التعليق على الموافقات (1436) - 09

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

نعم.

طالب: أحسن الله إليك.

 الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فيقول المؤلف -رحمه الله- إتمامًا للمسألة الثانية عشرة: فصل: وقد يقال: إن ما يُعتد به من الخلاف في ظاهر الأمر يرجع في الحقيقة إلى الوفاق أيضًا. وبيان ذلك أن الشريعة راجعة إلى قول واحد كما تبين قبل هذا، والاختلاف في مسائلها راجع إلى دورانها بين طرفين واضحين أيضًا يتعارضان في أنظار المجتهدين، وإلى خفاء بعض الأدلة وعدم الاطلاع عليه".

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

مسألة تعدد الحق، وكل مجتهد مصيب، هذا قول معروف عند أهل العلم، لكن الراجح في المسألة خلافه، والدليل على خلافه، وهذا تقرر في مواضع متعددة من الكتاب. والمؤلف يريد أن يقرر في هذا أن المجتهدين كل منهم ينشد الصواب، وما عند الله -جل وعلا-، فهم في الحقيقة هدفهم واحد، ولذلك قال: "يرجع في الحقيقة إلى الوفاق"، الوفاق الذي يجمعهم نشدان الهدف الشرعي الموافق لما عند الله -جل وعلا-، سواء أصابه بعضهم وأخطأه آخرون على ما هو المقرر، أو أصابوه كلهم على القول الثاني.

 المقصود أن لمنازعه أن ينازعه ويقول: هذا الكلام ليس بصحيح، لا يرجع إلى الوفاق، الخلاف يظل خلافًا. الأقوال المتنافية، القائل بالوجوب، والقائل بالتحريم يتفقان؟ ما يمكن أن يتفقا. والقائل بالسلب مع القائل بالإيجاب يتفقان؟ لا يمكن أن يتفقا. هو يقول: لا، يمكن ما دام الكل ينشد الحق، ويريد ما عند الله، يريد أن يوافق ما عند الله -جل وعلا-، فهذا محل وفاق. إلى هذا الحد صحيح، لكن النتيجة التي توصلها هذه المقدمة ليست محل وفاق.

طالب: "أما هذا الثاني، فليس في الحقيقة خلافًا، إذ لو فرضنا اطلاع المجتهد على ما خفي عليه لرجع عن قوله، فلذلك يَنقض لأجله".

"يُنقض".

طالب: "يُنقض لأجله قضاء القاضي".

يقول: حتى القائل بالحكم المناقض ليس بمخالف في الحقيقة؛ لأنه لو اطلع على دليل القول الآخر لرجع إليه. لكن النتيجة خلاف أم وفاق؟

طالب: خلاف.

خلاف. العبرة بما يبرز للناس وما يظهر لهم من أجل العمل به واتباعه والاقتداء به مخالف. نعم.

طالب: "أما الأول، فالتردد بين الطرفين تحرٍّ لقصد الشارع المستبهِم بينهما من كل واحد من المجتهدينِ، واتباع للدليل المرشد إلى تعرف قصده، وقد توافقوا في هذين القصدين توافقًا لو ظهر معه لكل واحد منهم خلاف ما رآه لرجع إليه ولوافق صاحبه فيه، فقد صار هذا القسم في المعنى راجعًا إلى القسم الثاني، فليس الاختلاف في الحقيقة إلا في الطريق المؤدي إلى مقصود الشارع الذي هو واحد".

هو الطريق، خلاف في الطريق، والنتيجة متفقة أم مخالفة؟

طالب: مخالفة.

الهدف والقصد واحد هو الوصول إلى الصواب بدليله. لكن الطريقة مختلفة والنتيجة تبعًا لها مختلفة.

طالب: "إلا أنه لا يمكن رجوع المجتهد عما أداه إليه اجتهاده بغير بيان اتفاقًا، وسواء علينا أقلنا بالتخطئة أو قلنا بالتصويب".

"أقلنا بالتخطئة" للقول المجانب للصواب بناءً على أن المصيب واحد، "أو قلنا بالتصويب" بناءً على أن الكل صواب، وكل مجتهد مصيب.

طالب: "إذا لا يصح للمجتهد أن يعمل على قول غيره وإن كان مصيبًا أيضًا".

لأن المسألة مفترضة في مجتهد، والمجتهد لا يسوغ له أن يقلد، ورجوعه إلى قول غيره تقليد، نعم.

طالب: "كما لا يجوز له ذلك إن كان عنده مخطئًا، فالإصابة على قول المصوبة إضافية".

"الإصابة على قول المصوبة إضافية"، فالمصوبة الذين يصوبون جميع الأقوال أقوال المجتهدين، لكن كلهم مصيبون؟ هل كلهم يُقلَّدون؟

طالب: لا.

أم فيهم المصيب والأصوب؟

طالب: الثاني.

نعم. فيه مصيب وأصوب، في صحيح وأصح. فهي إضافية، هذا مصيب بالنسبة لحيازته الأجر على اجتهاده، وهو مصيب أيضًا في نفس الأمر في استعماله المقدمات الشرعية واستدلاله بالأدلة التي يجب الرجوع إليها ولو خفي عليه ما يجعل قوله المرجوح قوله مرجوحًا، فهو مصيب من هذه الحيثية، وإلا فالصواب واحد.

طالب: "فرجع القولان إلى قول واحد بهذا الاعتبار، فإذا كان كذلك، فهم في الحقيقة متفقون لا مختلفون".

نعم، متفقون في الهدف، بخلاف أهل الأهوال فإنهم في البداية مختلفون، يختلفون في الهدف قبل الوسيلة الموصلة إليه، ومن ثَم النتيجة التي تنتج عن هذه الوسيلة.

طالب: "ومن هنا يظهر وجه الموالاة والتحاب والتعاطف فيما بين المختلفين في مسائل الاجتهاد".

نعم. لا تجد بين أحمد والشافعي شيئًا من المنافرة أو من التباغض أو من التحاسد أو من التنافس، لا، الإمام أحمد يعترف للشافعي، والشافعي يعترف لمالك، والأئمة كلهم على هذا السبيل وإن اختلفوا، كما هو الشأن في الاختلاف بين الصحابة قبل ذلك، رضوان الله عليهم. نعم.

طالب: "حتى لم يصيروا شيعًا ولا تفرقوا فرقًا؛ لأنهم مجتمعون على طلب قصد الشارع، فاختلاف الطرق غير مؤثر، كما لا اختلاف بين المتعبدين لله بالعبادات المختلفة، كرجل تقربه الصلاة، وآخر تقربه الصيام، وآخر تقربه الصدقة إلى غير ذلك من العبادات، فهم متفقون في أصل التوجه لله المعبود، وإن اختلفوا في أصناف التوجه".

لو أن اثنين جلسا في المسجد أحدهما أخذ المصحف وقال يقرأ، والثاني صف يصلي، وهذا قرأ ساعة، وهذا صلى ساعة، لا يثرب أحدهما على الآخر، ولا يجد أحدهما في نفسه على الآخر؛ لأن كل واحد منهما سلك طريقًا يصل به إلى الله -جل وعلا-.

طالب: "فكذلك المجتهدون لما كان قصدهم إصابة مقصد الشارع صارت كلمتهم واحدةً وقولهم واحدًا، ولأجل ذلك لا يصح لهم ولا لمن قلدهم التعبد بالأقوال المختلفة كما تقدم؛ لأن التعبد بها راجع إلى اتباع الهوى لا إلى تحري مقصد الشارع".

المعروف من حال الصحابة كما تقدم والأئمة، أنهم متفقون مؤتلفون متحابون يعترف كل واحد منهما للآخر بالفضل، ووجد بعض الإثارات في المذاهب، لكنها بين الأتباع لا بين الأئمة المتبعين، تجدون في كتب التراجم في منافسات بين الحنابلة وغيرهم وفي بين المالكية وبين، موجودة هذه المنافسات لكنها بين الأتباع، هم الذين يستوشون مثل هذه الأمور ويضخمون، ما زال الأتباع إلى يومنا هذا هم أساس الفُرقة، وإلا فرءوس المذاهب لا يحصل منهم شيء؛ لأنهم ينتصرون للحق، نعم وُجد من يتزعم الفتاوى وبعض التصدي للناس وما ينطبق عليه إعجاب كل ذي رأي برأي، مثل هذا لا يرضى بأحكام الآخرين ولا يذعن لهم، والله المستعان.

طالب: .......

لا، لقائل أن يقول: كل هذا الكلام ما له سند.

طالب: .......

ماذا؟

طالب: قد يكون.

لقائل أن يقول: كل هذا الكلام ما له سند.

طالب: .......

لا، هو الذي يقول، لكنه لا يجزم به، وإلا فهو الذي ابتكره.

طالب: .......

هو الذي ابتكره.

طالب: "والأقوال ليست بمقصودة لأنفسها، بل ليُتعرف منها المقصد المتحد، فلا بد أن يكون التعبد متحد الوجهة، وإلا لم يصح، والله أعلم.

 فصل: وبهذا يظهر أن الخلاف -الذي هو في الحقيقة خلاف- ناشئ عن الهوى المضل، لا عن تحري قصد الشارع".

نعم. الخلاف الذي هو في الحقيقة خلاف: ما نشأ عن الهوى والانتصار للجماعة والانتصار للرأي والانتصار للهوى والنفس، هذا هو الذي ينبغي أن يسمى خلافًا، الذي يورث النزاع والشقاق. أما الخلاف الذي لا يورث شقاقًا ولا نزاعًا كما هو شأن خلاف الصحابة والأئمة، فمثل هذا لا ينبغي أن يسمى خلافًا؛ لأنهم في الهدف متفقون.

طالب: .......

كيف؟

طالب: .......

هذا بزعمه أنه ينتصر للحق على حسب ما وقر في قلبه، هل هو ينتصر لرأيه لمجرد أنه رأيه، وهم معجبون به، ويفرضه على غيره، هذا شيء، ويدخل في باب إعجاب كل ذي رأي برأيه الذي ورد ذمه. بينما إذا كان يرى أن هذا الحق، يعني مثل الغضب لله، مثل الغضب للحق، مثل الانتصار للمذهب الصحيح، يعني بعضهم صحيح يطرح المسألة، ويشدد فيها باعتبار أنه وضح له الحق مثل الشمس، وأن مخالفه هو مخالف للحق، مع أن العالم ينبغي أن لا يتمسك برأيه، نعم يبينه، ويوضحه للناس، ويبين ما للأقوال الأخرى من الآثار وما فيها من ضعف، والنتائج بيد الله، إلزام الناس بعدُ ما هو مطلوب.

طالب: "ناشئ عن الهوى المضر لا عن تحري قصد الشارع باتباع الأدلة على الجملة والتفصيل، وهو الصادر عن أهل الأهواء، وإذا دخل الهوى أدى إلى اتباع المتشابه حرصًا على الغلبة والظهور بإقامة العذر في الخلاف، وأدى إلى الفرقة والتقاطع والعداوة والبغضاء، لاختلاف الأهواء وعدم اتفاقها، وإنما جاء الشرع بحسم مادة الهوى بإطلاق، وإذا صار الهوى بعض مقدمات الدليل لم ينتج إلا ما فيه اتباع الهوى".

نعم. لأن المقدمات الصحيحة ينتج عنها نتائج صحيحة، والمقدمات الباطلة ينتج عنها نتائج باطلة، لا يمكن أن تقدم بمقدمة غير شرعية، وترجو من ذلك أن تكون النتيجة شرعية. يسألون يقولون: إن الموظفات على مسافات بعيدة من المدن، مسافة قصر فأكثر، تدور السيارات التي توصلهن من منتصف الليل من أنحاء الرياض مثلاً، ثم إذا اجتمعن في باص عددهن عشرين أو أكثر أو أقل ذهب بهن السائق إلى موطن العمل، مائة كيلو، مائتين كيلو، يسأل السائق يقول: يأتي علينا وقت صلاة الفجر، لا نستطيع إنزال هؤلاء النسوة في البراري وقت صلاة الفجر ليؤدين الصلاة في وقتها، فهل ننتظر حتى نصل المكان بعد طلوع الشمس؟ أنت الآن مقدمة شرعية أم غير شرعية؟

 غير شرعية، تبغي نتيجة شرعية من مقدمة غير شرعية؟ ما يمكن. لكن هات مقدمة شرعية، كل واحدة معها محرم، نزلهن بالبر وخليهن يصلين ومعهن محارمهن ومعهن من يدافع عنهن، النتيجة أيش؟ شرعية؛ لأن المقدمة شرعية.

طالب: "وإذا صار الهوى بعض مقدمات الدليل لم ينتج إلا ما فيه اتباع الهوى، وذلك مخالفة الشرع، ومخالفة الشرع ليست من الشرع في شيء، فاتباع الهوى من حيث يظن أنه اتباع للشرع ضلال في الشرع، ولذلك سميت البدع ضلالات، وجاء: «إن كل بدعة ضلالة»؛ لأن صاحبها مخطئ من حيث توهم أنه مصيب، ودخول الأهواء في الأعمال خفي، فأقوال أهل الأهواء غير معتد بها في الخلاف المقرر في الشرع، فلا خلاف حينئذ".

لأنه في الأصل، في المقدمة إنما اتبعوا أهواءهم، ولذلك قيل لهم: أهل الأهواء.

طالب: "فلا خلاف حينئذٍ في مسائل الشرع من هذه الجهة.

 فإن قيل: هذا مشكل، فإن العلماء قد اعتدوا بها في الخلاف الشرعي، ونقلوا أقوالهم في علمي الأصول".

"الأصول": أصول الدين وأصول الفقه، "في علمي الأصول": علم أصول الدين وعلم أصول الفقه. ذكروا أقوالهم، لكن هل مجرد الذكر يعني الاعتداد أو لمجرد العلم به ليتقى ويحذر أو ليُرد عليه؟

طالب: ليرد عليه.

نعم.

طالب: "في علمي الأصول، وفرَّعوا عليها الفروع، واعتبروهم في الإجماع والاختلاف، وهذا هو الاعتداد بأقوالهم".

يعني مجرد الذكر لا يعني الاعتداد.

طالب: "فالجواب من وجهين؛ أحدهما: أنا لا نسلم أنهم اعتدوا بها، بل إنما أتوا بها ليردوها ويبينوا فسادها، كما أتوا بأقوال اليهود والنصارى وغيرهم؛ ليوضحوا ما فيها، وذلك في علمي الأصول معًا بيِّن، وما يتفرع عنها مبني عليها.

 والثاني: إذا سُلم اعتدادهم بها، فمن جهة أنهم غير متبعين للهوى بإطلاق، وإنما المتبع للهوى على الإطلاق من لم يَصْدُق بالشريعة".

"يُصَدِّق".

طالب: "من لم يُصَدِّق بالشريعة رأسًا".

المتبع للهوى بإطلاق الكافر الذي لا يصدق، لكن من ينتسب إلى الإسلام، ولو كان مبتدعًا، أو كان مخالفًا، أو حتى كان فاسقًا، هو عنده نوع تصديق، هو مصدق من وجه معارض معاند من وجه، فالذي يتبع الهوى بإطلاق إنما هو الكافر، ولذلك يُعتد بقول المبتدع أو الفاسق أو المخالف بقدر ما عنده من تصديق للشريعة على ضوء الوجه الثاني، وإلا فالأئمة ما اعتدوا بأقوال المبتدعة في مسائل الإجماع والخلاف؛ لأنهم ما اعتمدوا الكتاب والسنة أصولاً يتبعونها في كل ما يعرض لهم، بل خالفوها أو حملوها على غير محاملها، ولذلك ما اعتدوا بقول المعتزلة، ولا بقول الجهمية، ولا بقول الرافضة، حتى بعضهم رفض الاعتداد بقول الظاهرية. نعم.

طالب: "وإنما المتبع للهوى على الإطلاق من لم يُصدق بالشريعة رأسًا، وأما من صدَّق بها وبلغ فيها مبلغًا يظن به أنه غير متبع إلا مقتضى الدليل يصير إلى حيث أصاره، فمَثَلُه لا يقال".

"مِثْلُه".

طالب: "فمِثْلُه لا يقال فيه: إنه متبع للهوى مطلقًا، بل هو متبع للشرع ولكن بحيث يزاحمه الهوى في مطالبه من جهة اتباع المتشابه، فشارك أهل الهوى في دخول الهوى في نحلته، وشارك أهل الحق في أنه لا يقبل إلا ما عليه دليل على الجملة".

يعني مثل الزمخشري هو في المعتقد معتزلي، وفي الفروع حنفي، ومثل الرازي هو في المعتقد أشعري جبري، واجتمع فيه أمور كثيرة في الاعتقاد، وصار رأسًا في التمشعر ومنظرًا لمذهبهم وكتبه من أضر الكتب على طلاب العلم المتوسطين الذين لا يستطيعون التخلص من الشبهات؛ لأنه طريقته في تقرير الشبه لا يتخلص منها طالب العلم غير المتمكن، وهو شافعي المذهب، فهو من حيث الفرع يعتبر قوله في الفروع، لكن في الأصول لا يعتبر. ويسأل بعض طلاب العلم عن إيراد قوله، أعني الرازي، ومثله الغزالي، والجويني، وكثير من العلماء الذين رُموا بنوع بدعة، بل هم رؤوس المذاهب المبتدعة، تُذكر أقوالهم في علوم الحديث، لو قرأتم في ابن الصلاح وما تفرع عنه من ألفية العراقي، وتجدون في تدريب الراوي وفتح المغيث، كتب المصطلح طافحة بنقل أقوالهم.

 لكن ما علاقتهم بالحديث لتنقل أقوالهم في علوم الحديث؟ الغزالي يقول: بضاعتي في الحديث مزجاه، والرازي نقل حديثًا في تفسير سورة العصر لا يعرفه أحد من أهل العلم، بل هو موضوع بالاتفاق لا يوجد في ديوان من دواوين السنة؛ ولذا قال الألوسي لما ذكره في تفسير سورة العصر: ذكره الإمام -إذا أطلق الإمام فالمراد به الرازي-، ذكره الإمام، ولعمري أنه إمام في معرفة ما لا يعرفه أهل الحديث. ويذكر قوله في كتب المصطلح، ولذلك نادى من نادى بتجريد كتب المصطلح من أقوال أهل الكلام.

 أحيانًا تكون المسألة مردها إلى العقل وهي اصطلاحية تُفهم بالرأي، ولا شك أنهم أهل رأي وعقل ودقة نظر. ليس مردها إلى الرواية والنقل، المسألة ليس مردها إلى الرواية والنقل، فمثلاً لما فرَّق أحمد ويعقوب بن شيبة بين عن وأن، قالوا: (عن) متصلة، و(أن منقطعة). في حديث: عن عمار بن ياسر أن النبي -عليه الصلاة والسلام- مر به، إلى آخره... (عن) قالوا: هذه متصلة.

طالب: محمد بن الحنفية.

الطريق الأخرى: عن محمد بن الحنفية أن عمار بن ياسر مر به النبي -عليه الصلاة والسلام-. قالوا: منقطعة. ابن الصلاح يقول: تفريق الحكم بين الطريقين؛ لأن صيغة الأداء اختلفت، الأولى عن، والثانية أن، فعن متصلة، و(أن)... يقول العراقي: (كذا له ولم يصوب صوبه)، يعني ما أدرك المحز الذي من أجله فرَّقوا الحكم. في الطريق الأول ابن الحنفية يروي عن عمار قصة حصلت له، يروي عن صاحب القصة، فهي متصلة. وفي الطريق الثاني يروي قصة لم يشهدها، يحكيها من نفسه من تلقاء نفسه، أن عمارًا مر به النبي -عليه الصلاة والسلام-. إدراك مثل هذا الأمر يحتاج إلى نقل؟ يساهم فيه الرازي ويساهم فيه غيره ممن يزاول علم الكلام.

 فمثل هذه الأمور لا يُشدد فيها؛ لأن مردها إلى دقة النظر، ولذلك قال: (كذا له ولم يصوب صوبه).

طالب: "وأيضًا، فقد ظهر منهم اتحاد القصد على الجملة مع أهل الحق في مطلب واحد، وهو اتباع الشريعة".

نعم. شيخ الإسلام -رحمه الله- من إنصافه، يعني أنصاف المتعلمين أمثالنا لما يقرءون في كتاب الرازي في تفسيره، أول ما يبدو لهم وهو يورد الشبه بقوة، ويرد عنها بضعف، ويقول عن كتاب التوحيد إنه كتاب الشرك لابن خزيمة، نحن نهجم على الرازي، ونتهمه في قصده؛ لأن الكلام قوي وفي تقرير البدعة وتسفيه أهل السنة وتضعيف أقوالهم ويورد شبهًا ممن هو أشد منه بدعة، من بدع من فوقه من الجهمية والمعتزلة ثم يضعف عن ردها، فماذا تقول؟ لا يمكن أن تستروح وتميل إلى أنه يقصد مثل هذه الأمور. شيخ الإسلام سئل عنه وسئل عن غيره، وقال: أما أبو عبد الله بن الخطيب، الرازي، فكثير من الناس يطعن في قصده، والذي أراه أنه ينصر ما يراه الحق.

 ولذلك يقول: "وأيضًا فقد ظهر منهم اتحاد القصد على الجملة مع أهل الحق في مطلب واحد"، يعني كلهم ينشدون الحق، مع أن شيخ الإسلام مع جلالته وسعة علمه وسعة اطلاعه وسعة استيعابه، لأنه كلما كثر العلم اتسع الأفق عند العالم، كلما ضاق العلم ضاقت الدائرة. سمعنا كلام شيخ الإسلام في الرازي، ومن يقرأ في كتاب الرازي لا يطيقه، لا سيما إذا كان فيه حرقة للسنة ولأهل السنة، والله المستعان.

طالب: .......

بلا شك، بلا شك.

طالب: .......

ينصف، والرازي من أشد الناس على مذهب أهل السنة، وشيخ الإسلام عانى منه كثيرًا، ورد عليه طويلاً، ونقد التأسيس كله رد عليه.

طالب: "فقد ظهر منهم اتحاد القصد على الجملة".

لكن الشيخ -رحمة الله عليه- ينظر إلى هؤلاء المبتدعة بعينين، وبيَّن هذا في الحموية والتدمرية وغيرها من كتبه، ينظر إليهم بعين مخالفة النص، وأنهم تركوا النصوص وهجروها، واتبعوا قواعدهم الكلامية والفلسفية، فهم محل ذم. وباعتبار أنهم تعبوا وضلوا لاتباعهم غير ما أنزل الله في تقرير المسائل العقدية، وأنهم تعبوا في ذلك، ومنهم من يقصد الحق وينشده، ينظر إليهم بعين الرحمة، ينظر إليهم بعين الرأفة والرحمة، ويدعو لهم -رحمة الله عليه-، وكثير منهم رجع في آخر عمره.

طالب: "فقد ظهر منهم اتحاد القصد على الجملة مع أهل الحق في مطلب واحد وهو اتباع الشريعة، وأشد مسائل الخلاف مثلاً مسألة إثبات الصفات حيث نفاها من نفاها، فإنا إذا نظرنا إلى الفريقين وجدنا كل فريق حائمًا حول حمى التنزيه ونفي النقائص وسمات الحدوث، وهو مطلوب الأدلة، فاختلافهم في الطريق قد لا يُخل بهذا القصد في الطرفين معًا، وهكذا إذا اعتبرت سائر المسائل الأصولية".

لكن تساهل المؤلف -رحمه الله- في هذا الباب، وأن كلهم سلك مسلكًا يؤديه إلى التنزيه، كأنه يصحح المسلكين، وميله إلى التأويل معروف، المؤلف يميل إلى التأويل ويقول به.

طالب: .......

ماذا؟

طالب: .......

ماذا؟

طالب: .......

مهما كان، يقول كلهم لأنهم تبع الثاني، تبع الثاني الذين كلهم غير متبعين للهوى.

طالب: .......

لا، غير متبعين للهوى، يقصد التنزيه ذاك، ينشد الحق؛ لأنه وضعه تحت الوجه الثاني.

طالب: "وإلى هذا، فإن منها ما يشكل وروده، ويعظم خطب الخوض فيه، ولهذا لم يظهر من الشارع خروجهم عن الإسلام بسبب بدعهم.

 وأيضًا فإنهم لما دخلوا في غمار المسلمين، وارتسموا في مراسم المجتهدين، منهم بحسب ظاهر الحال، وكان الشارع في غالب الأمر قد أشار إلى عدم تعيينهم، ولم يتميزوا إلا بحسب الاجتهاد في بعضهم، ومدارك الاجتهاد تختلف؛ لم يمكن- والحال هذه- إلا حكاية أقوالهم، والاعتداد بتسطيرها والنظر فيها، واعتبارهم في الوفاق والخلاف؛ ليستمر النظر فيه، وإلا أدى إلى عدم الضبط، ولهذا تقرير في كتاب الإجماع، فلما اجتمعت هذه الأمور، نُقل خلافهم".

لا يلزم من نقل الخلاف الاعتداد، قد يُنقل الخلاف من أجل استيعاب الأقوال وحصرها في الموجود؛ لئلا يقصر في النقل فيترك ما هو محل للاعتبار من الأقوال. فالمؤلف يحصر الأقوال كلها، ويستقرئها، ويسبرها فيما بعد، ويقرر الصواب منها. ومنهم من يذكر الأقوال ليبيِّن للقارئ أنه منصف، فيؤخذ بقوله؛ لأنه لو هجر بعض الأقوال المشهورة في بعض الجهات لما استفيد من كتابه ولاعتبر متعصبًا لمذهبه، تاركًا لغيره فاطرح كتابه. ولذلك تجدون في كتب العلماء أقوال المذاهب الموجودة في بلدانهم، يذكرونها باعتبار أن لها أتباعًا وأن الكتاب لو خلا منها لهجر، فهذا من باب الترويج.

طالب: .......

هو من باب الإنصاف لأهل السنة، لكن الاستيعاب مطلوب؛ لئلا يقال: إن المؤلف ما استوعب، فلعله ترك قولاً من أقوال أهل الحق. الآن في كتب التفسير مثلاً في تفسير كلام الله -جل وعلا-، لو قلنا أن كتب الأهواء كلها تُجنب، فماذا يبقى لنا؟

طالب: القليل.

من التفاسير يبقى القليل. وفي تفاسيرهم- يعني وهذا الكلام لا يقال بإطلاق ولا في كل مناسبة- في كتبهم من الفوائد ما فيها، يعني لو جُردت فوائد الزمخشري أو فوائد الرازي لحصل منها شيء كثير، لو جُردت وانتفع بها أهل العلم، وعندهم لفتات ولطائف في علوم العربية والبيان وغيره لا توجد عند غيرهم، ومع ذلك الضرر فيها كثير، بل الضرر فيها أكثر على أنصاف المتعلمين.

طالب: "وفي الحقيقة، فمن جهة ما اتفقوا فيه مع أهل".

نأتي إلى مسألة، وهي طرأت لما أجلنا القراءة في تفسير الشنقيطي، جاء من يقول: إن تفسير الشنقيطي بالنسبة لنا أكثر فائدة من تفسير ابن كثير. وجاء من يسأل ويقول: تفسير القرطبي أكثر فائدة من تفسير الطبري. يعني المقرر أن تفسير الطبري وتفسير ابن كثير تفاسير أثرية مبنية على الأحاديث وعلى أقوال الصحابة والتابعين، فكيف يقال: إن تفاسير مشحونة بآراء المفسرين وأقوالهم والاعتماد فيها على النص أقل بكثير من التفاسير المشار إليها أنها أكثر فائدة. هل هذا خلل في تصور طالب العلم؟

طالب: .......

ماذا؟

طالب: .......

أنا أسألك أنت، طالب علم، وعندك شهادات عالية، ونحسبك تفهم ما تقرأ، أنا أتحاكم إليك، جلست، عكفت على تفسير ابن كثير ثلاثة أشهر وأنهيته، أو قسمت الوقت نصفين: نصف لابن كثير، ونصف لأضواء البيان، وخلال ستة أشهر أنهيت الكتابين، وراجعت نفسك، وجدت من الحصيلة العلمية من هذا ومن هذا متساوية أو متفاوتة؟

طالب: متفاوتة.

أيهما أكثر فائدة؟ خلونا متجردين.

طالب: .......

ما أريد الجمع، ما هي بمسألة المجاملة.

طالب: من حيث...

ماذا؟

طالب: من حيث التحصيل.

من حيث التحصيل العلمي، يعني لو راجعت نفسك، وضبطت من المسائل التي مرت عليك بأضواء البيان أو في المسائل التي مرت عليك بتفسير ابن كثير؟

طالب: .......

ماذا؟

طالب: .......

أنت جربت؟

طالب: .......

ماذا؟

طالب: شيخ أحسن الله إليك، قد يقال: كلٌّ بحسبه، بعض الناس يستطيع ....... وبعضهم لا يستطيع.

لا لا، خلنا بالذي يستطيع.

طالب: .......

أنت ماذا تقول؟

طالب: .......

أيهما؟

طالب: ابن كثير والقرطبي يعني؟

ماذا؟

 لا خلهم من أجل أن الأحجام متقاربة، خلِّ القرطبي مع الطبري، لا شك أننا نجل الأثر، ونراه أهم ما يفسر به كلام الله، هذا محل اتفاق، لكن الكلام في تقرير واقع. الذي ميوله أثرية، وعنده من الحافظة ما يساعده على ضبط الروايات وضبط الأسانيد، لا شك أن ابن جرير وابن كثير أكثر فائدة، وأما من حاله مثل كثير من طلاب العلم، حصل من العلوم ما يعينه على فهم الكلام؛ لأن تعدد الروايات هذه في النهاية هو الواحد، وإن كان يستفاد من تعدد الروايات من حيث الثبوت وعدمه ما يستفاد، لكن يبقى أن من كانت ميوله أثرية وحافظته قوية لا شك أنه يضبط من التفسيرين الأثريين أكثر مما يضبطه غيره، ويبقى النظر في المسائل النظرية التي للرأي فيها مجال، وطالب العلم إذا عاناها واستوفاها، يعني بعض طلاب العلم يفهم من هذه المسائل بقراءة واحدة؛ لأنها مرتبة على أقوال وأدلة ومناقشة تثبت في الذهن في النهاية، وهذا النوع هم الذين قالوا: إن تفسير أضواء البيان أكثر فائدة من ابن كثير؛ لأن ابن كثير تمر عليك صفحتان، ثلاث قال: حدثنا وحدثنا وفي النهاية ماذا؟ لأن الحافظة ما تمسك شيئًا.

 مع أنه يبقى أن الأدب في العبارة مطلوب مهما كان؛ لأن هذا التفسير يتعلق بالأثر، بما جاء عن النبي -عليه الصلاة والسلام- وعن صحابته الكرام والتابعين له بإحسان، يبقى أن مثل هذه المفاضلة ليست من الأدلة، كما قيل في المفاضلة بين العباس وبلال، يعني من باب الأدب ما ترد هذه المفاضلة، وإلا فقد قيل: كيف يستوي من خرج يقاتل مع رسول الله ومن خرج يقاتل رسول الله؟ لكن من باب الأدب وحفظ جناب الرسول -عليه الصلاة والسلام- وما يتصل به ما يقال مثل هذا الكلام.

طالب: .......

بلى، كيف يكون أنفع لنا وأهم ولا يصير أفضل؟

طالب: .......

ماذا؟

طالب: .......

لا، أنا أقول: هل يلام مثل هذا أم ما يلام؟ أنا أقول: لو من باب الأدب، وإلا فكل إنسان يدرك من نفسه ما يدرك، هو أعرف بمصلحته.

طالب: "وفي الحقيقة فمن جهة ما اتفقوا به من أهل الحق حصل التآلف، ومن جهة ما اختلفوا حصلت الفرقة، وإذا كان كذلك، فجهة الائتلاف لا خلاف فيها في الحقيقة لصحتها واتحاد حكمها، وجهة الاختلاف هم مخطئون فيها قطعًا، فصارت أقوالهم زلات لا اعتبار بها في الخلاف، فالاتفاق حاصل إذن على كل تقدير".

يعني يبحث معهم وتذكر أقوالهم في ما يوافقون فيه لا ما يخالفون فيه؛ لأن من أهل العلم وهو قول معتبر أنه لا تُذكر أقوالهم إماتة لهم، كما قال مالك في الرواية عن المبتدع: لا يُروى عنه إماتة لبدعته وإخمادًا لها.

طالب: .......

نعم.

طالب: .......

طبيعة البشر.

طالب: .......

لا، طبيعة البشر، الخلاف طبيعة البشر.

طالب: .......

طبيعة البشر هذا الأصل، لكن يبقى النص حاكمًا، وهو محل الاستثناء، والخلاف المذموم الذي يترتب عليه التنافر والتقاطع مثل ما تقدم.

طالب: "فالحاصل من مجموع هذه المسألة أن كلمة الإسلام متحدة على الجملة في كل مسألة شرعية، ولولا الإطالة لبُسط هذا الموضع بأدلته التفصيلية وأمثلته الشافية، ولكن ما ذكر فيها كافٍ، والله الموفق للصواب.

المسألة الثالثة عشرة: مر الكلام فيما يفتقر إليه المجتهد من العلوم، وأنه إذا حصلها فله الاجتهاد بالإطلاق. وبقي النظر في المقدار الذي إذا وصل إليه فيها توجَّه عليه الخطاب بالاجتهاد بما أراه الله، وذلك أن طالب العلم إذا استمر في طلبه مرت عليه أحوال ثلاثة".

يعني متى يتأهل للاجتهاد؟ طالب العلم يبدأ بالطلب من الطفولة، ويستمر إلى أن يتأهل للاجتهاد، لكن متى يتأهل للاجتهاد؟

يوجد أمبير إذا وصل يقول: خلاص وصلت؟! لا، ولذلكم تجدون في حلقات التعليم من الزملاء من يتأهل للاجتهاد في سنوات يسيرة، ومنهم من يستمر يطلب العلم إلى نهاية عمره ولا يتأهل للاجتهاد، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

 الشيخ حافظ -رحمه الله- الحكمي، لما ذهب الشيخ عبد الله القرعاوي -رحمة الله على الجميع- إلى الجنوب، كان الشيخ حافظ يرعى الغنم لوالده، ورفض أن يلتحق بالدرس، فلما مات والده التحق بالدرس، وبعد سنتين ألف معارج القبول! من راعٍ إلى عالم، وسنوات يسيرة، وتوفي بعد مدة يسيرة جدًّا -رحمة الله عليه- وملأ الدنيا علمًا في جميع الفنون. مثل هذا، يعني في التعليم النظامي الموجود الآن، الذي لا بد أن يقرأ أن يدرس من أولى ابتدائي إلى أن يتخرج في الجامعة، كم؟ ست عشرة سنة لازم أن يدرس، ويحشر معه أذكى الناس وأغبى الناس حتى يتخرجوا جميعًا، بالإمكان أن يُخرج بعضهم في سنتين أو ثلاث والبعض الآخر لا يتخرج إلى بعد خمسين سنة، لأنه من الظلم أن يُحشر هذا الذكي مع ذلك الغبي الذي يردد الكلام عليه في الدرس عشر مرات ولا يفهم، وهذا يفهم من مرة واحدة ثم يبدأ يلعب ويتشاغل لأنه مل. ولذلك لو يحصل تصنيف للطلاب، يعني السنة الأولى يمكن أن تميز فيها النابغة من غيره أو السنتين الأوليين، ثم بعد ذلك يُعزلون؛ لأنه حتى حشر شديد وضعيف الفهم جدًّا مع قوي الفهم ظلم له؛ لأن بعض المدرسين أيضًا يمل من كثرة التكرار؛ لأن هذا فهمه، خلاص، مجموعة من الطلاب فهموا معناه أن الدرس سهل، ولا يستطيع أن يكرر أكثر من ذلك لغيره، وهذا كله نشأ متى؟

 وقت أن عُمم التعليم على الجميع، وإلا فقبل يدخلون التعليم وأسنانهم متفاوتة، وصبي صغير يناقش أكثر من أبيه، وابن عباس يدخل مع كبار الصحابة وهذه معروفة، ويمكن أن يتخرج هذا في سنوات يسيرة، وهذا يستمر يطلب العلم، أنا أدركت شخصًا وصل التسعين وهو يطلب العلم، والحمد لله أدرك خيرًا عظيمًا لا من العلم، من سلوك الطريق: «من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا» ما حرَمه الله -جل وعلا- «سهل الله له به طريقًا إلى الجنة»- والله المستعان- نعم.

طالب: "أحدها: أن يتنبه عقله إلى النظر فيما حفظ والبحث عن أسبابه، وإنما ينشأ هذا عن شعور بمعنى ما حصَّل، لكنه مجمل بعد".

واحد من طلاب العلم عمره، بلغ الثمانين، هو متوفى من ثلاثين أو أكثر من ثلاثين سنة، يسألني يقول: {تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ} [سبأ: 14]، لماذا ما قال: (منسأتِه)؟ (من) ما هي بحرف جر؟ الإدراك يختلف. وبعضهم عنده شيء من الإدراك، لكن عنده إهمال لهذا الإدراك. مقومات التحصيل الفهم والحفظ، مع النية الصالحة الخالصة، مع الدأب والمثابرة يدرك، لكن بعضهم عنده شيء من الإدراك، وبعض عوام المسلمين تجد عنده من الذكاء والنبوغ ما لو صرفه إلى العلم لأدرك شيئًا كبيرًا.

في وليمة واحد عزم مجموعة، وكان اللحم لحم بقر، قال واحد من الحاضرين: يعني ما لقيت إلا البقر تقدمه لضيوفك؛ لأن البقر عند عامة الناس ما هو بمرضي. قال العامي الثاني الذي لا يقرأ ولا يكتب: لو كان يوجد أفضل من البقر لقدمه إبراهيم إلى ضيوفه، أفضل الضيوف الملائكة؟ ماذا رد عليه الثاني؟ قال: اثبت أنهم أكلوه، يوم رأوه بقرًا ما أكلوه!! يعني هذه المحاورة والمناقشة مؤهلة للأذهان أنها تفهم، لكنها على غير الجادة، ما عندهم علم. يعني سرعة وحضور البديهة يدل على أن عندهم شيئًا من الذكاء الفطري، لكنه على غير أساس. نعم.

طالب: "أحدها: أن يتنبأ عقله إلى النظر فيما حفظ والبحث عن أسبابه، وإنما ينشأ هذا عن شعور بمعنى ما حصَّل لكنه مجمل بعدُ، وربما ظهر له في بعض أطراف المسائل جزئيًّا لا كليًّا، وربما لم يظهر بعدُ، فهو يُنهي البحث نهايته ومعلمه عند ذلك يعينه بما يليق به في تلك الرتبة، ويرفع عنه أوهامًا وإشكالات تعرض له في طريقه، يهديه إلى مواقع إزالتها ويطارحه في الجريان على مجراه، مثبتًا قدمه، ورافعًا وحشته، ومؤدبًا له حتى يتسنى له النظر والبحث على الصراط المستقيم. فهذا الطالب حين بقائه هنا، ينازع الموارد الشرعية وتنازعه، ويعارضها وتعارضه، طمعًا في إدراك أصولها والاتصال بحِكَمها ومقاصدها، ولم تتلخص له بعدُ، لا يصح منه الاجتهاد فيما هو ناظر فيه؛ لأنه لم يتخلص له مستند الاجتهاد".

لأنه في وقت السجال بينه وبين المسائل بأدلتها لم يرسخ قدمه بعد، ما زال يروج، فعليه أن يتابع النظر في المسائل بأدلتها حتى يتكون لديه ما يسمى بفقه النفس، والفقه سواء كان بالفعل أو بالقوة القريبة من القوة يؤهل هذا الطالب إلى أن يترقى إلى مرتبة الاجتهاد.

طالب: "لأنه لم يتخلص له مستند الاجتهاد، ولا هو منه على بينة بحيث ينشرح صدره بما يجتهد فيه، فاللازم له الكف والتقليد".

لأنه في حكم العامي، فرضه سؤال أهل العلم، وهكذا المتعلم في أثناء التعليم، طالب العلم قبل أن يصل إلى مرتبة يستفيض أمره فيها وأن له أن يجتهد هو في حكم العامي لا يسوغ له أن يجرأ على المسائل ويفتي فيها برأيه حتى يتأهل.

طالب: "والثاني: أن ينتهي بالنظر إلى تحقيق معنى ما حصَّل على حسب ما أداه إليه البرهان الشرعي، بحيث يَحصُل له اليقين ولا يعارضه شك، بل تصير الشكوك -إذا أُوردت عليه- كالبراهين الدالة على صحة ما في يديه، فهو يتعجب من المتشكك في محصوله كما يتعجب من ذي عينين لا يرى ضوء النهار، لكنه استمر به الحال إلى أن زل محفوظه عن حفظه حكمًا، وإن كان موجودًا عنده، فلا يبالي في القطع على المسائل أنُصَّ عليها أو على خلافها أم لا؟

 فإذا حصَل الطالب على هذه المرتبة، فهل يصح منه الاجتهاد في الأحكام الشرعية أم لا؟ هذا محل نظر والتباس، ومما يقع فيه الخلاف.

وللمحتج للجواز أن يقول: إن المقصود الشرعي إذا كان هذا الطالب قد صار له أوضح من الشمس، وتبيَّنت له معاني النصوص الشرعية حتى التأمت وصار بعضها عاضدًا للبعض، ولم يبقَ عليه في العلم بحقائقها مطلب؛ فالذي حصل عنده هو كلية الشريعة، وعمدة النِّحلة، ومنبع التكليف، فلا عليه أنظَرَ في خصوصياتها المنصوصة أو مسائلها الجزئية أم لا، إذ لا يزيده النظر في ذلك زيادةً، إذ لو كان كذلك، لم يكن واصلاً بعدُ إلى هذه المرتبة، وقد فرضناه واصلاً؛ هذا خلف".

نعم. لو نظرنا إلى الأئمة الكبار المتبَعين، هل نفترض فيهم أنهم أحاطوا بالعلم جميعه؟

طالب: لا.

لكن أحاطوه بأصوله وقواعده، ومنها ينطلقون إلى الفروع، فمن وصل إلى هذه المرتبة، مع حصيلة من الفروع توضح له هذه الأصول، فقد تمت عنده الآلة. فالمفترض أن يكون طالب العلم مهتمًّا بالفروع بقدر ما يستنبط منها أصلاً يرجع إليه، وقاعدة يأوي إليها، ويضبط القواعد الكليات والأغلبيات، ويكثر من التمثيل عليها؛ لتثبت عنده هذه القواعد، وبعد ذلك يصير عنده أهلية للنظر فيما يعرض عليه من المسائل. والخلل يأتي إلى طالب العلم من اهتمامه بالفرعيات دون الكليات والقواعد، ويحفظ مسائل كثيرة جدًّا، ويعتبر نفسه فقيهًا، هذا ليس بحافظ فقه، وليس بفقيه، وإنما هو حافظ مسائل، لو يُسأل عن خلاف هذه المسائل ما أجاب، لكن إذا جمع بين الأصول والفروع، وخرَّج الفروع على الأصول، وطبَّق الأصول على الفروع طردًا وعكسًا، تأهل أن يكون فقيهًا يأتي ويورد من النظائر للمسألة التي يُسأل فيها أو المسألة التي يتصدى بشرحها، يوجِد من النظائر ما يوضحها للمستمع.

 ولذلكم تسمعون من يشرح المتون العلمية ولا يتعدى ما كُتب سواء كان في المتن أو في شرحه، لكن تسمعون من شروح أناس فهموا هذه المتون واعتنوا بالأصول والفروع، وطبقوا ويذكرون الذي ما في هذا المتن من النظائر، وما تندرج تحته من القواعد والأصول، هذا الذي يربي طلاب علم.

طالب: "ووجه ثانٍ، وهو أن النظر في الجزئيات والمنصوصات إنما مقصوده التوصل إلى ذلك".

الآن يقول: "وتبينت له معاني النصوص الشرعية حتى التأمت وصار بعضها عاضدًا للبعض"، الآن الذي يتخبط ويحفظ نصًّا من هذا، ونصًّا من هذا، ودليلاً من هذا، ومسألة بدون دليل، ودليلاً بدون مسألة، يتخبط، هذا يمكن أن تضح عنده الصورة؟

طالب: لا.

لا، لكن الذي التأمت عنده المسائل بأدلتها، هذا الصورة واضحة مثل الشمس.

 مثال ذلك: لو أن شخصًا جاء بخارطة، خارطة دولة أو خارطة العالم أو شيء من ذلك، ثم مزَّقها وذراها في الهواء وطارت، جاء واحد وأخذ له عشر قطع، وجاء ثانٍ وأخذ له عشرين، وجاء ثالث وجاء مائة من هذه القطع، ولصق بعضها ببعض، وجاء شخص آخر، وجاء بأخرى، بخارطة أخرى، وذراها في الهواء، فجاء واحد وجمع جميع القطع ولصقها. من الذي تكتمل عنده الصورة؟

هذا بقدر ما تحصله من المسائل العلمية، إذا حصلت عشرًا ما ....... أبدًا، ولو جمعت تصير لك نصف نهار أو نصف اسم دولة أو نصف جبل، ما ينفعك ذلك، لكن إذا التأمت عندك الصورة متكاملة ولصقت بعضها إلى بعض صارت الصورة عندك واضحة.

طالب: "ووجه ثانٍ، وهو أن النظر في الجزئيات والمنصوصات، إنما مقصوده التوصل الكلي الشعري، حتى يبني عليه فتياه ويرد إليه حكم اجتهاده، فإذا كان حاصلاً فالتنزل إلى الجزئيات طلب لتحصيل الحاصل، وهو محال. ووجه ثالث، وهو أن كُلِّيَّ المقصود الشرعي إنما انتظم له من التفقه في الجزئيات والخصوصيات وبمعانيها ترقَّى إلى ما ترقى إليه، فإن تكن في الحال غيرُ حاكمة".

"غيرَ".

طالب: "فإن تكن في الحال غيرَ حاكمة عنده لاستيلاء المعنى الكلي، فهي حاكمة في الحقيقة، لأن المعنى الكلي منها انتظم، ولأجل ذلك لا تجد صاحب هذه المرتبة يقطع بالحكم بأمر إلا وقامت له الأدلة الجزئية عاضدةً وناصرةً، ولو لم يكن كذلك لم تعضده ولا نصرته، فلمَّا كان كذلك ثبت أن صاحب هذه المرتبة متمكن جدًّا من الاستنباط والاجتهاد، وهو المطلوب.
وللمانع أن يحتج على المنع من أوجه:

 منها: أن صاحب هذه المرتبة إذا فاجَأَتْه حقائقها، وتعاضدت مراميها، واتصل له بالبرهان ما كان منها عنده مقطوعًا حتى صارت الشريعة في حقه أمرًا متحدًا ومسلكًا منتظمًا، لا يزل عنه من مواردها فرد، ولا يشذ له عن الاعتبار منها خاص إلا وهو مأخوذ بطرف لا بد من اعتباره عن طرف آخر لا بد أيضًا من اعتباره؛ إذ قد تبين في كتاب الأدلة أن اعتبار الكلي مع اطراح الجزئي خطأ كما في العكس".

يعني مثل ما فعل بعضهم من تجريد القواعد عن الأمثلة، يفيد طالب العلم هذا؟ قواعد مجردة ما فيها ولا مثال، هذا ما يفيد الطالب شيئًا، وإذا أراد أن يختصر الكتاب يجرد القواعد ويقتصر من الأمثلة بدل عشرة ثلاثة، بذلك يستفيد الطالب، مع أنه لو زاد على الأمثلة العشرة عشرة أخرى لزاد اتضاح القاعدة أكثر، وهذا هو المطلوب.

طالب: "وإذا كان كذلك، لم يستحق مَن هذا حاله أن يترقى إلى درجة الاجتهاد حتى يكمل ما يحتاج إلى تكميله".

والمشكلة أن الكتاب، أن أعني تلخيص الشيخ ابن سعدي -رحمه الله- لكتاب قواعد ابن رجب، تلقفه طلاب العلم على أنه مؤلف مؤصّل مؤسّس لطلاب العلم، ما هو بصحيح. الشيخ وضعه لا تذكرة، الشيخ درس القواعد ودرَّس القواعد سنين، فهو يريد أن يتذكر بهذا الكتاب رؤوس القواعد، فيجيء طالب علم ما قرأ الكتاب، ولا يعرف الكتاب، ويقتصر على أصول القواعد، ما ينتبه.

طالب: "ومنها: أن للخصوصيات خواصَّ يليق بكل محل منها ما لا يليق بمحل آخر كما في النكاح مثلاً، فإنه لا يسوغ أن يجري مجرى المعاوضات من كل وجه، كما أنه لا يسوغ أن يجري مجرى الهبات والنحل من كل وجه، وكما في مال العبد، وثمرة الشجرة، والقرض، والعرايا، وضرب الدية على العاقلة، والقِراض، والمساقاة، بل لكل باب ما يليق به، ولكل خاص خاصية تليق به لا تليق بغيره، وكما في الترخصات في العبادات والعادات وسائر الأحكام".

كل باب من أبواب الدين له خصائص.

طالب: "وإذا كان كذلك -وقد علمنا أن الجميع يرجع مثلاً إلى حفظ الضروريات والحاجيات والتكميليات-، فتنزيل حفظها في كل محل على وجه واحد لا يمكن، بل لا بد من اعتبار خصوصيات الأحوال والأبواب، وغير ذلك من الخصوصيات الجزئية، فمن كانت عنده الخصوصيات في حكم التَّبع الحكمي لا في حكم المقصود العيني بحسب كل نازلة، فكيف يستقيم له جريان ذلك الكلي، وأنه هو مقصود الشارع؟ هذا لا يستمر مع الحفظ على مقصود الشارع. ومنها: أن هذه المرتبة يلزمها إذا لم يَعتبر الخصوصيات ألا يَعتبر محالَّها، وهي أفعال المكلفين، بل كما يُجري الكليات....".

لا بد من اعتبار الخصوصيات، سواء في المسائل والأبواب أو في أحوال المكلفين، يسأل سائل عن مسألة ويفتى بحكم يناسب حاله، ويسأل آخر فيفتى بحكم يناسب حاله، فللظروف والأحوال من الأبواب والأشخاص كل له خصائصه.

طالب: "بل كما يُجري الكليات في كل جزئية على الإطلاق يلزمه أن يُجريها في كل مكلف على الإطلاق من غير اعتبار بخصوصياتهم، وهذا لا يصح كذلك على ما استمر عليه الفهم في مقاصد الشارع، فلا يصح مع هذا إلا اعتبار خصوصيات الأدلة، فصاحب هذه المرتبة لا يمكنه التنزل إلى ما تقتضيه رتبة المجتهد، فلا يستقيم مع هذا أن يكون من أهل الاجتهاد. وإذا تقرر أن لكل احتمال مأخذًا، كانت المسألة بحسب النظر الحقيقي فيها باقية الإشكال".

"إذا تقرر أن لكل احتمال مأخذًا".

طالب: .......

نعم.

طالب: المجيز والمانع يعني.

نعم. والمفتي لهذا السائل والمفتي لغيره بجواب غيره، هذا له مأخذه، وهذا له مأخذه، ولا يقال: إن هذا تضارب في الفتوى من المفتي الواحد أو من أكثر من مفتٍ؛ لأن الظروف والأحوال لها تأثيرها في الحكم، يعني في المسائل الاجتهادية، والمسألة مفترضة في مجتهد. نعم.

طالب: "ومن أمثلة هذه المرتبة مذهب من نفى القياس جملةً وأخذ بالنصوص على الإطلاق، ومذهب من أعمل القياس على الإطلاق ولم يعتبر ما خالفه من الأخبار جملةً".

يعني الحنفية في مقابل الظاهرية، هؤلاء أهل الرأي، وهؤلاء أهل الأثر والجمود عليه، ولكلٍّ حجته، أهل الرأي يقولون: الدين دين مصالح ومفاسد، لا بد من النظر في الأحكام من خلال هذه المصالح وتلك المفاسد، والظاهرية يقولون: الدين دين تكاليف بأوامر شرعية عن الله وعن رسوله -عليه الصلاة والسلام-، وبقية الأئمة أخذوا من هذا، وأخذوا من هذا، وهذا هو المطلوب، ولا يعني أن الحنفية ليس عندهم شيء من الأثر، عندهم آثار، لكن غلب عليهم صفة الرأي.

طالب: "فإن كل واحد من الفريقين غاص به الفكر في منحًى شرعي مطلق عام اطرد له في جملة الشريعة اطرادًا لا يتوهم معه في الشريعة نقص ولا تقصير، بل على مقتضى قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، فصاحب الرأي يقول: الشريعة كلها ترجع إلى حفظ مصالح العباد ودرء مفاسدهم، وعلى ذلك دلت أدلتها عمومًا وخصوصًا، دل على ذلك الاستقراء، فكل فرد جاء مخالفًا فليس بمعتبر شرعًا؛ إذ قد شهد الاستقراء بما يعتبر مما لا يعتبر، لكن على وجه كلي عام، فهذا الخاص المخالف يجب رده وإعمال مقتضى الكلي العام؛ لأن دليله قطعي، ودليل الخاص ظني فلا يتعارضان".

وبسبب إغراقهم في الرأي والنظر إلى هذا المنطلق منطلق المصالح والمفاسد، غفلوا عن الأثر، وذمهم من ذمهم بسببه، وبسبب إغراق الطرف المقابل من الظاهرية في الاعتماد على ظواهر النصوص.

طالب: الجزئية.

وعدم التعرض لما وراء الحروف، غفلوا عما غفلوا عنه مما يجب النظر إليه مما نبهت إليه أدلة الشريعة وقواعد الشريعة في الطرف الثاني.

طالب: "والظاهري يقول: الشريعة إنما جاءت لابتلاء المكلفين أيهم أحسن عملاً، ومصالحهم تجري على حسب ما أجراها الشارع لا على حسب أنظارهم، فنحن من اتباع مقتضى النصوص على يقين في الإصابة، من حيث إن الشارع إنما تعبدنا بذلك، واتباع المعاني رأي، فكل ما خالف النصوص منه غير معتبر؛ لأنه أمر خاص مخالف لعام الشريعة، والخاص الظني لا يعارض العام القطعي. فأصحاب الرأي جردوا المعاني، فنظروا في الشريعة بها".

أهل الرأي رأوا أن ما اعتمدوه من التزام الحكم بمقتضى المصالح والمفاسد، هذا الأصل وهذا القطعي، وما يعارضه من مفردات الآثار ظني. والظاهرية عكسوا، رأوا أن الدين دين تكاليف وإلزام بشرع منزَّل، وعمدته على النص، ورأوا أن هذا هو العام القطعي، وما خالفه مما يقتضيه بعض الآراء والأقيسة...

طالب: ظني.

والمفهومات رأوه مفردات تخالف هذا العامي القطعي.

طالب: "فأصحاب الرأي جردوا المعاني فنظروا في الشريعة بها واطرحوا خصوصيات الألفاظ، والظاهرية جردوا مقتضيات الألفاظ، فنظروا في الشريعة بها واطرحوا خصوصيات المعاني القياسية، ولم تتنزل واحدة من الفرقتين إلى النظر فيما نظرت فيه الأخرى بناءً على كلي ما اعتمدته في فهم الشريعة".

يعني بينما المذاهب الأخرى أخذوا من هذا وأخذوا من هذا، ومزجوا من هذا ومزجوا من هذا؛ لأن كلام من يقول بالمصالح والمفاسد كلامه حق، لكن لا يعني أن الطرف الآخر يهدر، الذي هو الأصل، النصوص، والعكس أيضًا.

طالب: "ويمكن أن يرجع إلى هذا القبيل ما خرج ثابت في الدلائل عن عبد الصمد بن عبد الوارث".

ثابت بن قاسم السراقسطي له كتاب الدلائل ابتدأه الولد فمات، فأكمله أبوه، الدلائل في شرح الحديث بالشاهد والمماثل، من أفضل كتب الغريب، وأشاد به أهل العلم، وطبع منه قطعة الموجودة منه طُبعت في ثلاث مجلدات. نعم.

طالب: "قال: وجدت في كتاب جدي: أتيت مكة، فأصبت بها أبا حنيفة وابن أبي ليلى وابن شبرمة، فأتيت أبا حنفية فقلت له: ما تقول في رجل باع بيعًا واشترط شرطًا؟ قال: البيع باطل، والشرط باطل. وأتيت ابن أبي ليلى، فقال: البيع جائز والشرط باطل. وأتيت ابن شبرمة، فقال: البيع جائز، والشرط جائز".

ولكل دليله، لكل دليله من الأثر، فمن جمد على الدليل قال بمقتضاه وأفتى به من هؤلاء الأئمة الثلاثة، ومن جمع بين هذه الأدلة ونزَّلها منازلها من الأحوال المناسبة لها ما قال بالإطلاق: البيع باطل والشرط باطل، أو البيع جائز والشرط جائز، أو البيع جائز والشرط باطل. ما يحكمون بحكم عام مطرد؛ نظرًا لاختلاف الأدلة باختلاف الأحوال.

طالب: "فقلت: سبحان الله! ثلاثة من فقهاء الكوفة يختلفون علينا في مسألة! فأتيت أبا حنيفة فأخبرته بقولهما، فقال: لا أدري ما قالا، حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نهى عن بيع وشرط»، فأتيت ابن أبي ليلى فأخبرته بقولهما، فقال: لا أدري ما قالا، حدثنا هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة: «أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: اشتري بريرة واشترطي لهم الولاء، فإن الولاء لمن أعتق»، فأجاز البيع وأبطل الشرط. فأتيت ابن شبرمة فأخبرته بقولهما، فقال: ما أدري ما قالاه، حدثني مسعود بن حكيم عن محارب بن دثار عن جابر بن عبد الله، قال: «اشترى مني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ناقةً فشرطتُ حملاني، فأجاز البيع والشرط» انتهى. فيجوز أن يكون كل واحد منهم اعتمد في فتياه على كلية ما استفاد من حديثه، ولم ير غيره من الجزئيات معارضًا، فاطرح الاعتماد عليه، والله أعلم. والحال الثالث: أن يخوض فيما خاض فيه الطرفان".

يعني الأول والثاني تقدما بعد كلام طويل، يعني في صفحة أربعة وعشرين وخمسة وعشرين، الثالث في صفحة اثنين وثلاثين.

طالب: "والحال الثالث: أن يخوض فيما خاض فيه الطرفان، ويتحقق بالمعاني الشرعية مُنزلةً على الخصوصيات الفرعية، بحيث لا يصده التبحر في الاستبصار بطرف عن التبحر في الاستبصار بالطرف الآخر، فلا هو يجري على عموم واحد منهما دون أن يعرضه على الآخر، ثم يلتفت مع ذلك إلى تنزل ما تلخص له على ما يليق في أفعال المكلفين، فهو في الحقيقة راجع إلى الرتبة التي ترقى منها، لكن بعلم المقصود الشرعي في كل جزئي فيها عمومًا وخصوصًا. وهذه الرتبة لا خلاف في صحة الاجتهاد من صاحبها، وحاصله أنه متمكن فيها، حاكم لها، غير مقهور فيها، بخلاف ما قبلها، فإن صاحبها محكوم عليه فيها، ولذلك قد تستفزه معانيها الكلية عن الالتفات إلى الخصوصيات، وكل رتبة حكمت على صاحبها دلت على عدم رسوخه فيها، وإن كانت محكومًا عليها تحت نظره وقهره، فهو صاحب التمكين والرسوخ، فهو الذي يستحق الانتصاب للاجتهاد، والتعرض للاستنباط، وكثيرًا ما يختلط أهل الرتبة الوسطى بأهل هذه الرتبة".

نعم. لأن أهل الرتبة الدنيا أمرهم واضح، وأهل الرتبة العليا أمرهم بيِّن وجلي. لكن أهل المرتبة الوسطى، وهذا في كثير من الأمور والأحوال يترددون بين أهل المرتبتين هل وصلوا أو ما وصلوا؟ كما قيل نظيره في الحديث الحسن: متردد بين الصحيح والضعيف. نعم.

طالب: "وكثيرًا ما يختلط أهل الرتبة الوسطى بأهل هذه الرتبة فيقع النزاع في الاستحقاق أو عدمه، والله أعلم. ويسمى صاحب هذه المرتبة: الرباني، والحكيم، والراسخ في العلم، والعالم، والفقيه، والعاقل؛ لأنه يربي بصغار العلم قبل كباره، ويوفي كل أحد حقه حسبما يليق به".

يعني يربي بصغار العلم قبل كباره، هذا أحد ما قيل في الرباني، وقيل: هو الذي يتعلم ويعمل ويُعلم. نعم.

طالب: "وقد تحقق بالعلم وصار له كالوصف المجبول عليه، وفهم عن الله مراده من شريعته. ومن خاصيته أمران؛ أحدهما: أنه يجيب السائل على ما يليق به في حالته على الخصوص إن كان له في المسألة حكم خاص، بخلاف صاحب الرتبة الثانية فإنه إنما يجيب من رأس الكلية من غير اعتبار بخاص.

 والثاني: أنه ناظر في المآلات قبل الجواب عن السؤالات، وصاحب الثانية لا ينظر في ذلك ولا يبالي بالمآل".

لأنه ما عنده من سعة العلم والاطلاع ما ينظر بواسطته إلى ما ذُكر.

طالب: "ولا يبالي بالمآل إذا ورد عليه أمر أو نهي أو غيرهما، وكان في مساقه كليًّا، ولهذا الموضع أمثلة كثيرة تقدم منها جملة من مسألة الاستحسان ومسألة اعتبار المآل، وفي مذهب مالك من ذلك كثير".

اللهم صلِّ على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

اللهم صلِّ وسلم على البشير النذير.

* * *

طالب: .......

كيف؟

طالب: .......

يعني الأصل الباعث اتباع الهوى، والنتيجة شرعية، الأمور بمقاصدها، مثل من وطئ امرأة أجنبية يظنها زوجته أو العكس، وطئ زوجته ويظنها أجنبية آثم بلا شك.

طالب: .......

نعم.

طالب: .......

لأن نكاحها يسبب استرقاق ولده، بخلاف......

"