شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (059)

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة والأخوات السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسعد الله أوقاتكم جميعًا بكل خير.

هذه حلقة جديدة في برنامجكم: شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، وهو المشهور بمختصر صحيح البخاري للإمام زين الدين الزبيدي.

ومع مطلع هذه الحلقة يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، فأهلاً ومرحبًا بكم شيخ عبد الكريم.

حياكم الله وبارك فيكم.

المقدم: "عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «آية المنافق ثلاث: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان».

وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدَّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر»."

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

راوي الحديث الأول أبو هريرة عبد الرحمن بن صخر الدوسي، رواية الإسلام، تقدمت ترجمته، وراوي الحديث الثاني عبد الله بن عمرو بن العاص تقدمت ترجمته أيضًا.

والحديثان ترجم عليهما الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- بقوله: بابُ علامة المنافق.

قال الحافظ ابن حجر: لما قدَّم أن مراتب الكفر متفاوتة، وكذلك الظلم أتبعه بأن النفاق كذلك، وقال النووي: مراد البخاري بذكر هذا الحديث هنا أن المعاصي تنقص الإيمان، كما أن الطاعة تزيده والله أعلم.

ومناسبة هذا الباب لكتاب الإيمان، يريد البخاري أن يبيَّن في هذه الترجمة علامة عدم الإيمان، أو يُعلَم منه أن بعض النفاق كفر دون بعض، كما قال الكرماني.

والآية الواردة في الحديث آية المنافق معناها العلامة، الواردة في الترجمة كما تقدم نظير ذلك في باب علامة الإيمان حب الأنصار، والنص آية الإيمان، وتقدم بيان ذلك مستوفًى هناك، كما تقدم أيضًا هناك شرح معنى النفاق واشتقاقه.

قال ابن حجر: النفاق لغة: مخالفة الباطن للظاهر، فإن كان في اعتقاد الإيمان فهو نفاق الكفر وإلا فهو نفاق العمل، ويدخل فيه الفعل والترك، وتتفاوت مراتبه. وإفراد الآية في الحديث آية المنافق، إما على إرادة الجنس، أو أن العلامة إنما تحصل باجتماع الثلاث، فالثلاث حينئذٍ كلها آية واحدة، والأول أليق بصنيع المؤلف، وقد رواه أبو عوانة في صحيحه بلفظ: «علامات المنافق» قاله الحافظ.

وتعقَّبه العيني بقوله: قلت: كيف يراد الجنس والتاء تمنع ذلك لأن التاء فيها كالتاء في تمرة؟ فالآية والآي كالتمرة والتمر، وقوله: أو أن العلامة إنما تحصل باجتماع الثلاث يُشعِر بأنه إذا وُجِد فيه واحدة من الثلاث لا يطلق عليه اسم المنافق، وليس كذلك، بل يطلق عليه اسم المنافق غير أنه إذا وجد فيه الثلاث كلها يكون منافقا كاملاً، ويؤيده حديث عبد الله بن عمرو الذي يليه على أن هذا القائل -العيني يقصد ابن حجر- أخذ ما قاله من قول الكرماني، والكل مدخول فيه.

البوصيري في المبتكرات مبتكرات اللآلئ والدرر في المحاكمة بين العيني وابن حجر، في المحاكمة السابعة عشرة يقول البوصيري: راجعت القسطلاني فوجدته نقل الكلامين، وقال في آخره: وأجيب بأنه مفرد مضاف فيَعُم، كأنه قال: آياته ثلاث، آية المنافق مفرد مضاف فيَعُم، كأنه قال: آياته ثلاث، فاقتصرت الكلام أدبًا مع القسطلاني -رحمهما الله تعالى-.

المقدم: ألَّف هذا الكتاب في هذه المحاكمات يا شيخ فقط؟

نعم، في هذه المحاكمات، في المحاكمات بين العيني وابن حجر، ذكر فيه أكثر من ثلاثمائة محاكمة، والمسألة تحتمل أكثر من الضعف أيضًا، ولدينا محاكمات لا توجد عنده، استدراكات عليه كثيرة.

هذا البوصيري هذا متأخِّر، توفي في منتصف القرن الماضي، أَلَّف هذا الكتاب قصدًا للتوفيق بين الخلاف بين العيني وابن حجر، فينقل كلام ابن حجر ثم يعقبه بكلام العيني، ثم يحكم بما يراه.

هنا لم يحكم بكلامه هو، وإنما قال: راجعت القسطلاني فوجدته نقل الكلامين، وقال في آخره: وأجيب بأنه مفرد مضاف فيعم، كأنه قال: آياته ثلاث، فاقتصرت الكلام أدبًا مع القسطلاني -رحمه الله تعالى-. تأدب مع القسطلاني؛ لأن القسطلاني يختصر كلام ابن حجر، ويختصر كلام العيني، فهو عبارة عن مختصر للكتابين.

ثم قال البوصيري: غير أن ما استدل به من الحديث بعده ينافي أن يكون ذو الثلاث كاملاً؛ لأن الخالص هو الكامل، إلا أن يعتبر الكامل والأكمل، يعني من حصلت له الخصال الثلاث الواردة في حديث أبي هريرة كامل في باب النفاق، وإذا حصلت الأربع الواردة في حديث عبد الله بن عمرو صار أكمل في هذا الباب، والمراد من الأكمل صيغة التفعيل ليست على بابها، فليس في هذا كمال، ليس في هذا كمال بل هو نقص من كل وجه، حينما يقولون: إلا أن يعتبر الكامل والأكمل يعني ماذا؟

المقدم: الأشد نفاقًا.

نعم، الأعظم نفاقًا، وإذا قلنا: الأعظم أيضًا فليس فيه عظمة، لكن يراد بذلك كونه أشد.

وأيًّا كان فإنهم اتفقوا على أن المراد بالنفاق ليس نفاقًا شرعيًا، النفاق ولو اجتمعت هذه الصفات والخصال الأربع أو الخمس من مجموع الحديثين ليس المراد به النفاق الشرعي، كذا قال، النفاق الشرعي أقول: النفاق الشرعي المنفي في كلامه بقوله: ليس نفاقًا شرعيًّا؛ المراد به النفاق المطلق، إذا أطلق في النصوص النفاق يراد به الاعتقادي، فصار حقيقته الشرعية هو النفاق الاعتقادي، فإذا جاء مثل قوله تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [سورة النساء 145] فالمراد بهم من نافق نفاقًا اعتقاديًّا.

فالنفاق الشرعي المنفي في كلامه المراد به النفاق الذي إذا أطلق في النصوص الشرعية النفاق الاعتقادي إذ مطلقه ينصرف إليه، وإلا فقد ورد في الشرع إطلاقه بإزاء العمل كما هنا.

يقول ابن حجر: فإن قيل: ظاهره الحصر في الثلاث «آية المنافق ثلاث» فكيف جاء في الحديث الآخر بلفظ: «أربع من كن فيه»؟ أجاب القرطبي باحتمال أنه استجد له -صلى الله عليه وسلم- من العلم بخصالهم ما لم يكن عنده، يعني نظير قوله -عليه الصلاة والسلام-: «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة» أخبر النبي -عليه الصلاة والسلام- في أول الأمر عن هؤلاء الثلاثة، ثم استجد له العلم بغيرهم، فوصل العدد إلى سبعة، كما جاء في الأحاديث، وإن قال بعض الشراح وأساء الأدب بقوله: في هذا الحصر نظر، ينظِّر في كلام مَن؟! في كلام النبي -عليه الصلاة والسلام-! هذا سوء أدب وغفلة شديدة.

فالقرطبي يجيب بأنه استجد له -صلى الله عليه وسلم- من العلم بخصالهم ما لم يكن عنده، وأقول -والقائل ابن حجر-: ليس بين الحديثين تعارض؛ لأنه لا يلزم من عد الخصلة المذمومة الدالة على كمال النفاق كونها علامةً على النفاق؛ لاحتمال أن تكون العلامات دالات على أصل النفاق، والخصلة الزائدة إذا أضيفت إلى ذلك كمل بها خلوص النفاق.

على أن في رواية مسلم من طريق العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة ما يدل على إرادة عدم الحصر، فإن لفظه: «من علامة المنافق ثلاث» وكذا أخرج الطبراني في الأوسط من حديث أبي سعيد الخدري، وإذا حُمِل اللفظ الأول على هذا لم يَرِد السؤال، فيكون قد أخبر ببعض العلامات في وقت، وببعضها في وقت آخر.

تعقَّبه العيني بقوله: قلت: لا فرق بين الخصلة والعلامة؛ لأن كلا منهما يستدل به على الشيء وكيف ينفي هذا القائل الملازمة الظاهرة؟ يعني بين الخصلة والعلامة، وقوله: على أن في رواية مسلم إلى آخره ليس بجواب طائل بل المعارضة ظاهرة بين الروايتين، تبقى المعارضة بين رواية البخاري وبين رواية مسلم، بل المعارضة ظاهرة بين الروايتين، ودفعها بما ذكرناه، وحمل اللفظ الأول على هذا لا يصح من جهة التركيب فافهم.

وما ذكره الذي أشار إليه ودفعها بما ذكرنا هذا كلام العيني، ما ذكره قبل ذلك جمعًا بين الأحاديث قوله: الأولى أن يقال: إن التخصيص بالعدد لا يدل على الزائد والناقص، ما معنى هذا؟ معناه إلغاء مفهوم العدد، وهذا يرتكبه كثير من الشراح حينما يحصل مثل هذا الاختلاف، في حديث ابن عمر مثلاً: «صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة» حديث أبي هريرة: «بخمس وعشرين» حديث أبي سعيد، قال أهل العلم: العدد لا مفهوم له، وكثيرًا ما يلغون مفاهيم الأعداد، ولا شك أنه إذا عورضت هذه المفاهيم بمنطوقات ألغيت، وإلا فالأصل اعتبار المفهوم، الأعداد كغيرها، فإذا اعترف شخص بمبلغ أو بعدد معين فإن له مفهومًا، يخرج ما فوقه وما دونه، اللهم إلا إذا تعارض هذا المفهوم بمنطوق، فالمنطوق أقوى منه، وحينئذٍ يلغى المفهوم، كما في قوله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ} [سورة التوبة 80] مفهومه أنه لو استغفر واحد وسبعين مرة غفر لهم، لكن هذا المفهوم ملغى؛ لمخالفته للنصوص الكثيرة.

يقول النووي: قوله -عليه الصلاة والسلام-: «آية المنافق» أي علامته، وحصل من الروايتين أن خصال المنافق خمس: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر، ولا منافاة بين الروايتين، فإن الشيء الواحد قد يكون له علامات، كل واحدة منها يحصل بها صفته، ثم قد تكون العلامة شيئًا واحدًا، وقد تكون أشياء.

النووي يقول: العلامات ثلاث، وإن كانت بالتفصيل خمس، يعني مثل ما نقول: كذا على سبيل الإجمال، وكذا على سبيل التفصيل، الوارثون من الرجال على سبيل الإجمال، وعلى سبيل التفصيل، الوارثات من النساء على سبيل الإجمال كذا، وعلى سبيل التفصيل كذا، وهنا هذا ما يريد أن يقرره النووي -رحمه الله-؛ لأن بعض هذه العلامات وهذه الصفات وهذه الخلال تتداخل، يمكن تداخلها.

وفي إرشاد الساري يقول القسطلاني: تحصَّل من الحديثين خمس خصال، الثلاث السابقة في الأول والغدر في المعاهدة، والفجور في الخصومة، فهي متغايرة باعتبار تغاير الأوصاف واللوازم، ووجه الحصر فيها أن إظهار خلاف ما في الباطن: إما في الماليَّات وهو ما إذا اؤتمن خان، وإما في غيرها وهذا إما أن يكون في حالة الكُدُوْرَة فهو إذا خاصم، وإما في حال الصفاء فهو إما مؤكَّد باليمين فهو إذا عاهد، أو لا فهو إما بالنظر إلى المستقبل فهو إذا وعد، وإما بالنظر إلى الحال فهو إذا حدَّث.

المقدم: يحتاج إلى شرح هذا الكلام يا شيخ.

القسطلاني يريد أن يبيِّن هذا الحصر فيقول: تحصَّل من الحديثين خمس خصال، الثلاث السابقة في حديث أبي هريرة، الثلاث: «إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» خمس، هذه ثلاث يزاد على ذلك.

المقدم: «إذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر».

نعم، من الحديث الثاني حديث عبد الله بن عمرو.

المقدم: يكون المجموع خمس.

نعم، يقول: تحصَّل من الحديثين خمس خصال الثلاث السابقة في الأول، والغدر في المعاهدة، والفجور في الخصومة، يعني في الحديث الثاني، فهي متغايرة باعتبار تغاير الأوصاف واللوازم، يعني وإلا فيمكن تداخلها كما أشرنا إليه في كلام النووي.

يقول: وجه الحصر في هذه الخمس، ما وجه الحصر في هذه الخمس؟ لماذا لا تكون عشر؟ وللمنافقين أوصاف كثيرة، جاءت في سورة التوبة؛ لماذا حُصِرَت العلامات في هذه الخمس؟ لماذا لا تكون عشر أو عشرين أو أكثر؟

يقول: وجه الحصر فيها أن إظهار خلاف ما في الباطن الذي هو حقيقة النفاق، أصل النفاق إظهار خلاف ما في الباطن كما سبق بيانه واشتقاقه في الحديث السابق، يقول: هذا الإظهار لخلاف ما في الباطن، إما في الماليَّات وهو في أي خصلة؟ فيما إذا اؤتمن خان، يعني في الماليَّات، وسيأتي أن خيانة الأمانة أعم من أن تكون في الماليَّات، وإما في غيرها، انتهينا من الماليات، في غيرها، هذا يحتاج إلى تفصيل أيضًا، وإما في غيرها يعني في غير الماليَّات، وهو إما في حالة الكُدُوْرَة في حال الخصومة والمنازعة والشقاق، فهو ما إذا خاصم فجر، وإما في حالة الصفاء فهو إما مؤكَّد باليمين، هذا ينقسم إلى قسمين أيضًا، إما مؤكَّد باليمين فهو إذا عاهد، أو لا، غير مؤكد باليمين، وهو أيضًا ينقسم إلى قسمين، فهو إما بالنظر إلى المستقبل، فهو إذا ما وعد أخلف، وإما بالنظر إلى الحال فهو إذا حدَّث كذب، هذه طريقة للحصر عندهم، لحصر الأقسام، لبيان القسمة، وأنها لا تخرج عن هذه الأشياء، فالقسمة خماسية على هذا، لكن هذه الخمسة في الحقيقة ترجع إلى الثلاث؛ لأن الغدر في العهد منطوٍ تحت الخيانة في الأمانة، والفجور في الخصومة داخل تحت الكذب في الحديث، ظاهر هذا.

شرح هذه الخصال، هذه الخصال الخمس، الأولى: إذا حدَّث كذب.

 المقدم: تأذن لنا يا شيخ -أحسن الله إليك- نقل مرتِّب الكتاب أيضًا كلامًا عن الغزالي هل هو مثل الكلام الذي نقلتموه قبل قليل في الحصر، في الخمس هذه؟

وجه الاقتصار على الثلاث هنا أنها منبهة على ما عداها إذ أصل الديانات منحصر في القول والفعل والنية، هذه من جهة أخرى، هذا حصر من جهة أخرى، فنبه على فساد القول بالكذب، وعلى فساد الفعل بالخيانة، وعلى فساد النية بالخُلْف؛ لأن خُلْف الوعد لا يقدح إلا إذا كان العزم عليه مقارنًا للوعد، على ما سيأتي ذكره، فإن وعد ثم عرض له بعده مانع أو بدا له رأي فليس بصورة النفاق هذا ما قاله الغزالي، هذا وجه آخر للحصر.

الخصلة الأولى: «إذا حدَّث كذب» أي إذا تكلم بخبر من الأخبار كذب فيه، فجاء بكلام غير مطابق للواقع؛ لأن الأخبار هي التي تحتمل الصدق والكذب، بخلاف الإنشاء فإنه لا يحتمل الصدق والكذب، فالكذب نقيض الصدق، يقال: كَذَب يكذِب كَذِبًا وكِذْبًا وكَذِبَة وكِذْبَة وكِذَابًا بالتخفيف، وكِذَّابًا بالتشديد.

وفي الاصطلاح: هو الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عمدًا كان أو سهوًا، فلا يشترط تسمية الكلام كَذِبًا كونه صدر من قائله عمدًا، بل مجرد الإخبار على خلاف الواقع يسمى كَذِبًا، بدليل قوله -صلى الله عليه وسلم-: «من كَذَب علَيَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار» ووجه الاستدلال من الحديث حيث قيد الكذب بالتعمد فدل على أن هناك كذبًا آخر إلا أنه لا وعيد فيه وهو الغلط والسهو خلافًا للمعتزلة الذين يرون اشتراط العمدية لتسمية الكلام كذبًا، ولذا يثبتون الواسطة بين الصدق والكذب، وهي كلام ليس بصدق ولا كذب. الكذب من قبائح الذنوب، وفواحش العيوب، ففي الصحيحين من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: «لا يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يُكتَب عند الله كذابًا» وجاء في الحديث: «إن الكذب يهدي إلى الفجور والفجور يهدي إلى النار».

وقال الحسن: كان يقال: إن من النفاق اختلاف السر والعلانية، والقول والعمل، والمدخل والمخرج، وأن الأصل الذي بني عليه النفاق الكذب، قال علي -رضي الله عنه-: أعظم الخطايا عند الله اللسان الكَذُوب، وشر الندامة ندامة يوم القيامة.

وأما نقيضه وهو الصدق فقد قال ابن القيم في مدارج السالكين: ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الصدق، وهي منزلة القوم الأعظم، الذي تنشأ منه جميع منازل السالكين، والطريق الأقوم الذي من لم يسر عليه فهو من المنقطعين الهالكين، وبه تميز أهل النفاق من أهل الإيمان، وسكان الجنان من أهل النيران، وهو سيف الله في أرضه الذي ما وقع على شيء إلا قطعه، ولا واجه باطلاً إلا أرداه وصرعه، من صال به لم تُرَدّ صولته، ومن نطق به علت على الخصوم كلمته، فهو روح الأعمال، ومحك الأحوال، والحامل على اقتحام الأهوال، والباب الذي دخل منه الواصلون إلى حضرة ذي الجلال، وهو أساس بناء الدين، وعمود فسطاط اليقين، وقد أمر الله سبحانه أهل الإيمان أن يكونوا مع الصادقين، وخَصَّ المنعَم عليهم بالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} [سورة التوبة 119] وقال تعالى: {وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ} [سورة النساء 69] فهم الرفيق الأعلى وحَسُن أولئك رفيقًا، ولا يزال الله يمدهم بأنعمه وألطافه، ومزيد إحسانه إحسانًا منه وتوفيقًا، ولهم مرتبة المعيَّة مع الله، فإن الله مع الصادقين، ولهم منزلة القرب منه، إذ درجتهم منه ثاني درجة النبيين.

يعني في قوله تعالى: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ} [سورة النساء 69].

وأخبر تعالى أن من صدقه فهو خير، فقال: {فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ} [سورة محمد 21] وأخبر تعالى عن أهل البر، وأثنى عليهم بأحسن أعمالهم من الإيمان والصدقة والصبر بأنهم أهل الصدق، فقال: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [سورة البقرة 177] وقسَّم الله سبحانه الناس إلى صادق ومنافق، فقال: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ} [سورة الأحزاب 24] والإيمان أساسه الصدق، والنفاق أساسه الكذب فلا يجتمع كذب وإيمان إلا وأحدهما محارب للآخر.

وأخبر سبحانه أنه في يوم القيامة لا ينفع العبد وينجيه من عذابه إلا صدقه، قال تعالى: {هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [سورة المائدة 119] وقال تعالى: {وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [سورة الزمر به 33] فالذي جاء بالصدق هو مَن شأنه الصدق في قوله وعمله وحاله.

ثم ذكر ابن القيم -رحمه الله تعالى- مراتب الصدق، فليراجَع كلامه فإنه نفيس جدًّا إلى أن قال: ومن علامات الصدق طمأنينة القلب، ومن علامات الكذب حصول الرِّيبة، كما في الترمذي مرفوعًا من حديث الحسن بن علي -رضي الله عنهما-: عنهما عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «الصدق طمأنينة والكذب رِيْبة».

وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقًا» إذا عرفنا هذا فأعظم الكذب وأشنعه الكذب على الله -عز وجل-، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ} [سورة الزمر 60] وذلك يشمل الكذب عليه باتخاذ الشريك والولد والصاحبة والإخبار عنه بما لا يليق بجلاله، أو ادعاء النبوة، كل هذا كذب على الله -عز وجل-، أو القول -وهذا مما يغفل عنه كثير من الناس- أو القول في شرعه بما لم يقله، تجد كثير من الناس من طلاب العلم حتى من عامة الناس يتطاول ويقول: هذا حلال وهذا حرام، ولا يدري المسكين أنه داخل دخولاً أوليًّا في هذه الآية.

أو القول في شرعه بما لم يقله، والإخبار عنه بأنه قاله وشرعه، كما قال تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ} [سورة النحل 116] فليحذر الذين يفتون الناس بغير علم فيكونوا سببًا في إضلالهم بعد أن ضلوا، وقد أخبر النبي -عليه الصلاة والسلام- عن وجود أمثال هؤلاء في آخر الزمان عند قبض العلماء فيتخذ الناس حينئذٍ رؤوسًا أو رؤساء، كما في الرواية الأخرى جهالاً، فيُسألون فيفتون بغير علم، فيَضِلُّون ويُضِلُّون -نسأل الله السلامة والعافية-، هذا ما يتعلق بالخصلة الأولى، وأما الخصلة الثانية «إذا وعد أخلف»...

المقدم: لعلنا يا شيخ نرجئ الخصلة الثانية لحلقة قادمة -بإذن الله-، لكن في هذه الخصلة أيضًا لعل لكم بسط في التعامل البسيط عند الناس الذين يعتقدون أنه لا يدخل ضمن هذه الخصلة كالمعاملات اليسيرة بين الناس في أحاديثهم ونكاتهم ونحو ذلك.

نعم، يتساهل كثير من الناس في الكذب، ومثل ما سمعنا شأنه عظيم، فمن ترك الكذب ولو كان مازحًا أجره عند الله -كما جاء في الحديث- عظيم، من تركه ولو كان مازحًا كان له بيت في ربض الجنة، في وسطها، ويتساهل بعض الناس في هذا الباب حتى وقع فيه بعض أهل العلم على خلاف بينهم في مثل المناظرات الوهمية التي لا حقيقة لها، قال فلان كذا وقال فلان كذا، قال علم التفسير كذا، قال علم الحديث كذا، مناظرات بين العلوم، هذه هل لها حقيقة في الواقع؟ هذا كلام لا يطابق الواقع فينطبق عليه حد الكذب، لكن مثل هذا يتساهل فيه أهل العلم للمصلحة الراجحة، ومثله المقامات حدَّث الحارث بن هَمَّام قال، هذا لا محدِّث ولا محدَّث، هذه مقالات وهمية، ومثله غير ذلك من التمثيل وغيره.

على كل حال إذا رجَحت المصلحة لا سيما في باب المناظرات إذا وجد مناظرات بين محق ومبطل لبيان الحق وإزهاق الباطل يُغتفَر مثل هذه المفسدة عند أهل العلم، وأما كلام أهل العلم بالتمثيل وما يجر إليه فهو ظاهر، وفتاوى العلماء في ذلك معلومة.

المقدم: جزاكم الله خيرًا وأحسن إليكم ونفع بعلمكم.

أيها الإخوة والأخوات سوف نستكمل -بإذن الله تعالى- ما تبقى من ألفاظ هذين الحديثين في حلقة قادمة وأنتم على خير.

نلقاكم -بإذن الله تعالى- في حلقة قادمة، نستودعكم الله.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.