شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (203)

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله وآله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمته وبركاته، وأهلاً بكم إلى حلقة جديدة في شرح كتاب (التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح)، مع بداية هذه الحلقة يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة، الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير، فأهلاً ومرحبًا بكم.

حياكم الله، وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين.

المقدم: لازال الحديث في باب كتابة العلم في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- عند الاستثناء الأخير في قول النبي -صلى الله وعليه وسلم-: «إلا الإذخر» كنا وعدنا الإخوة أن نستكمل ما تبقى في هذا الموضوع، أحسن الله إليكم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين،

أما بعد،

فقد أشرنا في نهاية الحلقة السابقة، أن في قوله -عليه الصلاة والسلام- استجابة لطلب العباس «إلا الإذخر» وهذه الاستثناء منه -عليه الصلاة والسلام- هل كان باجتهاد منه أو كان بوحي؟ لما طلب العباس نزل الوحي مباشرة على النبي -عليه الصلاة والسلام-، أو كان كما يقول بعضهم: إن جبريل كان حاضرًا، فأشار على النبي -عليه الصلاة والسلام- بذلك، المقصود، نرى ما قاله أهل العلم في هذه المسألة.

يقول الكرماني: فإن قلت: هل هو حجة لمن جوَّز إفتاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالاجتهاد، وجوّز تفويض الحكم إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فيحكم بدون اجتهاد؟ يقول الكرماني: قلت: لا؛ لاحتمال أنه- صلى الله عليه وسلم- أُوحي إليه في الحال، باستثناء "الإذخر" وتخصيصه من العموم، أو أُوحي إليه قبل ذلك؛ يعني وحيًا موقوفًا على طلب أحد؛ يعني قيل له: قل هذا الكلام، فإن طلب أحد استثناء شيء، فأجبه، لكن هذا فيه قرب أم بعد؟

المقدم: بعيد.

بعيد جدًّا، يقول: قلت: لا؛ لاحتمال أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أُوحي إليه في الحال؛ هذا مقبول باستثناء "الإذخر" وتخصيصه من العموم، أو أُوحي إليه قبل ذلك أنه إن طلب أحد استثناء شيء منه فاستثنه، أو لما علم النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه محتاج إليه، استثني بحكم الضرورات تبيح المحظورات، كذا قال الكرماني، لكن في قول أهل العلم: إن "الضرورات تبيح المحظورات"، هل هذا من الضرورات؟ أو من الحاجات؟

المقدم: الحاجات.

حاجة، لكن إباحته لا بسبب دخوله تحت هذه القاعدة، إنما إباحته باستثناء النبي -عليه الصلاة والسلام- "إلا الإذخر"، فكلامه فيه ما فيه.

يقول ابن بطال: ونأتي إلى مسألة اجتهاد النبي -عليه الصلاة والسلام- يقول ابن بطال في آثار هذا الباب، والباب فيه قبل هذا الحديث عند الإمام البخاري في الأصل، ما ذكره بسنده عن أبي جحيفة قال: قلت لعلي: هل عندكم كتاب؟ قال: لا، إلا كتاب الله، أو فهم أُعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة. قال: قلت: فما هذه الصحيفة؟ قال: العقل، وفكاك الأسير، ولا يُقتل مسلم بكافر، ثم أورد حديث الباب بإسناده، وأورد بعده بسنده عن وهب بن منبّه عن أخيه (المقصود بأخيه همام بن منبه) قال: سمعت أبا هريرة يقول: ما من أصحاب النبي -صلى الله وسلم- أكثر حديثًا عنه مني إلا ما كان من عبد الله بن عمرو، فإنه كان يكتب، ولا أكتب إلى آخره.

 يقول: في آثار الباب؛ يعني الثلاثة وما يحتف بها من آثار كثيرة جدًّا إباحة كتابة العلم وتقييده، ألا ترى أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمر بكتابه، يعني بكتابة ما ذكر لأبي فلان، لأبي شاه فقال: اكتبوا لأبي فلان، وقد كتب علي -رضي الله تعالى عنه- الصحيفة التي قرنها بسيفه، وكتب عبد الله بن عمرو، هذه كلها تدل على جواز الكتابة، وقد كره قومٌ كتابة العلم، واعتلوا بأن كتابة العلم سبب لضياع الحفظ، كتابة العلم سبب لضياع الحفظ، هذا محسوس، كل من يعتمد على الكتابة يضيع حفظه، لكن المسألة مسألة موازنة، هل مصلحة الضياع من الحفظ.. والحفظ معروف أنه إذا اعتمد عليه لا شك أنه يضبط، الذي يعتمد علي حفظه يضبط، هذا الشيء محسوس وملموس، لكن الذي يعتمد علي الكتابة يضيع حفظه، شيء مجرب ومشاهد، لكن الذي يلقي باله للكلام...

 ولذا تجد الطلاب في حلقة الدرس، منهم من يُصغي للشيخ، ويقصد حفظ ما يسمع، مثل هذا يستفيد، لكن منهم من يدوّن، ويعلّق عن الشيخ، هو في هذه الحالة لم يركّز على الحفظ، ويعتمد على كتابته وتدوينه، فيضعف الحفظ. العرب كما هو معروف كما جاء في النصوص الصحيحة أمة أمية لا يقرؤون ولا يحسبون، ولكنهم مع ذلك تميزوا بقوة الحفظ، لماذا؟ لأنهم لا يكتبون، فلما كتبوا ضعفت الحوافظ عندهم، ولذا تجد الأئمة في أول الأمر حفظهم قوي جدًّا، الصحابة أيضًا، ثم بعدهم التابعون، سلف هذه الأمة حفظهم قوي؛ لأن الكتابة ما انتشرت واتسعت، فاعتمادهم على الحفظ، من يوجد من بعد القرون المفضلة من يحفظ سبعمائة ألف حديث؟ ما تجد، نعم يتفاوتون في حفظ ألف، ألفين، خمسة، عشرة، لكن خمسمائة ألف، ستمائة ألف، سبعمائة ألف، وفي الغالب أن الذي يحفظ هذه الأرقام..

حتى الألوف التي ما تبلغ المئات، هذا تجده في الغالب يتعاهد حفظه ولا يكتب، ولذا يأمر بعض الشيوخ بكسر القلم في الدرس؛ لكي ينتبه للدرس، ويصغي إليه، ويحفظ، لما انتشرت الكتابة، ضعف الحفظ عند الناس، حتى صار اعتمادهم على الكتابة، ثم طال العهد فوجدت الطباعة، وإذا كانت الكتابة أضاعت الحفظ بنسبة خمسين بالمائة، فالطباعة أضاعت الحفظ بنسبة ثمانين بالمائة؛ لأن الإنسان بدلًا من أن يكتب الكتاب، ويعتمد على كتابته، لا شك أنه يضعف حفظه، لكن أين هذا الذي كتب الكتاب، وعانى الكتابة من شخص اشترى كتابًا جاهزًا ورصه في مكتبته؟ فرق كبير، والكتاب أيضًا في مراجعته معاناة، إذا راجع مسألة ثبتت، أين معاناة الكتاب من معاناة الآلات؟ الذي بضغطة زر يستخرج ما يريد، ويطلع على ما يشاء، لاشك أن هذا له أثره السلبي على إيش؟ على تحصيل طلاب العلم، نعم يستفاد من هذه الآلات، لكن لا يعتمد عليها. 

اعتلوا بأن كتابة العلم سبب لضياع الحفظ، والقول الأول أولى للآثار الثابتة بكتابه العلم، ومن الحجة لذلك أيضًا، يعني هل تعلم أن من المتقدمين من لم يُجِز الرواية من الكتاب، منهم من منع الرواية من الكتاب، وقال: لا بد من الحفظ؛ لأنه هو الأصل، ومنهم بالمقابل من قال: إن الرواية من الكتاب أضبط من الرواية من الحفظ، والمسألة معروفة في مصطلح الحديث؛ لأن الحفظ خوّان، ولذا يختلفون فيما إذا لو تعارض حفظه مع كتابه، عنده كتاب ويحفظ، ثم لما راجع الكتاب، وجد الحفظ يختلف عن الكتاب، المعول على الكتاب أو الحفظ؟

المقدم: المعول؟

المعول على الكتاب أو على الحفظ؟

المقدم: الأصل الحفظ يا شيخ.

هذا الأصل الحفظ، لكن هو علمه مدون في كتاب، وحفظه..

المقدم: فالمعول على الكتاب.

نعم، إذا كان الحفظ بعد الكتابة، واستمداد هذا المحفوظ من هذا الكتاب، فيرجع إلى الأصل، لكن إذا كان حفظ...

المقدم: ثم كتب.

ثم كتب فالمعول على الحفظ، يقول: من الحجة لذلك أيضًا -هذا كلام ابن بطال- ما اتفقوا عليه من كتابة المصحف الذي هو أصل العلم، فكتبته الصحابة في الصحف التي جمع منها المصحف، وكان للنبي -صلى الله عليه وسلم- كُتَّابًا يكتبون الوحي، وإنما كره الكتابة من كرهها؛ لأنهم كانوا حفاظًا، وليس كذلك من بعدهم، فلو لم يكتبوه؛ يعني من بعد الصحابة والسلف؛ يعني من جاء من الخلوف الذين بعدهم، لو لم يكتبوا العلم، ما بقي منه شيء، لنبو طباعهم عن الحفظ، يعني لنفور طباعهم عن الحفظ. يعني تصور أن العلم ما كُتب إلى الآن؟ نجد هذه العلوم؟ لا شك أن الله -جل وعلا- تكفَّل بحفظ الدين، وسوف ييسر ويهيئ من يحفظه، لكن من نظرتنا لواقعنا، أن العلم يضيع، بلا شك لضاع جله، ونحمد الله -جل وعلا- أنه -سبحانه وتعالى- لم يجعل معول الأمة على حفظنا، وعلى حفظ نظرائنا وأقراننا، ما كان يبقي شيء من الحفظ، وهذا شيء نعانيه، حتى أحفظ الناس في هذا اليوم، هل يصف في مصف من يحفظ مئات الألوف من الأحاديث؟ أبدًا.  

يقول: لنبو طباعهم عن الحفظ، ولذلك قال الشعبي: إذا سمعت شيئًا فاكتبه ولو في الحائط، مع أنه أثر عن الشعبي أنه كان يكره الكتابة، ومعروف عن الشعبي أنه يحفظ لأول مرة، حتى أنه يحفظ ما يحتاج إليه وما لا يحتاج إليه، حتى ذُكِر عنه في كتب الأدب أنه إذا دخل الأسواق وضع أصبعه في أذنيه.

المقدم: حتى ما يحفظ الأسعار.

حتى ما يحفظ أي شيء من لغط الناس، في شرح السنة للبغوي، في شرح السنة لمحيي السنة البغوي يقول: اختلف أهل العلم في كتبة الحديث، فكرهه بعض السلف ومنهم قتادة وإبراهيم ومجاهد والشعبي وابن سيرين؛ لما روي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه»، هذا الحديث رواه مسلم، وقوله لما روي كان اعتمد على حكم البخاري بأن الحديث موقوف على أبي سعيد، وإلا فالحديث صحيح في صحيح مسلم، وروي عن ابن عباس أنه قال: إنا لا نكتب العلم، وقال الزهري: كنا نكره كتاب العلم، كتاب مصدر كتب، مثل كتابة، كنا نكره كتاب العلم حتى أكرهنا عليه هؤلاء الأمراء، فرأينا أن لا نمنعه أحدًا من المسلمين، الكراهة هذه سببها أن لا يعوّل على الكتابة فيضيع الحفظ ، لكن لما أُمر من قِبَل ولاة الأمر، ما كان له خِيرة.

المقدم: التزم.

بلا شك، وذهب الأكثرون إلى إباحة الكتبة؛ لما روي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خطب فقال أبو شاه: اكتبه لي يا رسول الله، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- «اكتبوا لأبي شاه»، وهذا أيضًا قوله لما روي مخالف لما عليه عامة أهل العلم، من أن الحديث إذا كان صحيحًا يجزم بنسبته، ما يقال: روي بصيغة التمريض وهو في الصحيحين، «اكتبوا لأبي شاه» يقول البغوي: والنهي يشبهه بأن يكون متقدمًا ثم أباحه وأذن فيه، وقد قيل: إنما نهي عن كتبة القرآن والحديث في صحيفة واحدة؛ يعني يحمل حديث أبي سعيد في النهي عن الكتابة لا تكتبوا عني شيئًا سوى القرآن.

المقدم: أن يجمع بينهما.

يعني لا تكتبوا الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة، لئلا يختلط غير القرآن بالقرآ،ن فيشتبه على القارئ، فأما أن يكون نفس الكتابة محظورًا، فلا. يدل عليه أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: «بلغوا عني»، وفي الأمر بالتبليغ إباحة الكتبة، وفي الأمر بالتبليغ إباحة الكِتبة، لماذا؟

المقدم: لأن البلاغ من صوره الكتابة.

قد لا يتم البلاغ المأمور به إلا بالكتابة لاسيما عند من عرف من نفسه ضعف الحافظة، وما لا يتم المأمور به، فهو مأمور، وهنا يقول: وفي الأمر بالتبليغ إباحة الكتبة والتقييد؛ لأن النسيان من طبع أكثر البشر ومن اعتمد على حفظه لا يؤمن عليه الغلط، فترك التقييد يؤدي إلى سقوط أكثر الحديث وتعذر التبليغ، وحرمان آخر الأمة عن معظم العلم.  

روي عن عمر-رضي الله تعالى عنه- أنه قال: "قيدوا العلم بالكتاب"، "قيدوا العلم بالكتاب" ومثله عن ابن عمرو وأنس، ثم ذكر البغوي آثارًا عن الصحابة والتابعين تدل على الكتابة والأمر بها، وقال الكرماني: كان بين السلف اختلاف في كتابة غير القرآن، ثم أجمع المسلمون على جوازها؛ في أول الأمر في أول الطباعة لما بدأت الطباعة، أوجس العلماء خيفة من هذه الطباعة، وأن الناس يعتمدون عليها فيندرس العلم، فأفتى بعض شيوخ الأزهر بتحريم طباعة كتب العلم، أجازوا طباعة التاريخ والأدب؛ لأنها إذا لم تحفظ فأمرها أيسر من التفسير، والحديث، والعقائد، والفقه، وغيرها مما يتعلق بعلوم الشرع، ثم بعد ذلك تواطأ الناس عليها، وتعارفوا، وأجمعوا على جوازها.

يقول: ثم أجمع المسلمون على جوازها، بل على استحبابها، وأجابوا عن حديث أبي سعيد بأنه في حق من يوثق بحفظه، ولا يخاف اتكاله على الكتابة، ونحو حديث أبي شاه على من لا يوثق بحفظه؛ يعني من يثق بحفظه ولا يُخاف منه النسيان، الحفظ في حقه أولى ويتجه إليه النهي، وأما من لا يوثق بحفظه، فيتجه إليه الحث على الكتابة، والأمر بها، أو بأنه كان النهي حين خيف اختلاطه بالقرآن، فلما أُمن ذلك بسبب اشتهار القرآن، أُذن في الكتابة، أو بأن النهي عن كتابة الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة يعني كما تقدم؛ لئلا يختلط، فيشتبه على القارئ أو أنه نهي تنزيه، والأمر بالكتابة إباحة لمن يحتاجها، أو أنه منسوخ؛ يعني كان في أول الأمر ثم أُذن في الكتابة.

نأتي إلى مسألة الاجتهاد، نأتي إلى مسألة اجتهاد النبي -عليه الصلاة والسلام-، يقول العيني: استدل أهل الأصول بهذا الحديث وشبهه، على أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان متعبدًا باجتهاده فيما لا نص فيه، وهو الأصح عندهم؛ يعني النبي -عليه الصلاة والسلام- إذا لم يكن عنده وحي في المسألة، وحي منطوق، كلام من كلام الله -جل وعلا- قرآن، فإنه يجتهد، يقول: استدل أهل الأصول بهذا الحديث، وجاء به بأن النبي -عليه الصلاة والسلام- كان متعبدًا باجتهاده فيما لا نص فيه، وهو الأصح عندهم، ومنعه بعضهم، وممن قال بالأول أنه متعبد بالاجتهاد الشافعي وأحمد وأبو يوسف، واختاره الآمدي، وصحح الغزالي الجواز، وتوقف في الوقوع، يعني يقول: يجوز أن يتعبد بالاجتهاد.

المقدم: لكنه لم يقع.

لكنه لم يقع، الذي جعلهم يجيزون اجتهاد النبي -صلى الله عليه وسلم- هذه الوقائع يعني هذه الواقعة مثلًا ومثل اجتهاده في أسرى بدر، حينما أخذ منهم الفدية، وعوتب على ذلك، الذي جعلهم يقولون باجتهاده -عليه الصلاة والسلام- هذه الوقائع، فكيف يقول: يجوز، لكنه لم يقع؟ وإلا فالأصل كما في قوله -جل وعلا-: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}[النجم:3:4] يعني سبب الخلاف وقوع الاجتهاد في هذه الواقعة، مع قوله -جل وعلا -: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}[النجم:3:4] ، فالذي يجيز الاجتهاد يستند إلى هذه الوقائع، والذي يمنع الاجتهاد، يستدل بالآية، فكيف يقول الرازي: صحح الغزالي الجواز، وتوقف في الوقوع؟ نقول: الوقائع تدل على أنه واقع، وقال ابن الخطيب الرازي: توقف أكثر المحققين في الكل؛ يعني في الجواز والوقوع، وجوّزه بعضهم في أمر الحرب دون غيره، لكن حديث الباب، إذا قلنا إنه اجتهاد من النبي -عليه الصلاة والسلام- في الاستثناء، ما قلنا إنه نزل الوحي بالاستثناء، على ما ذُكر سابقًا، وهذا ليس في الحرب، أما في مسألة اجتهاده -عليه الصلاة والسلام- في أسرى بدر، فواضح أن هذه حرب، لكن ما الذي يخصص الحرب؟

المقدم: مجال بحاجة إلى الاجتهاد السريع.

وهل الاجتهاد أسرع من الوحي؟ ما هي بأسرع، ليس بأسرع أبدًا، لكنهم نظروا إلى أن الاجتهاد وقع في الحرب إذًا يخصص في الحرب، ويبقى ما عداه على قول الله -جل وعلا-: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3:4]، لكن هذا الاجتهاد من النبي -عليه الصلاة والسلام- إذا أُيد بالوحي وأقر من الله -جل وعلا- ، صار وحيًا، أقول هذا الاجتهاد من النبي -عليه الصلاة والسلام- في المسائل ولو لم ينزل وحي منطوق، إذًا أكيد من الله -جل وعلا- ولم يعاتب فيه ولم ينقض من قبل الله -جل وعلا- صار وحيًا، فاجتهاده -عليه الصلاة والسلام- المؤيد بالوحي وحي ولو بالإقرار، واستدل من قال بوقوعه بما جاء في مثل هذا وفي قوله لما سئل -عليه الصلاة والسلام-: «ألِعامنا هذا أم للأبد؟» في التمتع، قال: «ولو قلت: نعم لوجبت» فدل على أن قوله ملزم؛ يعني باجتهاده.

وبقوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}[آل عمران:159]، يعني المسألة مسألة اجتهاد منه -عليه الصلاة والسلام-، يستشيرهم، ثم بعد ذلك يحكم، وبقوله تعالى في أسارى بدر: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى} [الأنفال:67] إلى آخر الآية، ولو كان حكم بالنص لما عوتب، لما عوتب، وأجاب المانعون عن الكل بأنه يجوز أن يقارنها نصوص، أو تقدم عليها بأنه يوحى إليه أنه إذا كان كذا فافعل كذا، مثل أن لا يستثنى إلا الإذخر، أن لا يستثنى إلا الإذخر حين سأل العباس، أو كان جبريل -عليه السلام- كان حاضرًا فأشار عليه وحينئٍذ يكون بالوحي لا بالاجتهاد.

قال المهلب: يجوز أن الله تعالى أعلم رسوله -صلى الله عليه وسلم- بتحليل المحرمات عند الاضطرار، فكان هذا من ذلك الأصل، فلما سأل العباس، حكم فيه، وقال بعضهم في قوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159] أنه مخصوص بالحرب، ولذلك النبي-عليه الصلاة والسلام- في بعض الغزوات استشارهم، وقيل له: هل هذا المكان عن وحي أم عن اجتهاد، أو هو الرأي والمشورة؟ كما في القصة المعروفة، المقصود أن هذه المسألة فيها قوله -جل وعلا-: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3:4]، وفيها ما ورد من هذه الوقائع التي تدل على أنه اجتهد -عليه الصلاة والسلام-، ولذا عوتب لما كان اجتهاده خلاف الأولى.

نكمل بحث هذه المسألة في حلقة لاحقة إن شاء الله تعالى.

المقدم: جزاكم الله خيرًا، وأحسن إليكم، أيها الإخوة والأخوات، بهذا نصل وإياكم إلى ختام هذه الحلقة من شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح.

نستكمل بإذن الله ما تبقى في حلقه قادمة، وأنتم على خير، شكرًا لطيب متابعتكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.