التعليق على الموافقات (1430) - 25

 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

أحسن الله إليكم.

 الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد،

فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: "المسألة الثانية: كل دليل شرعي إما أن يكون قطعيًّا، أو ظنيًّا، فإن كان قطعيًّا، فلا إشكال في اعتباره، كأدلة وجوب الطهارة من الحدث والصلاة".

كل دليل شرعي من الأدلة التي يستدل بها أهل العلم في تقرير الأحكام، إما أن يكون قطعيًّا، أو ظنيًّا، والقطعي إما أن يكون في ثبوته ودلالته أو في أحدهما، والظني كذلك، أما القطعي وهو ما ثبت بالكتاب أو بمتواتر السُّنَّة عند أهل العلم، أو كان من الآحاد الذي احتفت به القرائن عند قوم، أو جميع أخبار الآحاد إذا صحت عند آخرين، أقوال لأهل العلم، هذا بالنسبة لثبوته.

 وقد يكون مع ثبوته قطعيًّا تكون دلالته على الحكم ظنية، والعكس، قد يكون ثبوته ظنيًّا ودلالته قطعية، يعني بمعنى أنها لا تحتمل، وأنها نصّ على المسألة، وقل مثل ذلك فيما ثبت ظنيًّا، وما ثبت بخبر الواحد عند الجمهور، وهذا الظني إما أن تكون دلالته ظنية كثبوته أو قطعية، ولا تخرج الأدلة عن هذا، يعني لا يستدل بما دون ذلك، الظن الغالب، وهو الذي يندرج فيه الصحيح والحسن، وما دون ذلك مما لا يغلب على الظن ثبوته هذا مما يستوي فيه الطرفان من الشك، أو يترجح فيه جانب عدم الثبوت، وهو الوهم، هذه لا يستدل بها.

 "فإن كان قطعيًّا، فلا إشكال في اعتباره، كأدلة وجوب الطهارة من الحدث والصلاة والزكاة والصيام".

{إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة:6] هذا قطعي، «لا يقبل صلاة من أحدث حتى يتوضأ» هذا عند الجمهور ظني، لكنه في دلالته على المراد قطعي.

"والزكاة والصيام والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجتماع الكلمة والعدل، وأشباه ذلك".

{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا}[آل عمران: 103] هذه قطعية الثبوت، وتدل على اجتماع الكلمة، هذا من حيث النصّ، كما أن التواتر المعنوي وثبوته قطعي عند أهل العلم، من خلال قضايا مفرداتها لا تصل إلى درجة القطع لكن بمجموعها تصل، دلّت على اجتماع الكلمة في أبواب كثيرة من الدين.

"وإن كان ظنيًّا فإما أن يرجع إلى أصل قطعي أو لا، فإن رجع إلى قطعي فهو معتبر أيضًا، وإن لم يرجع وجب التثبت فيه".

الظني قد يرجع إلى أصل قطعي، البيان منه بفعله أو قوله -صلى الله عليه وسلم- قد يكون ظنيًّا، لكن المُبيَّن قطعي، الصلاة مأمور بها، الزكاة مأمور بها، الحج مأمور به بالأدلة القطعية، من الكتاب والسُّنَّة، لكن تفاصيل هذه المسائل وبيانها من قِبله -عليه الصلاة والسلام- قد لا يكون قطعيًّا، فما يرجع إلى أصلٍ قطعي يختلف عما لا يرجع إلى أصلٍ قطعي.

"ولم يصح إطلاق القول بقبوله ولكنه قسمان".

هذا الذي لا يرجع إلى القطعي، قسمان، قسمٌ يضادّ أصلاً قطعيًّا، وهذا لا شك في عدم اعتباره، وقسم لا يضادّ، نعم لا يرجع إلى أصل قطعي، لكنه في الوقت نفسه لا يضاد أصلاً قطعيًّا، فهو أصلٌ برأسه؛ لعدم المضادة فهو معتبر.

"ولكنه قسمان: قسم يضاد أصلاً قطعيًّا، وقسم لا يضاده ولا يوافقه، فالجميع أربعة أقسام. فأما الأول، فلا يفتقر إلى بيان.

وأما الثاني، وهو الظني الراجع إلى أصل قطعي فإعماله أيضًا ظاهر، وعليه عامة إعمال أخبار الآحاد فإنها بيان للكتاب؛ لقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ}[النحل: 44]".

وعند أهل العلم أن بيان الواجب واجب، بيان الواجب واجب.

"ومثل ذلك ما جاء في الأحاديث من صفة الطهارة الصغرى والكبرى والصلاة والحج، وغير ذلك مما هو بيان لنص الكتاب".

نعم للنص المجمل.

"وكذلك ما جاء من الأحاديث في النهي عن جملة من البيوع والربا، وغيره من حيث هي راجعة إلى قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [ البقرة: 275 ]".

نعم هذا على سبيل الإجمال، لكن التفاصيل التي جاءت بها الأحاديث هذه مفرداتها آحاد، وهي ترجع في الأصل إلى النصّ القطعي.

"وقوله تعالى: {تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] الآية. إلى سائر أنواع البيانات المنقولة بالآحاد، أو التواتر إلا أن دلالتها ظنية، ومنه أيضًا قوله: -عليه الصلاة والسلام-: «لا ضرر ولا ضرار»، فإنه داخل تحت أصل قطعي في هذا المعنى، فإن الضرر والضرار مبثوث منعه في الشريعة كلها في وقائع جزئيات، وقواعد كليات".

الحديث «لا ضرر ولا ضرار» ورد من طرق متعددة يثبت من مجموعها، لكن مفرداتها فيها كلام لأهل العلم، لكن جزئيات القاعدة دلت عليها النصوص القطعية،.

"كقوله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا}[البقرة: 231]، {وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطَّلَاقِ : 6 ]، {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقرة: 233].

ومنه النهي عن التعدي على النفوس والأموال والأعراض، وعن الغصب والظلم وكل ما هو في المعنى إضرار، وضرار، ويدخل تحته الجناية على النفس، أو العقل، أو النسل، أو المال فهو معنى في غاية العموم في الشريعة، لا مراء فيه، ولا شك، وإذا اعتبرت أخبار الآحاد وجدتها كذلك.

وأما الثالث، وهو الظني المعارض لأصل قطعي، ولا يشهد له أصل قطعي فمردود بلا إشكال، ومن الدليل على ذلك أمران: أحدهما: أنه مخالف لأصول الشريعة، ومخالف أصولها لا يصح؛ لأنه ليس منها، وما ليس من الشريعة كيف يعد منها".

نعم؛ لوجود تعارض بينه وبين ما هو أقوى منه، من أصول وقواعد الشريعة العامة، هذا دليل وبرهان على عدم ثبوته.

طالب:...

المذاهب في هذا تختلف اختلافًا كبيرًا، في الأقوى والأضعف، والتعارض والترجيح، يختلفون في هذا اختلافًا كبيرًا، ولذا من أهل العلم من يردّ خبر الواحد إذا خالف القياس؛ لأنه عنده القياس قوي، ومنهم من يرده إذا عارض الإجماع، مع أن الإجماع إذا ثبت حجة ملزمة، ولكن يرده بأدنى إجماع ينقله بعض المتساهلين، هذا لا يمكن أن يُقبَل.

"والثاني: أنه ليس له ما يشهد بصحته، وما هو كذلك ساقط الاعتبار، وقد مثلوا هذا القسم في المناسب الغريب بمن أفتى بإيجاب شهرين متتابعين ابتداءً على من ظاهر من امرأته ولم يأت الصيام في الظهار إلا لمن لم يجد رقبة. وهذا القسم على ضربين".

هذا بناء على أن المصلحة تقتضي هذا، قُدِّمَت المصلحة على النصّ فلا اعتبار لها، ما دامت المصلحة معارضة مناقضة للنصّ الصريح فإنه لا اعتبار بها، فالذي جامع امرأته في رمضان وهو ملك أو غني لا تؤثر فيه الرقبة، بحيث لو أُفتي باعتاق رقبة لوطئ زوجته في كل يوم من أيام رمضان، ولظاهر كل يوم، رأى من المصلحة من أفتاه، الفتوى تُنسَب إلى يحيى بن يحيى الليثي، مع أن منهم من نفاه، فقال: من المصلحة ألا يُفتى بعتق الرقبة؛ لأن الرقبة سهلة عليه، فتسهُل عليه هذه المعصية مع التكفير، لكن لو أُفتي بصيام شهرين متتابعين ما عاد، فرأى من المصلحة أن يُفتى بهذا، وينتقل، مع أن الكفارة جاءت على الترتيب، فانتُقل إلى الخصلة الثانية مع قدرته على الخصلة الأولى، وفي هذا معارضة للنصّ، وإن كانت المصلحة فيما يبدو للناس ظاهرة.

 ولذا بعض السلف عُرِف عنهم أنهم ينذرون ويحلفون أنه إن ارتكب معصية فعل كذا، إن اغتاب أحدًا تصدق بدرهم، نقول: فهانت عليه الغيبة؛ لأنه سهل الدرهم عنده، فنذر نذرًا أنه إن اغتاب أحدًا صام يومًا، فانقطع من الغيبة؛ لأن الصيام ليس بسهل عليه.

"وهذا القسم على ضربين: أحدهما: أن تكون مخالفته للأصل قطعية، فلا بد من رده. والآخر أن تكون ظنية إما بأن يتطرق الظن من جهة الدليل الظني، وإما من جهة كون الأصل لم يتحقق كونه قطعيًّا، وفي هذا الموضع مجال للمجتهدين".

نعم، مثل الإجماع، الإجماع عندهم قطعي، بل نصَّ بعض أهل الأصول على أن الإجماع مُقدَّم على النصّ، مُقدَّم من النصّ من الكتاب والسُّنة، لماذا؟ لأنه لا يحتمل النسخ ولا التأويل، بخلاف النصّ، لكن كما قال المؤلف، وإما من جهة كون الأصل لم يتحقق كونه قطعيًّا، يكون من الإجماعات التي يدعيها بعض العلماء ويذكرها من يتساهل في نقل الإجماع، ويُكثر من نقل الإجماع في مسائل الخلاف فيها ظاهر، الذي قال فيه الشوكاني: ودعاوى الإجماع التي ينقلها بعض أهل العلم تجعل طالب العلم لا يهاب الإجماع، تجعل طالب العلم لا يهاب الإجماع.

"ولكن الثابت في الجملة أن مخالفة الظني لأصل قطعي يسقط اعتبار الظني على الإطلاق".

هذا التقعيد، هذا التقعيد لأنه عند التعارض إنما يُحكَم للراجح دون المرجوح، لكن هذا من حيث الإجمال والتقعيد، أما من حيث التطبيق فينظَر في كل مسألة على حِدة، قد يكون هذا الأصل الذي ادُّعي أنه قطعي، عند التمحيص لا تثبت قطعيته، فليس في تركه مخالفة لهذا التأصيل.

"وهو مما لا يختلف فيه، والظاهري وإن ظهر من أمره ببادئ الرأي عدم المساعدة فيه، فمذهبه راجع في الحقيقة إلى المساعدة على هذا الأصل؛ لاتفاق الجميع على أن الشريعة لا اختلاف فيها ولا تناقض {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [ النساء: 82 ]. وإذا ثبت هذا فالظاهري لا تناقض عنده في ورود نصٍّ مخالف لنصٍّ آخر، أو لقاعدة أخرى. أما على اعتبار المصالح، فإنه يزعم أن في المُخالِف مصلحة ليست في الآخر علمناها، أو جهلناها، وأما على عدم اعتبارها فأوضح، فإن للشارع أن يأمر، وينهى كيف شاء، فلا تناقض بين المتعارضين على كل تقدير".

معنى هذا الكلام، يقول: إن الظاهري الذي يتبع ظاهر النصّ ولا ينظر إلى ما وراءه ما عنده إلا أن يستدل بهذا النصّ بغض النظر عن معارضه، فيعمل بظاهره، ولا يتأوله عند المعارضة، ولا ينظر إلى خلافه ولو وُجِد المعارِض، فلا ينظر إلى مفهومه إنما يقتصر على منطوقه، أما إذا اعتبرنا المصلحة فقد يكون في المعارَض مصلحة كما أن في المعارِض مصلحة أخرى، علمناهما أو جهلناهما، أو يقول: حتى عند التعارض الله -جل وعلا- هو المُشرِّع، وهو الذي خلق الخلق، وهو الذي كلفهم، وهو الذي يحاسبهم، له أن يأمر بما شاء، له لكن عند التعارض الذي يمكن حمل المعارِض على وجه، والمعارَض على وجه آخر، مع فكِّ الجهة فهذا ما فيه إشكال، لكن الإشكال إذا توارد المعارِض والمعارَض على شيء واحد، من جهة واحدة، التي لا يمكن معها أن يجري هذا القول.

"فإذا تقرر هذا، فقد فرضوا في كتاب الأخبار مسألة مختلفًا فيها، ترجع إلى الوفاق في هذا المعنى، فقالوا: خبر الواحد إذا كملت شروط صحته فهل يجب عرضه على الكتاب أم لا ؟".

نعم بأن كان رواته ثقات، عدولًا، ضابطين، واتصل السند، وسلِم من الشذوذ والعلة، توافرت فيه الشروط، فهل نقبله مباشرة؟ أو نعرضه على الكتاب؟ الأصل أنه يُقبَل مباشرة؛ لأن «ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه»، الكتاب والحكمة، الحكمة السُّنَّة، فهي أصل قائم برأسه، ومتى يُحتاج إلى العرض على الكتاب؟ إذا حصل التعارض، إذا حصل التعارض ولم يمكن الجمع بوجهٍ من الوجوه فإننا حينئذٍ نقدم ما في الكتاب؛ لأنه أقوى في الثبوت.

 على كل حال كون أن القاعدة والأصل عرض ما جاء في السُّنَّة على الكتاب هذا قول مردود، لكن إذا وُجِد التعارض بين ما في الكتاب وما في السُّنَّة، فلا شك أن العرض مطلوب؛ لرفع هذا التعارض، كما حصل لعائشة -رضي الله عنها- أنها ردت بعض الأحاديث؛ لوجود ما يعارضها من القرآن، وليس هذا من باب التقعيد العام أن كل ما ورد على عائشة من حديث بحثت في الكتاب هل يوجد ما يوافقه أو لا يوافقه، المسألة في المعارضة، أما الموافقة فلا تلزم.

"فقال الشافعي: لا يجب؛ لأنه لا تتكامل شروطه إلا وهو غير مخالف للكتاب، وعند عيسى بن أبان يجب محتجًّا..".

لأنه إذا خالف الكتاب فهل اكتملت الشروط؟ لا لم تكتمل هذه الشروط؛ لأنهم كما يشترطون شروط الإسناد، يشترطون شروط المتن، فإذا وُجدت المخالفة حُكم عليه بالشذوذ.

"محتجًّا بحديث في هذا المعنى، وهو قوله: إذا روي لكم حديث فاعرضوه على كتاب الله، فإن وافق فاقبلوه، وإلا فردوه".

لكنه حديث ضعيف لا يلتفت إليه.

"فهذا الخلاف كما ترى راجع إلى الوفاق، وسيأتي تقرير ذلك في دليل السنة إن شاء الله تعالى.

 وللمسألة أصل في السلف الصالح، فقد ردت عائشة -رضي الله تعالى- عنها حديث: إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه بهذا الأصل نفسه؛ لقوله تعالى: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}[ النجم: 38، 39 ]، وردت حديث رؤية النبي -صلى الله عليه وسلم لربه ليلة الإسراء؛ لقوله تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} [ الأنعام: 103 ]، وإن كان عند غيرها غير مردود؛ لاستناده إلى أصل آخر لا يناقض الآية، وهو ثبوت رؤية الله تعالى في الآخرة بأدلة قرآنية، وسنية، تبلغ القطع، ولا فرق في صحة الرؤية بين الدنيا والآخرة".

على كل حال مسألة الرؤية، رؤية النبي -عليه الصلاة والسلام- لربه ليلة الإسراء مسألة خلافية بين الصحابة، ومن بعدهم من أئمة الإسلام، والمرجح أنه كما جاء في الحديث: «نورٌ أنى أراه» يعني كيف أراه، والأحاديث التي تثبت الرؤية محمولة على الرؤية القلبية، ومنهم من يقول: ما دام ثبت أنه رآه و{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى}[النجم:13]عند من يحمله، من يحمل الضمير على أنه عائد إلى الله -جل وعلا-، وجاء ما يدل على ذلك في بعض الأحاديث.

 على كل حال المسألة ليست مما يضلل به المخالف؛ لوجود الخلاف بين الصحابة والتابعين.

"وردت هي وابن عباس خبر أبي هريرة في غسل اليدين قبل إدخالهما في الإناء استنادًا إلى أصل مقطوع به، وهو رفع الحرج، وما لا طاقة به عن الدين، فلذلك قالا: فكيف يصنع بالمهراس ؟".

يعني الخبر الصحيح «إذا قام أحدكم من النوم فلا يغمس يده»، «فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا» أو «فلا يغمس يده حتى يغسلها ثلاثًا»، هذا صحيح وغيره يرد بكيف يصنع بالمهراس؟ يعني إذا تصورنا أن الماء في إناء من حجارة، فماذا يسمونه؟ جروًا نعم، هذا إناء حجر كبير يُنحَت ويُجوف داخله ويوضع فيه الماء، كيف يغسل يديه ثلاثًا قبل أن يدخلها في الإناء؟ وعلى هذه الحالة والصورة النادرة يرد الخبر الذي يشمل عشرات، بل مئات الصور؟

"وردت أيضًا خبر ابن عمر في الشؤم، وقالت: إنما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-يحدث".

وخبر أبي هريرة، نعم.

"إنما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-  يحدث عن أقوال الجاهلية؛ لمعارضته الأصل القطعي أن الأمر كله لله".

يعني إن كان الشؤم ففي ثلاث في المرأة والدابة والدار، هذا قالت إنه جرى على لسانه -عليه الصلاة والسلام- حكاية عما كان يصنعه أهل الجاهلية.

"وأن شيئًا من الأشياء لا يفعل شيئًا، ولا طيرة ولا عدوى. ولقد اختلفوا على عمر بن الخطاب حين خرج إلى الشام فأخبر أن الوباء قد وقع بها، فاستشار المهاجرين والأنصار فاختلفوا عليه إلا مهاجرة الفتح فإنهم اتفقوا على رجوعه، فقال أبو عبيدة: أفرارًا من قدر الله ؟ فهذا استناد في رأي اجتهادي إلى أصل قطعي، قال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة، نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله".

يعني هذا يتردد بين أصلين، يتردد بين أصلين شرعيين، فيُلحق بأقواهما كما هو شأن قياس الشبه.

"فهذا استناد إلى أصل قطعي أيضًا، وهو أن الأسباب من قدر الله، ثم مثًّل ذلك برعي العُدوة المجدبة والعُدوة المخصبة، وأن الجميع بقدر الله، ثم أخبر بحديث الوباء الحاوي لاعتبار الأصلين. وفي الشريعة من هذا كثير جدًّا، وفي اعتبار السلف له نقل كثير، ولقد اعتمده مالك بن أنس في مواضع كثيرة؛ لصحته في الاعتبار. ألا ترى إلى قوله في حديث غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعًا: جاء الحديث ولا  أدري ما حقيقته؟ وكان يضعفه، ويقول: يؤكل صيده، فكيف يكره لعابه؟".

يعني لو كان لا بد من غسله سبعًا لأمرنا بغسل وتتريب الصيد الذي يصيده الكلب بفمه، ولا فرق بين الإناء وبين الصيد، هذا على قول مالك -رحمه الله- وأنه طاهر، لكن الحديث صحيح، والعلّة بل الحكمة ظاهرة، وأيدها العلم الحديث، وأن في لعابه جرثومة لا يقضي عليها إلا التراب، وكون صيده يؤكل من غير غسل ولا تتريب إحالةً إلى الطبخ، فإنه إذا طُبِخ ماتت هذه الجرثومة ومات ما يتضمنه لعابه من مضرة.

"وإلى هذا المعنى أيضًا يرجع قوله في حديث خيار المجلس حيث قال بعد ذكره: وليس لهذا عندنا حد معروف ولا أمر معمول به فيه ".

الحد المعروف فيه التفرق، الحد المعروف فيه التفرق؛ لأنه يقول ما فيه حد، لو جلسوا يومين ثلاثة ما تفرقوا في مكان واحد، نقول: لا، ما يوجد ما يمنع من أن يكون الخيار باقيًا ما دام التفرق لم يحصل.

"إشارة إلى أن المجلس مجهول المدة ولو شرط أحد الخيار مدة مجهولة لبطل إجماعًا".

لكنها معلقة بوصف، متى حصل هذا الوصف انتهى وقت الخيار، والتعليق بالوصف في جميع الأبواب أمرٌ مقبول، ومعروف ومعمولٌ به، ومتى وُجِد هذا الوصف تحقق ما عُلِّق عليه، وإن كان غير معلوم المدة والمقدار، ومتى يبدأ، ومتى ينتهي، لأنه لأي شيء يعلق على وصف عُلِّق على وصف، طيب، الترخُّص عُلِّق على وصف، فما دام الوصف باقيًا وساريًا فما عُلِّق عليه باقٍ وسارٍ، وليكن هذا من هذا النوع.

"فكيف يثبت بالشرع حكمٌ".

نعم، لو شرط مدة مجهولة لو قال: لي الخيار بعض شهر،  بعض شهر، أو عدة أيام، هذه مجهولة؛ لأنها عدد، وليست بوصف، عدد لكنه مجهول، وليس بوصفٍ يبدأ ببداية وينتهي بنهاية.

"فكيف يثبت بالشرع حكمٌ لا يجوز شرطًا بالشرع ؟ فقد رجع إلى أصل إجماعي. وأيضًا فإن قاعدة الغرر والجهالة قطعية، وهى تعارض هذا الحديث الظني".

ظني مع أنه ثابت في الصحيحين، الذي قرر أهل العلم أن ما جاء في الصحيحين فهو قطعي، كما قال ابن الصلاح وابن حجر وغيرهم، شيخ الإسلام، وجمع من أهل العلم يقولون: ما رواه الشيخان هو قطعي سوى الأحرف اليسيرة التي تكلم فيها بعض الحفاظ، فإن قيل: فقد أثبت مالك خيار المجلس في التمليك...

"قيل: الطلاق يعلق على الغرر، ويثبت في المجهول، فلا منافاة بينهما بخلاف البيع. ومن ذلك أن مالكًا أهمل اعتبار حديث: من مات، وعليه صوم صام عنه وليه".

يقول: ويثبت في المجهول، علّق عليه محققه، قال: فإنه يصحّ أن يطلقها على ما في قبضة يدها، يعني خلع، وهو مجهول، بخلاف البيع الذي من شرطه أن يكون الثمن معلومًا، وكذلك المثمن، يعني من شروط البيع أن يكون الثمن معلومًا، والمبيع معلومًا أيضًا، أما بالنسبة للخلع، والطلاق، هذا بيده، له أن يطلق بدون عوض، فلا مانع أن يطلق بعوضٍ غير معلوم، إذا كان له أن يطلق من غير عوض، فما المانع أن يطلق بعوضٍ أقل مما توقعه أو أكثر؛ لأن الأصل بيده.

"ومن ذلك أن مالكًا أهمل اعتبار حديث: من مات، وعليه صوم صام عنه وليه وقوله: أرأيت لو كان على أبيك دين الحديث؛ لمنافاته للأصل القرآني الكلي نحو قوله: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى. وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [ النجم: 38، 39 ] كما اعتبرته عائشة في حديث ابن عمر. وأنكر مالك".

حديث صحيح: «من مات وعليه صوم صام عنه وليه»، وهو محمولٌ على النذر كما جاء في بعض طرقه، وأما ما جاء بأصل الشرع فالعبادات البدنية لا تقبل النيابة، إذا كانت بدنية محضة، أما إذا كانت مالية أو فيها شوب مال كالحج، فإنه يقبل النيابة.

"وأنكر مالك حديث إكفاء القدور التي طبخت من الإبل والغنم قبل القسم؛ تعويلاً على أصل رفع الحرج الذي يعبر عنه بالمصالح المرسلة، فأجاز أكل الطعام".

يعني قد يحتاج الناس إلى أن يذبحوا من بهيمة الأنعام المغنومة من إبل أو بقر أو غنم، لاحتياجهم إليها، ولو انتظروا قسمتها يتضررون، فالإمام مالك أنكر الحديث الذي فيه إكفاء القدور وتتريب اللحم؛ لأنها طبخت قبل قسمتها، ومعلوم أن الأخذ من الغنيمة قبل قسمتها غلول، نسأل الله العافية، ومن عظائم الأمور، حتى إنه جاء ما يدل على تحريق الرحل الغالّ، فأمره ليس بالسهل، لكن أيضًا على من ولي أمر المسلمين في مثل هذه الأمور أن يرفق بهم، وأن يبادر في قسم ما تقوم به حاجتهم، نقول: ما نقسم إلا إذا رجعنا إلى بلدنا، ومعه الإبل والبقر والغنم والناس يموتون من الجوع!

"قبل القسم لمن احتاج، قاله ابن العربي. ونهى عن صيام ست من شوال مع ثبوت الحديث فيه تعويلاً على أصل سد الذرائع".

لئلا يظن أن هذه الست ملحقة برمضان في الوجوب، أو أنها منه، لكن هذا القول معارض للنصّ الصحيح الصريح، فلا يُعوَّل عليه، وهذه من الغرائب عن مالك نجم السنن أن يقول مثل هذا الكلام.

"ولم يعتبر في الرضاع خمسًا ولا عشرًا؛ للأصل القرآني في قوله: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [ النساء: 23 ]".

وليس فيها عدد ولا تحديد ولا، وليس فيها أيضًا عمر معين، إنما جاءت القيود في السُّنَّة.

"وفي مذهبه من هذا كثير، وهو أيضًا رأي أبي حنيفة، فإنه قدَّم خبر القهقهة في الصلاة على القياس؛ إذ لا إجماع في المسألة".

يعني مع العجب أن أبا حنيفة والحنفية يقولون: إن الزيادة على النصّ نسخ، ولو ثبتت بأصحّ الأسانيد، وفي النسخ الآحاد لا ينسخ المتواتر، ثم يأتون إلى خبر مثل هذا ضعيف، يخالف القياس، وفيه زيادة على النصّ ويقبلونه، هذه من الغرائب، نعم. وكذلك الوضوء بالنبيذ رغم أنه زيادة على ما جاء في النصّ، وخبره ضعيف جدًّا، ومع ذلك قالوا به، نعم. ولكل مذهب شواذ.

 "وردَّ خبر القرعة؛ لأنه يخالف الأصول؛ لأن الأصول قطعية، وخبر الواحد ظني، والعتق حل في هؤلاء العبيد، والإجماع منعقد على أن العتق بعد ما نزل في المحل لا يمكن رده؛ فلذلك ردَّه".

شخص عنده مماليك ستة أعتقهم، والأصل ألا يعتق أكثر من الثلث؛ لأن الورثة يتضررون ليس له سواهم، وليس له أن يتصرف إلا بالثلث، فمن يعتق من هؤلاء الستة؟ يعتق الثلث، اثنبن، وكيف نتبين هذين الاثنين من الستة؟ ما فيه إلا القرعة، وجاءت بها نصوص كثيرة، مما يدل على أنها معتبرة شرعًا.

"كذا قالوا، وقال ابن العربي: إذا جاء خبر الواحد معارضًا لقاعدة من قواعد الشرع، هل يجوز العمل به أم لا؟ فقال أبو حنيفة: لا يجوز العمل به، وقال الشافعي: يجوز، وتردد مالك في المسألة. قال: ومشهور قوله، والذي عليه المعول أن الحديث إن عضدته قاعدة أخرى قال به، وإن كان وحده تركه".

يعني خبر واحد معارض لقاعدة من قواعد الشرع، القواعد الشرعية منها القواعد الكلية التي لا يخرج عنها صورة من الصور، وهذه لا يمكن أن ترِد هنا، لماذا؟ لأنه لو ورد خبر يعارضها خبرٌ صحيح لقلنا: إنها ليست قاعدة كلية، بل أغلبية، والقواعد الأغلبية التي يخرج عنها بعض الصور إذا عارضها خبر من الأخبار الصحيحة قلنا: وليكن هذا الخبر من الصور التي تخرج عن هذه القاعدة، ولذلك الشافعي يجوِّز مثل هذا.

"ثم ذكر مسألة مالك في ولوغ الكلب قال: لأن هذا الحديث عارض أصلين عظيمين: أحدهما: قول الله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4]، والثاني: أن علة الطهارة هي الحياة، وهي قائمة في الكلب".

لا ينجس إلا بالموت عنده، وجمهور أهل العلم على أنه نجس العين، نجس العين.

"وحديث العرايا إن صدمته قاعدة الربا عضدته قاعدة المعروف".

نعم حديث العرايا مخالف لما جاء من نهي بيع الجنس بجنسه، مع عدم التماثل، والتقابض، والعرايا على خلاف ذلك، لكنها إرفاق، وليست بعقد وصفقة بيع؛ لأن الإنسان قد يحتاج إلى التمر الرطب، الرطب وعنده تمر جاف، فلو كُلِّف ببيع الجاف وشراء الرطب يمكن أن يتضرر، فرُخِّص له في شيء يتقوته مع أولاده من هذا النوع، على ألا يخلّ بقاعدة الربا، لا يكون كثيرًا.

"وكذلك لم يأخذ أبو حنيفة بحديث منع بيع الرطب بالتمر؛ لتلك العلة أيضًا. قال ابن عبد البر: كثير من أهل الحديث استجازوا الطعن على أبي حنيفة؛ لرده كثيرًا من أخبار الآحاد العدول".

نعم لا شك أن الحنبلي أو الشافعي أو المالكي، إذا قرأ في كتب الحنفية قد يجد شيئًا من الوحشة؛ لبُعدها عما ألِفه من مذهب إمامه من العناية بالنصّ، لكن لو قرأ الشافعي أو الحنبلي في كتب المالكية وجد من الوحشة، وقل مثل هذا في العكس؛ لأن الإنسان إذا خرج عن المألوف ولو إلى أرجح مما كان عليه يجد في نفسه انقباضًا، فكثير ممن يتكلم في أبي حنيفة يقول: إنه يخالف النصوص، ويعتمد الأقيسة، ويضرب بالنصوص عرض الحائط، وكتاب رفع الملام عن الأئمة الأعلام لشيخ الإسلام ابن تيمية كفيل بعلاج هذه المسألة.

"قال: لأنه كان يذهب في ذلك إلى عرضها على ما اجتمع عليه من الأحاديث، ومعاني القرآن فما شذ من ذلك ردَّه، وسماه شاذًّا. وقد ردَّ أهل العراق مقتضى حديث المُصرَّاة، وهو قول مالك؛ لما رآه مخالفًا للأصول، فإنه قد خالف أصل: «الخراج بالضمان»، ولأن مُتلِف".

مُتلَف.

"ولأن متلَف الشيء إنما يغرم مثله أو قيمته".

إن كان مثليًّا يغرم المثل، وإن كان متقومًا لا مثل له فإنه يقوم القيمة، وهنا يرد صاع من طعام، وقد يكون اللبن أكثر بكثير من قيمة الصاع، وقد يكون أقل بكثير، فهذا خالف الأقيسة، على كل حال إذا جاء نهرُ الله بطل نهر معقِل، ما دام ثبت به الحديث وصحّ به الحديث الصحيح الصريح فليس لأحد كلام.

 "وأما غُرمُ جنس آخر من الطعام، أو العروض، فلا. وقد قال مالك فيه: إنه ليس بالموطأ ولا الثابت، وقال به في القول الآخر شهادة بأن له أصلاً متفقًا عليه يصح ردُّه إليه، بحيث لا يضاد هذه الأصول الأخر، وإذا ثبت هذا كله ظهر وجه المسألة، إن شاء الله".

لو أن الناس أحيلوا في مثل مسألة المصراة إلى قيمة هذا اللبن، أو تقديره بمثله، فلا شك أن اللبن يُسرع إليه الفساد، وقد لا يكون في وقته أو في مجلسه أو في مكانه الذي يسكن فيه من يستطيع أن يقوم أو يأتي بالبدل أو ما أشبه ذلك، فجُعل مكان هذا الذي يسرع إليه الفساد شيءٌ ثابت، مقرر، لا يختلف باختلاف الناس ولا الأحوال والظروف، قيمة مقررة مقننة، لكن لو قيل: من حلب من هذه المصراة صاعًا فعليه كذا، ومن حلب نصف صاع فعليه كذا، من حلب ربع صاع عليه كذا، صارت المسألة تحتاج إلى تقادير بدقة، وهذا فيه مشقة على الناس، إحالتهم على مثل هذه الأمور.

يعني نظير ما يتساوى فيه الناس كلهم أمام التشريع، يعني لو تُرك التمييز لكل شخص على حِدة، الآن مروا أولادكم بالصلاة لسبع، لو قيل: مروا أولادكم إذا ميزوا، وهذا يميز لأربع، وهذا لأربع ونصف، وهذا لخمس، وهذا لست، وهذا لسبع، وبعضهم لا يميز إلا لعشر ما انضبطت المسألة، وتجد أولاد الناس منهم المتحري، الذي يأتي بالطفل عمره سنتين ويقول مميز للناس، وبعض الناس الذي ولده لعشر سنين ويلعب عند باب المسجد ويؤذي الناس ويقول: غير مميز، لكن في مثل هذه الأمور يوضع حد، يميز فيه غالب الناس، وإن قصر دونه أحد أو زاد عليه أحد، وهذا الصاع وسط، وإن زاد في بعض الأحوال مقابله أو نقص، إنما يوضع تشريع عام ينتظم الناس كلهم.

"وأما الرابع، وهو الظني الذي لا يشهد له أصل قطعي، ولا يعارض أصلاً قطعيًّا فهو في محل النظر، وبابه باب المناسب الغريب".

لكن قال هو أصل برأسه، أصل برأسه ما دام لا يوجد ما يعارضه مما هو أقوى منه فإننا نحتاج إلى ما يشهد له؛ لأنه ما دام غلب على الظن ثبوته من نوعي الصحيح والحسن، فليس لأحد كلام.

"فقد يقال: لا يقبل؛ لأنه إثبات شرع على غير ما عهد في مثله والاستقراء يدل على أنه غير موجود، وهذان يوهنان التمسك به على الإطلاق؛ لأنه في محل الريبة، فلا يبقى مع ذلك ظن ثبوته؛ ولأنه من حيث لم يشهد له أصل قطعي معارض لأصول الشرع؛ إذ كان عدم الموافقة مخالفة، وكل ما خالف أصلاً قطعيًّا مردود فهذا مردود".

أما قوله: عدم الموافقة مخالفة فليس بصحيح، عدم الموافقة مخالفة هذا ليس بصحيح، ولذا حينما تحدثوا عن زيادات الثقات قالوا: منها ما يتضمن مخالفة لما هو أوثق منه، وهذا مفروغ منه يحكم عليه بالشذوذ، ومنها ما يوافق، فهذا أيضًا لا إشكال في قبوله، ومنها ما يخالف كالقسم الأول، من وجه دون وجه، يكون فيه موافقة من وجه ومخالفة من وجه، وهذا هو محل النظر، وهو موضع الخلاف.

"ولقائل أن يوجه الإعمال بأن العمل بالظن على الجملة ثابتٌ في تفاصيل الشريعة، وهذا فردٌ من أفراده، وهو وإن لم يكن موافقًا لأصل، فلا مخالفة فيه أيضًا، فإن عضدَ الردّ عدم الموافقة عضدَ القبول عدمُ المخالفة فيتعارضان".

ويسلَم.

"ويسلَم أصل العمل بالظن، وقد وجد منه في الحديث قوله -عليه الصلاة والسلام-: «القاتل لا يرث»، وقد أعمل العلماء المناسب الغريب في أبواب القياس، وإن كان قليلاً في بابه، فذلك غير ضائر إذا دلّ الدليل على صحته".

القاتل لا يرث، يعني عموم ما جاء في سدّ الذرائع يشهد لهذا الحديث؛ لأنه لو قيل: إن القاتل يرث لصار ذلك ذريعة إلى قتل الوريث مورثه من أجل أن يرثه، لكن لما سُدّت هذه الذريعة وقطع عليه الطريق فإنه لا تحدثه نفسه بالقتل.

"فصل: واعلم أن المقصود بالرجوع إلى الأصل القطعي ليس بإقامة الدليل القطعي على صحة العمل به، كالدليل على أن العمل بخبر الواحد، أو بالقياس واجب مثلاً، بل المراد ما هو أخصّ من ذلك، كما تقدم في حديث".

يعني في مفردات الدليل لا في أصله.

طالب:...

إذا ثبت خبر الواحد بأن كان صحيحًا أو حسنًا، لكن عمل الأئمة على خلافه، هكذا؟ لا يوجد من عمل به من الأئمة، يعني ومثَّل له الترمذي بحديثين: الأول: قتل الشارب المدمن في الرابعة، من حديث معاوية، صحيح، لكن لم يعمل به أحد من أهل العلم كما قال الترمذي نفسه، والثاني حديث ابن عباس في الجمع بالمدينة من غير خوف ولا مطر، هذا أيضًا قال: إنه لم يعمل به أحد، مع أن الأئمة أثبتوا من عمل بهذا وعمل بهذا؛ لأنهم لا يتفقون على شيء إلا على أصل، اتفاقهم على عدم العمل به يدل على أن عندهم ما يعارضه ويضاده.

طالب:...

هم يجعلون هذا مثل الإجماع، لكن دون الإثبات خرط القتاد، وكل ما أثبتوا على أن العمل على خلافه وُجِد من يقول به، فمثلاً حديث قتل الشارب قال به جمع من أهل العلم، ورأوه حدّا أنه إذا شرب الرابعة يُقتَل، ومنهم من يراه تعذيرًا، وهو قول شيخ الإسلام وابن القيم يقولون: تعذير، إذا ما ارتدع الناس بالحدّ وتتابعوا على الشرب ولم يردعهم الحدّ فإنه يقتل المدمن تعذيرًا.

"بل المراد ما هو أخصّ من ذلك، كما تقدم في حديث «لا ضرر ولا ضرار» والمسائل المذكورة معه، وهو معنى مخالفٌ للمعنى الذي قصده الأصوليون، والله أعلم".

اللهم صلّ على محمد.

طالب:...

نعم.

طالب:...

ماذا فيه؟

طالب:...

آخر الزمان، وإن الأمة على العمل بالحديث خلال أربعة عشر قرنًا، ما يخرق ما يخرق، واحد ما يكفي.