التعليق على الموافقات (1430) - 10

طالب: أحسن الله إليك.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد،

فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: المسألة السادسة عشرة: العوائد أيضًا ضربان بالنسبة إلى وقوعها في الوجود؛ أحدهما: العوائد العامة التي لا تختلف بحسب الأعصار والأمصار والأحوال، كالأكل والشرب، والفرح والحزن، والنوم واليقظة، والميل إلى الملائم والنفور عن المنافر، وتناول الطيبات والمستلذات واجتناب المؤلمات والخبائث، وما أشبه ذلك".

هذه يجتمع فيها الخلق كله، كلهم يأكلون ويشربون ويطلبون ما ينفعهم ويفرون عما يضرهم، هذه عوائد لا تختلف لا بحسب الأعصار والأوقات والأزمان، ولا بحسب الظروف والأحوال، ولا تختلف أيضًا بحسب الأشخاص والشعوب والأمم، كلها مجبولة على أن تأكل وتشرب من أجل بقاء النوع، هذا أمر غريزي لا بد منه من أجل بقاء النوع. يعني قد يختلفون في بعض التفصيلات، يعني أوقات الوجبات قد تختلف من مكان إلى مكان، أنواع الوجبات قد تختلف، أنواع المأكول قد يختلف. لكن يشتركون في أن الأكل ضرورة، والشرب كذلك، ومثله النوم. نعم.

طالب: "والثاني: العوائد التي تختلف باختلاف الأعصار والأمصار والأحوال، كهيئات اللباس والمسكن".

اللباس خاضع للأعراف خاضع للعرف، ويختلف من بلد إلى بلد، على ألا يكون فيه نص، لا نقول: عرف هذا البلد الإسبال، عرف هذا البلد كذا من الأمور المحرمة، لا، لبس الحرير أو لبس الذهب وما أشبه ذلك. ما ورد فيه نص لا يمكن أن يعارض بأي عرف مهما كان، هذا ما ورد فيه نص. أما ما لم يرد فيه نص فهو يخضع للأعراف.

طالب:........

عُرْف عُرْف عُرْف.

طالب:........

لا لا ما فيه شيء، إلا عند من يقول: إن العمامة سُنة.

طالب: "واللين في الشدة والشدة فيه، والبطء والسرعة في الأمور، والأناة والاستعجال، وما كان نحو ذلك".

هذه كلها تختلف باختلاف الظروف والأحوال والأماكن والأزمان.

طالب: "فأما الأول: فيقضى به على أهل الأعصار الخالية والقرون الماضية".

ما يقال: إن قوم نوح ما يأكلون ولا يشربون ولا، أو من قبلهم ومن بعدهم، هذا أمر جبلي فطري فُطر الناس كلهم عليه.

طالب: "للقطع بأن مجاري سنة الله تعالى في خلقه على هذا السبيل وعلى سَنَنِه لا تختلف عمومًا كما تقدم، فيكون ما جرى منها في الزمان الحاضر محكومًا به على الزمان الماضي والمستقبل مطلقًا، كانت العادة وجوديةً أو شرعيةً. وأما الثاني، فلا يصح أن يقضى به على ما تقدم ألبتة، حتى يقوم دليل على الموافقة من خارج، فإذ ذاك يكون قضاءً على ما مضى بذلك الدليل لا بمجرى العادة، وكذلك في المستقبل، ويستوي في ذلك أيضًا العادة الوجودية والشرعية".

نعم. هذا العوائد التي تختلف باختلاف الأعصار والأمصار، هذا كل عصر وكل مصر له أسلوبه وطريقته في الحياة، ولا يكلف غيره بما كُلفوا به أو العكس، فلا يعد خارمًا للمروءة الأكل في الطريق بين الناس إذا كانت عادة الناس جرت بذلك، بينما يعد خارمًا للمروءة إذا أكل، يعني الأكل في المطاعم مثلاً هذا يختلف باختلاف الأزمان، يختلف باختلاف الأحوال والظروف، يختلف باختلاف البلدان، يعني لفئة من الناس عندنا ما زال الأمر على ما كان عليه في السابق، نوعيات من الناس يعني لو أكلوا في الطريق أو في المطاعم انتقدوا نقدًا شديدًا، وأثر عليهم في بعض المطارات، يقولون: فلان يأكل في المطعم، ويمكن أن يخطب ويرد، يخطب زوجة ويرد، واللهِ يأكل بالمطعم، لماذا؟

لأنه طالب علم ينبغي أن يصون نفسه عن هذه الأماكن، بينما لو أكل غيره فما فيه إشكال. في البلدان الأخرى تجد الجلة من أهل العلم يأكلون في المطاعم، وتكون ولائمهم في المطاعم، ولا يُلامون بهذا. فمثل هذه تختلف باختلاف الأحوال والظروف. بعضهم يمشون حاسري الرأس، وبعضهم مغطون رءوسهم. يعني هذه أمور مثل ما ذكرنا تختلف، فلا يكلف أهل بلد أو إقليم أو قُطر ما يكلف به غيرهم.

 وكذلك الأزمنة. يعني إلى وقت قريب ونجد الذي يمشي بدون بشت ينتقد، الذي يمشي بدون بشت ينتقد، ثم صار انحسر الأمر إلى صلاة الجمعة، ما يمكن لشخص يعني عاقل مدرك يصلي الجمعة بدون بشت، يعني انظر الصور في الرياض مثلاً قبل ستين سنة كل الناس في السوق عليهم البشت، ثم بعد ذلك تنازل الناس إلى الأعياد والجمع والمناسبات، ثم بعد ذلك تجد الأمر سهلًا، انتهى الأمر إلى هذا الحد، والمستقبل الله أعلم به.

طالب: "وإنما قلنا ذلك؛ لأن الضرب الأول راجع إلى عادة كلية أبدية، وُضعت عليها الدنيا وبها قامت مصالحها في الخلق، حسبما بيَّن ذلك الاستقراء، وعلى وفاق ذلك جاءت الشريعة أيضًا؛ فذلك الحكم الكلي باقٍ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهي العادة التي تقدم الدليل على أنها معلومة لا مظنونة".

"معلومة" يعني قطعية، "لا مظنونة" يعني غلبة ظن أو احتمال راجح، لا، إنما مقطوع به، والأمر كذلك، يعني تحلف أن الناس في عهد عاد وثمود ومن قبلهم ومن بعدهم أنهم يأكلون ويشربون، ما تحلف؟

طالب: نحلف.

تحلف لأن هذه عادة مضطردة.

طالب: جبلية يعني؟

نعم.

طالب: "وأما الضرب الثاني؛ فراجع إلى عادة جزئية داخلة تحت العادة الكلية، وهي التي يتعلق بها الظن لا العلم، فإذا كان كذلك لم يصح أن يُحكم بالثانية على من مضى؛ لاحتمال التبدل والتخلف، بخلاف الأولى".

تستطيع أن تحلف أن قوم نوح يغطون رءوسهم؟

طالب: لا.

أو لا يغطونها؟

طالب: لا.

هذه تختلف باختلاف الأحوال والظروف والأزمان، كان الناس في البلدان الأخرى يلبسون قبعات ويلبسون أشياء ويلبسون طرابيش مثلاً، ثم بعد ذلك ألغيت، يعني في وقتهم مثلاً قبل ثورة اثنتين وخمسين وثلاثة وخمسين الناس كلها تلبس طرابيش، ثم بعدها خلاص ألغيت انتهت الطرابيش مع الحكم السابق.

على كل حال يعني يمكن أن تتبدل بقرار، وينتقل الناس من حال إلى حال، ومنها ما يُترك للوقت بحيث ينقضي تدريجيًّا.

طالب: "وهذه قاعدة محتاج إليها في القضاء على ما كان عليه الأولون؛ لتكون حجةً في الآخرين، ويستعملها الأصوليون كثيرًا بالبناء عليها، ورد القضاء بالعلمية إليها، وليس هذا الاستعمال بصحيح بإطلاق ولا فاسد بإطلاق؛ بل الأمر فيه يحتمل الانقسام كما تقدم. وينشأ بين القسمين قسم ثالث يشكل الأمر فيه: هل يُلحق بالأول فيكون حجة، أم لا فلا يكون حجة؟".

يعني هل يلحق بالضروريات، أو يلحق بالأمور التي ليست من هذا القسم، بل هي من أمور الأعراف والعادات؟ فلا تجزم بأن من تقدم من الأمم يستعملونه أو لا يستعملونه، إلا حسب ما يترجح في غالب الظن من الإثبات أو النفي.

طالب: "المسألة السابعة عشرة: المفهوم من وضع الشارع أن الطاعة أو المعصية تعظم بحسب عِظم المصلحة أو المفسدة الناشئة عنها".

يعني في تقدير الله -جل وعلا- "بحسب عظم المصلحة أو المفسدة الناشئة عنها"، وقد يطلع الله -جل وعلا- عظم المفسدة الناس أو قد لا يطلعهم، يعني قد يقول كلمة لا يلقي لها بالاً، ما يظن أنها تبلغ هذا المبلغ يهوي بها في النار سبعين خريفًا، وقد تكون عابرة، لعل هؤلاء الحاضرين ما انتبهوا لها، كما أنه لم يلق لها بالاً، هذه مفسدته عظيمة أم يسيرة؟ على حسب النص، هي عظيمة بلا شك «يهوي بها في النار سبعين خريفًا»، لعل كثيرًا من الأعمال لا تصل إلى هذا الحد الذي فيه ضرر متعدٍّ، لكن الأصل أن هذه العقوبات سواء كانت دنيوية أو أخروية مرتبة على حسب عظم الجرم أو الأثر المترتب عليها. يعني لو جئنا مثلاً إلى شخص وطئ امرأة أجنبية على أنها زوجته، ورجل آخر زنى بامرأة أجنبية يعلم أنها ليست زوجته. الأثر واحد أم ما هو بواحد؟

طالب: واحد.

الأثر واحد، لكن الذنب؟

طالب: الثاني أعظم.

عظيم جدًّا بالنسبة لمن علم، بينما الآخر ما عليه شيء. ولا يأتي من يقول: واللهِ أغمض عينيه أو يتغافل أو يسد أذنيه، لا، هذا غير ذلك، هذا يعلم هذا. على كل حال: هذا الأصل أن العقوبة على قدر الجرم، لكن قد يرد فيما لا يقدره المخلوق ما يصل إلى حده وكنهه ما يختلف عن هذا النظام.

طالب: لكن يا شيخ الوطء بشبهة هل هو متصور؟

أين؟

طالب: متصور وواقع؟

نعم، متصور.

طالب: متصور؟  

نعم، في السابق الناس يتعبون في الأسفار ويطلعون، ووو، الله المستعان. نعم متصور، ولو من طرف، قد يتصور من طرف والطرف الثاني يعلم، العبرة بالذي لا يعلم. نعم.

طالب: "وقد عُلم من الشريعة أن أعظم المصالح جريان الأمور الضرورية الخمسة المعتبرة في كل ملة، وأن أعظم المفاسد ما يُكَرُّ".

"يَكِرُّ".

طالب: "ما يَكِرُّ بالإخلال عليها".

يعني يرجع عليها "بالإخلال". نعم.

طالب: "والدليل على ذلك ما جاء من الوعيد على الإخلال بها؛ كما في الكفر وقتل النفس وما يرجع إليه، والزنا والسرقة وشرب الخمر".

حفظ الدين أعظم الضروريات؛ ولذلك يُبذل في سبيله بقية الضروريات في حفظ الدين، ثم حفظ النفس، ثم ما يليه.

طالب: "وما يرجع إلى ذلك مما وُضع له حد أو وعيد، بخلاف ما كان راجعًا إلى حاجيٍّ أو تكميلي؛ فإنه لم يختص بوعيد في نفسه، ولا بحد معلوم يخصه، فإن كان كذلك فهو راجع إلى أمر ضروري، والاستقراء يبين ذلك، فلا حاجة إلى بسط الدليل عليه".

يعني هناك ما بينه المؤلف في أوائل الكتاب، يعني تقسيم الأمور إلى ضروريات وحاجيات وتحسينيات تكميليات، ومعلوم أن الضروريات لا تُبيح ما مُنع بالنص، والحاجيات لا تصل إلى هذا وإنما ما يُمنع بالقواعد أو بالعمومات قد تبيحه الحاجات، لكن يبقى أن التحسينيات والتكميليات التي أنزلها الناس في هذه الأيام منزلة الضروريات لا تبيح شيئًا، قد تبيح شيئًا من المكروهات؛ لأن المكروه يعني يرتفع بأدنى حاجة، ولا تجد الناس عندهم هذه التكميليات وهذا الترف في كثير من الأوساط، وكثير من الأسر يُنزل منزلة الضرورة؛ لأن النفس إذا جرت على شيء وأخذت عليه يصعب فطامها عنه.

 امرأة تريد صيانة الكمبيوتر حاجة، تخرج مع سائق أجنبي بدون محرم وتقول: ضرورة. وامرأة استعملت الأصباغ والمكاييج من أجل أن تحضر مناسبة، تريد أن تجمع بين المغرب والعشاء تقول: ضرورة! هذا تصور الناس، كثير من الناس اليوم مع الأسف، يعني صار الدين فضلة، على الفضل، يعني فيما يوافق الهوى والنفس.

 يعني تجد بنات تتسكع في الشوارع في منتصف الليل وبعده طالعة من بيتها حتى تشتري شاحنًا! ما هو بأساطير أو كلام ما به، هذا الواقع الذي نعيشه، ولا يعني أن الناس كلهم على هذا المستوى، هؤلاء الشذاذ والنزاع من الناس، لكن ينبغي أن يؤطروا على الحق، المسؤولية تقع في الدرجة الأولى على أولياء الأمور، الذي ينام بحجة أنه يقوم ليصلي الفجر أو يقوم آخر الليل ويترك هؤلاء أمثال هؤلاء الشباب والشابات يتسكعون في الشوارع في آخر الليل بلا رقيب، ضرورة! طلعت لأجل شاحن! طيب وبعد، أو الكمبيوتر ما هو بصافٍ أو كذا، طيب وبعد؟ يسمونها ضرورة، والله المستعان.

وهذه تختلف باختلاف الأسر، يعني بعض الأسر ما زالت على فطرتها، تقدر الأمور قدرها، نعم قد تركب مع سائق بدون محرم، لكن أصيبت بكسر أو احترقت أو شيء من هذا، المستشفى، الإسعاف، هل هذه مثل التي خرجت تشتري شاحنًا؟ فرق، شتان، يعني الشرع ما أوصد الأبواب كلها أمام مثل هذه الحوادث وهذه الأمور التي قد يضطر الإنسان إليها، يعني لا هي طبعي ولا اختياري.

هناك أمور يعني كانت مبنية على التيسير والتسهيل، يعني كانت الأمور، الولادة في البيت يمكن أن تلد المرأة في بيتها بمفردها ما عندها أحد، الآن هل نقول: ضرورة أنها تخرج مع السائق لتلد في المستشفى؟ احتمال أن تموت، نزيف فتموت. ما الذي حدث حتى غير المجتمعات إلى هذا الحد؟ يعني كانت المرأة تجلب السلعة من المزرعة إلى السوق وهي في الطلق وتلد في الطريق.

طالب: أسماء.

نعم؟

طالب: أسماء.

تلد في الطريق هذا شيء قريب، يعني من خمسين سنة، لا تذهب إلى ألف وأربعمائة سنة، تلد في الطريق وتقطع السرة بحصاة وتواصل، تبيع الذي معها وترجع. وكان نساء الفلاحين يجزون النخل العيادين وهي عشرون ثلاثون مترًا وهي في التاسع من الحمل، يعني الآن مجرد ما تطلع نتيجة التحليل تستلقي على ظهرها، ولا تتحرك، الناس عوقبوا بمثل هذا الوهن، هذا وهن ضرب على الناس؛ بسبب ما قدمت أيديهم، يعني لما كان التوكل على الله -جل وعلا- على المطلوب، الله -جل وعلا- من توكل عليه كفاه، من توكل على الله فهو حسبه، لكن أبدًا الآن لو يحدث أدنى شيء المستشفى، هذا كل واحد يلمسه من نفسه ومن تحت يده، يعني كم من واحد جاء مبسوطًا من مناسبة أو شيء وجد المرأة عند الباب جاهزة هيا على الولد أو البنت. صحيح؟

فابتلينا بمثل هذه الأمور التي ترتب بعضها على بعض، وما كان الناس يعرفون المستشفيات وعايشين وما عندهم مشكلة، والله المستعان. ولا يعني هذا أن الإنسان يستسلم ولا يعالج ولا يبذل أسبابًا، لا، لكنه لا يبالغ، ولا يسترسل، ولا يفرط في هذه الأمور؛ لئلا يوكل إلى نفسه. نعم.

طالب: "إلا أن المصالح والمفاسد ضربان؛ أحدهما: ما به صلاح العالم أو فساده، كإحياء النفس في المصالح، وقتلها في المفاسد. والثاني: ما به كمال ذلك الصلاح أو ذلك الفساد. وهذا الثاني ليس في مرتبة واحدة بل هو على مراتب، وكذلك الأول على مراتب أيضًا، فإنا إذا نظرنا إلى الأول وجدنا الدين أعظم الأشياء، ولذلك يهمل في جانبه النفس والمال وغيرهما".

يعني تُبذل النفس، المهجة تُبذل في سبيل الدين، لماذا؟ لأن الدين أهم.

طالب: "ثم النفس، ولذلك يهمل في جانبها اعتبار قوام النسل والعقل والمال".

نعم. لو امرأة حبلى وخيف عليها من هذا الحمل، أيهما أولى بالمحافظة؟ المقطوع بها المجزوم، الأم.

طالب: "فيجوز عند طائفة من العلماء لمن أُكره بالقتل على الزنا أن يقي نفسه به".

هذا إذا تُصور بالنسبة للرجل، جمع من أهل العلم يرون أنه لا يمكن أن يُتصور إكراه الرجل على الزنا؛ لأنه إذا أكره لا ينتشي، بخلاف المرأة: المرأة ممكن أن تُتصور. وبعضهم يقول: يمكن أن يكره.

طالب: "وللمرأة إذا اضطرت وخافت الموت ولم تجد من يطعمها إلا ببذل بضعها؛ جاز لها ذلك، وهكذا سائرها".

يعني هذا إذا وصلت إلى حد الموت، وفي قصة الثلاثة بذلت نفسها، ولا تلام باعتبار أن حفظ النفس أولى من حفظ العرض. ومع هذا الناس يتفاوتون في هذا تفاوتًا بينًا، ومرت الشدائد على الناس ولا تنازلوا لا عن دين ولا عرض، أكلوا الجيف وماتوا من الجوع وما تساهلوا في عرض ولا دين، ثم فُتحت عليهم الدنيا، ثم ما النتيجة؟ تنازعوا، وهذا الذي خشيه النبي -عليه الصلاة والسلام- على أمته.

طالب: «تنافسوها».

والله المستعان، نعم.

طالب: "ثم إذا نظرنا إلى بيع الغرر مثلاً وجدنا المفسدة في العمل به على مراتب؛ فليس مفسدة بيع حبل الحبلة كمفسدة بيع الجنين في بطن أمه الحاضرة الآن".

نعم؛ لأنه جنين في بطن جنين، فجنين واحد أسهل من بيع جنين في بطن جنين "حبل الحبلة"، نعم.

طالب: "ولا بيع الجنين في البطن كبيع الغائب على الصفة، وهو ممكن الرؤية من غير مشقة".

نعم. سلعة غائبة، لكنها منضبطة في الوصف، أسهل من بيع الجنين في بطن أمه؛ لأن ما يمكن وصفه أقرب إلى الوجود والعلم به؛ لأن العلم بالمبيع شرط، أقرب إلى العلم به مما لا يمكن وصفه كالجنين.

طالب: "وكذلك المصالح في التوقي عن هذه الأمور، فعلى هذا إن كانت الطاعة والمخالفة تنتج من المصالح أو المفاسد أمرًا كليًّا ضروريًّا؛ كانت الطاعة لاحقةً بأركان الدين، والمعصية كبيرة من كبائر الذنوب، وإن لم تنتج".

تُنْتِج.

طالب: "وإن لم تُنْتِج إلا أمرًا جزئيًّا، فالطاعة لاحقة بالنوافل واللواحق الفضلية، والمعصية صغيرة من الصغائر، وليست الكبيرة في نفسها مع كل ما يعد كبيرة على وزان واحد".

نعم. حتى الكبائر متفاوتة، والصغائر متفاوتة.

طالب: "ولا كل ركن مع ما يُعد ركنًا على وزان واحد أيضًا، كما أن الجزئيات في الطاعة والمخالفة ليست على وزان واحد؛ بل لكل منها مرتبة تليق بها".

نعم.

طالب: "المسألة الثامنة عشرة: الأصل في العبادات بالنسبة إلى المكلف التعبد دون الالتفات إلى المعاني، وأصل العادات الالتفات إلى المعاني".

الأصل في العبادات لا شك أنه التعبد، يعني ما يمكن أن يقول شخص: لماذا صارت الظهر أربع ركعات والمغرب ثلاثًا؟ هذا تعبد. نعم، كثير من الأمور التُمس لها حكم مستنبطة وعلل مستنبطة، لكن لا أثر لها في الحكم. يعني كون قول الناس أو يستنبطون من الصلاة أنها رياضة تحرك البدن، والسجود يحرك الدماغ والأعصاب، ويحرك كذا، هل يعني هذا أننا نطرد هذه العلة فيقوم مقامها ما أدى نفس الغرض؟ لا يمكن. يعني وإن اطلعنا على شيء من الحكم والأسرار فإنها لا أثر لها في الحكم، بمعنى أن الحكم لا يدور معها وجودًا وعدمًا، بخلاف العادات.

طالب: "أما الأول، فيدل عليه أمور: منها الاستقراء؛ فإنا وجدنا الطهارة تتعدى محل موجبها".

نعم. الموجب هو الحدث، والحدث موضع جزء يسير من البدن. لماذا نغسل البدن كله في الغسل في الطهارة الكبرى؟ وما علاقة اليد بالموجب والرجل؟ وكذلك في الوضوء الحدث محله محصور، فلماذا نغسل الأطراف؟ يعني هل يستطيع شخص أن يأتي بعلة لهذا الأمر؟ يعني يمكن، التمسوا عللًا أن البدن كله تلذذ فيُغسل البدن كله، وفي المحرم كذلك فيُضرب، وهكذا.

المقصود أن هذه العلل المستنبطة لا أثر لها في الحكم.

طالب: "وكذلك الصلوات خُصت بأفعال مخصوصة على هيئات مخصوصة، وإن خرجت عنها لم تكن عبادات، ووجدنا الموجِبات فيها تتحد مع اختلاف الموجَبات، وأن الذكر المخصوص في هيئة ما مطلوب، وفي هيئة أخرى غير مطلوب".

نعم، "الموجِبات تتحد مع اختلاف الموجَبات"، أحيانًا الموجِب له أثر من جهة، ولا أثر له من جهة، فالحيض والنفاس مثلاً يمنعان من الصلاة والصيام، لكن هل هما في حكم واحد؟

طالب: لا.

مثلاً تقضي الحائض الصوم، ولا تقضي الصلاة، فهو موجِب من جهة، ولا يوجِب من جهة أخرى، وكل هذا مرده الشرع؛ ولذا لما قالت السائلة: لماذا تقضي الحائض الصوم ولا تقضي الصلاة؟ قالت عائشة: «أحرورية أنت؟».

طالب: "وأن الذكر المخصوص في هيئة ما مطلوب وفي هيئة أخرى غير مطلوب".

نعم. ذكر مخصوص، في القيام قراءة، لكن هل تجوز القراءة في الركوع والسجود؟

طالب: لا.

 لا تجوز.

التسبيح في الركوع والسجود هل يجوز في حال القيام بدل القراءة؟

طالب: لا.

لا يجوز.

طالب: "وأن طهارة الحدث مخصوصة بالماء الطهور وإن أمكنت النظافة بغيره".

نعم؛ لأنه يوجد ما ينظف ويزيل النجاسات ويزيل الأوساخ غير الماء مما هو أقوى منه، ومع ذلك لا تزول النجاسة، ولا يرتفع الحدث إلا بالماء، وإن قال من قال: إن الطهارة بالنبيذ صحيحة ويجوز الوضوء به، كما يُذكر عن الحنفية، وبعضهم يقول: إنه أولى بالتطهير من الماء؛ لأن المسكر اشتمل على الكحول، والكحول مطهر، مثل ما ذكر صاحبة دائرة معارف القرن العشرين، يقول: أي ضير في أن يُتوضأ بالنبيذ؟ النبيذ ماء وزيادة، زيادة كحول، افترض أنك وضعت مع الماء صابونًا!.

طالب: "وأن التيمم -وليست فيه نظافة حسية- يقوم مقام الطهارة بالماء المطهِّر، وهكذا سائر العبادات كالصوم والحج وغيرهما. وإنما فهمنا من حكمة التعبد العامة الانقياد لأوامر الله تعالى وإفراده بالخضوع والتعظيم".

يعني التيمم أمره في هذا أوضح، الوضوء بالماء وإزالة النجاسة بالماء يعني معقولة، الماء له أثر في البدن يزيل، لكن التيمم؟ له أثر في البدن؟ أو يزيد الوسخ؟ يزيد الوسخ، غبار، لكن مع ذلك: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [البقرة: 285].

طالب: "وإنما فهمنا من حكمة التعبد العامة الانقياد لأوامر الله تعالى وإفراده بالخضوع والتعظيم لجلاله والتوجه إليه، وهذا المقدار لا يعطي علةً خاصةً يُفهم منها حكم خاص؛ إذ لو كان كذلك لم يحد لنا أمر مخصوص، بل كنا نؤمر بمجرد التعظيم بما حُد وما لم يُحد، ولكان المخالف لما حُد غير ملوم؛ إذ كان التعظيم بفعل العبد المطابق لنيته حاصلاً، وليس كذلك باتفاق".

يعني خلافًا لمن يقول: المعول على القلب، تقول له: صلِّ، يقول: المعول على القلب «التقوى هاهنا»! يشرب الخمر، يقول: ليس علي جناح! ما دام الإمام موجودًا، كما تأول بعض الصحابة، تقول له: اترك كذا؟ يقول لك: «التقوى هاهنا»، أنتم تهتمون بالمظاهر، والمعول على الباطن. نعم المعول على الباطن، وهو قطب الرحى، والمدار عليه، والله ينظر إلى القلوب والأعمال، لكن يبقى أن الظاهر هو الذي يترجم الباطن، ما الذي يدرينا عن حسن باطنك؟ أنت لو اتقيت الله لفعلت ما أمرك الله به، ولو اتقيت الله وصدقت في دعواك لما ارتكبت ما حرم الله عليك، فارتكابك لما نهاك الله عنه أو تركك لما أمرك الله به دليل على عدم تقواك.

طالب: "وهذا المقدار لا يعطي علة خاصة يُفهم منها حكم خاص؛ إذ لو كان كذلك لم يُحد لنا أمر مخصوص، بل كنا نؤمر بمجرد التعظيم بما حُد وما لم يُحد، ولكان المخالف لما حُد غير ملوم؛ إذ كان التعظيم بفعل العبد المطابق لنيته حاصلاً، وليس كذلك باتفاق، فعلمنا قطعًا أن المقصود الشرعي الأول التعبد لله بذلك المحدود، وأن غيره غير مقصود شرعًا.

والثاني: أنه لو كان المقصود التوسعة في وجوه التعبد بما حُد وما لم يُحد؛ لنصب الشارع عليه دليلاً واضحًا، كما نصب على التوسعة في وجوه العادات أدلةً لا يوقف معها على المنصوص عليه دون ما شابهه وقاربه وجامعه في المعنى المفهوم من الأصل المنصوص عليه، ولكان ذلك يتسع في أبواب العبادات، ولما لم نجد ذلك كذلك بل على خلافه؛ دل على أن المقصود الوقوف عند ذلك المحدود، إلا أن يتبين بنص أو إجماع معنًى مراد في بعض الصور، فلا لوم على من اتبعه، لكن ذلك قليل، فليس بأصل؛ وإنما الأصل ما عم في الباب وغلب في الموضع".

يعني أحيانًا التعامل، يعني الله -جل وعلا- يعلم ما في القلوب، وسوف يحاسب الناس على ما وقر في قلوبهم، لكن كيف يتعامل الناس بعضهم مع بعض؟ كيف يُطبق شرع الله الذي يطبقه من ينوب عنه في تطبيقه؟ ليس له إلا الظاهر. لو جاء شخص وزعم أنه أتقى الناس، ما الذي يدلنا على صدق دعواه إلا العمل: «ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب وصدقه العمل»، لا ينقبون عن قلوب الناس ولا يمكن أن يطلعوا على ما في القلوب إلا من خلال ما يظهر على جوارحهم.

طالب: "وأيضًا؛ فإن المناسب فيها معدود عندهم فيما لا نظير له، كالمشقة في قصر المسافر وإفطاره، والجمع بين الصلاتين، وما أشبه ذلك. وإلى هذا؛ فأكثر العلل المفهومة الجنس في أبواب العبادات غير مفهومة".

"المناسب فيها معدود عندهم فيما لا نظير له، كالمشقة"، المشقة في السفر اللاحقة للمسافر التي بسببها يترخص، قد يوجد مشقة أعظم منها في الحضر، فهل يترخص أو لا يترخص؟ لا يترخص. قال: "فالمناسب فيها معدود عندهم فيما لا نظير له"، ما يمكن أن يقاس عليه، فإذا وُجدت المشقة صارت العلة التي عُلق عليها الترخص السفر، بغض النظر عن المشقة أو عدمها، الأصل السفر مظنة للمشقة، لكن قد يكون السفر بالنسبة لبعض الناس متعة أفضل من جلوسه في بيته ومع ذلك يترخص.

طالب: "فأكثر العلل المفهومة الجنس في أبواب العبادات غير مفهومة الخصوص، كقوله: سها فسجد".

يعني علة السجود السهو.

طالب: "وقوله: «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ»".

علة عدم القبول الحصل، والغاية: «حتى يتوضأ».

طالب: "ونهيه عن الصلاة طرفي النهار، وعلل ذلك بأن الشمس تطلع وتغرب بين قرني الشيطان. وكذلك ما يستعمله الخلافيون في قياس الوضوء على التيمم في وجوب النية بأنها طهارة تعدَّت محل موجبها، فتجب فيها النية قياسًا على التيمم، وما أشبه ذلك مما لا يدل على معنًى ظاهر منضبط مناسب".

"فتجب فيها النية قياسًا على التيمم"، يعني صار التيمم هو الأصل الذي يُقاس عليه أو الأصل الوضوء؟

طالب: الوضوء.

لا، هذا في محاجة من لا يشترط النية في الوضوء ويشترطها في التيمم؛ وهو مذهب الحنفية، لا يرون النية شرطًا في الوضوء، ولكن يرونها شرطًا في التيمم. طيب، ما الفرق؟ قال: "كذلك ما يستعمله الخلافيون في قياس الوضوء على التيمم في وجوب النية بأنها طهارة تعدت محل موجبها فتجب فيها النية قياسًا على التيمم"؛ لأن الإنسان قد يقول: هذا مقلوب، التيمم يقاس على الوضوء. نقول: لا، كلهم يتفقون على أن التيمم محتاج إلى نية، إلا الأوزاعي، الحنفية يشترطون النية، لكن لا يشترطونها للوضوء، فيجعلون المتفق عليه هو الأصل الذي يُرجع إليه ويقاس عليه ما اختلف فيه.

طالب: "مما لا يدل على معنًى ظاهر منضبط مناسب يصلح لترتيب الحكم عليه من غير نزاع".

نعم. وهذه هي العلة المعتبرة. نعم.

طالب: "بل هو من المسمى شبهًا".

يعني ليس منضبطًا من كل وجه، ولا ظاهرًا من كل وجه، إنما فيه وجه للشبه بين المقيس والمقيس عليه، وجه من وجوه الشبه بين المقيس والمقيس عليه..

طالب: "بحيث لا يتفق على القول به القائلون، وإنما يقيس به من يقيس بعد أن لا يجد سواه".

نعم. مثل قياس الشبه، وهو تردد فرع بين أصلين يُلحق بأقربهما شبهًا به، لكن قد تكون وجهات النظر متباينة، منهم من يقول: لا، هو أقرب شبهًا بهذا، ومنهم من يقول: هو أقرب شبهًا بهذا.

 نأتي مثلاً إلى الرقيق: هل يعامل معاملة الإنسان؟ بمعنى أنه نفسيته نفسية إنسان، تركيبه تركيب إنسان، وهو إنسان من كل وجه، إلا أنه منافعه لغيره كالبهيمة، أو يلحق بالبهيمة باعتبار أنه مملوك يباع ويشترى وكذا؟ هذا قياس الشبه. وإن كان هذا الكلام يثير حفيظة بعض الناس باعتبار أن حقوق الإنسان تدافع عن حقوقهم يعني في الجملة، وإن كان المسلمون لا يوجد من يدافع عن حقوقهم. تعدوا ذلك، يدافعون عن حقوق الحيوان. الرق أُلغي بالكلية لأنه يناقض حقوق الإنسان. ومع الأسف القرار الذي صدر أمس بباكستان قالوا: إن وافقت الحكومة على تطبيق الشريعة في وادي سوات من أجل الذين يطالبون بالشريعة، وافقت الحكومة ثم اعترض البيت الأبيض لماذا؟ لأنه ينافي الديمقراطية وحقوق الإنسان! يعني ما يوجد ما ينافي حقوق الإنسان إلا مثل تطبيق شرع الله في أرضه؟! نسأل الله العافية. والذين يُقتلون بالألوف بل بالملايين هؤلاء ليسوا بإنسان؟!

طالب: "فإذا لم تتحقق لنا علة ظاهرة تشهد لها المسالك الظاهرة، فالركن الوثيق الذي ينبغي الالتجاء إليه الوقوف عند ما حد دون التعدي إلى غيره؛ لأنا وجدنا الشريعة حين استقريناها تدور على التعبد في باب العبادات، فكان أصلاً فيها. والثالث: أن وجوه التعبدات في أزمنة الفترات لم يهتد إليها العقلاء اهتداءهم لوجوه معاني العادات، فقد رأيت الغالب فيهم الضلال فيها".

نعم. الذين عاشوا في الفترات، يعني بين الرسالات، انقطع الوحي، وانتهت هذه الرسالة، ولم تأتِ رسالة أخرى، كما كانوا الشأن في القوم الذين بُعث فيهم النبي -عليه الصلاة والسلام-. هذه فترة، يسمونها زمن الفترة، هل يستطيع الإنسان أن يهتدي إلى عبادة الله -جل وعلا- على ما يريد من غير رسالة؟ يستطيع؟ لا يستطيع. ولذلك صار الغالب فيهم الضلال والجهل، وصاروا يسمون الجاهلية.

طالب: "فقد رأيت فيهم الضلال فيها والمشي على غير طريق، ومن ثَم حصل التغيير".

لأن العقل مهما بلغ في القوة والنبوغ والذكاء لا يدرك شيئًا لم يوقف عليه، لا يمكن أن يدرك شيئًا بنفسه، وإلا كانت العبادات والنبوات وغيرها وما يتعلق بها مكتسبة، وهي في الحقيقة ليست مكتسبة، ما يمكن أن يتروض الإنسان ويرتاض ويترقى في العبودية التي يزعمها ثم يصل إلى حد يدعي فيه النبوة.

طالب: "ومن ثَم حصل التغيير فيما بقي من الشرائع المتقدمة، وهذا مما يدل دلالةً واضحة على أن العقل لا يستقل بدرك معانيها ولا بوضعها، فافتقرنا إلى الشريعة في ذلك. ولما كان الأمر كذلك عذر أهل الفترات في عدم اهتدائهم، فقال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15]".

نعم. العقل السليم والفطرة المستقيمة تدرك الحسن من القبيح، لكن مع ذلك ما يتعلق بالغيبيات وما يترتب عليها الحسن والقبح الشرعي لا تدركه، لكن تتعامل مع الناس بما يلائمها، وتنفر عما يقبح فعله من قِبلها.

طالب: "وقال تعالى: {رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165]. والحجة هاهنا هي التي أثبتها الشرع في رفع تكليف ما لا يطاق، والله أعلم. فإذا ثبت هذا، لم يكن بُد من الرجوع في هذا الباب إلى مجرد ما حده الشارع، وهو معنى التعبد؛ ولذلك كان الواقف مع مجرد الاتباع فيه أولى بالصواب وأجرى على طريقة السلف الصالح، وهو رأي مالك -رحمه الله تعالى-؛ إذ لم يلتفت في رفع الأحداث إلى مجرد النظافة حتى اشترط النية والماء المطلق، وإن حصلت النظافة بغير ذلك".

نعم. مالك -رحمه الله- في طرف، والحنفية في طرف آخر، والشافعية والحنابلة في الوسط: يوافقون مالكًا في الجملة، وقد يخالفونه في بعض الأشياء، ويوافقون الحنفية في بقية المسائل ويخالفونهم في بعض الأشياء. فإذا نظرنا إلى النية وإطلاق الماء الباقي على خلقته بحيث لا يضاف إلى شيء، الحنفية يقولون: إن الماء لا تضره الإضافة، ماء الورد، ماء الباقلاء، ماء كذا، ما تضره الإضافة.

طالب: طاهر مطهر.

يُطهر، كما لو قلت: ماء البئر وماء الصحراء وماء الفلاة وماء كذا. تقول له: هذا الإطلاق ما يمكن أن يقبله عقل، هناك إضافة لا تضر وهناك إضافة تضر، ماء البئر يتأثر بالبئر؟ ما يتأثر، لكن ماء الباقلاء ماء الورد يتأثر أم ما يتأثر؟

طالب: يتأثر.

لو قلنا بإطلاقه لاقتضى أن نقول: ماء الرجل وماء المرأة أيضًا يُتطهر به، هل يمكن أن يقول الحنفية بهذا؟ ما يمكن يقولون بهذا. فالإضافة لا شك أن منها ما هو مؤثر ومنها ما هو غير مؤثر. المالكية من أشد الناس في هذا الباب، يقابلهم الحنفية، ويبقى الشافعية والحنابلة في الوسط. بالنسبة للنية: يشترطون النية، والحنفية لا يشترطونها. وعلى كل حال المذاهب معروفة.

ويتوغل المالكية في مسألة التعبد، وإن كان جزء من النظافة معقول المعنى، فيقولون في ولوغ الكلب: إن الإناء يُغسل؛ للتعبد، وليس لنجاسته، بينا عامة أهل العلم على أنه يُغسل للنجاسة. نعم.

طالب: "وامتنع من إقامة غير التكبير مقامه والتسليم كذلك، ومنع من إخراج القيم في الزكاة".

بينما يكفي التعبير عن التكبير والتسبيح بالمعنى عند الحنفية، وبعضهم يسترسل فيقول باللغات الأخرى.

طالب: "ومنع من إخراج القيم في الزكاة، واقتصر على مجرد العدد في الكفارات، إلى غير ذلك من مبالغاته الشديدة في العبادات التي تقتضي الاقتصار على محض النصوص عليه أو ما ماثله، فيجب أن يؤخذ في هذا الضرب التعبد دون الالتفات إلى المعاني أصلاً يبني عليه وركنًا يلجأ إليه.

فصل: وأما أن الأصل في العادات الالتفات إلى المعاني، فلأمور؛ أولها: الاستقراء، فإنا وجدنا الشارع قاصدًا لمصالح العباد، والأحكام العادية تدور معه حيثما دار، فترى الشيء الواحد يُمنع في حال لا تكون فيه مصلحة، فإذا كان فيه مصلحة جاز كالدرهم بالدرهم إلى أجل، يمتنع في المبايعة ويجوز في القرض، وبيع الرطب باليابس يمتنع حيث يكون مجرد غرر وربا من غير مصلحة، ويجوز إذا كان فيه مصلحة راجحة".

يعني كما في مسألة العرايا: العرايا يباع رطب بيابس، لكن المصلحة راجحة؛ لأنه ليس عند الفقير ما يشتري به الرطب، وعنده بقية من تمر العام الماضي يابس، رُخص لهم في العرايا. وقد يُعري الرجل نخلته في بستانه رجلاً فقيرًا يتقوت من التمر كل يوم منه بقسطه، ويبقيه على رأس النخل، ثم يتضرر صاحب البستان، ثم يضطر أن يدفع له في مقابله تمرًا جاهزًا، ولو لم تتحقق فيه المساواة من كل وجه؛ لأنه لا يمكن أن يمكن أن يباع الرطب باليابس من كل وجه مع تحقق المساواة.

المقصود: أن مثل هذا لوحظ فيه مصلحة المحتاج من الفقير والمتضرر من الأغنياء؛ لأنه قد يُعريه هذه النخلة أو هذه النخلات، ثم يضطر إلى أن يعطيه خيره، يعني: هذا في بستانه وفي بيته وفي مزرعته في وقت أنسه واجتماعه مع أولاده ونسائه وبناته يطرق الباب هذا الفقير ليأخذ من هذا التمر ويتحين هذه الفرص التي يجلس فيها الرجل مع أهله وذويه ومحارمه، فإذا تضرر فالشرع يوجد له حلًّا.

طالب: "ولم نجد هذا في باب العبادات مفهومًا كما فهمناه في العادات، وقال تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة: 179]، وقال: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188]، وفي الحديث: «لا يقضي القاضي وهو غضبان»، وقال: «لا ضرر ولا ضرار»، وقال: «القاتل لا يرث»، ونهى عن بيع الغرر".

هذه أمور كلها معقولة المعنى معروفة، النهي فيها لعلة واضحة..

طالب: "وقال: «كل مسكر حرام»، وفي القرآن: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [المائدة: 91] الآية، إلى غير ذلك مما لا يحصى. وجميعه يشير، بل يصرح باعتبار المصالح للعباد، وأن الإذن دائر معها أينما دارت، حسبما بينته مسالك العلة؛ فدل ذلك على أن العادات مما اعتمد الشارع فيها الالتفات إلى المعاني. والثاني: أن الشارع توسع في بيان العلل والحكم في تشريع باب العادات كما تقدم تمثيله، وأكثر ما علل فيها بالمناسب".

يعني العلة.

طالب: نعم.

نعم.

طالب: "وأكثر ما علل فيها بالمناسب الذي إذا عُرض على العقول تلقته بالقبول، ففهمنا من ذلك أن الشارع قصد فيها اتباع المعاني، لا الوقوف مع النصوص، بخلاف باب العبادات".

ولذلك يقولون: إن العبادات لا يدخلها القياس.

طالب: "فإن المعلوم فيه خلاف ذلك، وقد توسع في هذا القسم مالك -رحمه الله-، حتى قال فيه بقاعدة المصالح المرسلة، وقال فيه بالاستحسان، ونُقل عنه أنه قال: إنه تسعة أعشار العلم، حسبما يأتي إن شاء الله".

يعني الاستحسان هو مجرد ميل واسترواح من قِبل المجتهد، لكنه لا يستطيع التعبير عن وجه رجحانه، إنما هو ميل قلبي؛ ولذلك شنعوا عليه وقالوا: من استحسن فقد شرع.

طالب: "والثالث: إن الالتفات إلى المعاني قد كان معلومًا في الفترات، واعتمد عليه العقلاء، حتى جرت بذلك مصالحهم، وأعملوا كلياتها على الجملة، فاطردت لهم، سواء في ذلك أهل الحكمة الفلسفية وغيرهم، إلا أنهم قَصَّروا في جملة من التفاصيل، فجاءت الشريعة لتُتم مكارم الأخلاق، فدل على أن المشروعات في هذا الباب جاءت مُتممةً لجريان التفاصيل في العادات على أصولها المعهودات".

ولو قيل: إن هذه المستحسنات من العادات في الفترات موروثة من ديانات سابقة، يعني كل دين يبقى منه ما يبقى من مكارم الأخلاق، ثم جاءت شريعتنا لتتم مكارم الأخلاق، مع أن الناس مع عقلاء الناس الذين بقيت فطرهم على ما خلقها الله -جل وعلا- يميزون بين مكارم الأخلاق ومساوئ الأخلاق.

طالب: "ومن هاهنا أقرت هذه الشريعة جملةً من الأحكام التي جرت في الجاهلية: كالدية، والقسامة، والاجتماع يوم العروبة -وهي الجمعة- للوعظ والتذكير".

نعم. كان يسمى "يوم العروبة" يوم الجمعة.

طالب: "للوعظ والتذكير والقراض وكسوة الكعبة، وأشباه ذلك مما كان عند أهل الجاهلية محمودًا، وما كان من محاسن العوائد ومكارم الأخلاق التي تقبلها العقول، وهي كثيرة. وإنما كان عندهم من التعبدات الصحيحة في الإسلام أمور نادرة مأخوذة عن ملة إبراهيم -عليه السلام-".

كمِّل.

طالب: "فصل: فإذا تقرر هذا، وأن الغالب في العادات الالتفات إلى المعاني، فإذا وُجد فيها التعبد، فلا بد من التسليم والوقوف مع النصوص".

"المنصوص".

طالب: "والوقوف مع المنصوص، كطلب الصداق في النكاح، والذبح في المحل المخصوص في الحيوان المأكول، والفروض المقدرة في المواريث".

"المحل المخصوص" وهو البلعوم والودجين، محل مخصوص، ما يمكن أن تذبح مع نصفها مع رِجلها مع طرفها، لا، إنما تذبح في "المحل المخصوص". نعم، وإن كانت هذه في الأصل عادات، لكن دخلها التعبد: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162]. نعم.

طالب: "وعِدد الأشهر في العدد الطلاقية والوفوية، وما أشبه ذلك من الأمور التي لا مجال للعقول في فهم مصالحها الجزئية، حتى يقاس عليها غيرها، فإنا نعلم أن الشروط المعتبرة في النكاح من الولي والصداق وشبه ذلك؛ لتمييز النكاح عن السفاح".

يعني "العِدد" يعني الظاهر من تشريعها أمور مركبة بعضها على بعض، لكن من أظهرها براءة الرحم، لكن ماذا عن الصغيرة والآيسة التي نجزم ببراءة رحمها؟ وماذا عن المتوفى عنها قبل الدخول التي نجزم ببراءة رحمها؟ على كل حال: العلة مركبة، وإن كان أظهرها الجزم ببراءة الرحم.

طالب: "وأن فروض المواريث ترتبت على ترتيب القربى من الميت، وأن العِدد والاستبراءات المراد بها استبراء الرحم خوفًا من اختلاط المياه، ولكنها أمور جُملية، كما أن الخضوع والتعظيم والإجلال علة شرع العبادات، وهذا المقدار لا يقضي بصحة القياس على الأصل فيها، بحيث يقال: إذا حصل الفرق بين النكاح والسفاح بأمور أخر مثلاً لم تُشترط تلك الشروط، ومتى عُلم براءة الرحم لم تشرع العدة بالأقراء ولا بالأشهر، ولا ما أشبه ذلك. فإن قيل: وهل توجد لهذه الأمور التعبديات علة يُفهم منها مقصد الشارع على الخصوص أم لا؟ فالجواب أن يقال: أما أمور التعبدات، فعلتها المطلوبة مجرد الانقياد من غير زيادة ولا نقصان، ولذلك لما سئلت عائشة -رضي الله عنها- عن قضاء الحائض الصوم دون الصلاة، قالت للسائلة: «أحرورية أنت؟» إنكارًا عليها أن يُسأل عن مثل هذا؛ إذ لم يوضع التعبد أن تُفهم علته الخاصة، ثم قالت: «كنا نؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة»، وهذا يرجح التعبد على التعليل بالمشقة، وقول ابن المسيب في مسألة تسوية الشارع بين دية الأصابع: هي السنة يا ابن أخي، وهو كثير، ومعنى هذا التعليل أن لا علة".

نعم. لا تبحث عن أكثر من هذا، "هي السنة" وقف. كان الناس إلى وقت قريب إذا سمعوا النص أذعنوا، لكن الناس الآن لما فُتح المجال للقيل والقال وصار كل يتحدث بما شاء من أهل الخبرة وغيرهم، صاروا يناقشون في كل شيء، ما صار شيء محجوبًا عن الناس، والله المستعان.

طالب: "وأما العاديات وكثير من العبادات أيضًا فلها معنًى مفهوم، وهو ضبط وجوه المصالح؛ إذ لو تُرك الناس والنظر لانتشر ولم ينضبط، وتعذر الرجوع إلى أصل شرعي، والضبط أقرب إلى الانقياد ما وُجد إليه سبيل، فجعل الشارع للحدود مقادير معلومةً وأسباب معلومة لا تتعدى، كالثمانين في القذف، والمئة وتغريب العام في الزنا على غير إحصان، وخص قطع اليد بالكوع".

يعني المفصل الذي بين الكف والساعد، هذا محل القطع كما ثبت من فعله -عليه الصلاة والسلام-.

طالب: "وفي النصاب المعين، وجعل مغيب الحشفة حدًّا في أحكام كثيرة، وكذلك الأشهر والقروء في العدد، والنصاب والحول في الزكاة، وما لا ينضبط رُد إلى أمانات المكلفين، وهو المعبر عنه بالسرائر: كالطهارة للصلاة والصوم والحيض والطهر، وسائر ما لا يمكن رجوعه".

يعني ما يستحلف إذا قال: صليت، أو قال: توضأت؛ هذا يوكل إلى ديانته، يُدين به.

طالب: "وسائر ما لا يمكن رجوعه إلى أصل معين ظاهر، فهذا مما قد يُظن التفات الشارع إلى القصد إليه. وإلى هذا المعنى يشير أصل سد الذرائع، لكن له نظران: نظر من جهة تشعبه وانتشار وجوهه إذا تتبعناه، كما في مذهب مالك مثلاً، مع أن كثيرًا من التكليفات ثبتت كونها موكولةً إلى أمانة المكلف، فعلى هذا لا ينبغي أن يُلتفت منه إلا إلى المنصوص عليه. ونظر من جهة أن له ضوابط قريبة المأخذ وإن انتشرت فروعه، وقد فُهم من الشرع الالتفات إلى كليه، فليُجر بحسب الإمكان في مظانه، وقد منع الشارع من أشياء من جهة جرِّها إلى منهي عنه والتوسل بها إليه، وهو أصل مقطوع به على الجملة، فقد اعتبره السلف الصالح".

نعم. سد الذرائع باب معروف عند أهل العلم، يمنعون به ما يفضي إلى محرم، وإن كان في أصله غير محرم. والآن يطالب بفتح الذرائع، وأن الناس ضيقوا على أنفسهم، وضيقوا على غيرهم باسم سد الذرائع، والمحرمات المنصوص عليها أمور يسيرة، لا سيما المتفق عليها أمور قليلة؛ لأن الأصل أن الله أباح لنا ما في الأرض جميعًا، ومع ذلك يأمرون بفتح الذرائع على مصراعيها! فلا يفيق الإنسان في كثير من أموره وأحواله إلا وإذا هو في وسط أمر محرم، كمن يسير في طريق مسدود في آخره منكر، يسير مع هذا الطريق لا يلتفت يمينًا ويسارًا حتى يجد نفسه وقد ارتكب المنكر.

طالب: "فلا بد من اعتباره، ومن الناس من توسط بنظر ثالث، فخص هذا المختلف فيه بالظاهر، فسلط الحكام على ما اطلعوا عليه منه ضبطًا لمصالح العباد، ووكل من لم يطلع عليه إلى أمانته".

اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

بقي درس مثل هذا الدرس وننتهي من نصف الكتاب، يعني من قسم المصالح والتمهيدات والتوطئات لهذا كلها تنتهي.

 يبقى أصول الفقه المعتاد.

"