شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (086)

 

... ابن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، فأهلاً ومرحبًا بكم شيخ عبد الكريم.

 

حياكم الله وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين.

المقدم: لعلنا نستكمل ما تبقى من حديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- في باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

ذكرنا في آخر الحلقة السابقة قول بعض السلف في قوله تعالى: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [سورة الزمر 47] قال: أعمال كانوا يحسبونها حسنات بَدَت لهم يوم القيامة سيئات بسبب قلة الإخلاص أو لتعديهم السنة، وركوبهم بالتأويل وجوه الفتنة، إما بصرف النفوس عن مراد الله -عز وجل- بشيء من التأويل، أو لتعديهم ما حُدَّ لهم من العبادات التوقيفية فيزيدون عليها، الإنسان قد يحسب أنه يحسن صنعًا وهو في الحقيقة بعكس ذلك، والله المستعان.

من ذلك قوله -عليه الصلاة والسلام- في صحيح البخاري: «وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار سبعين خريفًا» وعلى المسلم أن يحتاط لنفسه وأن ينتبه لأمره، وأن يكون على ذكر مما يأتي ومما يذر خشية أن يجره التساهل إلى الخروج من الدين وهو لا يشعر، كما في حديث ابن مسعود: «وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها». والسلف، مع ما هم عليه من علم وعمل وإخلاص، عندهم من الخوف والوجل الشيء الشديد، الشيء العظيم، ولا يعني هذا الخوف الذي يبعث على اليأس والقنوط، إنما هو الخوف الذي يبعث على العمل، فالخوف الذي لا يبعث على العمل لا قيمة له، كما أن الأمن أيضًا من مكر الله أمره عظيم، وإعظام الرجاء فيما عند الله -عز وجل-، وحسن الظن بالله -عز وجل- أمر مطلوب شرعًا، لكن المطلوب من ذلك ما يبعث على العمل أيضًا.

قوله: "خرج" يعني النبي -عليه الصلاة والسلام- من حجرته "يخبر" يقول الكرماني: إما استئناف أو حال، فإن قلت: الخروج لم يكن في حال الإخبار، خرج يخبر، يقول: قلت: مثله يسمى بالحال المقدَّرة، خرج مقدّرًا للإخبار، نحو: {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [سورة الزمر 73] ولا شك أن الخروج حالة تقدير الإخبار كالدخول حالة تقدير الخلود. {فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [سورة الزمر 73] حال كونكم خالدين. لكن هل المعنى أن الخلود حال الدخول؟

المقدم: لا.

كما أن الإخبار ليس حالة الخروج، لكن هذا حال مقدرة كما يقول الكرماني.

"بليلة القدر" أي بتعيين ليلة القدر" فتلاحى" بفتح الحاء مشتق من التلاحي، وهو التنازع، قال الجوهري: تلاحوا أي تنازعوا.

وفي شرح ابن رجب فُسِّر التلاحي بالسِّباب، وفُسِّر بالاختصام والمماراة من دون سباب، ويؤيد هذا أنه جاء في رواية في صحيح مسلم: "فجاء رجلان يحتَقَّان" أي يطلب كل واحد منهما حقَّه من الآخر ويخاصمه في ذلك. والرجلان كما في الفتح، نقلاً عن ابن دحية، وعبد الله بن أبي حدرد وكعب بن مالك، قال الكرماني: كان على عبد الله دين لكعب، فطلبه فتنازعا فيه ورفعا صوتيهما في المسجد.

"فقال –صلى الله عليه وسلم-: «إني خرجت لأخبركم»" بنصب الراء بـ(أن) المقدرة بعد لام التعليل، تسمى لام، تسمى لام ماذا؟

المقدم: لام التعليل.

لام كي، بعد لام التعليل والضمير مفعول أخبر الأول، أخبركم، الضمير الكاف المفعول الأول لأخبر، وقوله: «بليلة القدر» سد مسد الثاني، أي أخبركم بأن ليلة القدر هي ليلة كذا، «وإنه تلاحى فلان وفلان» تقدم أنهما ابن أبي حدرد وكعب ابن مالك، في المسجد في شهر رمضان، الذين هما محلان للذكر لا للغو مع استلزام ذلك لرفع الصوت بحضرة النبي -صلى الله عليه وسلم- المنهي عنه.

«فرفعت» أي رفع بيانها، أو علمها من قلبي، بمعنى نُسِّيْتُها، ويدل له حديث أبي سعيد المروي في صحيح مسلم: "فجاء رجلان يحتقان" بتشديد القاف، أي يدعي كل منهما أنه محق معهما الشيطان، الشيطان غالبًا أنه يحضر في مثل هذه المواطن، والله المستعان.

فنسيتها...

المقدم: ما كان الخصام من أجل ليلة القدر متى هي، كان على مال يعني؟

لا، على الدَّين، يحتقَّان في دَينٍ بينهما، لكن من شؤم هذا الاختصام لكونه في المسجد وفي رمضان وفي حضرة النبي –عليه الصلاة والسلام- رفع تحديد ليلة القدر.

«فنُسِّيْتُها، وعسى أن يكون» رفع تعيينها وتحديد وقتها «خيرًا لكم» لتزيدوا في الاجتهاد في طلبها فتكون زيادة في ثوابكم، فلو كانت معيَّنةً لاقتصرتم عليها فقَلَّ عملكم. نحن نلاحظ ما بين ليالي الوتر مع ليالي الأشفاع من التفاوت الكبير في حضور الناس في الصلاة، وليالي الوتر أرجى، فتجدهم في ليالي الوتر أكثر منهم في ليالي الأشفاع، لأنهم يرجون ليلة القدر فكيف لو عُيِّنَت، يعني لو عُيِّنَت بليلة معينة...

المقدم: لحضروا فقط هذه الليلة.

هذه الليلة فقط، وتركوا غيرها. ومن هنا نعلم خطأ من يخبِر بليلة القدر من خلال رؤيا، هذا خلاف الهدف الشرعي من إخفاء ليلة القدر.

وشذ قوم فقالوا برفعها بالكلية، هنا في الحديث، «فرُفِعَت»، قال بعضهم: رُفِعَت بالكلية، ما فيه ليلة القدر، لكن هذا قول شاذ، وهو غلط كما بيَّنه قوله: «التمسوها». كيف رُفِعَت بالكلية والرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول: «التمسوها» أي اطلبوها، فلو كان المراد رفع وجودها لم يأمر بالتماسها، وفي رواية أبي ذر والأصيلي: «فالتمسوها».

قال ابن حجر: «وعسى أن يكون خيرًا» أي وإن كان عدم الرفع أزيد خيرًا وأولى منه لأنه متحقق فيه، لكن في الرفع خير، لاستلزامه مزيد الثواب لكونه سببًا لزيادة الاجتهاد في التماسها.

«في السبع» في ليلة السابع والعشرين من رمضان «والتسع» يعني والعشرين منه «والخمس» كذلك.

قال ابن حجر: كذا في معظم الروايات بتقديم السبع...

المقدم: على التسع.

نعم، قال ابن حجر: كذا في معظم الروايات بتقديم السبع التي أولها السين على التسع، ففيه إشارة إلى أن رجاءها في السبع أقوى للاهتمام بتقديمه. يعني ما قال في التسع، في السبع، في الخمس، ليكون على سبيل التدلِّي، ولا قال في الخمس، في السبع، في التسع ليكون على سبيل الترقِّي، إنما قال: «في السبع والتسع والخمس».

قال ابن حجر: كذا في معظم الروايات بتقديم السبع التي أولها السين على التسع، ففيه إشارة إلى أن رجاءها في السبع أقوى للاهتمام لتقديمه، ويقع عند أبي نعيم في المستخرَج بتقديم التسع على سبيل التدلِّي. واختُلِف في المراد بالتسع والسبع والخمس، فقيل: لتسع يمضين من العشر، وقيل لتسع يبقَين، فقيل: لتسع يمضين من العشر، تسع يمضين يعني ليلة تسع وعشرين، وقيل: لتسع يبقَين، ليلة واحد وعشرين، وسيأتي بسط لهذا في محله -إن شاء الله تعالى-.

وفي شرح القسطلاني: فإن قيل: كيف أمَر بطلب ما رُفِع علمه؟ رُفِع تحديده، فكيف نُؤمَر بطلبها في الليالي المذكورة، وهي قد رُفِع تعيينها، يقول: فإن قيل: كيف أمر بطلب ما رفع علمه؟ أجيب بأن المراد طلب التعبد في مظانِّها وربما يقع العمل مضافًا لها، لا أنه أمْر بطلب العلم بعينه، يعني لا نلتمس أن تكون ليلة تسع وعشرين أو سبع وعشرين أو خمس وعشرين لنحددها بالتعيين، إنما نطلبها من خلال العمل فيها، لا لذات التحديد، لأن التحديد رُفِع، ويبقى الأمر بالاجتهاد ومزيد العمل في هذه الليالي المحددة مع عدم نسيان الليالي الأخرى، لأنه أيضًا جاء ما يدل على رجاءها وطلبها في تلك الليالي فما من ليلة من ليالي العشر إلا ويحتمل أن تكون هي ليلة القدر، لأنها إن كانت من الأفراد وهي أولى وأحرى؛ فقد دل عليها مثل هذا الحديث، في التسع في السبع في الخمس، وإن كانت من الأشفاع التمسوها، لسابعة تبقى، لخامسة تبقى... إلى آخره، فإذا قدَّرنا أن الشهر كامل، صارت هذه الليالي في الأشفاع، إن قدرناه ناقصًا، صارت في الأوتار.

وقال الكرماني: فإن قيل: من أين استفيد التقييد بالعشرين وبرمضان؟ الحديث ماذا فيه؟ «فالتمسوها...».

المقدم: «في السبع والتسع والخمس».

نعم «في السبع والتسع والخمس» فإن قيل: من أين استفيد التقييد بالعشرين وبرمضان؟

المقدم: من الأحاديث الأخرى يمكن؟

قلت: من الأحاديث الأخر الدالة عليهما، وهو دليل على أنها في الأفراد، على أنه قيل أن ليلة القدر غير معيَّنة في العام كله، وهذا قول من الأقوال...

المقدم: ......

على...، الكرماني، قال الكرماني: فإن قيل: من أين استفيد التقييد بالعشرين وبرمضان؟ قلت... هذا الكرماني.

المقدم: ......

نعم، من الأحاديث الدالة عليهما، وهو دليل على أنها في الأفراد من الليالي، وقد مر في باب قيام ليلة القدر الأقوال التي فيها نحو من العشرين، وبيان تسميتها وغيره، سبب تسميتها بليلة القدر، إما لأنه تقدر فيها الأعمال خلال السنة أو لأنها عظيمة القدر، على ما تقدَّم.

يقول: وقد مَرَّ في باب قيام ليلة القدر الأقوال التي فيها نحو من العشرين، عشرين قولاً في المسألة، هذا الكرماني، لكن أوصلها الحافظ ابن حجر إلى قريب من الخمسين، خمسين قولاً في ليلة القدر.

السائل: ......

في باب ليلة القدر، هناك ما..، بحثها هناك، لكن هنا المقصود أن التلاحي سبب لرفع الصوت عند النبي –عليه الصلاة والسلام-، ورفع الصوت سبب لحبوط العمل، وهذه المناسبة.

سائل: .......

نقل عنه ابن حجر كثيرًا، هو عمدة ابن حجر.

وفي الحديث ذم الملاحاة والخصومة، وأنهما سبب العقوبة للعامة بذنب الخاصة، وفيه أيضًا الحث على طلب ليلة القدر، وفيه الحث على طلب ليلة القدر.

والحديث أخرجه البخاري في ثلاثة مواضع:

هنا في كتاب الإيمان: باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، قال الإمام البخاري -رحمه الله تعالى-: أخبرنا قتيبة بن سعيد قال: حدثنا إسماعيل بن جعفر عن حُمَيد عن أنس قال: أخبرني عبادة بن الصامت أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خرج يخبر... فذكره، وتقدم ذكر ما قيل في وجه المناسبة.

الثاني: في كتاب فضل ليلة القدر، باب رفع معرفة ليلة القدر لتلاحي الناس: حدثني محمد بن المثنى قال: حدثني خالد بن الحارث قال: حدثنا حميد قال: حدثنا أنس عن عبادة بن الصامت قال: خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- ليخبرنا بليلة القدر... فذكره، والمناسبة ظاهرة، باب رفع معرفة ليلة القدر لتلاحي الناس، ظاهر؛ لأنه تلاحى فلان وفلان فرفعت، وهذا في فضل ليلة القدر أمر ظاهر لقوله: «فالتمسوها» فالمناسبة ظاهرة.

والموضع الثالث: في كتاب الأدب: باب ما يُنهَى عن السباب واللعن، حدثنا مسدد قال: حدثنا بشر بن المفضَّل عن حميد قال: قال أنس: حدثني عبادة بن الصامت قال: خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليخبر الناس بليلة القدر... فذكره. مناسبة النهي عن السب واللعن لكتاب الأدب ظاهرة، ومناسبة الحديث للباب من جهة أن التلاحي قد يوصل إلى السب واللعن والشتم.

المقدم: أحسن الله إليكم عندي سؤال قبل أن نقرأ -إذا أذنتم لنا- في الحديث الآخر يا شيخ.

تفضَّل.

المقدم: ذكرتم قبل قليل أنه ورد في مسلم: "يحتقَّان"، وعندنا لا يوجد في الكتاب أطراف لمسلم، هل معنى ذلك أن اللفظ عند مسلم غير هذا والراوي غيره؟ ما ذكر في الأطراف أنها عند مسلم أبدًا، ما قال: رواه مسلم.

الحديث؟

المقدم: أي نعم.

الحديث متفق عليه.

المقدم: لكن النسخة التي عندنا ما ذكرها...

غفلة غفلة.

سائل: .....

لا يمنع أن أصل الملاحاة و...