبَتْ مُخْتَلِفًا نَعْتًا لِ(ثَمَرَاتٍ). (أَلْوَانُهَا) رُفِعَ بِ(مُخْتَلِفًا)."

(ثمرات) منصوب لأخرجنا، مفعول، وجمع مؤنث سالم، ينصب بالكسرة، و(مختلفًا) نعته ووصفه، ينصب بالفتحة، وقوله: (فأخرجنا به) من باب تلوين الخطاب؛ يعني التنويع، (ألم تر أن الله أنزل)؛ يعني لو كان الخطاب على وتيرٍة واحدة، لقال: "فأخرج به ثمرات"، "ألم تر أن الله أنزل، فأخرج" لما قال: فأخرجنا، التفات من الغيبة إلى الحضور، تكلُم، وهذا لاشك أنه فيه تنوع وتلوين في الخطاب.

"وَصَلُحَ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِ(ثَمَرَاتٍ) لِمَا عَادَ عَلَيْهِ مِنْ ذِكْرِهِ."                                     

يصلح أن يكون نعتًا ل(ثمرات)؛ لأن فيه ضمير يعود إليها، لأن فيه ضمير يعود إليها، فيكون نعتًا سببيًا، كما تقول: جاء زيٌد الذي قام أبوه، الذي قام أبوه نعت سببي، والأصل أنه مرفوع بمختلف، فاعل، اسم الفاعل.

"وَيَجُوزُ فِي غَيْرِ الْقُرْآنِ رَفْعُهُ؛ وَمِثْلُهُ رَأَيْتُ رَجُلًا خَارِجًا أَبُوهُ. (بِهِ) أَيْ بِالْمَاءِ وَهُوَ وَاحِدٌ، وَالثَّمَرَاتُ مُخْتَلِفَةٌ. {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا}."

(به) واحده، الماء واحد، لكنه جنس، يصلح للواحد، والاثنين، والجمع، والكثير، والقليل، أما جمعهم، (المياه) في كتب أهل العلم، فإنما هو لتعدد أنواعه، منهم، ماء المطر، وماء البحر، وماء الآبار، وماء الأودية والأنهار، ومنه الطاهر، والطهور، والنجس، إلى غير ذلك؛ فنظرًا لتعدد أنواعه جمعوه، وإلا فالأصل أنه يطلق على الجميع.

"{وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا} الْجُدَدُ جَمْعُ جُدَّةٍ، وَهِيَ الطَّرَائِقُ الْمُخْتَلِفَةُ الْأَلْوَانَ، وَإِنْ كَانَ الْجَمِيعُ حَجَرًا أَوْ تُرَابًا. قَالَ الْأَخْفَشُ: وَلَوْ كَانَ."

الحنفية يقولون: أن إضافة الماء، لا تؤثر؛ يعني فكما قالوا: ماء الورد، مثل من قالوا ماء البئر، الإضافة فيه لا تؤثر، مادام ماء، يصح التطهر به ولو أضيف، والإضافة لا أثر لها، تقول: ماء الورد مثلاً، وتقول أيضًا: ماء البئر، فالإضافة لا أثر لها، لكن الحنفية رد عليهم بتأثير الإضافة على الماء بمثل: ماء الرجل، وماء المرأة؛ يعني هل الإضافة مؤثرة ولا غير مؤثرة؟ مؤثرة قطعًا، يعني قالوا: الماء ماء، مهما أضفته يبقى ماء، ويصح التطهر به، ماء الورد مثل ماء البئر، الإضافة لاشك أن لها أثر، كما في ماء الرجل وماء المرأة، هل يصح التطهر بهم؟ لا أحد يقول بهذا.

"قَالَ الْأَخْفَشُ: وَلَوْ كَانَ جَمْعُ جَدِيدٍ لَقَالَ: جُدُدٌ (بِضَمِّ الْجِيمِ وَالدَّالِ) نَحْوَ سَرِيرٍ وَسُرُرٍ. وَقَالَ زُهَيْرٌ:

كَأَنَّهُ أَسْفَعُ الْخَدَّيْنِ ذُو جُدُدٍ
  

طَاوٍ وَيَرْتَعُ بَعْدَ الصَّيْفِ عُرْيَانَا
  

وَقِيلَ: إِنَّ الْجُدَدَ الْقِطَعُ، مَأْخُوذٌ مِنْ جَدَدْتُ الشَّيْءَ إِذَا قَطَعْتُهُ."

ومنه الجداد، والجذاذ في صرم النخل، وقطع التمر منها.

"حَكَاهُ ابْنُ بَحْرٍ قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَالْجُدَّةُ الْخُطَّةُ الَّتِي فِي ظَهْرِ الْحِمَارِ تُخَالِفُ لَوْنَهُ. وَالْجُدَّةُ الطَّرِيقَةُ، وَالْجَمْعُ جُدَدٌ؛ قَالَ تَعَالَى: {وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا} أَيْ طَرَائِقُ تُخَالِفُ لَوْنَ الْجَبَلِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: رَكِبَ فُلَانٌ جُدَّةً مِنَ الْأَمْرِ؛ إِذَا رَأَى فِيهِ رَأْيًا. وَكِسَاءٌ مُجَدَّدٌ: فِيهِ خُطُوطٌ مُخْتَلِفَةٌ. قال الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ جُدُدٌ بِالضَّمِّ جَمْعُ جَدِيدَةٍ، هِيَ الْجِدَّةُ؛ يُقَالُ: جَدِيدَةٌ وَجُدُدٌ وَجَدَائِدُ كَسَفِينَةٍ وَسُفُنٍ وَسَفَائِنَ. وَقَدْ فُسِّرَ بِهَا قَوْلُ أَبِي ذُؤَيْبٍ:

جَوْنُ السَّرَاةِ لَهُ جَدَائِدُ أَرْبَعُ
  

وَرُوِيَ عَنْهُ (جَدَدٌ) بِفَتْحَتَيْنِ، وَهُوَ الطَّرِيقُ الْوَاضِحُ الْمُسْفِرُ، وَضَعَهُ مَوْضِعَ الطَّرَائِقِ وَالْخُطُوطِ الْوَاضِحَةِ الْمُنْفَصِلُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ. {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ} وَقُرِئَ: (وَالدَّوَابِ) مُخَفَّفًا. وَنَظِيرُ هَذَا التَّخْفِيفِ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَ: (وَلَا الضَّالِينَ) لِأَنَّ كُلَّ. الضالين؟"

الضألين.

 "(وَلَا الضّألِينَ) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَرَّ مِنَ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، فَحَرَّكَ ذَلِكَ أَوَّلَهُمَا، وَحَذَفَ هَذَا آخِرَهُمَا؛ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. {والْأنْعَأَمُ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} أَيْ فِيهْمُ اَلَأَحْمَرُ وَاَلَأَبْيَضُ وَاَلَأَسْوَدُ وَغَيِرُ ذَلْكَ، وَكْلُ ذَلِكُ دَلِيِلُ عَلَىَ صَاَنٌع مُخْتَاَرْ، وَقَاَلَ: {مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} فَذَكَّرَ الضَّمِيرَ مُرَاعَاةً لِ(مِنْ)؛ قَالَهُ الْمُؤَرِّجُ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ: إِنَّمَا ذَكَرَ الْكِنَايَةَ لِأَجْلِ أَنَّهَا مَرْدُودَةٌ إِلَى (مَا) مُضْمَرَةٍ؛ مَجَازُهُ: وَمِنَ النَّاسِ وَمِنَ الدَّوَابِّ وَمِنَ الْأَنْعَامِ مَا هُوَ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ، أَيْ أَبْيَضُ وَأَحْمَرُ وَأَسْوَدُ. {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْغِرْبِيبُ الشَّدِيدُ السَّوَادِ؛ فَفِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، وَالْمَعْنَى: وَمِنَ الْجِبَالِ سُودٌ غَرَابِيبُ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِلشَّدِيدِ السَّوَادِ الَّذِي لَوْنُهُ كَلَوْنِ الْغُرَابِ: أَسْوَدُ غِرْبِيبٌ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَتَقُولُ هَذَا أَسْوَدُ غِرْبِيبٌ؛ أَيْ شَدِيدُ السَّوَادِ. وَإِذَا قُلْتَ: غَرَابِيبُ سُودٌ، تَجْعَلُ السُّودَ بَدَلًا مِنْ غَرَابِيبَ لِأَنَّ تَوْكِيدَ الْأَلْوَانِ لَا يَتَقَدَّمُ. وَفِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ‹‹إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ الشَّيْخَ الْغِرْبِيبَ›› يَعْنِي الَّذِي يَخْضِبُ بِالسَّوَادِ."

خرجه؟

طالب:.....

 رشدين، رشدين، بإسناد رشدين وهو ضعيف عند أهل العلم، رشدين بن سعد المصري، لكن حديث ‹‹جنبوه السواد›› يكفي في تحريم الصبغ بالسواد، نعم.

 "قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:

الْعَيْنُ طَامِحَةٌ وَالْيَدُ سَابِحَةٌ

وَالرِّجْلُ لَافِحَةٌ وَالْوَجْهُ غِرْبِيبُ

وَقَالَ آخَرُ يَصِفُ كَرْمًا:

وَمِنْ تَعَاجِيبِ خَلْقِ اللَّهِ غَاطِيَةٌ

يُعْصَرُ مِنْهَا مُلَاحِيٌّ وَغِرْبِيبُ

(كَذَلِكَ) هُنَا تَمَامُ الْكَلَامِ؛ أَيْ كَذَلِكَ تَخْتَلِفُ أَحْوَالُ الْعِبَادِ فِي الْخَشْيَةِ، ثُمَ اسْتَنَفَ فَقَاَلَ: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ}؛ يَعْنِي بِالْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يَخَافُونَ قُدْرَتَهُ؛ فَمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- قَدِيرٌ أَيْقَنَ بِمُعَاقَبَتِهِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، كَمَا رَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} قَالَ: الَّذِينَ عَلِمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: مَنْ لَمْ يَخْشَ اللَّهَ تَعَالَى فَلَيْسَ بِعَالِمٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّمَا الْعَالِمُ مَنْ خَشِيَ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ-."

هذا أسلوب، أسلوب حصر فالذي يخشى الله- جلّ وعلا-هو العالم، والعالم هو الذي يخشى الله -جلّ وعلا- وأما من يحمل العلم دون خشية، فهذا في الحقيقة ليس بعلم، ولا يستحق أن يسمى عالمًا، من العجب أن كل مسلم يعلم قدرة الله عليه، ومع ذلك لا يخشى الله- جلّ وعلا- والذي شك في القدرة من الأمم السابقة، لئن قدر الله علي، عظم خوفه من الله جلّ وعلا واشتدت خشيته، حتى أنه أمر بإحراقه وذر رماده في الهواء، شتان بين من يعلم ولا يفعل، وبين من يجهل ويفعل، هذان طرفا نقيض، لكن المُمتدح حقًا، المَمدوح حقًا، هو الذي يعلم ويعمل ويخشى، يخشى الله -جلّ وعلا-.

 "وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: كَفَى بِخَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى عِلْمًا وَبِالِاغْتِرَارِ جَهْلًا. وَقِيلَ لِسَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ: مَنْ أَفْقَهُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ؟ قَالَ أَتْقَاهُمْ لِرَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ."

لأن العبرة بالعلم، العلم الذي ليس بعده، ورائه عمل هذا ليس بعلم، بقدر ما يعمل الإنسان يوصف بالعلم، بقدر ما يترك يوصف بالجهل، بقدر ما يخالف يوصف بالجهل، من عصا الله فهو جاهل، ولو عرف بالحكم، {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ}[النساء:17] الجهالة هنا ارتكاب المعصية، ليس معناها عدم معرفة الحكم، يعلم أن الخمر حرام ويشرب الخمر، هذا جاهل ولو علم الحكم بدليله، يعلم أن الزنا حرام ويزني، هو جاهل ولو علم الحكم بدليله، ولولا ذلك لقلنا أن من عرف الحكم لا تقبل توبته، ولا قائل بهذا، ولا قائل بهذا {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ}[النساء:17] فكل من عصا الله فهو جاهل،.

"وَعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: إِنَّمَا الْفَقِيهُ مَنْ يَخَافُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ. وَعَنْ عَلِيٍّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: إِنَّ الْفَقِيهَ حَقَ الْفَقِيهِ مَنْ لَمْ يُقَنِّطِ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُمْ فِي مَعَاصِي اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمْ يُؤَمِّنْهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَلَمْ يَدَعِ الْقُرْآنَ رَغْبَةً عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ؛ إِنَّهُ لَا خَيْرَ فِي عِبَادَةٍ لَا عِلْمَ فِيهَا، وَلَا عِلْمَ لَا فِقْهَ فِيهِ، وَلَا قِرَاءَةَ لَا تَدَبُّرَ فِيهَا. وَأَسْنَدَ الدَّارِمِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ عَنْ مَكْحُولٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ‹‹إِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ››، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} ،‹‹إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرَضِيهِ وَالنُّونَ فِي الْبَحْرِ يُصَلُّونَ عَلَى الَّذِينَ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ الْخَيْرَ›› الْخَبَرُ مُرْسَلٌ."

لأنه يرفعه مكحول إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وهو تابعي، وهذا حد المرسل، مخرج؟ ما في غيره؟ يعني ما رواه غير الدارمي؟

طالب:......

الترمذي؟

طالب:.......

"قَالَ الدَّارِمِيُّ: وَحَدَّثَنِي أَبُو النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ حَازِمٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَمِّي جَرِيرُ بْنُ زَيْدٍ، أَنَّهُ سَمِعَ تُبَيْعًا يُحَدِّثُ عَنْ كَعْبٍ، قَالَ:‹‹إِنِّي لَأَجِدُ نَعْتَ قَوْمٍ يَتَعَلَّمُونَ لِغَيْرِ الْعَمَلِ، وَيَتَفَقَّهُونَ لِغَيْرِ الْعِبَادَةِ، وَيَطْلُبُونَ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ، وَيَلْبَسُونَ جُلُودَ الضَّأْنِ، قُلُوبُهُمْ أَمَرُّ مِنَ الصَّبْرِ؛ فَبِي يَغْتَرُّونَ، وَإِيَّايَ يُخَادِعُونَ، فَبِي حَلَفْتُ لَأُتِيحَنَّ لَهُمْ فِتْنَةً تَذَرُ الْحَلِيمَ فِيهِمْ حَيْرَانَ.›› خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ مَرْفُوعًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَقَدْ كَتَبْنَاهُ فِي مُقَدِّمَةِ الْكِتَابِ. قَاَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا وَجْهُ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهُ) بِالرَّفْعِ (مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءَ) بِالنَّصْبِ، وَهُوَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ. وَتُحْكَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ. قُلْتُ: الْخَشْيَةُ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ اسْتِعَارَةٌ، وَالْمَعْنَى: إِنَّمَا يُجِلُّهُمْ وَيُعَظِّمُهُمْ كَمَا يُجَلُّ الْمَهِيبُ الْمَخْشِيُّ مِنَ الرِّجَالِ بَيْنَ النَّاسِ مِنْ بَيْنِ جَمِيعِ عِبَادِهِ.

يعني القراءة شاهده، فلا نحتاج إلى تأوليه،.

"{إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} تَعْلِيلٌ لِوُجُوبِ الْخَشْيَةِ، لِدَلَالَتِهِ عَلَى عُقُوبَةِ الْعُصَاةِ وَقَهْرِهِمْ، وَإِثَابَةِ أَهْلِ الطَّاعَةِ وَالْعَفْوِ عَنْهُمْ. وَالْمُعَاقِبُ وَالْمُثِيبُ حَقُّهُ أَنْ يُخْشَى. قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً} هَذِهِ آيَةُ الْقُرَّاءِ الْعَامِلِينَ الْعَالِمِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ الْفَرْضَ وَالنَّفْلَ، وَكَذَا فِي الْإِنْفَاقِ. وَقَدْ مَضَى فِي مُقَدِّمَةِ الْكِتَابِ مَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَخَلَّقَ بِهِ قَارِئُ الْقُرْآنِ. {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُور} قَالَ أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى."

ثعلب هذا لقبه ثعلب.                                                            

"خَبَرُ إِنَّ يَرْجُونَ. {وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} قِيلَ: الزِّيَادَةُ الشَّفَاعَةُ فِي الْآخِرَةِ. وَهَذَا مِثْلُ الْآيَةِ الْأُخْرَى: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ}، وَقَوْلِهِ فِي آخِرِ النِّسَاءِ: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} وَهُنَاكَ بَيَّنَّاهُ. إِنَّهُ غَفُورٌ لِلذُّنُوبِ. شَكُورٌ يَقْبَلُ الْقَلِيلَ مِنَ الْعَمَلِ الْخَالِصِ، وَيُثِيبُ عَلَيْهِ الْجَزِيلَ مِنَ الثَّوَابِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ} يَعْنِي الْقُرْآنَ. {هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أَيْ مِنَ الْكُتُبِ. {إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ}. قَوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ}. فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى: هَذِهِ الْآيَةُ مُشْكِلَةٌ؛ لِأَنَّهُ قَالَ -جَلَّ وَعَزّ-: {اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} ثُمَّ قَالَ: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ}."

فكيف يكون الظالم مصطفى؟

 "وَقَدْ تَكَلَّمَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ. قَالَ النَّحَّاسُ: فَمِنْ أَصَحِ مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ، قَالَ: الْكَافِرُ؛ رَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} قَالَ: نَجَتْ فِرْقَتَانِ، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ فِي الْعَرَبِيَّةِ: فَمِنْهُمْ مِنْ عِبَادِنَا ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ؛ أَيْ كَافِرٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ: أَيْ فَاسِقٌ. وَيَكُونُ الضَّمِيرُ الَّذِي فِي يَدْخُلُونَهَا يَعُودُ عَلَى الْمُقْتَصِدِ وَالسَّابِقِ لَا عَلَى الظَّالِمِ. وَعَنْ عِكْرِمَةَ، وَقَتَادَةَ، وَالضَّحَّاكِ، وَالْفَرَّاءِ، أَنَّ الْمُقْتَصِدَ: الْمُؤْمِنُ الْعَاصِي، وَالسَّابِقُ: التَّقِيُّ عَلَى الْإِطْلَاقِ. قَالُوا: وَهَذِهِ الْآيَةُ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً} :الْآيَةَ. قَالُوا وَبَعِيدٌ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يُصْطَفَى ظَالِمٌ."

هذا إذا حملنا الظلم على الكفر فلا شك في أن هذا الكلام هو المتعين، لكن إذا قلنا أن الظلم أعم من ذلك، يشمل ظلم الإنسان لنفسه، وظلمه لغيره فيما دون الكفر، فلا شك أن هذا باعتباره مسلمًا، ومصطفى، مادام مسلم فهو مصطفى، ومآله إلى الجنة، {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} إما من أول الأمر، من أول وهلة كالسابق والمقتصد، أو يكون مآله بعد ذلك إن عُذّب بذنوبه كالظالم، أما إذا قلنا أن المراد بالظلم: الشرك الذي لا يغفر، هذا لا شك أنه غير مصطفى ، وأما المسلم المرتكب للسيئات، الذنوب، المعاصي، هو في الجملة مصطفى؛ لأن الاصطفاء نسبي، بالنسبة للكفار هو مصطفى، (وَجَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا)؛ يعني في المآل ولو لم يكن في أول الأمر، ابن القيم أطال في تقرير هذا الكلام في (طريق الهجرتين) بكلامًا جميل جدًا؛ يعني يحسن بطالب العلم أن يراجعه.  

"وَرَوَاهُ مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ، {وَمِنْهُمْ مُقْتَصِد} ٌأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ، {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} السَّابِقُونَ مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي يَدْخُلُونَهَا يَعُودُ عَلَى الثَّلَاثَةِ الْأَصْنَافِ، عَلَى أَلَّا يَكُونَ الظَّالِمُ هَاهُنَا كَافِرًا وَلَا فَاسِقًا. وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ هَذَا الْقَوْلُ عُمَر،ُ وَعُثْمَانُ، وَأَبُو الدَّرْدَاءِ، وَابْنُ مَسْعُودٍ، وَعُقْبَةُ بْنُ عَمْرٍو، وَعَائِشَةُ، وَالتَّقْدِيرُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: أَنْ يَكُونَ الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ الَّذِي عَمِلَ الصَّغَائِرَ. وَ(الْمُقْتَصِدُ) قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ: هُوَ الَّذِي يُعْطِي الدُّنْيَا حَقَّهَا وَالْآخِرَةَ حَقَّهَا؛ فَيَكُونُ {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} عَائِدًا عَلَى الْجَمِيعِ عَلَى هَذَا الشَّرْحِ وَالتَّبْيِينِ؛ وَرُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ. وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: اسْتَوَتْ مَنَاكِبُهُمْ -وَرَبِّ الْكَعْبَةِ- وَتَفَاضَلُوا بِأَعْمَالِهِمْ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ: أَمَّا الَّذِي سَمِعْتُ مُنْذُ سِتِّينَ سَنَةً فَكُلُّهُمْ نَاجٍ. وَرَوَى أُسَامَةُ بْنُ زَيْدَ أَنَّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ وَقَالَ: كُلُّهُمْ فِي الْجَنَّةِ. وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ هَذِهِ الْآيَةَ ثُمَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ‹‹سَابِقُنَا سَابِقٌ وَمُقْتَصِدُنَا نَاجٍ وَظَالِمُنَا مَغْفُورٌ لَهُ››. فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يُقَدَّرُ مَفْعُولُ الِاصْطِفَاءِ مِنْ قَوْلِهِ: {أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} مُضَافًا حُذِفَ كَمَا حُذِفَ الْمُضَافُ فِي."

مضافًا حذف، مضافًا حذف كما حذف المضاف.      

"مُضَافًا حُذِفَ كَمَا حُذِفَ الْمُضَافُ فِي {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} أَيِ اصْطَفَيْنَا دِينَهُمْ فَبَقِيَ اصْطَفَيْنَاهُمْ؛ فَحُذِفَ الْعَائِدُ إِلَى الْمَوْصُولِ كَمَا حُذِفَ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ} أَيْ تَزْدَرِيهِمْ، فَالِاصْطِفَاءُ إِذًا مُوَجَّهٌ إِلَى دِينِهِمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ}. قَالَ النَّحَّاسُ: وَقَوْلٌ ثَالِثٌ: يَكُونُ الظَّالِمُ صَاحِبُ الْكَبَائِرِ، وَالْمُقْتَصِدُ الَّذِي لَمْ يَسْتَحِقَّ الْجَنَّةَ بِزِيَادَةِ حَسَنَاتِهِ عَلَى سَيِّئَاتِهِ؛ فَيَكُونُ: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} لِلَّذِينَ سَبَقُوا بِالْخَيْرَاتِ لَا غَيْرَ. وَهَذَا قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ؛ لِأَنَّ الضَّمِيرَ فِي حَقِيقَةِ النَّظَرِ بِمَا يَلِيهِ أَوْلَى. قُلْتُ: الْقَوْلُ الْوَسَطُ."

جاء ضمير في "يدخلونها" هم السابقون فقط؛ لأن مثل هذا الضمير، ومثل الاستثناء، ومثل الوصف، إذا تعقب جمل متعددة، هل يعود على الجميع؟ أو يعود على الأخير فقط؟ أو يعود على الثاني والثالث دون الأول؟ لاشك أن النصوص في هذا تؤيد هذه الأقوال، منها ما يؤيد القول الأول، هو أن الضمير يعود على الجميع، ومنها ما السياق يدل على عوده إلى الأخير فقط، وليس في هذا قاعدة مضطردة، إلا أن عوده على الأخير متفق عليه، متفٌق عليه، مثل: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ}[النور:4] حكمهم، {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ۝ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا}[النور4:5] يتفق أهل العلم أن وصف الفسق يرتفع، كما أنهم يتفقون على أن الجلد حق المخلوق لا يسقط، فلا يعود عليه الاستثناء، وأما الخلاف في قبول الشهادة، فهو معروف بين أهل العلم، والذي يقول مثل هذا يعود إلى جميع ما تقدم، يقول تقبل شهادته، مادام ارتفع الوصف المؤثر في عدم القبول، وهو الفسق، فلا مانع من قبول شهادته حينئٍذ، وعلى كل حال، كل نص له ما يؤيده من الأدلة، ولا يحكم بقاعدة مطردة، إلا أنهم يتفقون أن العود على الضمير، على الأخير، متفق عليه، كما هنا السابق متفق عليه، {وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ}  ثم قال: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} ويراد بذلك السابق بالخيرات دون المقتصد، ودون الظالم لنفسه، والسابق بالخيرات معروف أنه هو الذي يفعل الواجبات، ويترك المحرمات، ويتجاوز ذلك إلى المندوبات، وترك المكروهات، هذا سابق، وأما المقتصد الذي يقتصر على فعل الواجبات وترك المحرمات، والظالم نفسه الذي قد يترك بعض الواجبات، ويرتكب بعض المحرمات، هذه هي القسمة، في من اصطُفي من المسلمين، أما إذا قيل أن الظالم نفسه يشمل الكافر، فهذا أمره آخر، لكن الآن يظهر الأقسام الثلاثة المصطفون، وأنهم يدخلون الجنة، إما في أول الأمر، كما في القسمين الثاني والثالث، أو يكون المآل في النهاية إلى دخولها في حال ظلم الإنسان نفسه أو غيره، نعم، كيف؟

طالب:.....                           

هذا كلام الصحابة.

طالب:....

لو قلنا أن الآية خاصة بالصحابة، وأنهم كلهم يدخلونها، وكلهم مصطفون، حتى من ظلم نفسه بشربٍ أو زنا أو ما أشبه ذلك، ولذلك قال: قرأ عمر بن الخطاب هذه الآية ثم قال: سابقنا سابق، ومقتصدنا ناٍج، وظالمنا مغفور له، هذا ينطبق على الصحابة، لكن من جاء بعدهم، الظالم تحت المشيئة.

"قُلْتُ: الْقَوْلُ الْوَسَطُ أَوْلَاهَا وَأَصَحُّهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ وَالْمُنَافِقَ لَمْ يُصْطَفَوْا بِحَمْدِ اللَّهِ، وَلَا اصْطُفِيَ دِينُهُمْ. وَهَذَا قَوْلُ سِتَّةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ."

عمر، وعثمان، وأبو الدرداء، وابن مسعود، وعقبة بن عمرو، وعائشة. هؤلاء ستة.

"وَحَسْبُكَ. وَسَنَزِيدُهُ بَيَانًا وَإِيضَاحًا فِي بَاقِي الْآيَةِ.

الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ} أَيْ أَعْطَيْنَا. وَالْمِيرَاثُ عَطَاءٌ حَقِيقَةً أَوْ مَجَازًا؛ فَإِنَّهُ يُقَالُ فِيمَا صَارَ لِلْإِنْسَانِ بَعْدَ مَوْتِ آخَرَ. وَ (الْكِتَابُ هَاهُنَا يُرِيدُ بِهِ مَعَانِيَ الْكِتَابِ وَعِلْمِهِ وَأَحْكَامِهِ وَعَقَائِدِهِ، وَكَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَعْطَى أُمَّةَ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْقُرْآنَ، وَهُوَ قَدْ تَضَمَّنَ مَعَانِيَ الْكُتُبِ الْمُنْزَّلَةِ، فَكَأَنَّهُ وَرَّثَ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْكِتَابَ الَّذِي كَانَ فِي الْأُمَمِ قَبْلَنَا. (اصْطَفَيْنَا) أَيِ اخْتَرْنَا. وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ الصَّفْوِ ، وَهُوَ الْخُلُوصُ مِنْ شَوَائِبِ الْكَدَرِ. وَأَصْلُهُ اصْتَفَوْنَا."

اصتفونا؛ يعني تاء الافتعال تقلب طاء.                   

"اصْتَفَوْنَا، فَأُبْدِلَتِ التَّاءُ طَاءً وَالْوَاوُ يَاءً. مِنْ عِبَادِنَا قِيلَ الْمُرَادُ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَاَلهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ. وَكَانَ اللَّفْظُ يَحْتَمِلُ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ، إِلَّا أَنَّ عِبَارَةَ تَوْرِيثِ الْكِتَابِ لَمْ تَكُنْ إِلَّا لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالْأُوَلُ لَمْ يَرِثُوهُ. وَقِيلَ: الْمُصْطَفَوْنَ الْأَنْبِيَاءُ، تَوَارَثُوا الْكِتَابَ بِمَعْنَى أَنَّهُ انْتَقَلَ عَنْ بَعْضِهِمْ إِلَى آخَرَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ}، وَقَالَ: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} فَإِذَا جَازَ أَنْ تَكُونَ النُّبُوَّةُ مَوْرُوثَةً فَكَذَلِكَ الْكِتَابُ."

لأنه لا يراد بهذا إرث المال، لا في قوله: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُدَ}، ولا {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} لأن ‹‹الأنبياء لا يورثون، ما تركوا صدقة›› ‹‹إنا معاشر الأنبياء لا نورث›› ، كما قال النبي –عليه الصلاة والسلام-.

"{فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} مَنْ وَقَعَ فِي صَغِيرَةٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا قَوْلٌ مَرْدُودٌ مِنْ غَيْرِ مَا وَجْهٍ. قَالَ الضَّحَّاكُ: مَعْنَى {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} أَيْ مِنْ ذُرِّيَّتِهِمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَهُوَ الْمُشْرِكُ. وَقَاَلَ الْحَسَنُ: مِنْ أُمَمِهِمْ، عَلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْخِلَافِ فِي الظَّالِمِ. وَالْآيَةُ فِي أُمَّةِ مُحَمَّدٍ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَدِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ أَرْبَابِ الْقُلُوبِ فِي الظَّالِمِ وَالْمُقْتَصِدِ وَالسَّابِقِ، فَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: السَّابِقُ الْعَالِمُ، وَالْمُقْتَصِدُ الْمُتَعَلِّمُ، وَالظَّالِمُ الْجَاهِلُ. وَقَالَ ذُو النُّونِ الْمِصْرِيُّ: الظَّالِمُ الذَّاكِرُ اللَّهَ بِلِسَانِهِ فَقَطْ، وَالْمُقْتَصِدُ الذَّاكِرُ بِقَلْبِهِ، وَالسَّابِقُ الَّذِي لَا يَنْسَاهُ. وَقَالَ الْأَنْطَاكِيُّ: الظَّالِمُ صَاحِبُ الْأَقْوَالِ، وَالْمُقْتَصِدُ صَاحِبُ الْأَفْعَالِ، وَالسَّابِقُ صَاحِبُ الْأَحْوَالِ. وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ: الظَّالِمُ الَّذِي يُحِبُّ اللَّهَ مِنْ أَجْلِ الدُّنْيَا، وَالْمُقْتَصِدُ الَّذِي يُحِبُّهُ مِنْ أَجْلِ الْعُقْبَى، وَالسَّابِقُ الَّذِي أَسْقَطَ مُرَادَهُ بِمُرَادِ الْحَقِّ. وَقِيلَ: الظَّالِمُ الَّذِي يَعْبُدُ اللَّهَ خَوْفًا مِنَ النَّارِ، وَالْمُقْتَصِدُ الَّذِي يَعْبُدُ اللَّهَ طَمَعًا فِي الْجَنَّةِ، وَالسَّابِقُ الَّذِي يَعْبُدُ اللَّهَ لِوَجْهِهِ لَا لِسَبَبٍ. وَقِيلَ: الظَّالِمُ الزَّاهِدُ فِي الدُّنْيَا، لِأَنَّهُ ظَلَمَ نَفْسَهُ فَتَرَكَ لَهَا حَظًّا وَهِيَ الْمَعْرِفَةُ وَالْمَحَبَّةُ، وَالْمُقْتَصِدُ الْعَارِفُ، وَالسَّابِقُ الْمُحِبُّ. وَقِيلَ: الظَّالِمُ الَّذِي يَجْزَعُ عِنْدَ الْبَلَاءِ، وَالْمُقْتَصِدُ الصَّابِرُ عَلَى الْبَلَاءِ، وَالسَّابِقُ الْمُتَلَذِّذُ بِالْبَلَاءِ."

يمكن تدخل هذه القسمة في جميع الأبواب، في جميع الأبواب، وكنا نتكلم عن هذه الأمور الثلاثة على حسب ما يخطر بباله، وكلٌ على حسب ما يهتم به، صاحب العلم يمكن أن يصنف أهل العلم إلى سابق، ومقتصد، وظالم، والعامل يصنف العاملين كذلك، والذاكر يصنفهم كذلك، وغير ذلك، وهذه الأقوال كثيرًا منها منقول عن أهل التصوف، لأنهم هم عنايتهم بهذه الأمور أكثر من عنايتهم بغيرها من الأبواب، يهتمون بهذه الأمور باعتبار أنها تنبعث من تأثيرات القلوب، ولهم اهتمام كبير بأعمال القلوب، والمؤلف له عناية بهم لاسيما من اتصف بهذا الوصف من غير شطط، ومن غير شطحات، وإيغالٍ في البدعة، وإلا فله مواقف من الردود على غلاة المتصوفة، معروف المؤلف في هذا الباب معتدل، وإن كانت لهم بهم عناية، ينقل أقوالهم، كما أن شيخ الإسلام ينقل أقوال المعتدلين منهم، وابن القيم ينقل أقوال المعتدلين، لكن أهل الشطحات، لاشك أنهم يتولون الرد عليهم، والنكير عليهم.

هم اللى يقصد بهم أرباب القلوب؟

كيف؟

هم مقصود بهم أرباب القلوب؟

هذا لا يهم، المتصوفة معروفين، شيخ الإسلام له بمعتدليهم عناية كذلك ابن القيم، ينقلون عنهم بكثرة، والمؤلف هذا تصدى للغلاة منهم، أهل الشطحات، وأهل النزوات، وما يُدعى فيهم من كرامات، على كل حال، كلامهم في الجملة لا بأس به، قد لا نوافقه في كثير مما يقول، لكن كلامه الجملة يقرب من الكلام والنقول الذي ينقله شيخ الإسلام وابن القيم عنهم، أما غلاتهم، فهو يتولى الرد عليهم كثيرا، وقفت على نسخة من التفسير، نسخة أحمد بن الصديق الغماري، يرد على المؤلف ردود قوية جدًا، لأنه يتعقب الصوفية، وينزل عليه حديث ‹‹من عادى لي وليًا››، وهو يدافع وينافع عن غلاتهم، أصحاب الشطحات، وأصحاب الأحوال التي كثير منها شيطانية، وليست رحمانية، نسأل الله العافية. 

"وَقِيلَ: الظَّالِمُ الَّذِي يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى الْغَفْلَةِ وَالْعَادَةِ، وَالْمُقْتَصِدُ الَّذِي يَعْبُدُهُ عَلَى الرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ، وَالسَّابِقُ الَّذِي يَعْبُدُهُ عَلَى الْهَيْبَةِ."

أما عبادة الله على الرغبة والرهبة فهذه وظيفة الأنبياء والأتباع، {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا}[الأنبياء:90]، على الرغبة والرهبة.

"وَقِيلَ: الظَّالِمُ الَّذِي أُعْطِيَ فَمَنَعَ، وَالْمُقْتَصِدُ الَّذِي أُعْطِيَ فَبَذَلَ، وَالسَّابِقُ الَّذِي مُنِعَ فَشَكَرَ وَآثَرَ. يُرْوَى أَنَّ عَابِدَيْنِ الْتَقَيَا فَقَالَ: كَيْفَ حَالُ إِخْوَانِكُمْ بِالْبَصْرَةِ؟ قَالَ: بِخَيْرٍ، إِنْ أُعْطُوا شَكَرُوا وَإِنْ مُنِعُوا صَبَرُوا. فَقَالَ: هَذِهِ حَالَةُ الْكِلَابِ عِنْدَنَا بِبَلْخٍ! عُبَّادُنَا إِنْ مُنِعُوا شَكَرُوا وَإِنْ أُعْطُوا آثَرُوا. وَقِيلَ: الظَّالِمُ مَنِ اسْتَغْنَى بِمَالِهِ، وَالْمُقْتَصِدُ مَنِ اسْتَغْنَى بِدِينِهِ، وَالسَّابِقُ مَنِ اسْتَغْنَى بِرَبِّهِ. وَقِيلَ: الظَّالِمُ التَّالِي لِلْقُرْآنِ وَلَا يَعْمَلُ بِهِ، وَالْمُقْتَصِدُ التَّالِي لِلْقُرْآنِ وَيَعْمَلُ بِهِ، وَالسَّابِقُ الْقَارِئُ لِلْقُرْآنِ الْعَامِلِ بِهِ وَالْعَالِمِ بِهِ. وَقِيلَ: السَّابِقُ الَّذِي يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ قَبْلَ تَأْذِينِ الْمُؤَذِّنِ، وَالْمُقْتَصِدُ الَّذِي يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ وَقَدْ أُذِّنَ، وَالظَّالِمُ الَّذِي يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ وَقَدْ أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّهُ ظَلَمَ نَفْسَهُ الْأَجْرَ فَلَمْ يُحَصِّلْ لَهَا مَا حَصَّلَهُ غَيْرُهُ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذَا: بَلِ السَّابِقُ."

لا شك أن مثل هذه الأمور أمور نسبية، يعني مثل التوفيق والحرمان، مثل التوفيق والحرمان، يعني إذا قلت رجٌل موفق، يمكن أن تقول لمن يدرك تكبيرة الإحرام: رجل موفق، ويمكن أن تقول: الذي يدرك تكبيرة الإحرام رجلٌ محروم، لماذا ما بكر؟، وجاء مع الآذان، أو قبل الآذان، روي عن بعض السلف الذي قال: أنه الذي لا يأتي الصلاة إلا إذا دعي إليها هذا رجل سوء، كيف ينتظر إلى أن يدعى إليها؟ لاشك أن المسألة مقامات، وكلٌ يتحدث على حسب مقامه، ولذا قال حسان بن أبي سنان كما في صحيح البخاري: ما رأيت شيئًا أهون من الورع، ‹‹ دع ما يريبك إلى ما لا يريبك›› هذا هو الذي قطع أعناق العلماء والعباد، الورع، كيف يتورعون؟ كيف يثبتون؟ كيف يصمدون أمام المغريات؟ هو يقول: ما رأيت شيئًا أهون من الورع، إذا رأيت شيئًا تشك فيه اتركه، من يملك مثل هذا الأمر؟ لكن كلٌ يتحدث على حسب منزلته ومقامه، نعم. ويجيء في مقابل ذلك، أن السابق الذي يأتي قبل الإقامة، والمقتصد الذي تفوته الصلاة ولا يفوته الوقت، والظلم نفسه الذي يفوت الوقت، كل واحد يتحدث على حسب مقامه هو. 

 "وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذَا: بَلِ السَّابِقُ الَّذِي يُدْرِكُ الْوَقْتَ وَالْجَمَاعَةَ فَيُدْرِكُ الْفَضِيلَتَيْنِ، وَالْمُقْتَصِدُ الَّذِي إِنْ فَاتَتْهُ الْجَمَاعَةُ لَمْ يُفَرِّطْ فِي الْوَقْتِ، وَالظَّالِمُ الْغَافِلُ عَنِ الصَّلَاةِ حَتَّى يَفُوتَ الْوَقْتُ وَالْجَمَاعَةُ، فَهُوَ أَوْلَى بِالظُّلْمِ. وَقِيلَ: الظَّالِمُ الَّذِي يُحِبُّ نَفْسَهُ، وَالْمُقْتَصِدُ الَّذِي يُحِبُّ دِينَهُ، وَالسَّابِقُ الَّذِي يُحِبُّ رَبَّهُ. وَقِيلَ: الظَّالِمُ الَّذِي يَنْتَصِفُ وَلَا يُنْصِفُ، وَالْمُقْتَصِدُ الَّذِي يَنْتَصِفُ وَيُنْصِفُ، وَالسَّابِقُ الَّذِي يُنْصِفُ وَلَا يَنْتَصِفُ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا."

كل هذه أمثلة، يعني يمكن أن تندرج القسمة هذه في جميع الأبواب، نعم، يعني مثل ما جاء في الذي يجد سعة، وتمر عليه خمس من السنين، فلم يحج، محروم، حرمان نسبي، يعني الإنسان إذا أدى ما فرضه الله عليه، هذا في الجملة ليس بالمحروم، لكن من فاتته حجة واحدة، محروم بالنسبة لمن يحج كل سنة، والله المستعان. 

"وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: السَّابِقُ الَّذِي أَسْلَمَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ، وَالْمُقْتَصِدُ مَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَالظَّالِمُ مَنْ لَمْ يُسْلِمْ إِلَّا بِالسَّيْفِ؛ وَهُمْ كُلُّهُمْ مَغْفُورٌ لَهُمْ. قُلْتُ: ذَكَرَ هَذِهِ الْأَقْوَالَ وَزِيَادَةً عَلَيْهَا الثَّعْلَبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَهُمْ طَرَفَانِ وَوَاسِطَةٌ، وَهُوَ الْمُقْتَصِدُ الْمُلَازِمُ لِلْقَصْدِ وَهُوَ تَرْكُ الْمَيْلِ؛ وَمِنْهُ قَوْلُ جَابِرِ بْنِ حُنَيٍّ التَّغْلِبِيِّ: تعاطى الملوك السلم، تعاطى الملوك السلم."

نعاطي، نعاطي الملوك.

"نُعَاطِي الْمُلُوكَ السَّلْمَ مَا قَصَدُوا لَنَا

 

 

وَلَيْسَ عَلَيْنَا قَتْلُهُمْ بِمُحَرَّمِ

 

 

يعني إذا كانوا مقتصدين في أمرنا، الأصل نعاطيهم السلك، السلم لكن إذا لو قتلنا، ليس علينا قتلهم، وهذا ليس بصحيح، هذا الكلام ليس بصحيح، بل لو ظلموك، إذا كان تؤدى ما عليك، ولو ظلموك، ولو ضربوا ظهرك، وأخذوا مالك، عليك أن تؤدى ما عليك، وتسأل الله- جلّ وعلا- الذي لك، إن أحسنوا، أحسنوا لأنفسهم وإن أساءوا فعليهم، ما عليك من إساءتهم من شيء إذا أديت ما عليك.

"أَيْ نُعَاطِيهِمُ الصُّلْحَ مَا رَكِبُوا بِنَا الْقَصْدَ، أَيْ مَا لَمْ يَجُورُوا، وَلَيْسَ قَتْلُهُمْ بِمُحَرَّمٍ عَلَيْنَا إِنْ جَارُوا."

يعني لا يجوز قتالهم، فضلاً عن قتلهم، لا يجوز قتالهم ولا الخروج عليهم ولو جاروا، ما لم يرى الكفر البواح، ولا يكفي رؤية الكفر البواح وترك الصلاة في الخروج عليهم، حتى تتم القدرة على ذلك، مع تحقق مصلحة لا مفسدة فيها.

"فَلِذَلِكَ كَانَ الْمُقْتَصِدُ مَنْزِلَةً بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ، فَهُوَ فَوْقَ الظَّالِمِ لِنَفْسِهِ وَدُونَ السَّابِقِ بِالْخَيْرَاتِ. ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ يَعْنِي إِتْيَانَنَا."

يعني نظير هذا في أمور الدنيا، من يشتري سلعة، أو ثلاثة اشتروا ثلاثًا من السلع، الأول باعها بمكسب، والثاني برأس ماله، والثالث خسر.

"{ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ}؛ يَعْنِي إِتْيَانَنَا الْكِتَابَ لَهُمْ. وَقِيلَ: ذَلِكَ الِاصْطِفَاءُ مَعَ عِلْمِنَا بِعُيُوبِهِمْ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ، وقِيْلَ وَعْد اَلْجَنْة لِهَؤْلَاَءِ اَلّثْلَاثَةُ فَضُلٌ كَبِيْر. الثَّالِثَةُ: وَتَكَلَّمَ النَّاسُ فِي تَقْدِيمِ الظَّالِمِ عَلَى الْمُقْتَصِدِ وَالسَّابِقِ فَقِيلَ: التَّقْدِيمُ فِي الذِّكْرِ لَا يَقْتَضِي تَشْرِيفًا؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ}. وَقِيلَ: قُدِّمَ الظَّالِمُ لِكَثْرَةِ الْفَاسِقِينَ مِنْهُمْ وَغَلَبَتِهِمْ وَأَنَّ الْمُقْتَصِدِينَ قَلِيلٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِمْ، وَالسَّابِقِينَ أَقَلُّ مِنَ الْقَلِيلِ؛ ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَلَمْ يَذْكُرْهُ غَيْرُهُ. وَقِيلَ: قُدِّمَ الظَّالِمُ لِتَأْكِيدِ الرَّجَاءِ فِي حَقِّهِ، إِذْ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ يَتَّكِلُ عَلَيْهِ إِلَّا رَحْمَةَ رَبِّهِ. وَاتَّكَلَ الْمُقْتَصِدُ عَلَى حُسْنِ ظَنِّهِ، وَالسَّابِقُ عَلَى طَاعَتِهِ. وَقِيلَ: قُدِّمَ الظَّالِمُ لِئَلَّا يَيْأَسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَأُخِّرَ السَّابِقُ لِئَلَّا يُعْجَبَ بِعَمَلِهِ. وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ الصَّادِقُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: قُدِّمَ الظَّالِمُ لِيُخْبِرَ أَنَّهُ لَا يُتَقَرَّبُ إِلَيْهِ إِلَّا بِصَرْفِ رَحْمَتَهُ وَكَرَمَهُ."

صِرف؛ يعني بمحضها.

"وَأَنَّ الظُّلْمَ لَا يُؤَثِّرُ فِي الِاصْطِفَائِيَّةِ إِذَا كَانَتْ ثَمَّ عِنَايَةٌ، ثُمَّ ثَنَّى بِالْمُقْتَصِدِينَ لِأَنَّهُمْ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، ثُمَّ خَتَمَ بِالسَّابِقِينَ لِئَلَّا يَأْمَنَ أَحَدٌ مَكْرَ اللَّهِ، وَكُلُّهُمْ فِي الْجَنَّةِ بِحُرْمَةِ كَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ: (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ). وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ التِّرْمِذِيِّ."

الحكيم صاحب النوادر، نوادر الأصول.

"جَمَعَهُمْ فِي الِاصْطِفَاءِ إِزَالَةً لِلْعِلَلِ عَنِ الْعَطَاءِ؛ لِأَنَّ الِاصْطِفَاءَ يُوجِبُ الْإِرْثَ، لَا الْإِرْثُ يُوجِبُ الِاصْطِفَاءَ، وَلِذَلِكَ قِيلَ فِي الْحِكْمَةِ: "صَحِّحِ النِّسْبَةَ ثُمَّ ادَّعِ فِي الْمِيرَاثِ"."

صحح النسبة، نسبتك إلى هذا المُورّث، ثم ادعِ الميراث، أولاً صحح عملك وانظر في واقعك، ثم بعد ذلك، تمن على الله ما شئت، لكن تمن وأنت ما صححت ولا تدري ما وضعك ولا واقعك، ترتكب المحرمات، تترك واجبات، ثم تقول: أنا من المصطفين، هذا ليس صحيح.

طالب:......

كيف؟

طالب:......

كيف يثبت العرش؟

طالب:.......

أثبت النسبة، ثم ادعِ الميراث، هذا واضح، لو أنت قلت أنا والله وارث لزيد من الناس، رحت المحكمة قلت أنا أبغي نصيبي من الإرث، يقولون: أثبت ما يثبت أنك من الورثة، ما نسبتك لهذا الميت؟  أنت قريب؟  أنت صاحب نسب؟  صاحب مصاهرة؟، في ولاء بينك وبينه؟، أثبت النسبة أولاً، ثم بعد ذلك ادع نصيبك من الميراث، نعم.

"وَقِيلَ: أَخَّرَ السَّابِقَ لِيَكُونَ أَقْرَبَ إِلَى الْجَنَّاتِ وَالثَّوَابِ، كَمَا قَدَّمَ الصَّوَامِعَ وَالْبِيَعَ فِي (سُورَةِ الْحَجِّ) عَلَى الْمَسَاجِدِ، لِتَكُونَ الصَّوَامِعُ أَقْرَبَ إِلَى الْهَدْمِ وَالْخَرَابِ."

{لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ}[الحج:40]، صارت الصوامع أقرب إلى الهدم، {وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} : الآية، والمساجد أقرب إلى الذكر، والصوامع أقرب إلى الهدم والخراب.

"وَتَكُونَ الْمَسَاجِدُ أَقْرَبَ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا أَرَادُوا الْجَمْعَ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ بِالذِّكْرِ قَدَّمُوا الْأَدْنَى؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}، وَقَوْلِهِ: {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُور}، وَقَوْلِهِ: {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ}."

وإذا يحمل كلامهم في قولهم: الأولوية، لها دخل في الأولوية، يحمل هذا على الغالب.

"قُلْتُ: وَلَقَدْ أَحْسَنَ مَنْ قَالَ:

وَغَايَةُ هَذَا الْجُودِ أَنْتَ وَإِنَّمَا
  


 

 

يُوَافِي إِلَى الْغَايَاتِ فِي آخِرِ الْأَمْرِ

 


  

الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} جَمَعَهَمُ فِي الدُّخُولِ؛ لِأَنَّهُ مِيرَاثٌ، وَالْعَاقُّ وَالْبَارُّ فِي الْمِيرَاثِ سَوَاءٌ إِذَا كَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِالنَّسَبِ؛ فَالْعَاصِي وَالْمُطِيعُ مُقِرُّونَ بِالرَّبِّ. وَقُرِئَ: (جَنَّةُ عَدْنٍ) عَلَى الْإِفْرَادِ، كَأَنَّهَا جَنَّةٌ مُخْتَصَّةٌ بِالسَّابِقِينَ لِقِلَّتِهِمْ؛ عَلَى مَا تَقَدَّمَ. وَ(جَنَّاتِ عَدْنٍ) بِالنَّصْبِ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ يُفَسِّرُهُ الظَّاهِرُ؛ أَيْ يَدْخُلُونَ جَنَّاتِ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا. وَهَذَا لِلْجَمِيعِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو (يُدْخَلُونَهَا) بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الْخَاءِ. قَالَ: لِقَوْلِهِ: (يُحَلَّوْنَ). وَقَدْ مَضَى فِي (الْحَجِّ) الْكَلَامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ۝ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} قَالَ أَبُو ثَابِتٍ: دَخَلَ رَجُلٌ الْمَسْجِدَ فَقَالَ: اللَّهُمَّ ارْحَمْ غُرْبَتِي وَآنِسْ وَحْدَتِي ويَسِّرْ لِي جَلِيسًا صَالِحًا. فَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: لَئِنْ كُنْتَ صَادِقًا فَلَأَنَا أَسْعَدُ بِذَلِكَ مِنْكَ، سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} قَالَ: فَيَجِيءُ هَذَا السَّابِقُ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، وَأَمَّا الْمُقْتَصِدُ فَيُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا، وَأَمَّا الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ فَيُحْبَسُ فِي الْمَقَامِ وَيُوَبَّخُ وَيُقَرَّعُ، ثُمَّ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ فَهُمُ الَّذِينَ قَالُوا: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} وَفِي لَفْظٍ آخَرَ، وَأَمَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأُولَئِكَ يُحْبَسُونَ فِي طُولِ الْمَحْشَرِ ثُمَّ هُمُ الَّذِينَ يَتَلَقَّاهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ فَهُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ}. وَقِيلَ: هُوَ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْهُ فِي مَقَامِهِ؛ يَعْنِي يُكَفَّرُ عَنْهُ بِمَا يُصِيبُهُ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} يَعْنِي فِي الدُّنْيَا. قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: وَهَذَا التَّأْوِيلُ أَشْبَهُ بِالظَّاهِرِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا}، وَلِقَوْلِهِ: {الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} وَالْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ لَمْ يُصْطَفَوْا. قُلْتُ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَقَدْ قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ‹‹وَمَثَلُ الْمُنَافِقِ الَّذِي يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَثَلُ الرَّيْحَانَةِ، رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرّ››؛ فَأَخْبَرَ أَنَّ الْمُنَافِقَ يَقْرَؤُهُ، وَأَخْبَرَ الْحَقُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ الْمُنَافِقَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ، وَكَثِيرٌ مِنَ الْكُفَّارِ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى يَقْرَءُونَهُ فِي زَمَانِنَا هَذَا. وَقَالَ مَالِكٌ: قَدْ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَنْ لَا خَيْرَ فِيهِ. وَالنَّصَبُ: التَّعَبُ. وَاللُّغُوبُ: الْإِعْيَاءُ."

ولذا جاء في الخبر ‹‹أن أخوف ما يُخاف على الأمة المنافق عليم اللسان المنافق عليم اللسان››؛ يعني شخص عنده اطلاع ولم يقر لما في قلبه، ليس في قلبه إيمان يردعه عن اتباع المتشابهة، والتشبيه، والتلبيس على الناس، كما هو الواقع الآن، بعض من يكتب، وبعض من يناظر ويحاور، كل هؤلاء ممن يتبعون الشبهات، نسأل الله العافية، يتبعون متشابه، أهل الزيغ.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ} لَمَّا ذَكَرَ أَهْلَ الْجَنَّةِ وَأَحْوَالَهُمْ وَمَقَالَتَهُمْ، ذَكَرَ أَهْلَ النَّارِ وَأَحْوَالَهُمْ وَمَقَالَتَهُمْ. لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا مِثْلُ: {لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَ}. {وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} مِثْلُ: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ۝ كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} أَيْ كَافِرٍ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ (فَيَمُوتُونَ) بِالنُّونِ، وَلَا يَكُونُ لِلنَّفْيِ حِينَئِذٍ جَوَابٌ، وَيَكُونُ (فَيَمُوتُونَ) عَطْفًا عَلَى (يُقْضَى) تَقْدِيرُهُ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ وَلَا يَمُوتُونَ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ}. قَالَ الْكِسَائِيُّ: {وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} بِالنُّونِ فِي الْمُصْحَفِ لِأَنَّهُ رَأْسُ آيَةٍ {لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ رَأْسَ آيَةٍ. وَيَجُوزُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا جَازَ فِي صَاحِبِهِ."

أما الحذف من أجل موافقة رأس الآية فهذا كثير، أما إثبات ما حقه الحذف، فهذا قليل، مثل {وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} هذا إذا قلنا أن الفاء، "فاء" السببية تضمر بعدها "أن"؛ لأنها في سياق النفي، فيكون الفعل منصوب "بأن" المضمرة بعد فاء السببية، فتحذف النون.

 "{وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا}؛ أَيْ يَسْتَغِيثُونَ فِي النَّارِ بِالصَّوْتِ الْعَالِي. وَالصُّرَاخُ الصَّوْتُ الْعَالِي، وَالصَّارِخُ الْمُسْتَغِيثُ، وَالْمُصْرِخُ الْمُغِيثُ. قَالَ:

كُنَّا إِذَا مَا أَتَانَا صَارِخٌ فَزِعٌ

  

كَانَ الصُّرَاخُ لَهُ قَرْعَ الظَّنَابِيبِ

 {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا}؛ أَيْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ جَهَنَّمَ وَرُدَّنَا إِلَى الدُّنْيَا. {نَعْمَلْ صَالِحًا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَقُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَهُوَ مَعْنَىَ قَوُلْهِمْ: {غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} أَيْ مِنَ الشِّرْكِ، أَيْ نُؤْمِنُ بَدَلَ الْكُفْرِ، وَنُطِيعُ بَدَلَ الْمَعْصِيَةِ، وَنَمْتَثِلُ أَمْرَ الرُّسُلِ. {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّر} هَذَا جَوَابُ دُعَائِهِمْ؛ أَيْ فَيُقَالُ لَهُمْ."

يعني بعد أن يقولوا {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا} يجابون؛ {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّر}، ما أمهلناكم؟ ما أطلنا أعماركم؟

"أَيْ فَيُقَالُ لَهُمْ فَالْقَوْلُ مُضْمَر. وَتَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ."

كثيرًا ما يضمر القول، كما في قوله -جلّ وعلا -: {فأما الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ}[آل عمران:106] ؛ يعنى يقال لهم أكفرتم؟

"وَتَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ: (بَابُ مَنْ بَلَغَ سِتِّينَ سَنَةً فَقَدْ أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَيْهِ فِي الْعُمُرِ لِقَوْلِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-:{أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} يَعْنِي الشَّيْبَ) حَدَّثَنَا عَبْدُ السَّلَامِ بْنُ مُطَهَّرٍ، قَالَ حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالَ حَدَّثَنَا مَعْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْغِفَارِيِّ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: ‹‹أَعْذَرَ اللَّهُ إِلَى امْرِئٍ أَخَّرَ أَجَلَهُ حَتَّى بَلَّغَهُ سِتِّينَ سَنَةً››. قَالَ الْخَطَّابِيُّ: (أَعْذَرَ إِلَيْهِ) أَيْ بَلَغَ بِهِ أَقْصَى الْعُذْرِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: "قَدْ أَعْذَرَ مَنْ أَنْذَرَ"؛ أَيْ أَقَامَ عُذْرَ نَفْسِهِ فِي تَقْدِيمِ نِذَارَتِهِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ عَمَّرَهُ اللَّهُ سِتِّينَ سَنَةً لَمْ يَبْقَ لَهُ عُذْرٌ؛ لِأَنَّ السِّتِّينَ قَرِيبٌ مِنْ مُعْتَرَكِ الْمَنَايَا، وَهُوَ سِنُّ الْإِنَابَةِ وَالْخُشُوعِ وَتَرَقُّبِ الْمَنِيَّةِ وَلِقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى."

يعني هذا من أراد الله به خيرًا وإلا، فيلاحظ أن بعض الناس كل ما زاد عمره زاد شره، زادت معاصيه، نسأل الله العافية.

"فَفِيهِ إِعْذَارٌ بَعْدَ (إِعْذَارٍ)؛ الْأَوَّلُ بِالنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالْمَوْتَانِ فِي الْأَرْبَعِينَ وَالسِّتِّينَ. قَالَ عَلِيٌّ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّر} إِنَّهُ سِتُّونَ سَنَة. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ فِي مَوْعِظَتِهِ: ‹‹ولقد أَبْلَغَ فِي الْإِعْذَارِ مَنْ تَقَدَّمَ فِي الْإِنْذَارِ وَإِنَّهُ لَيُنَادِي مُنَادٍ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى أَبْنَاءَ السِّتِّينَ›› {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ}. وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ الْحَكِيمُ مِنْ حَدِيثِ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ‹‹إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نُودِيَ أَبْنَاءُ السِّتِّينَ وَهُوَ الْعُمُرُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ›› {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ}. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً. وَعَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَمَسْرُوقٍ مِثْلُهُ. وَلِهَذَا الْقَوْلِ أَيْضًا وَجْهٌ ، وَهُوَ صَحِيحٌ."

لأن الأربعين مكتمل الأشد والعقل، ولذا كانت الأنبياء تبعث للأربعين، نعم. في وقتنا، في زماننا، صاحب الأربعين توّه يبدأ الآن بالتخطيط لأمور دنياه، فضلاً عن أن يلتفت لدينه، ومنهم من يرجئ هذا التخطيط إلى ما بعد التقاعد، بعد الستين، والله المستعان كل هذا من باب طول الأمل المذموم، الذي غر الناس، وجعلهم  يتأخرون، ويتراخون في العمل، والله المستعان.

"وَالْحُجَّةُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} :الْآيَةَ. فَفِي الْأَرْبَعِينَ تَنَاهِي الْعَقْلِ وَمَا قَبْلَ ذَلِكَ وَمَا بَعْدَهُ مُنْتَقَصٌ عَنْهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ مَالِكُ: أَدْرَكْتُ أَهْلَ الْعِلْمِ بِبَلَدِنَا وَهُمْ يَطْلُبُونَ الدُّنْيَا وَالْعِلْمَ وَيُخَالِطُونَ النَّاسَ، حَتَّى يَأْتِيَ لِأَحَدِهِمْ أَرْبَعُونَ سَنَةً، فَإِذَا أَتَتْ عَلَيْهِمُ اعْتَزَلُوا النَّاسَ وَاشْتَغَلُوا بِالْقِيَامَةِ حَتَّى يَأْتِيَهُمُ الْمَوْتُ. وَقَدْ مَضَى هَذَا الْمَعْنَى فِي سُورَةِ (الْأَعْرَافِ). وَخَرَّجَ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: ‹‹أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى السَّبْعِينَ وَأَقَلُّهُمْ مَنْ تَجَاوَزَ ذَلِكَ››.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} وَقُرِئَ (وَجَاءَتْكُمُ النُّذُرُ) وَاخْتُلِفَ فِيهِ؛ فَقِيلَ الْقُرْآنُ. وَقِيلَ الرَّسُولُ؛ قَالَهُ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَابْنُ زَيْدٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَسُفْيَانُ، وَوَكِيعٌ، وَالْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ، وَالْفَرَّاءُ، وَالطَّبَرِيُّ: هُوَ الشَّيْبُ. وَقِيلَ: النَّذِيرُ الْحُمَّى. وَقِيلَ مَوْتُ الْأَهْلِ وَالْأَقَارِبِ. وَقِيلَ: كَمَالُ الْعَقْلِ. وَالنَّذِيرُ بِمَعْنَى الْإِنْذَارِ. قُلْتُ: فَالشَّيْبُ وَالْحُمَّى وَمَوْتُ الْأَهْلِ كُلُّهُ إِنْذَارٌ بِالْمَوْتِ؛ قَالَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ‹‹الْحُمَّى رَائِدُ الْمَوْتِ››. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّ الْحُمَّى رَسُولُ الْمَوْتِ، أَيْ كَأَنَّهَا تُشْعِرُ بِقُدُومِهِ وَتُنْذِرُ بِمَجِيئِهِ. وَالشَّيْبُ نَذِيرٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ يَأْتِي فِي سِنِّ الِاكْتِهَالِ، وَهُوَ عَلَامَةٌ لِمُفَارَقَةِ سِنِّ الصِّبَا الَّذِي هُوَ سِنُّ اللَّهْو وَاللَّعَبِ. قَالَ:

رَأَيْتُ الشَّيْبَ مِنْ نُذُرِ الْمَنَايَا

لِصَاحِبِهِ وَحَسْبُكَ مِنْ نَذِيرِ

وَقَالَ آخَرُ:      

فَقُلْتُ لَهَا الْمَشِيبُ نَذِيرُ عُمْرِي

وَلَسْتُ مُسَوِّدًا وَجْهَ النَّذِيرِ

وَأَمَّا مَوْتُ الْأَهْلِ وَالْأَقَارِبِ وَالْأَصْحَابِ وَالْإِخْوَانِ."

قال: ولست مسودًا وجه النذير؛ يعني ليس بصابغ شيبه، ولا مغير للشيب، مع أنه خلاف الأمر ‹‹غيروا هذا وجنبوه السواد››، والتغيير أقل أحواله أنه سنة مؤكدة.

طالب: حديث ‹‹الحمى رائد الموت››.

‹‹الحمى رائد الموت›› ماذا قال عنها؟

طالب:.......

جاء في الحمى، وفي آلمها ما جاء وهو الوعك، إنك لتوعك وعكًا شديدًا، وجاء أنها تحط الخطايا وتخفف عن المريض، وعلى كل حال، هي مرض من الأمراض، ولذا قال النبي -عليه الصلاة والسلام- للأعرابي ‹‹الطهور›› قال: حمًّى تفور تزيز القبور ؛ يعني تميت، أو كذلك، الله المستعان.

"وَأَمَّا مَوْتُ الْأَهْلِ وَالْأَقَارِبِ وَالْأَصْحَابِ وَالْإِخْوَانِ. فَإِنْذَارٌ بِالرَّحِيلِ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَأَوَانٍ، وَحِينٍ وَزَمَانٍ. قَالَ:

وَأَرَاكَ تَحْمِلُهُمْ وَلَسْتَ تَرُدُّهُمْ

فَكَأَنَّنِي بِكَ قَدْ حُمِلْتُ فَلَمْ تُرَدَّ

وَقَالَ آخَر:

الْمَوْتُ فِي كُلِ حِينٍ يَنْشُرُ الْكَفَنَا

 


  

وَنَحْنُ فِي غَفْلَةٍ عَمَّا يُرَادُ بِنَا"
 

حال كثير من المسلمين كأن الأمر لا يعنيه، كأن الأمر لا يعنيه من قريب ولا بعيد، ولذا لا تجد حاله تتغير من مكان إلى مكان، يعني في لهوه وغفلته، سواء كان في نزهة، أو في المقبرة، لا فرق.

الناس في غفلة عما يراد بهم

كأنهم غنمٌ في أيدي جزار

"وَأَمَّا كَمَالُ الْعَقْلِ فَبِهِ تُعْرَفُ حَقَائِقُ الْأُمُورِ وَيُفْصَلُ بَيْنَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ؛ فَالْعَاقِلُ يَعْمَلُ لِآخِرَتِهِ وَيَرْغَبُ فِيمَا عِنْدَ رَبِّهِ؛ فَهُوَ نَذِيرٌ. وَأَمَّا مُحَمَّدٌ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَبَعَثَهُ اللَّهُ بَشِيرًا وَنَذِيرًا إِلَى عِبَادِهِ قَطْعًا لِحُجَجِهِمْ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} وَقَالَ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}. قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَذُوقُوا) يُرِيدُ عَذَابَ جَهَنَّمَ؛ لِأَنَّكُمْ مَا اعْتَبَرْتُمْ وَلَا اتَّعَظْتُمْ. {فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِير} أَيْ مَانِعٍ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}. تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. وَالْمَعْنَى: عَلِمَ أَنَّهُ لَوْ رَدَّكُمْ إِلَى الدُّنْيَا لَمْ تَعْمَلُوا صَالِحًا، كَمَا قَالَ: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ}.وَ(عَالِمُ) إِذَا كَانَ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ صَلُحَ أَنْ يَكُونَ لِلْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ، وَإِذَا كَانَ مُنَوَّنًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ لِلْمَاضِي."

يعني مثل ما ذكرنا مرارًا، أن اسم الفاعل إذا أضيف صار للماضي، وإذا قطع عن الإضافة صار للمستقبل.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ} قَالَ قَتَادَةُ: خَلَفًا بَعْدَ خَلَفٍ، قَرْنًا بَعْدَ قَرْنٍ. وَالْخَلَفُ هُوَ التَّالِي لِلْمُتَقَدِّمِ، وَلِذَلِكَ قِيلَ لِأَبِي بَكْرٍ: يَا خَلِيفَةَ اللَّهِ؛ فَقَالَ: لَسْتُ بِخَلِيفَةِ اللَّهِ، وَلَكِنِّي خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَنَا رَاضٍ بِذَلِكَ."

لأنه تاليه، هو الذي يليه.

طالب:.......

لا بأس، {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}[البقرة:30]،  لكن مع ذلك مثل ما قال -رضي الله عنه: خليفة رسول الله، جاء بعده؛ يعني هو الذي خلفه في هذا الأمر.

"{فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} أَيْ جَزَاءُ كُفْرِهِ وَهُوَ الْعِقَابُ وَالْعَذَابُ. {وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا} أَيْ بُغْضًا وَغَضَبًا. {وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا} أَيْ هَلَاكًا وَضَلَالًا.

قَوْلُهُ تَعَالَى:{قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ} شُرَكَاءَكُمْ مَنْصُوبٌ بِالرُّؤْيَةِ، وَلَا يَجُوزُ رَفْعُهُ، وَقَدْ يَجُوزُ الرَّفْعُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ فِي قَوْلِهِمْ: قَدْ عَلِمْتُ زَيْدًا أَبُو مَنْ هُوَ؟ لِأَنَّ زَيْدًا فِي الْمَعْنَى مُسْتَفْهَمٌ عَنْهُ. وَلَوْ قُلْتُ: أَرَأَيْتَ زَيْدًا أَبُو مَنْ هُوَ، لَمْ يَجُزِ الرَّفْعُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ مَعْنَى هَذَا أَخْبِرْنِي عَنْهُ، وَكَذَا مَعْنَى هَذَا أَخْبِرُونِي عَنْ شُرَكَائِكُمُ الَّذِي تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ، أَعَبَدْتُمُوهُمْ لِأَنَّ لَهُمْ شَرِكَةً فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ، أَمْ خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ شَيْئًا {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا} أَيْ أَمْ عِنْدَهُمْ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْهِمْ بِالشَّرِكَةِ. وَكَانَ فِي هَذَا رَدٌّ عَلَى مَنْ عَبَدَ غَيْرَ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ فِي كِتَابٍ مِنَ الْكُتُبِ أَنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- أَمَرَ أَنْ يُعْبَدَ غَيْرهُ. {فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ} قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ عَلَى بَيِّنَةٍ بِالتَّوْحِيدِ، وَجَمَعَ الْبَاقُونَ. وَالْمَعْنَيَانِ مُتَقَارِبَانِ إِلَّا أَنَّ قِرَاءَةَ الْجَمْعِ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو مَنْ قَرَأَهُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ أَنْ يَكُونَ خَالَفَ السَّوَادَ الْأَعْظَمَ. أَوْ يَكُونُ جَاءَ بِهِ عَلَى لُغَةِ مَنْ قَالَ: جَاءَنِي طَلْحَتْ، فَوَقَفَ بِالتَّاءِ، وَهَذِهِ لُغَةٌ شَاذَّةٌ قَلِيلَةٌ؛ قَالَهُ النَّحَّاسُ."

خالف السواد الأعظم، خالف السواد الأعظم باعتبار أن التاء مكتوبة مفتوحة، ليست مربوطة، على بينت، بينت تاء مفتوحة، إذا قرأها على الإفراد والتاء مفتوحة خالف السواد الأعظم، وإن رسمها بغير الرسم الأصلي، فجعلها تاء مربوطة كالهاء فكذلك خالف، فعلى كل حال مثل رحمت،  "إن رحمت الله" بالتاء المفتوحة، ومع ذلك هي مفردة وليست بمجموعة، سواء إن كانت بالتاء المفتوحة، أو المربوطة، فإنها مفردة، وأما جمعها على أن التاء مفتوحة وجمع بينات، ورحمات، هذه يكفي فيها وجود الألف الصغيرة التي تكتب قبل التاء.

"وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ وَأَبُو عُبَيْدٍ: الْجَمْعُ أَوْلَى لِمُوَافَقَتِهِ الْخَطَّ، لِأَنَّهَا فِي مُصْحَفِ عُثْمَانَ (بَيِّنَاتٍ) بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ. {بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا} أَيْ أَبَاطِيلَ تَغُرُّ، وَهُوَ قَوْلُ السَّادَةِ لِلسِّفْلَةِ: إِنَّ هَذِهِ الْآلِهَةَ تَنْفَعُكُمْ وَتُقَرِّبُكُمْ. وَقِيلَ: إِنَّ الشَّيْطَانَ يَعِدُ الْمُشْرِكِينَ ذَلِكَ. وَقِيلَ: وَعَدَهُمْ بِأَنَّهُمْ يُنْصَرُونَ عَلَيْهِمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا} لَمَّا بَيَّنَ أَنَّ آلِهَتَهُمْ لَا تَقْدِرُ عَلَى خَلْقِ شَيْءٍ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَيَّنَ أَنَّ خَالِقَهُمَا وَمُمْسِكَهُمَا هُوَ اللَّهُ، فَلَا يُوجَدُ حَادِثٌ إِلَّا بِإِيجَادِهِ، وَلَا يَبْقَى إِلَّا بِبَقَائِهِ. وَ(أَنْ) فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِمَعْنَى كَرَاهَةَ أَنْ تَزُولَا، أَوْ لِئَلَّا تَزُولَا."

مفعول لأجله، نعم.

"أَوْ يُحْمَلُ عَلَى الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ يَمْنَعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا، فَلَا حَاجَةَ عَلَى هَذَا إِلَى إِضْمَارٍ، وَهَذَا قَوْلُ الزَّجَّاجِ {وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ وَلَوْ زَالَتَا مَا أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ. وَ(إِنْ) بِمَعْنَى مَا. قَالَ: وَهُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ}. وَقِيلَ: الْمُرَادُ زَوَالُهُمَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: دَخَلَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ إِلَى كَعْبِ الْأَحْبَارِ يَتَعَلَّمُ مِنْهُ الْعِلْمَ، فَلَمَّا رَجَعَ قَالَ لَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ: مَا الَّذِي أَصَبْتَ مِنْ كَعْبٍ؟ قَالَ سَمِعْتُ كَعْبًا يَقُولُ: إِنَّ السَّمَاءَ تَدُورُ عَلَى قُطْبٍ مِثْلِ قُطْبِ الرَّحَى، فِي عَمُودٍ عَلَى مَنْكِبِ مَلَكٍ؛ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ: وَدِدْتُ أَنَّكَ انْقَلَبْتَ بِرَاحِلَتِكَ وَرَحْلِهَا، كَذَبَ كَعْبٌ، مَا تَرَكَ يَهُودِيَّتَهُ! إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ."

 لأن هذا الكلام من تأثير ما تلقاه عن بني جنسه من اليهود.

"إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا} إِنَّ السَّمَاوَاتِ لَا تَدُورُ ، وَلَوْ كَانَتْ تَدُورُ لَكَانَتْ قَدْ زَالَتْ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ، وَأَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ مُقْبِلٍ مِنَ الشَّامِ: مَنْ لَقِيَتَ بِهِ؟ قَالَ كَعْبًا. قَالَ: وَمَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ؟ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: إِنَّ السَّمَاوَاتِ عَلَى مَنْكِبِ مَلَكٍ. قَالَ: كَذَبَ كَعْبٌ، أَمَا تَرَكَ يَهُودِيَّتَهُ بَعْدُ! إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا} وَالسَّمَاوَاتُ سَبْعٌ وَالْأَرَضُونَ سَبْعٌ ، وَلَكِنْ لَمَّا ذَكَرَهُمَا أَجْرَاهُمَا مَجْرَى شَيْئَيْنِ، فَعَادَتِ الْكِنَايَةُ إِلَيْهِمَا."

نعم، سبع، وسبع، وعاد الضمير مثنى باعتبار الفريقين، {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} جمع، {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9] باعتبار الطائفتين، وباعتبار الأفراد، جمع، لأن أفراد السموات والأرض، أربع عشرة، وهما صنفان: سموات، وأراضين، فيعاد الضمير عليهما إما بالجمع نظرًا للأفراد، وإما بالتثنية.

"فَعَادَتِ الْكِنَايَةُ إِلَيْهِمَا، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} ثُمَّ خَتَمَ الْآيَةَ بِقَوْلِهِ: {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} لِأَنَّ الْمَعْنَى فِيمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ: أَنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا مِنْ كُفْرِ الْكَافِرِينَ، وَقَوْلِهِمُ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا. قَالَ الْكَلْبِيُّ: لَمَّا قَالَتِ الْيَهُودُ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، كَادَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أَنْ تَزُولَا عَنْ أَمْكِنَتِهِمَا، فَمَنَعَهُمَا اللَّهُ، وَأَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَةَ فِيهِ؛ وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} :الْآيَة.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ} هُمْ قُرَيْشٌ أَقْسَمُوا قَبْلَ أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ بَلَغَهُمْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ، فَلَعَنُوا مَنْ كَذَّبَ نَبِيَّهُ مِنْهُمْ، وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ -جَلَّ اسْمُهُ- {لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِير} أَيْ نَبِيٌّ {لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ}؛ يَعْنِي مِمَّنْ كَذَّبَ الرُّسُلَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ رَسُولٌ كَمَا كَانَتِ الرُّسُلُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا تَمَنَّوْهُ وَهُوَ النَّذِيرُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، نَفَرُوا عَنْهُ وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ اسْتِكْبَارًا؛ أَيْ عُتُوًّا عَنِ الْإِيمَانِ {وَمَكْرَ السَّيِّئِ} أَيْ مَكْرَ الْعَمَلِ السَّيِّئِ."

النذير هذا، أن بعض الناس يلوم غيره إذا وقع في مخالفة، ويقول إنه لو حصل له مثل ما حصل لفلان لما فعل مثل ما فعل، تجده يلوم المسئول ويلوم العالم، ولو أني، ما حصل مثل هذا الأمر، ولا حصل هذا الاختلاف، ثم بعد ذلك إذا جاءه مثل هذا المنصب وتيسر له مثل هذا العمل، تجده على نفس الطريق سائر، الإنسان لاشك أنه محل للزلل والنسيان، لكن لا يعاهد الله -جلّ وعلا- أنه إذا تمكن من كذا أن يفعل كذا، ثم بعد ذلك ينقض العهد، كثير ممن يلوم الناس وهو في السعة، لو في سعة من أمره يتسنى له اللوم؛ لأنه لا يعرف المساوئ ما يدقق وينظر أن هناك مصالح، ومفاسد راجحة ومرجوحة، ثم بعد ذلك يقول: لو أنا في مكان فلان، ما حصل هذا وما يدريك أنه لو كنت في مكان فلان حصل شر من هذا، رجل كبير في السن، صار يتساهل في أمر الصلاة وحضوره للمسجد، فقيل له: لماذا أنت الآن تعديت الستين، والسبعين، فلو التفت إلى نفسك وآخرتك، قال له: لو صوتي مثل صوت عبد الباسط ما طلعت من المسجد، هل هذا عذر هذا؟ ما هذا بعذر ، هؤلاء لاموا اليهود والنصارى ولاموا الأمم السابقة الذين كذبوا أنبياءهم، فلما بُعث فيهم النبي-عليه الصلاة والسلام- كذبوه، فلا يكون الإنسان شبيهًا بمثل هؤلاء، إذا لام غيره، وتمكن من مثل فعله، ليعمل، وليجتهد، وليحرص، أن يغير إلى الأصلح، ويدرأ المفاسد بقدر الإمكان، والله المستعان.

 "اسْتِكْبَارًا؛ أَيْ عُتُوًّا عَنِ الْإِيمَانِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ أَيْ مَكْرَ الْعَمَلِ السَّيِّئِ. وَهُوَ الْكُفْرُ وَخَدْعُ الضُّعَفَاءِ، وَصَدُّهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ لِيَكْثُرَ أَتْبَاعُهُمْ. وَأَنَّثَ {مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ} لِتَأْنِيثِ أُمَّةٍ؛ قَالَهُ الْأَخْفَشُ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْأَخْفَشُ، {وَمَكْرُ السَّيِّئْ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ}  فَحَذَفَ الْإِعْرَابَ مِنَ الْأَوَّلِ وَأَثْبَتَهُ فِي الثَّانِي. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَهُوَ لَحْنٌ؛ وَإِنَّمَا صَارَ لَحْنًا لِأَنَّهُ حَذَفَ الْإِعْرَابَ مِنْهُ."

الأصل الإعراب أما التسكين، فهو للوقف وليس بإعراب إلا في الفعل.

"وَزَعَمَ الْمُبَرِّدُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي كَلَامٍ وَلَا فِي شِعْرٍ؛ لِأَنَّ حَرَكَاتَ الْإِعْرَابِ لَا يَجُوزُ حَذْفُهَا، لِأَنَّهَا دَخَلَتْ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْمَعَانِي. وَقَدْ أَعْظَمَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ أَنْ يَكُونَ الْأَعْمَشُ عَلَى جَلَالَتِهِ وَمَحَلِّهِ يَقْرَأُ بِهَذَا، قَالَ: إِنَّمَا كَانَ يَقِفُ عَلَيْهِ."

لأنه لو قرأ حمزة والأعمش، هو بلغ الأخفش، هو الظاهر؛ لأنه قال الأعمش أعظم، والأخفش ما يقرأ، الذي يقرأ الأعمش، ماذا عندكم؟

طالب:.....

لا، لا ما تيجي، الطبعة الثانية التي معم أو عند جارك؟ قرأ حمزة؟ حمزة، هو الأعمش، أما الأخفش ما يقرأ الأعمش من القرآء، والتعقيب يدل عليه، نعم، الأعمش على جلالته لا يقرأ بمثل هذا.

"وَقَدْ أَعْظَمَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ أَنْ يَكُونَ الْأَعْمَشُ عَلَى جَلَالَتِهِ وَمَحَلِّهِ يَقْرَأُ بِهَذَا، قَالَ: إِنَّمَا كَانَ يَقِفُ عَلَيْهِ. فَغَلِطَ مَنْ أَدَّى عَنْهُ، قَالَ: وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا أَنَّهُ تَمَامُ الْكَلَامِ، وَأَنَّ الثَّانِيَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ تَمَامَ الْكَلَامِ أُعْرِبَ بِاتِّفَاقٍ، وَالْحَرَكَةُ فِي الثَّانِي أَثْقَلُ."

لما تقول: "ْمَكْرَ السَّيِّئِ" تقف، ليس لها متعلق، ثم بعد ذلك تقول: "وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ"، ما تقول: "وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ" ثم تستأنف " إِلَّا بِأَهْلِهِ".

"وَأَنَّ الثَّانِيَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ تَمَامَ الْكَلَامِ أُعْرِبَ بِاتِّفَاقٍ، وَالْحَرَكَةُ فِي الثَّانِي أَثْقَلُ مِنْهَا فِي الْأَوَّلِ لِأَنَّهَا ضَمَّةٌ بَيْنَ كَسْرَتَيْنِ. وَقَدِ احْتَجَّ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ لِحَمْزَةَ فِي هَذَا بِقَوْلِ سِيبَوَيْهِ، وَأَنَّهُ أَنْشَدَ هُوَ وَغَيْرُهُ:

إِذَا اعْوَجَجْنَ قُلْتُ صَاحِبْ قَوِّمِ

 وَقَالَ الْآخَرُ:                       

فَالْيَوْمَ أَشْرَبْ غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ

إِثْمًا مِنَ اللَّهِ وَلَا وَاغِلِ
  

وَهَذَا لَا حُجَّةَ فِيهِ؛ لِأَنَّ سِيبَوَيْهِ لَمْ يُجِزْهُ، وَإِنَّمَا حَكَاهُ عَنْ بَعْضِ النَّحْوِيِّينَ، وَالْحَدِيثُ إِذَا قِيلَ فِيهِ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُجَّةٌ، فَكَيْفَ وَإِنَّمَا جَاءَ بِهِ عَلَى وَجْهِ الشُّذُوذِ وَلِضَرُورَةِ الشِّعْرِ وَقَدْ خُولِفَ فِيهِ. وَزَعَمَ الزَّجَّاجُ أَنَّ أَبَا الْعَبَّاسِ أَنْشَدَهُ:

إِذَا اعْوَجَجْنَ قُلْتُ صَاحِ قَوِّمِ

وَأَنَّهُ أَنْشَدَ:

فَالْيَوْمَ اشْرَبْ غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ

بِوَصْلِ الْأَلِفِ عَلَى الْأَمْرِ؛ ذَكَرَ جَمِيعَهُ النَّحَّاسُ. قال الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَرَأَ حَمْزَةُ {وَمَكْرَ السَّيِّئْ} بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ، وَذَلِكَ لِاسْتِثْقَالِهِ الْحَرَكَاتِ، وَلَعَلَّهُ اخْتَلَسَ فَظَنَّ سُكُونًا."

يعني ما بين الكسرة بيانًا يلتفت، ينتبه إليه السامع، أحيانًا يقرأ الإنسان قراءة صحيحة فيشتبه على السامع ماذا قرأ؟

"أَوْ وَقَفَ وَقْفَةً خَفِيفَةً ثُمَّ ابْتَدَأَ (وَلَا يَحِيقُ). وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ (وَمَكْرًا سَيِّئًا) وَقَالَ الْمَهْدَوِيُّ: وَمَنْ سَكَّنَ الْهَمْزَةَ مِنْ قَوْلِهِ: (وَمَكْرَ السَّيِّئْ) فَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ الْوَقْفِ عَلَيْهِ. ثُمَّ أَجْرَى الْوَصْلَ مَجْرَى الْوَقْفِ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ أَسْكَنَ الْهَمْزَةَ لِتَوَالِي الْكَسَرَاتِ وَالْيَاءَاتِ، كَمَا قَالَ:

فَالْيَوْمَ أَشْرَبْ غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ

قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَقَرَأَ حَمْزَةُ (وَمَكْرَ السَّيِّئْ) بِسُكُونِ الْهَمْزَةِ، وَخَطَّأَهُ أَقْوَامٌ. وَقَالَ قَوْمٌ: لَعَلَّهُ وَقَفَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ تَمَامُ الْكَلَامِ، فَغَلِطَ الرَّاوِي وَرَوَى ذَلِكَ عَنْهُ فِي الْإِدْرَاجِ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِي أَمْثَالِ هَذَا، وَقُلْنَا: مَا ثَبَتَ بِالِاسْتِفَاضَةِ أَوِ التَّوَاتُرِ أَنَّ النَّبِيَّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَرَأَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ جَوَازِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ لَحْنٌ، وَلَعَلَّ مُرَادَ مَنْ صَارَ إِلَى التَّخْطِئَةِ أَنَّ غَيْرَهُ أَفْصَحُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ هُوَ فَصِيحًا. {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} أَيْ لَا يَنْزِلُ عَاقِبَةُ الشِّرْكِ إِلَّا بِمَنْ أَشْرَكَ. وَقِيلَ: هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى قَتْلِهِمْ بِبَدْرٍ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:

وَقَدْ دَفَعُوا الْمَنِيَّةَ فَاسْتَقَلَّتْ

ذِرَاعًا بَعْدَمَا كَانَتْ تَحِيقُ

أَيْ تَنْزِلُ، وَهَذَا قَوْلُ قُطْرُبٍ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: يَحِيقُ بِمَعْنَى يُحِيطُ. وَالْحَوْقُ الْإِحَاطَةُ، يُقَالُ: حَاقَ بِهِ كَذَا أَيْ أَحَاطَ بِهِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ كَعْبًا قَالَ لَهُ: إِنِّي أَجِدُ فِي التَّوْرَاةِ (مَنْ حَفَرَ لِأَخِيهِ حُفْرَةً وَقَعَ فِيهَا)، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَإِنِّي أُوجِدُكَ فِي الْقُرْآنِ ذَلِكَ. قَالَ: وَأَيْنَ؟ قَالَ: فَاقْرَأْ {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} وَمِنْ أَمْثَالِ الْعَرَبِ (مَنْ حَفَرَ لِأَخِيهِ جُبًّا وَقَعَ فِيهِ مُنْكَبًّا) وَرَوَى الزُّهْرِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: ‹‹لَا تَمْكُرْ وَلَا تُعِنْ مَاكِرًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ}، وَلَا تَبْغِ وَلَا تُعِنْ بَاغِيًا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ}. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ:

يَا أَيُّهَا الظَّالِمُ فِي فِعْلِهِ

وَالظُّلْمُ مَرْدُودٌ عَلَى مَنْ ظَلَمْ

إِلَى مَتَى أَنْتَ وَحَتَّى مَتَى

تُحْصِي الْمَصَائِبَ وَتَنْسَى النِّعَمْ"

هذا حال كثير من الناس، النعم تُنسى، والإحسان يُنسى، والإساءة لا تنسى، تحفظ، وليس هذا من العدل ولا من الإنصاف، لأن الإنسان إذا يذكر الحسنات ويذكر السيئات إذا ذكر، وإلا فالأصل أن السيئات ما لم يتعدى ضررها يخشى انتشارها، فإنها لا تذكر، لاسيما في جانب الأموات، الذين جاء فيهم، ‹‹اذكروا محاسن موتاكم، وكفوا عن مساويهم››، والله المستعان، نعم.

"وَفِي الْحَدِيثِ ‹‹الْمَكْرُ وَالْخَدِيعَةُ فِي النَّار››. فَقَوْلُهُ: (فِي النَّارِ) يَعْنِي فِي الْآخِرَةِ تُدْخِلُ أَصْحَابَهَا فِي النَّارِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَخْلَاقِ الْكُفَّارِ لَا مِنْ أَخْلَاقِ الْمُؤْمِنِينَ الْأَخْيَارِ."

يكون المعنى حينئٍذ مثل معنى: ‹‹وكل ضلالة في النار››، ‹‹أما أسفل الكعبين ففي النار››، المراد الصاحب.

"وَلِهَذَا قَالَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- فِي سِيَاقِ هَذَا الْحَدِيثِ: ‹‹وَلَيْسَ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُؤْمِنِ الْمَكْرُ وَالْخَدِيعَةُ وَالْخِيَانَةُ››. وَفِي هَذَا أَبْلَغُ تَحْذِيرٍ عَنِ التَّخَلُّقِ بِهَذِهِ الْأَخْلَاقِ الذَّمِيمَةِ، وَالْخُرُوجِ عَنْ أَخْلَاقِ الْإِيمَانِ الْكَرِيمَةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ}؛ أَيْ إِنَّمَا يَنْتَظِرُونَ الْعَذَابَ الَّذِي نَزَلَ بِالْكُفَّارِ الْأَوَّلِينَ. {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا}؛ أَيْ أَجْرَى اللَّهُ الْعَذَابَ عَلَى الْكُفَّارِ، وَيَجَعَلَ ذَلِكَ سُنَّةً فِيهِمْ، فَهُوَ يُعَذِّبُ بِمِثْلِهِ مَنِ اسْتَحَقَّهُ، لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُبَدِّلَ ذَلِكَ، وَلَا أَنْ يُحَوِّلَ الْعَذَابَ عَنْ نَفْسِهِ إِلَى غَيْرِهِ."

لأن هذا لا يحتمل، ولا يقبل النيابة، هذا لا يقبل النيابة.

"وَالسُّنَّةُ الطَّرِيقَةُ، وَالْجَمْعُ سُنَنٌ. وَقَدْ مَضَى فِي (آلِ عِمْرَانَ) وَأَضَافَهَا إِلَى اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا}؛ فَأَضَافَ إِلَى الْقَوْمِ لِتَعَلُّقِ الْأَمْرِ بِالْجَانِبَيْنِ؛ وَهُوَ كَالْأَجَلِ، تَارَةً يُضَافُ إِلَى اللَّهِ، وَتَارَةً إِلَى الْقَوْمِ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} وَقَالَ: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ}."

يعني تضاف إلى الله باعتباره الفاعل الحقيقي، والمميت حقيقًة، وهو الذي ضرب الأجل حقيقًة، وهو الذي سن هذه السنة في الأمم كلها بحيث لا تتغير ولا تتبدل، حقيقًة، وهي أيضًا تقال أيضًا على الطرف الثاني، المفعول به المُتَوفَى، المُعذب، المُجرى عليه هذه السنن، والله المستعان.

"قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا}. بَيَّنَ السُّنَّةَ الَّتِي ذَكَرَهَا؛ أَيْ أَوَ لَمْ يَرَوْا مَا أَنْزَلْنَا بِعَادٍ وَثَمُودَ، وَبِمَدْيَنَ وَأَمْثَالِهِمْ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ، فَتَدَبَّرُوا ذَلِكَ بِنَظَرِهِمْ إِلَى مَسَاكِنِهِمْ وَدُورِهِمْ، وَبِمَا سَمِعُوا عَلَى التَّوَاتُرِ بِمَا حَلَّ بِهِمْ، أَفَلَيْسَ فِيهِ عِبْرَةٌ وَبَيَانٌ لَهُمْ؟ لَيْسُوا خَيْرًا مِنْ أُولَئِكَ وَلَا أَقْوَى، بَلْ كَانَ أُولَئِكَ أَقْوَى؛ دَلِيلُهُ قَوْلُهُ: {وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ}؛ أَيْ إِذَا أَرَادَ إِنْزَالَ عَذَابٍ بِقَوْمٍ لَمْ يُعْجِزْهُ ذَلِكَ. {إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا}.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا}.

قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا} يَعْنِي مِنَ الذُّنُوبِ. {مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: يُرِيدُ جَمِيعَ الْحَيَوَانِ مِمَّا دَبَّ وَدَرَجَ. قَالَ قَتَادَةُ: وَقَدْ فُعِلَ ذَلِكَ زَمَنَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مِنْ دَابَّةٍ يُرِيدُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ دُونَ غَيْرِهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا مُكَلَّفَانِ بِالْعَقْلِ. وَقَالَ ابْنُ جَرِير،ٍ وَالْأَخْفَشُ، وَالْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: أَرَادَ بِالدَّابَّةِ هُنَا النَّاسَ وَحْدَهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ."

لأنهم هم الذين صاروا سببًا لهذا العذاب هم المخالفون، ولوْ يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرِها من أحٍد منهم، وكونه يشمل الجن والإنس، هذا ظاهر في كونهم مكلفين بالأوامر، وعليهم التبعات في ارتكاب النواهي، وإن كان العرف أو الأصل في الدابة أنها جميع ما يدب على وجه الأرض، ويجوز أن يعاقبوا تبعًا لغيرهم، فيحصل الجدب، ويحصل القحط، ويحصل الفيضانات، ويحصل غير ذلك من العقوبات بسبب معصية من كلف بالطاعة، ثم تشمل هذه العقوبات ما على وجه الأرض، من جميع ما يدب على الأرض،.

"قُلْتُ: وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّهُ عَنْ صَحَابِيٍّ كَبِيرٍ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: كَادَ الْجُعَلُ أَنْ يُعَذَّبَ فِي جُحْرِهِ بِذَنْبِ ابْنِ آدَمَ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ: أَمَرَ رَجُلٌ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: عَلَيْكَ بِنَفْسِكَ فَإِنَّ الظَّالِمَ لَا يَضُرُّ إِلَّا نَفْسَهُ. فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: كَذَبْتَ؟ وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ الْحُبَارَى لَتَمُوتُ هُزْلًا فِي وَكْرِهَا بِظُلْمِ الظَّالِمِ."

نعم، ولكل قوم وارث، هذا الذي يقول عليك بنفسك، مثل الذي يقول: أن الاحتساب تدخل في شئون الناس، في أمور الغير، والله المستعان.

"وَقَالَ الثُّمَالِيُّ وَيَحْيَى بْنُ سَلَّامٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: يَحْبِسُ اللَّهُ الْمَطَرَ فَيَهْلِكُ كُلُّ شَيْءٍ. وَقَدْ مَضَى فِي (الْبَقَرَةِ) نَحْوُ هَذَا عَنْ عِكْرِمَةَ وَمُجَاهِدٍ فِي تَفْسِيرِ (وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) هُمُ الْحَشَرَاتُ وَالْبَهَائِمُ يُصِيبُهُمُ الْجَدْبُ بِذُنُوبِ عُلَمَاءِ السُّوءِ الْكَاتِمِينَ فَيَلْعَنُونَهُمْ. وَذَكَرْنَا هُنَاكَ حَدِيثُ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي قَوْلِهِ: (وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) قَالَ: دَوَابُّ الْأَرْضِ. {وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} قَالَ مُقَاتِلٌ: الْأَجَلُ الْمُسَمَّى هُوَ مَا وَعَدَهُمْ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ. وَقَالَ يَحْيَى: هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} أَيْ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ العذاب مِنْهُمْ."

خطأ، العذاب ولا العقاب؟ العقاب.

"أَيْ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ مِنْهُمْ (بَصِيرًا) وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ فِي (إِذَا) (بَصِيرًا) كَمَا لَا يَجُوزُ: الْيَوْمَ إِنَّ زَيْدًا خَارِجٌ. وَلَكِنَّ الْعَامِلَ فِيهَا (جَاءَ) لِشَبَهِهَا بِحُرُوفِ الْمُجَازَاةِ، وَالْأَسْمَاءُ الَّتِي يُجَازَى بِهَا يَعْمَلُ فِيهَا مَا بَعْدَهَا."

وكونه شبيهًا بالمجازاة لوقوع (الفاء) في جوابه.

"وَسِيبَوَيْهِ لَا يَرَى الْمُجَازَاةَ بِ(إِذَا) إِلَّا فِي الشِّعْرِ، كَمَا قَالَ:

إِذَا قَصُرَتْ أَسْيَافُنَا كَانَ وَصْلُهَا

خُطَانَا إِلَى أَعْدَائِنَا فَنُضَارِبُ"

اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك، بعد رمضان إن شاء الله، نستأنف بين العيدين إن شاء الله، في وقته في الاثنين والجمعة. والله المستعان.

"