شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (028)

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً ومرحبًا بكم إلى حلقة جديدة ضمن برنامجكم: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح. مع مطلع هذه الحلقة يسرنا أن أرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، فأهلاً ومرحبًا بكم شيخ عبد الكريم.

حياكم الله وبارك فيكم.

المقدم: توقفنا عند قول المؤلف:

"بابٌ: من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه.

عن أنس -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»."

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فقد نبَّهْنا مرارًا أن الترجمة لا توجَد في المختصَر، وهي موجودة في الأصل، فحديث أنس -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه».

أنس بن مالك راوي الحديث هو: أبو حمزة أنس بن مالك بن النظر بن ضمضم بن زيد بن حرام الأنصاري النجَّاري البصري، خادم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، خدَم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عشر سنين.

قال النووي: روي له عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ألفا حديث ومائتا حديث وستة وثمانون حديثًا، اتفقا منها على مائة وثمانية وستين، وانفرد البخاري بثلاثة وثمانين، ومسلم بأحد وسبعين، وشهرته وشهرة من روى عنه ومناقبه أظهر من أن تحتاج إلى نص عليها.

ثبت للبخاري وغيره أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- دعا له، توفي -رضي الله عنه- بالبصرة سنة ثلاث وتسعين عن مائة وثلاث سنين.

الحديث ترجم عليه الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- بقوله: "بابٌ من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه". يقول الكرماني: قدم لفظ الإيمان قال: بابٌ من الإيمان، بخلاف أخواته حيث يقول في الباب الذي سيأتي: بابٌ حب الرسول من الإيمان، هنا قال: "بابٌ من الإيمان أن يحب..." وفي الباب الذي يليه: بابٌ حب الرسول من الإيمان، وقال: إطعام الطعام من الإيمان، فقدَّم لفظ الإيمان إما للاهتمام بذكره، وإما للحصر فكأنه قال: المحبة المذكورة ليست إلا من الإيمان تعظيمًا لهذه المحبة، وتحريضًا عليها، قال ابن حجر: وهو توجيه حسن إلا أنه يرِدُ عليه أن الذي بعده ألْيَق بالاهتمام، هذا الباب "بابٌ من الإيمان أن يحب لأخيه..."، والذي بعده: بابٌ حب الرسول -صلى الله عليه وسلم- من الإيمان، يقول: يرِدُ عليه أن الذي بعده أليق بالاهتمام، يعني فرق بين محبة الرسول وبين محبة أخيه، فالظاهر أنه أراد التنويع في العبارة، ويمكن أنه اهتم بذكر حب الرسول فقدَّمه والله أعلم.

يقول العيني: قلت: الذي ذكره -يعني: ابن حجر- لا يرِدُ على الكرماني، وإنما يرِدُ على البخاري حيث لم يقل: بابٌ من الإيمان حب الرسول، ولكن يمكن أن يجاب عنه بأنه إنما قدَّم لفظة حب الرسول -صلى الله عليه وسلم- إما اهتمامًا بذكره أولاً، وإلا استلذاذًا باسمه مقدمًا؛ ولأن محبته هي عين الإيمان، ولولاه ما عرف الإيمان. تَعَقُّب ابن حجر على الكرماني ظاهر؛ لأنه قال في الترجمة التي معنا: إنما قدَّم "من الإيمان" للاهتمام، "بابٌ من الإيمان أن يحب لأخيه" للاهتمام وإرادة الحصر؛ لأن تقديم المسنَد على المسنَد إليه يفيد الحصر، تقديم المسنَد "من الإيمان أن يحب" كأنه قال: من الإيمان محبة المسلم لأخيه ما يحب لنفسه، فالتقديم والتأخير هنا يفيد الحصر، وهذا ما أشار إليه الكرماني، وهنا تعقَّبه الحافظ قال: هو توجيه حسن، لا شك أنه لو لم يرد إلا هذه الترجمة لكان التوجيه حسنًا إلا أنه يرِدُ عليه أن الذي بعده أليق بالاهتمام والحصر معًا، وهو محبة الرسول -عليه الصلاة والسلام-، وهو قوله: باب حب الرسول من الإيمان، فالظاهر أنه أراد التنويع، ويمكن أنه اهتم بذكر حب الرسول فقدَّمه والله أعلم.

العيني أراد أن يتعقب ابن حجر، ولعله في هذا المجال بأي كلام لذات التعقُّب يقول: الذي ذكره -يعني: ابن حجر- لا يرِدُ على الكرماني وإنما يرد على البخاري، هل البخاري أفصح بمراده؟ ما أفصح البخاري بمراده، ولعل مراده التنويع، الكرماني هو الذي أفصح بمراد البخاري وابن حجر تعقَّب الكرماني في هذا الإفصاح، يعني في تحديده مراد البخاري -رحمه الله تعالى-، لكن كلام العيني آخره جيِّد، ولكن يمكن أن يجاب عنه بأنه إنما قدَّم لفظ حب الرسول -صلى الله عليه وسلم- إما اهتمامًا بذكره، أو استلذاذًا باسمه مقدمًا؛ ولأن محبته هي عين الإيمان، ولولاه ما عرف الإيمان، الرابط بين هذا الباب والذي قبله -باب إطعام الطعام من الإسلام- أن الشعبة في الباب الأول وهي إطعام الطعام غالبًا لا تكون إلا عن محبة المطعَم، وهذا الباب فيه هذه المحبة.

قوله: «لا يؤمن» الذي عندنا في المتن «لا يؤمن أحدكم» في كثير من الروايات: «لا يؤمن» وعليها شرَح ابن حجر والقسطلاني وغيرهما.

«لا يؤمن» الفاعل من يدَّعي الإيمان، وفي رواية: «أحدكم» كما هو مثبت هنا، وعزاها ابن حجر للمستملي وللأصيلي، «أحدٌ» ولابن عساكر «عبد» وكذا لمسلم عن أبي خيثمة، والمراد بالإيمان المنفي هنا كمال الإيمان، ونفي اسم الشيء على معنى نفي الكمال عنه مستفيض في كلامهم، كقولهم: فلان ليس بإنسان، إذا قلت: فلان ليس بإنسان، أي ليس بإنسان كامل، هو في الحقيقة إنسان، إذا قلت: فلان ليس برجل، فمرادك أنه ليس رجل كامل، وإلا فهو في الحقيقة رجل يأخذ مثل حظ الأنثيين في الإرث، وله ما للرجال، وعليه ما عليهم من الأحكام.

المقدم: في الرواية الأولى -أحسن الله إليك- «لا يؤمن حتى يحب» هكذا تستقيم؟

نعم «لا يؤمن حتى يحب لأخيه».

المقدم: تستقيم بدون أحدكم؟

أكثر الروايات على هذا، وعليها شرح ابن حجر والقسطلاني.

قال ابن حجر: فإن قيل: فيلزم أن يكون من حصلت له هذه الخصلة مؤمنًا كاملاً، وإن لم يأتِ ببقية الأركان، أُجيبَ بأن هذا ورد مورد المبالغة أو يستفاد من قوله: «لأخيه» ملاحظة بقية صفات المسلم، هذا ورد مورد المبالغة، يعني كما قال -عليه الصلاة والسلام-: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده» مع أنه لا بد أن يأتي بجميع ما يطلبه الإسلام من الأركان، ويجتنب ما ينهى عنه الإسلام، في رواية ابن حبان: «لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان» ومعنى الحقيقة هنا الكمال ضرورة أن من لم يتصف بهذه الصفة لا يكون كافرًا، وبهذا يتم استدلال المصنِّف على أنه يتفاوت، وأن هذه الخَصلة من شعب الإيمان.

وجه استدلال المصنِّف بالحديث وإدخاله في كتاب الإيمان: أولاً نفي الإيمان عمَّن لم يتصف بهذه الصفة وبهذه الخصلة وبهذه الشعبة، والمراد نفي الإيمان الكامل كما أشار إليه الشراح.

«حتى يحب» بالنصب، لأن حتى جارَّة، كيف بالنصب وحتى جارَّة؟ نعم، حتى جارَّة، وهي من حروف الجر -كما هو معروف-.

هاك حروف الجر وهي من إلى
 

 

حتى خلا حاشا عدا في عن على

 

 

إلى آخره.

يقول: «حتى يحب» بالنصب؛ لأن حتى جارَّة، وأن بعدها مضمرة، ولا يجوز الرفع فتكون حتى عاطفة، فلا يصح المعنى حينئذٍ، إذ عدم الإيمان ليس سببًا للمحبة.

والمحبة كما قال النووي المَيْل إلى ما يوافق المحب، وقد تكون بحواسِّه كحسن الصورة، أو بفعله، إما لذاته كالفضل والجمال، وإما لإحسانه كجلب نفع أو دفع ضر، يقول ابن حجر: المراد بالمَيْل هنا الاختياري دون الطبيعي والقسري، والمراد أيضًا أن يحب أن يحصل لأخيه نظير ما يحصل له لا عينه سواء، أن يحب لأخيه ما يحب، يحب لأخيه الذي يحبه هذا الأصل، لكن هل هذا متصوَّر؟! لو تصوَّرْنا أن رجلاً وُفِّق بزوجة جميلة وصاحبة دِين، هل نقول: عليه أن يتمنى ويحب لأخيه هذه الزوجة لأنه يحب هذه الزوجة ويحبها لنفسه؟! هذا مستحيل، لكن يحب له نظير ما حصل له.

يقول: المراد بالميل هنا الاختياري دون الطبيعي والقسري، والمراد أيضًا أن يحصل لأخيه نظير ما يحصل له لا عينه، سواء كان في الأمور المحسوسة أو المعنوية، يحب المرء المسلم لأخيه أن يحصل لأخيه من الأمور المحسوسة من متاع هذه الدنيا ما يحب لنفسه، كما أنه يحب أن يكون له من الأمور المعنوية من لذة العبادة مثلاً والتلذذ بمناجاة الله، والتلذذ بطاعته، ما يحبه لنفسه، وهذا خلاف المشاهَد من كثير من المسلمين، الذي يحب الواحد منهم أن يستأثر بهذا الشيء ويفوق به أقرانه. سواء كان ذلك في الأمور المحسوسة أو المعنوية، وليس المراد أن يحصل لأخيه ما حصل له، لا مع سلْبه عنه، ولا مع بقائه بعينه، ما يتمنى أن تكون هذه المرأة الصالحة الجميلة لأخيه دونه هذا ما يلزمه، ولا يلزم أن تحصل لهما بالاشتراك؛ لماذا؟ ولا بقائه بعينه له، إذ قيام الجوهر أو العرض بمحلين محال، العيني يقول: المراد أيضًا بأن يحب... إلى آخره ليس تفسيرًا للمحبة، وإنما المحبة مطالعة المنة من رؤية إحسان أخيه وبره وأياديه ونعمه المتقدمة التي ابتدأ بها من غير عمل استحقها به، وستْره على معايبه، وهذه محبة العوام، قد تتغير بتغير الإحسان، فإن زاد الإحسان زاد الحب، وإن نقصه نقص، وأما محبة الخواص فهي تنشأ من مطالعة شواهد الكمال لأجل الإعظام والإجلال، ومراعاة حق أخيه المسلم فهذه لا تتغير لأنها لله تعالى لا لأجل غرض دنيوي كذا قال.

قلت: وفي تعبير ابن حجر بالجوهر والعرض مجاراة لأهل الكلام في اصطلاحاتهم، وفي تعبير العيني بالعوام والخواص مجاراة لأهل التصوف، على أن في كلام العيني ما فيه؛ لأنه يجعل المحبة من باب المجازاة، لأنه يجعلها من باب المجازاة؛ لأنه قال: إنما المحبة مطالعة المنة من رؤية إحسان أخيه وبره وأياديه ونعمه المتقدمة، لو فرضنا أن له أخًا يراه لأول مرة لم تتقدم له عليه نعمة ألا يلزمه أن يحب له ما يحب لنفسه؟ على كلام العيني لا. «لأخيه» المراد به المسلم كما في قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [سورة الحجرات 10] وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «المسلم أخو المسلم»  وقال -عليه الصلاة والسلام-: «وكونوا عباد الله إخوانًا» ويشمل المسلمة أيضًا، فيحب لها ما يحب لنفسه، هل يشمل الكافر أو لا يشمله؟ «لأخيه» النص «لأخيه» والمراد بالأخ المسلم، لكن هل يحب للكافر ما يحبه لنفسه؟ إن كان المراد أن يحب له الإسلام كما أحبه لنفسه فنعم، وإن كان المراد أن يحصل له مثل ما حصل له، ما حصل للمسلمين حال كفره فلا.

«ما يحب لنفسه» أي مثل ما يحب لنفسه -كما تقدم-، وعند النسائي والإسماعيلي وابن منده: «من الخير» والخير: كلمة جامعة تعم الطاعات والمباحات الدنيوية والأخروية، وتُخرِج المنهيات؛ لأن الخير لا يتناولها، قال في فتح المبدي: فإذا كان سارقًا مثلاً لم يكن من الإيمان أن يحب السرقة لأخيه، وإنما قُدِّر لفظ (مثل) لأن المحبوب الواحد يستحيل أن يحصل في محلَّين، والمراد بالمثلية مطلق المشاركة، ولذا قال بعضهم: لعل المراد ترْك الحسد والعداوة، وحصول كمال المودَّة حتى يقرب أن ينزل أخاه منزلة نفسه في الخيرات، أو المراد أن يحب ذلك في الأعم الأغلب، ولا يلزم في كل شيء، سيما إن لم يكن للشيء إلا فرد واحد، إذا لم يكن في الوجود إلا شيء واحد كيف يحب لأخيه ما يحب لنفسه؟ أولاً: الحديث جاء بصيغة العموم: «يحب لأخيه ما يحب لنفسه» (ما) من صيغ العموم، يعني جميع ما يحبه لنفسه يحبه لأخيه، لكن إذا لم يكن في الوجود إلا شيء واحد كالوسيلة مثلاً، والمقام المحمود فإنه لا يمكن الاشتراك فيه حتى يحبه لغيره، فلا يرِدُ الإشكال بسؤال سليمان -عليه السلام- تخصيص الملك به بقوله: {وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي} [سورة ص 35] وبما حكاه الله عن عباده الصالحين من قولهم: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [سورة الفرقان 74] وجه الاستشهاد من الوسيلة والمقام المحمود ظاهر، الوسيلة والمقام المحمود لا تنبغي إلا لشخص واحد، وهو الرسول -عليه الصلاة والسلام-.

{وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي} [سورة ص 35] هل نقول: إن سليمان وهو يقول هذا الكلام أنه يحب لغيره من الناس أن يُوهَب لهم الملك بحيث يكونوا مثله؟ {وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي} [سورة ص 35] هذا في شريعته، ولذا النبي -عليه الصلاة والسلام- لمَّا أراد أن يوثِق الجني الذي تفلَّت عليه في صلاته، قال: «تذكَّرتُ دعوة أخي سليمان».

ما حكاه الله عن عباده الصالحين من قولهم: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [سورة الفرقان 74] هل هذا يخالف ما في الحديث؟ في الظاهر يخالف، وإلا ما معنى اجعلنا إمامًا؟

المقدم: يختصون بهذا.

نعم، يختصون بالإمامة وغيرهم مأمومين، والإمام أفضل من المأموم، وبسؤال النبي -صلى الله عليه وسلم-  الوسيلة لنفسه، وأمره الأمة بذلك السؤال، ويلزم من محبة ذلك لأخيه أن ينصفه من نفسه إذا كان عليه مظلمة كما أنه يحب أن ينتصف من حقه ومظلمته.

المقدم: فتح المبدي أشرتم إليه قبل قليل يا شيخ لعلنا نشير للمستمع شيئًا منه؛ لأن مثل هذه المصطلحات تَمُرُّ ويسأل عنها الإخوة المستمعين كثيرًا، فتح المبدي لِمَن؟ ولماذا استشهدتم به هنا؟

فتح المبدي هو شرح للمختصَر، مختصَر البخاري، مختصَر الزبيدي، لعبد الله حجازي الشرقاوي، هذا من شيوخ الأزهر، بل تولى مشيخة الأزهر في آخر القرن قبل الماضي، والكتاب في الجملة جَيِّد، شرح تحليلي طيب، وفيه نُقوْل طيبة، ولا يسلم من ملاحظات، كغيره من الشروح.

يقول الكرماني: ومن الإيمان أيضًا أن يبغض لأخيه ما يبغض لنفسه من الشر؛ لأن مفهوم يحب ما يحب لأخيه من الخير مفهومه -مفهوم المخالفة- أن يبغض ما يبغضه لنفسه من الشر.

المقدم: هذا استمرارًا للحديث للتوجيه لما ورد قبل قليل من الآيات والأحاديث؟

لا، هذا شرح لمفهوم الحديث.

المقدم: نعم، لكن توجيههم لما سبق وذكرتموه -أحسن الله إليكم- من الأمور الثلاثة الوسيلة...

الوسيلة قلنا: أنها لا تنبغي إلا لشخص واحد.

المقدم: وملك سليمان...

ملك سليمان لعله في شرع مَن قبلنا.

المقدم: يبقى {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [سورة الفرقان 74].

يبقى {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [سورة الفرقان 74] أنه لا بد من إمام أو مأموم، ولا يمكن بل يستحيل أن يكون كل الناس أئمة، فإذا كان الخيار بين إمام أو مأموم، يختار الإنسان لنفسه الأعلى.

المقدم: أحسن الله إليكم يا شيخ الآن إذا كان مثل هذه الآية: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [سورة الفرقان 74] لا يمكن اجتماع الإمام والمأموم هل هذا يتعارض مع كون المؤمن يحب لأخيه كما يحب لنفسه أن يكونوا جميعًا أئمة؟ وكذا حتى ما ذكرتم من الوسيلة والمقام المحمود مع كون هذا لن يحصل لهم جميعًا، لكن المحبة هل يلزم منها الوقوع حتى يتعارضا؟

نقول: المحبة هنا يحب الإنسان أن يكون إمامًا، وقد دعا العباد الصالحون بأن يجعلهم الله للمتقين إمامًا، لكن هل يُتصوَّر أن يكون الناس كلهم أئمة؟ فإما أن يكون الحديث جرى مجرى الغالب -كما تقدمت الإشارة إليه- وإن كان من صيغ العموم، لكن لا بد من تخصيصه بمثل هذه الآية؛ لأنه لا يمكن أن يجتمع في آنٍ واحد الناس كلهم أئمة، بل لا بد أن يكون هناك إمام ومأموم، لكن الإمامة لا تعني الفضل مطلقًا، بل قد يكون من المأمومين من هو أفضل من الإمام، على أن المراد بالإمامة هنا الإمامة في الدين، ليس معناها في الصلاة خاصة، الإمامة في الدين عمومًا، والإمامة في الدين فضل مطلق، في قول الكرماني: ومن الإيمان أيضًا أن يبغض لأخيه ما يبغض لنفسه من الشر، ولم يذكره لأن حب الشيء مستلزِم لبغض نقيضه، فتُرِك التنصيص عليه اكتفاءً، والله أعلم، هو يستفاد من مفهوم الحديث لا من منطوقه.

الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى- يقول في شرحه: لما نفى النبي -عليه الصلاة والسلام- الإيمان عمن لم يحب لأخيه ما يحبه لنفسه دل على أن ذلك من خصال الإيمان، بل من واجباته، فإن الإيمان لا يُنفَى إلا بانتفاء بعض واجباته، كما قال: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» الحديث متفق عليه، وإنما يحب الرجل لأخيه ما يحبه لنفسه متى؟ إذا سلم من الحسد والغل والغش والحقد؛ لأن كثيرًا من الناس إذا رأى واقع المسلمين اليوم قال: تطبيق الحديث مستحيل، كثير من الناس إذا رأى واقع المسلمين قال: تطبيق الحديث مستحيل، والأمر بهذا أمر بما لا يُطاق، وتكليف بالمحال، نقول: لا، هو سهل لِمَن؟ لِمَن كان قلبه سليمًا، أما من انطوى على غل أو حقد أو غش أو حسد فإنه لن يصل إلى هذه المرتبة، والله المستعان.

يقول -رحمه الله تعالى-: وإنما يحب الرجل لأخيه ما يحب لنفسه إذا سلم من الحسد والغل والغش والحقد وذلك واجب كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: «لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا» رواه مسلم، فالمؤمن أخو المؤمن يحب له ما يحب لنفسه، ويحزنه ما يحزنه، كما قال -صلى الله عليه وسلم-: «مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم؛ كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى سائر الجسد بالحمى والسهر» متفق عليه من حديث النعمان بن بشير.

فإذا أحب المؤمن لنفسه فضيلة من دين أو غيره أحب أن يكون لأخيه نظير هذا من غير أن تزول عنه، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: "إني لأمر بالآية من القرآن فأفهمها فأود أن الناس كلهم فهموا منها ما أفهم".

لو طبقنا هذا، ونظرنا في واقع عموم المسلمين، بل -مع الأسف الشديد- بعض من ينتسب إلى العلم، هل يحب لغيره من أهل العلم أن يظفر بهذه الفائدة كما ظفر بها؟! لا شك أن هذا عزيز جدًّا، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: "إني لأمر بالآية من القرآن فأفهمها فأود أن الناس كلهم فهموا منها ما أفهم"، بعض الناس يحزن إذا رأى أخاه المسلم حفظ ما لم يحفظ من القرآن، أو تقدم عليه في التلاوة مثلاً، أين هذا من قوله -عليه الصلاة والسلام-: «أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه»؟! الله المستعان.

يقول الشافعي: "وددت أن الناس كلهم تعلموا هذا العلم ولم يُنسَب إليَّ منه شيء".

في قوله عز وجل: {وَسَارِعُواْ} [سورة آل عمران 133] و{سَابِقُوا} [سورة الحديد 21] هل في ذلك ما ينافي هذا الحديث؟ لأن المسارعة والمسابقة والمنافسة في الخيرات تقتضي أن الإنسان يسارع غيره، ويسابق غيره، فكيف نوفِّق ما قد يُفهم من هذه النصوص وما معَنا من هذا الحديث؟ هل في ذلك معارضة؟ هل معنى هذا أنك إذا نافست زيدًا من الناس أو سابقته أو سارعته إلى الخيرات؟

المقدم: كأنك تريد أكثر منه.

أنك تسبقه، {سَابِقُوا} [سورة الحديد 21] المسابقة لتسبقه، والمسارعة أن تسرع أمامه، وإلا ما معنى المسارعة؟ هل معنى هذا أنك تود أنك تصل إلى الهدف أنت وإياه في وقت واحد؟ هذه النصوص فيها الحث على المسابقة والمسارعة للأطراف كلها، وللمسلمين كلهم، وكون الإنسان يسابق ويسارع لا يعني أنه يستأثر بهذا الأمر دون غيره، بل هو مجرد حث له على هذا العمل المطلوب شرعًا، فحث له وحفْز على أن يسبق غيره في هذا وغيره أيضًا محثوث على أن يسبقه وهكذا، ففيه أمر للمسلمين كلهم بأن يسارعوا، هذا أمر من الله -سبحانه وتعالى- للمسلمين أن يسارعوا وأن يسابقوا، وحينئذٍ لا يكون فيه تعارض مع الخبر.

المقدم: أحسن الله إليكم، ونفع بعلمكم.

إذًا مستمعيَّ الكرام وصلنا وإياكم إلى نهاية هذه الحلقة، سوف نستكمل -بإذن الله- ما تبقَّى في هذا الموضوع في حلقة الأسبوع القادم، حتى ذلكم الحين أستودعكم الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.