شرح لامية شيخ الإسلام (1) - من بداية الكتاب إلى قوله: (لكنما الصديق منهم أفضل)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

ففي هذه الساعة المباركة، من هذا اليوم الطيب المبارك نلتقي بالإخوة من طلاب العلم، ونتدارس موضوعاً من أهم الموضوعات، وفناً من أعظم الفنون، وهو فن الاعتقاد والعقيدة، وإن كان الدين بجميع أبوابه في غاية الأهمية بالنسبة للعالم والمتعلم، فقد ثبت عن النبي -عليه الصلاة والسلام- من حديث معاوية -رضي الله تعالى عنه- أن النبي -عليه الصلاة والسلام- قال: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين)) مفهومه أن الذي لا يتفقه في دين الله -جل وعلا- لم يرد به خيراً، ولكن قد يقول قائل: إن عوام المسلمين وقد فتح لهم ما فتح من أبواب الخير، من لزوم صلاة وزكاة وصوم وحج وفعل للمأمورات وترك للمحذورات، لكنهم لم يتفقهوا في الدين، فهل أراد الله بهم شراً؟ أو نكتفي بقولنا: إن الله -جل وعلا- لم يرد به خيراً؟

ولو افترضنا أن شخصاً من عوام المسلمين ممن لا يقرأ ولا يكتب، لكن الله -جل وعلا- منَّ عليه بالاستقامة، فلزم الصلوات، وأدّى الزكوات، وقد يكون من أهل الأموال الطائلة، وسخّر هذه الأموال لخدمة الدين، وأنفقها في تعليم الناس الخير، هل نقول: إن الله -جل وعلا- أراد بهذا شراً؛ لأنه لم يتفقه في الدين؟ أو نكتفي بقولنا: إن الله -جل وعلا- لم يرد به الخير المرتب على الفقه في الدين؟ ، الله -جل وعلا- وإن لم يرد به خيراً؛ لأنه لم يتفقه في الدين إلا أن الله -جل وعلا- أراد به خيراً حيث ألزمه الاستقامة ((قل آمنت بالله ثم استقم))، {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [(30) سورة فصلت] فهذا استقام بفعل الأوامر، وترك المحذورات والنواهي، وبذل من نفسه وماله وجاهه لنصر الدين ما بذل، هذا أراد الله به خيراً، لكنه من أبواب أخرى، لا من باب الفقه في الدين.

إذا عرفنا هذا فما المراد بالفقه في الدين؟ ، هذه الجملة مركبة من جزئين: الفقه وهو الجزء الأول، والدين وهو الجزء الثاني.

الفقه: يراد به الفهم عن الله وعن رسوله، ما جاء في كتابه وسنة نبيه -عليه الصلاة والسلام-، هذا الفقه، ولا يكون ذلك إلا بعد حفظ هذه النصوص.

والمراد بالدين: الدين بجميع أبوابه، كما جاء في حديث جبريل حينما سأل النبي -عليه الصلاة والسلام- عن الإسلام والإيمان والإحسان، وأجابه بالأجوبة المعروفة في الحديث المستفيض ذكره في دواوين الإسلام، قال النبي -عليه الصلاة والسلام- بعد ذلك: ((هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم)) فدل على أن الدين شامل لجميع أبوابه، فيشمل العقائد، ويشمل الأحكام من العبادات، والمعاملات، والمناكحات، والأحوال الشخصية، والحدود، والجنايات، ويشمل أيضاً المغازي والسير والأدب، ويشمل أيضاً الزهد والرقائق، ويشمل بقية أبواب الدين فجميع أبواب الدين داخلة في هذا الحديث.

وكون الفقهاء الذين يهتمُّون بالأحكام العملية يصدِّرون كتبهم بما يسمى ببراعة الاستهلال-  الحمد لله الذي فقه من شاء في الدين، واختصه بالخير الوارد على لسان خير المرسلين-، الخ، يقولون هذا الكلام، فمفهوم كلامهم أن الحديث الوارد في الترغيب في الفقه في الدين محصور على الأحكام، والأحكام باب من أبواب الدين، وإذا أردنا الحصر فالعقائد أهم وأولى أن تدخل من الأحكام؛ لأنها عند أهل العلم عُرفت بالفقه الأكبر، ويقابلها الفروع، فالأكبر هو الأصول، ولم يكن هذا التقسيم - أعني تقسيم الدين إلى أصول وفروع- معروف في عصر الصحابة والتابعين، وإنما عُرف بعدهم في تقسيم العلوم إلى تخصصات وفروع، عندهم أصول وفروع، وعندهم أيضاً وسائل، وعندهم غايات، فالمراد بالغايات نصوص الوحيين، والوسائل ما يعين على فهم هذه النصوص.

وهناك ما يسمى عندهم بعلوم الآلة التي تعين على فهم الكتاب والسنة، يقسمون هذه التقاسيم، وبالإمكان لو اعتنى بارع بتفسير القرآن، وأدخل فيه جميع العلوم، هذا ممكن، وإذا نظرنا إلى التفاسير المتنوعة المتشعبة المطولة والمختصرة  وجدنا كل واحد منها يخدم جانبا من هذه الجوانب، فتجد هذا يفسر القرآن بالأثر، ويحشد فيه من النصوص المرفوعة والموقوفة والآثار وغيرها ما يحشد،  كتفاسير الأئمة المعروفين كابن جرير وابن كثير والبغوي وابن أبي حاتم وغيرهم، كلها تفسير بالأثر، وهذا أهم ما يفسر به القرآن الأثر، وتجد منهم من يجعل اهتمامه في تفسير القرآن لبيان الأحكام المستنبطة من الآيات، وألِّف في هذا كتبُ أحكام القرآن.

الحنفية ألفوا ومن مؤلفاتهم: أحكام القرآن للجصاص، المالكية ألّفوا أحكام القرآن لابن العربي، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي، الشافعية ألفوا أحكام القرآن لإلكيا الطبري، والإكليل في استنباط التنزيل للسيوطي وغيرهم، فهذا يخدم جانبا، والأول يخدم جانبا، وهناك من يخدم القرآن من الناحية اللفظية، فتجده ينصبُّ جل اهتمامه على الصناعة، صناعة اللفظ، وهنا أيضاً يتشعبون، منهم من يخدمه من ناحية النحو والصرف، ومنهم من يخدمه من ناحية المعاني والبيان وفنون البلاغة، ومنهم من يحشد في تفسيره علم الكلام، ويورد فيه جميع ما كتبه المتكلمون في مسائل الاعتقاد، كالرازي مثلاً، ومنهم من يخدم القرآن بأسلوب أدبي سلس يقرأه الطالب ولا يمله، لكن تجد الفائدة في الجملة منه أقل، ومنهم من يعنى بتناسب الآيات والسور، وفي هذا كتاب برهان الدين البقاعي (نظم الدرر)  يقع في اثنين وعشرين مجلدا، وإن كان الشوكاني -رحمه الله تعالى- أنكر عليه إنكاراً شديداً، بل جزم بأنه لا مناسبة بين الآيات والسور، تنزل الآية فيقول النبي -عليه الصلاة والسلام-: ضعوها في المكان الفلاني فتوضع، وانتهى الإشكال، نعم هناك آيات لا شك أن التماس المناسبة بينها وبين ما قبلها فيه شيء من التكلف، لكن لا ينكر أن كثيرا مما يقوله البقاعي أو غيره ظاهر وواضح،  فلو اجتمعت هذه  الجهود في كتاب واحد فبينت العقائد وبسطت بحيث يستغنى بتفسير القرآن عن كتب العقائد، والأحكام أيضاً،  ويعوَّل في ذلك على ما جاء عن الله وعن رسوله -عليه الصلاة والسلام-، ثم بعد ذلك بيّن في الصناعة اللفظية ما يخدم علم النحو والصرف، والبيان والمعاني والبديع، والاشتقاق والوضع بعد علم القراءات وغيرها، فهذا حسن، لو وجد كتاب يغني عن المجموع، ويمثل لنا حينئذٍ طريقة السلف في فهم القرآن، السلف ما يقولون: هذا كتاب فقه، وهذا كتاب حديث، وهذا كتاب تفسير، لا يتجاوزون العشرة آيات حتى يتعلموا ما فيها من علم وعمل، ابن عمر مكث في سورة البقرة ثمان سنين، و الصبيان عندنا يحفظون سورة البقرة، ويتجاوزونها في أيام.

المقصود أن مثل هذا أعني الانطلاق في العلوم كلها من القرآن الكريم الذي هو أصل الأصول نافع جدًّا، لكن قد يقول قائل: إننا نحتاج في العقائد مثلاً أن ندخل في هذا التفسير مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية بكاملها، فضلاً عن مؤلفات الأئمة المتقدمين فيمكن أن يكون هذا التفسير في مئات من المجلدات، لو أدخلنا منهاج السنة، ودرء التعارض العقل والنقل،  وأدخلنا الجواب الصحيح، وأدخلنا غير ذلك من كتب شيخ الإسلام ابن القيم والإمام أحمد ومن قبلهم، وكتب السنة المعروفة عند أهل العلم في العقائد بالأسانيد تطول المسألة.

أقول: لو اعتنى بارع بتأليف تفسير على هذه الكيفية، وجعل المحور الذي يدور عليه والأصل الذي ينطلق منه هو القرآن، ولم يأت بهذه الكتب بكاملها، وإنما يأتي بمقاصدها وما يحتاجه منها طالب العلم، وهذه الكتب فيها تكرار كثير، يستغنى عن كثير منها ببعضه، هذا يجعل طالب العلم يتحد قصده وهمه إلى كتاب الله -جل وعلا-، ولا تأتي مناسبة فيها حديث عن النبي -عليه الصلاة والسلام- إلا يورده، وأيضاً إذا كان هناك مجال لبيان إعرابي أو بلاغي، أو ما أشبه ذلك يورده، فطالب القرآن يكتفي به عن غيره، وهذا هو الأصل، مثل ما قلنا: لا تجد في عصر السلف كتاب تفسير مستقل، كتاب عقيدة مستقل، كتاب فقه مستقل، ينطلقون من نصوص الوحيين ويفهمونها؛ لأنهم عرب بالسليقة، والكتاب والسنة بلغة العرب، فلا يحتاجون إلى علوم تخدم لفهم الكتاب والسنة، هي مخدومة بالسليقة، لكن أهل العلم صنفوا في الفنون ونوعوها وحددوها تيسيراً على طلاب العلم، لكن مع هذا التيسير قد يحصل شيء من التشتيت، وقد يحصل الغفلة عن أهم المهمات، قد تجد طالب العلم يتخصص تبعاً لهذا التيسير وهذا التقسيم، تجده يتخصص في علم من العلوم، ويغفل عن ما عداه، فالذي يتخصص بالسنة قد يكون من أجهل الناس بكثير مما يتعلق بالقرآن والكريم، والعكس تجد من يتخصص بالتفسير يجهل علوم السنة، ومن يتخصص بالفقه تجد معوله على التعليلات تبعاً لما صنف في هذا الفن، وكثير من استدلالات الفقهاء فيها ما فيها؛ لأنه جرّد الفقه عن الوحيين، لكن من تخصص في الفقه، وجعل معوله على الكتاب والسنة هذا حسن، من تخصص في الأصول وتعمق فيه واستغرق وقته في هذا التخصص تجده يغفل عن المهمات في العلوم الأخرى، وأما من تخصص في اللغة العربية، وأضاع وقته في قراءة كتبها المطولة والمختصرة رغم أهميتها، لا نقول: إن العربية لا يُحتاج إليها، بل طالب العلم بأمس الحاجة إلى علم العربية، لكن هل كل طالب العلم يحتاج أن يقرأ شرح المفصل لابن يعيش في عشرة أجزاء، أو يبحث عن شرح سيبويه، أو يبحث عن كتب النحو المطولات، ليس بحاجة إلى هذا، يكفيه من ذلك البلغة، وكما قال أهل العلم: إن النحو بالنسبة للكلام مثل الملح للطعام، إذا زاد أفسده؛ فضلاً عن كونه تخصص  في التاريخ أو الأدب أو شيء من هذا، ويضيع عمره بذلك، ويغفل بهذا عن المقاصد، فعلى طالب العلم أن يعنى ويتفقه في الدين بجميع أبوابه؛ ليكون ممن أراد الله به خيراً، وتكون عنايته منصبة إلى الكتاب والسنة، وما يخدم علوم الكتاب والسنة.

تقسيم الدين إلى أصول وفروع، إلى فقه أكبر وفقه أصغر، لا شك أنه طارئ، شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- ينكر هذا التقسيم، ورتبوا تبعاً لذلك أهمية علم العقائد، وأن الزلل فيه أعظم من الزلل والخطأ في غيره من العلوم، وإن كان مأخذها واحد، شيخ الإسلام لا يفرق، يقول: يجعلون الصلاة مع أنها الركن الثاني من الإسلام من الفروع، ويجعلون الخلاف في رؤية النبي -عليه الصلاة والسلام- ربه من الأصول، ومقتضى ذلك أن هذه المسألة أهم مما يتعلق بالصلاة، شيخ الإسلام -رحمه الله- ينكر هذا أشد الإنكار، لا شك أن هناك أركانا في الإسلام، وهناك أيضاً واجبات وفرائض، وهناك مستحبات،  وهناك أولويات، فلو تعارضت هذه المطلوبات من قبل الشارع، فالمفاضلة بين هذه الأمور أمر مطلوب فتبدأ بالأهم فالأهم.

طالب:........

شيخ الإسلام -رحمه الله-، يقول: إن العلماء لما جعلوا الدين أصولا وفروعا، وجعلوا الأصول هي الأهم، والفروع أقل أهمية أورد على ذلك مثل هذه المسائل، هل معنى هذا أن الخلاف في رؤية الرب -جل وعلا- باعتبارها من الأصول أهم من الصلاة باعتبارها من الفروع؟ لا أحد يقول بهذا، على كل حال مسائل الاعتقاد الخلاف فيها بين الصحابة نادر جداً، وأكثرها مما اتفق عليه بينهم، وأما مسائل الأحكام العملية فالخلاف فيها كثير بين الصحابة والتابعين، وهذا معروف، وتبعاً لذلك فإن ما اتفق عليه الصحابة سواء كان من الأصول أو من الفروع لا مندوحة لأحد من القول به، وما اختلفوا فيه فلأهل النظر فيه سعة، يعني ما اختلف فيه الصحابة و سلف هذه الأمة سواء كان في مسائل الأصول أو الفروع، المتأهل له أن ينظر ويرجح ما ترجح عنده بالدليل، ويعمل بما يعتقد، ويدين الله به -جل وعلا-.

هذه الأبيات الستة عشر التي تسمى (لامية) لأن أواخر الأبيات تنتهي بحرف اللام، وجدت بين رسائل لشيخ الإسلام ابن تيمية، يعني في المخطوطات، يوجد قبلها رسالة لشيخ الإسلام وبعدها رسالة، وكتب على بعضها (عقيدة ابن تيمية) ولذا قالوا: "اللامية لشيخ الإسلام ابن تيمية" اللامية باعتبار أن حرف الروي فيها اللام، وباعتبار أنها وجدت بين بعض مصنفاته، وإلا فليس فيها ما يدل على أنها لشيخ الإسلام ابن تيمية، ولم تذكر في مؤلفاته، لم يذكرها ابن القيم -رحمه الله تعالى- في ضمن مؤلفات شيخ الإسلام، ولذا يقولون: المنسوبة لشيخ الإسلام ابن تيمية، لكن الكلام الموجود فيها حق، سواء كان لشيخ الإسلام أو لغيره -رحم الله الجميع-، وما دام الكلام حقاً فلطالب العلم أن يعنى بها، فهي منظومة طيبة على اختصارها حوت ما اُتفق عليه من مسائل الاعتقاد، فهي منظومة جيدة، وعلى طالب العلم أن يعنى بها ويحفظها، وينظر في شروحها، ولا أعرف لها شرحاً للمتقدمين.

طالب:........

قدم نسبي، الذي شرحها، بعد الألف وزيادة، أحمد المرداوي؛ لأنه ينقل عن السفّاريني، فهو متأخر، لكنه ليس من المعاصرين، وشرحه هذا طبع قبل أربعين سنة في مطابع النور في الرياض، ثم طبع أخيراً في دار المسلم، وعليه تعليقات للشيخ صالح الفوزان، ثم رأيت شرحاً لمعاصر من طلاب العلم اسمه يوسف السالم

شرحه طيب في الجملة، تصفحت بعض الصفحات الأولى منه، شرح طيب وموسع، يستفيد منه طالب العلم مع شرح المرداوي.

 

 

يقول الناظم -رحمه الله تعالى-:

بسم الله الرحمن الرحيم

افتُتح هذا النظم بالبسملة؛ اقتداء بالقرآن الكريم، لكنه لم يفتتح بالحمدلة، ولعله أجراها مجرى الرسائل، فالرسائل تفتتح بالبسملة فقط، وبعض أهل العلم يرى أن الكتب حكمها حكم الرسائل، لا حكم الخطب التي تفتتح بالحمدلة والصلاة على النبي -عليه الصلاة والسلام-، ولذا صحيح البخاري -رحمه الله تعالى- ليس فيه إلا البسملة، فهو مجرد عن الحمدلة والصلاة على النبي -عليه الصلاة والسلام-؛ لأنه في حكم الرسالة التي بعثها لطلاب العلم، ومن أهل العلم من يفتتح الكتب بالحمدلة؛ اقتداء بالقرآن الذي افتتح بالبسملة والحمدلة.

وأمَّا ما ورد من حديث: ((كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر أجذم)) و((كل أمر ذي بال)) يعني شأن يهتم به شرعاً ((لا يفتتح بالحمد فهو أجذم)) الحديث ضعيف بجميع طرقه وألفاظه، وحسّن ابن صلاح والنووي وجمع من أهل العلم لفظ الحمد فقط، وبعض الكتاب المعاصرين ألّف كتاباً في العقيدة فلما سمع أن الحديث بجميع طرقه وألفاظه ضعيف لم يذكر لا بسملة ولا حمدلة، يقول: لا يجوز العمل بالضعيف مطلقاً، وليته اقتصر على ذلك وسكت، بل افتتح الكتاب بقوله: كانت الكتب التقليدية تفتتح بالبسملة والحمدلة، هذا الكلام غير مستقيم، لو افترضنا أن الحديث لم يثبت، فالنبي -عليه الصلاة والسلام- كان يفتتح الرسائل بالبسملة، ويفتتح الخطب بالحمدلة، والقرآن أعظم مقروء، وأعظم مسموع، مفتتح بالبسملة والحمدلة، ويقول القائل: كانت الكتب التقليدية تفتتح والكتاب في العقيدة!

بعض الناس ذهنه لا يستوعب مثل هذه الأمور، سمع من يقول: إن الحديث الضعيف لا يعمل به مطلقاً، وقال: لماذا نعمل بحديث ضعيف؟ مثل ما سُمع من بعضهم أنه ينهى عن الجلوس بعد صلاة الصبح في المسجد، يقول: لأن الحديث الوارد ضعيف، وإذا رأى أحدا جلس قال له: نريد أن نخرج، أو تجلس حتى تصلي صلاة العجائز، صلاة الإشراق، النبي -عليه الصلاة والسلام- ثبت في صحيح مسلم أنه كان يجلس حتى تنتشر الشمس، أما كون الركعتين بعد طلوع الشمس وانتشارها تصلى عملاً بهذا الحديث، أو تصلى لأنها صلاة الضحى، ولا كلام لأحد في صلاة الضحى؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- أوصى بها أصحابه، وفي حديث: ((يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة))  ثلاث مائة وستون مفصلاً، كل واحد يحتاج إلى صدقة، قال: (( ويجزئ عن ذلك ركعتان تركعهما من الضحى)) إذا كنت لا ترى أن الخبر ثابت، فافترض أن هذه صلاة الضحى،  و قد أثبته بعضهم.

فأقول: بعض الناس إذا سمع مثل هذا الكلام وركب هذا على هذا قال: الحديث ضعيف، والضعيف لا يعمل به مطلقًا إذن لماذا نجلس؟ والملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه، نصوص كثيرة تحث على البقاء في المسجد، والرباط الرباط، الجلوس بين الصلاتين في المسجد، وانتظار الصلاة، والمرء ما دام ينتظر الصلاة فهو في صلاة، والملائكة تدعو له، وتصلي عليه ما دام في مصلاه، ثم يأتي من يقول مثل هذا الكلام! المقصود أن البداءة بالبسملة أمر مشروع في كل شيء، في الأكل والشرب، في الدخول والخروج، في النوم، في كل مجال يبدأ فيه بالبسملة، ولو لم يكن من ذلك إلا أن القرآن كلام الله افتتح بالبسملة.

وأما الحمدلة فأهل العلم يختلفون بالنسبة للكتب هل تجرى مجرى الرسائل فلا تفتتح بالحمدلة، أو تجرى مجرى الخطب فتفتتح بها، أما من جعل لكتابه خطبة كمسلم مثلاً هذه الخطبة تفتتح بالحمدلة، فمسلم  افتتح خطبة كتابه بالحمدلة، والبخاري مجرد من الخطبة افتتحه بالبسملة؛ لأنه في حكم الرسالة، وهنا افتتحت هذه الأبيات بالبسملة.

يقول الناظم -رحمه الله تعالى-:

يا سائلي عن مذهبي وعقيدتي

 

رزق الهدى من للهداية يسأل

"يا سائلي عن مذهبي وعقيدتي" يا نداء، والمنادى هو السائل، فهل المقصود حقيقة النداء، أو يقال: إنه لمجرد التنبيه؟ لأن شيخ  الإسلام -رحمه الله تعالى-  أحيانًا  يُسأل، والسائل حاضر يمكن مناداته، وأحياناً يسأل والسائل غائب لا يمكن مناداته، وفي الرسالة الكيلانية التي كتبها شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- في مائتي صفحة، قال: "كتبتها وصاحبها مستوفز يريدها" فهو جالس عندهم، ليس متربعا، أو مضطجعا ينتظرها، مستوفز، وشيخ الإسلام يكتب، والإنسان إذا أراد أن يحرر صفحة الآن يحتاج إلى وقت، بل قد يعرضها في الأوقات الخمسة، يكتبها بعد صلاة الصبح، ثم يراجعها بعد الظهر، ثم لعله يتبين له شيء، وشيخ الإسلام يكتب الكتاب في الساعة الواحدة ما يحتاج الناس إلى قراءته في مدة طويلة، وكتب (الحموية) بين الظهر والعصر، والناس يدرسونها في سنة كاملة وما تنتهي، وكتابه (نقض التأسيس) كتبه في مدة يسيرة وحقق في ثمان رسائل، يعني في مدة أربعين سنة؛ لأن كل واحد من هؤلاء الطلاب استغرق في نصيبه خمس سنوات، فالكتاب حقق في أربعين سنة، والله المستعان.

بركة الوقت والعلم والقلم السيال عند شيخ الإسلام شيء لا يخطر على بال، فكونه إن كان حاضراً لا مانع من أن يناديه، فيقول: يا سائلي هذا جوابك، وإن كان غائباً فلا يراد به حقيقة النداء.

والإخوان يقولون: إن المتن ما قرئ.

القارئ أين هو؟

تفضل.

بسم الله.

والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن ولاه.

اللهم اغفر لنا ولشيخنا وللحاضرين والمستمعين يا رب العالمين.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- ونفعنا الله بعلمه وبعلم شيخنا :

يا سائلي عن مذهبي وعقيدتي
اسمع كلام محقق في قوله
حب الصحابة كلهم لي مذهب
ولكلهم قدر علا وفضائل
   

 

رزق الهدى من للهداية يسأل
لا ينثني عنه ولا يتبدل
ومودة القربى بها أتوسل
لكنما الصديق منهم أفضل

يقول الناظم -رحمه الله تعالى- سواء كان شيخ الإسلام إن صحت النسبة إليه أو غيره من أهل التحقيق في المعتقد، يقول:

"يا سائلي" والسؤال من قبل المتعلم مأمور به في قوله -جل وعلا-، {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [(43) سورة النحل] والجواب من العالم مطلوب، والكتمان مع القدرة على الجواب لا يجوز، لا سيما إلا تعين؛ فالسائل المتعلم سواء كان عامياً أو في حكمه من آحاد المتعلمين مأمور به، فالله -جل وعلا- يقول: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْر}  والمراد بأهل الذكر هم أهل القرآن وأهل العلم، وليس المراد بهم كما يقول بعض المتصوفة الجهال الذين لا علم عندهم يقولون: المراد بأهل الذكر هم من يلزم الذكر ولو لم يكن عنده علم، ثم ما هذا الذكر الذي يلزمونه؟ أذكار مبتدعة مخترعة لا توجد في كتاب ولا سنة، ويريدون أن ينزلوا الآية عليهم، فاسألوا أهل هذه الأذكار الذين هم أشبه بالدراويش لا يدرون ما يقولون، ولكن المراد بالذكر القرآن، وأهل القرآن هم أهل العلم.

"يا سائلي" هذا بالنسبة للسائل لا بد أن يسأل ما يشكل عليه، يحتاج إلى الإيضاح والبيان، يسأل أهل العلم وأهل الذكر، والمسئول أيضاً إذا تعين عليه الجواب لا يجوز له أن يتردد في الجواب، نعم إذا وجد من يكفيه المئونة، ويجيب على أسئلة السائلين فتدافع الفتوى معروف ومأثور عن السلف، أما إذا تعين عليه الجواب بحيث لا يوجد من يحسن الجواب على هذا السؤال سواه لا يجوز له أن يكتم ((من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار)) وهذا الخبر لا يسلم من مقال، لكن له أصل بلا شك، منهم من يحسنه، فإذا تعين لا بد من الجواب، أما إذا وجد من يكفيه المئونة فالصحابة تدافعوا الجواب، وقد جاء في كتاب المناسك في صحيح مسلم أن رجلا سأل ابن عمر -رضي الله تعالى وأرضاه- فدله على ابن عباس، قال: اذهب إلى ابن عباس، فقال له: أنا أريد جوابك؛ لأن ابن عباس قد مالت به الدنيا ومال بها، يعني أنه توسع في المباحات بخلاف ابن عمر، فزهده معروف، والعامة يحسنون الظن بالعالم الزاهد كثيراً، وهو محل إحسان الظن إذا كان لديه علم، أما العالم الذي عنده تعلق بالدنيا فإن العامة ينصرفون عنه في الغالب، وإن كان عنده علم.

ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما وأرضاه- توسع في أمور الدنيا أكثر من ابن عمر، وإلا فعلمه وزهده وورعه وتقواه وعبادته لا تحتاج إلى استدلال، لكنه بالنسبة لعبد الله بن عمر الذي لا ينام من الليل إلا قليلاً، ولا يكاد يفطر من الأيام إلا قليلاً، فالفرق بينهما واضح، فهذا همه -يعني ابن عمر- الآخرة، لما قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: ((كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل)) فكان عبد الله يقول كما في الصحيح: "إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح" مثل هذا العوام يثقون به بخلاف من توسع بالدنيا ولو عرف بالعلم، ولا شك أن الزهد مطلوب، و الجن والإنس عموما إنما خلقوا لتحقيق العبودية لله -جل وعلا-، ومع ذلك على الإنسان أن لا ينسى نصيبه من الدنيا، وبون شاسع بين أن يكون جل همه الدنيا، وبين أن يكون همه الآخرة.

ووجد في العصور المتأخرة ممن ينتسب إلى العلم من يزاحم في أمور الدنيا، وليس من ذلكم ابن عباس -رضي الله عنهما وأرضاه - وإن قيل؛ لأن المسألة نسبية، يعني إذا نسبنا ابن عباس إلى ابن عمر قلنا: العبادة عند ابن عمر أوضح، والاهتمام بالعلم عند ابن عباس أوضح، وكلاهما في عبادة، لكن العوام ينظرون إلى العبادات العملية، ما ينظرون إلى العبادات العلمية.

فقال: ابن عباس مالت به الدنيا ومال بها، ولذا تجدون العامة الآن يحرصون على أن يستفتوا هذا النوع من الناس، وإن كان في العلم أقل؛ لأن ما في قلوب الناس وأذهانهم من العلوم أمور لا يطلع عليها العامة، إنما يظهر لهم عباداتهم العملية فيثقون بهم، ويتجهون إلى سؤالهم، ولذا ينبغي أو مما يتأكد في حق طالب العلم الاهتمام بالعمل، ولا يكون الهدف من أجل أن يتجه إليه العوام بالأسئلة نظراً لما مهدناه أبداً؛ لأن العمل مطلوب، والعلم يقتضي العمل، وعلم بلا عمل كشجر بلا ثمر، لا بد من الاهتمام بالعمل بالنسبة لطالب العلم؛ لأن الذي يثبت العلم هو العمل، والكلام في النوافل، وليس الكلام في الواجبات؛ لأن الواجبات ما عليها مساومة، لكن الكلام في الإكثار من النوافل، وخير ما يعين على تحصيل العلم العمل به، ولا يقول طالب العلم: أنا والله أنا مشغول بالطلب، مشغول بالحفظ، مشغول بالفهم، مشغول بالتردد على الدروس، وعلى المشايخ عن العمل،  العمل أمر لا بد منه، فالإكثار من النوافل مطلوب من المسلمين عموماً، وعلى أهل العلم وطلابه على وجه الخصوص.

"يا سائلي" والسائل اسم فاعل مضاف إلى ياء المتكلم "عن مذهبي وعقيدتي" المذهب في الغالب يطلق على المذهب الفرعي، فيقال: هذا مذهب أبي حنيفة، وهذا مذهب مالك، وهذا مذهب الشافعي، وهذا مذهب أحمد، وهذا مذهب سفيان، وهذا مذهب الأوزاعي، وهذا مذهب الظاهرية، وهذا مذهب الزيدية... إلى آخره، في الغالب يطلق على الفروع، ويدل عليه العطف، عطف العقيدة على المذهب "يا سائلي عن مذهبي وعقيدتي" فالمذهب في الفروع، والعقيدة في الأصول، هذا هو الذي يعنيه ظاهر اللفظ، لكن حقيقة النظم هل أجاب الناظم عن مذهبه الفرعي؟ لا، ما أجاب عن مذهبه الفرعي، وإنما أجاب عن عقيدته؛ فالمذهب هنا ما يُذهب إليه في مسائل الاعتقاد، ويقال به، ويصار إليه، ويكون عطف العقيدة على المذهب من باب عطف الشيء على نفسه؛ لاختلاف اللفظ، ومذهبه الفرعي في أول الأمر المذهب الحنبلي؛ -وهذا الكلام كله على سبيل التنزل- وهو أن هذه المنظومة لشيخ الإسلام، وإلا فنسبتها إليه لا يدل عليها دليل قطعي، إنما هي مجرد قرائن، وجودها بين رسالتين لشيخ الإسلام، والمخطوطات التي وجدت لهذه المنظومة قبلها رسالة لشيخ الإسلام، وبعدها رسالة لشيخ الإسلام، فهي وجدت من بين مؤلفاته فنسبت إليه، وعلى كل حال الكلام الذي فيها حق.

إذا قلنا: إنها لشيخ الإسلام فمذهبه الفرعي هو مذهب الإمام أحمد في الأصل، وتفقه عليه، وتخرج على كتب أصحابه، ثم بعد ذلك اجتهد وخلع ربقة التقليد، فصار يعمل بالنصوص بالكتاب والسنة، ولذا تجد الفرق بين شرحه للعمدة وبين كلامه وفتاواه المتأخرة، فبينهما فرق كبير، فحينما تقرأ في شرح العمدة لشيخ الإسلام كأنك تقرأ لفقهاء الحنابلة من بيان الروايات والوجوه والتعليلات، كأنك تقرأ للمتقدم، وأما مؤلفاته المتأخرة تجد كلاماً مستقلاً.

واختيارات شيخ الإسلام الفقهية قسمت إلى أقسام: منها ما يوافق المذهب، ومنها ما يوافق رواية في المذهب ويوافق إماما آخر من الأئمة الأربعة، ويخالف المشهور في المذهب، ومنها ما يخالف المذهب بالكلية، ويوافق مذهب من المذاهب الأخرى، ومنها ما يخالف فيه المذاهب الأربعة، وهذا كثير في كلامه -رحمه الله-، ومنها ما نسب فيه إلى شيخ الإسلام أنه خالف الإجماع، فاختياراته مقسمة  إلى هذه الأقسام، منها ما يستقل به ويوافق فيه بعض السلف، ويخالف فيه الأئمة الأربعة، وهذا امتحن بسببه، وقيل: إنه خالف فيه الإجماع، ومنها ما يوافق فيه إماما من الأئمة الأربعة، ومنها ما يوافق فيه أكثر من إمام ويخالف المذهب، ومنها ما يوافق فيه رواية في المذهب ليست هي المشهورة، ومنها ما يوافق المشهور في المذهب، وعمدته ومعوله –رحمه الله- على النص كما هو معروف، تفقه على كتب المذهب، وكتب الأصحاب، ثم بعد ذلك اطلع على المذاهب الأخرى ونظر في أدلتهم، ووازن بين هذه الأدلة ورجح واختار ما اختار، ووافق من وافق، وخالف من خالف، وهذه طريقة ينبغي أن يسلكها طلاب العلم، وذكرناها في مناسبات كثيرة، كيف يتفقه طالب العلم؟ هل يتفقه مباشرة من الكتاب والسنة وهو مبتدئ ؟ لا يستطيع، تكليفه بمثل هذا تضييع له، بل يتفقه على مذهب معين، وعلى كتاب معين من كتب أي مذهب من المذاهب الأربعة المعتبرة، وليس معنى هذا أنه يجعل هذا الكتاب دستوراً لا يحاد عنه مثل القرآن، هذا من مؤلفات البشر، يبدأ بهذا المختصر، ويتصور المسائل، إن حفظه بها ونعمت، وإن لم يحفظ يتصور هذه المسائل ويصورها، وينظر في شروح هذا الكتاب، وينظر في أدلة هذه المسائل، فهذه في العرضة الأولى، في العرضة الثانية ينظر من وافق المؤلف ومن خالفه، وينظر في أدلة الموافقين إن كان عندهم مزيد من الأدلة على ما عنده، وينظر في أدلة المخالفين، ويرجح حسب قواعد التعارض والترجيح عند أهل العلم، ثم يعمل بالراجح، إذا انتهى من هذا الكتاب في عرضته الأولى يكون عنده شيء من الفقه يعمل به، يعينه على هذا المذهب، وهو لا يزال مبتدئا مقلدا، في العرضة الثانية والثالثة يبدأ بالاجتهاد، والأمر سهل ليس من الصعوبة كما يتصوره كثير من طلاب العلم.

هذا ما يتعلق بمذهبه الفرعي، وقد ولد في أسرة حنبلية، فجده المجد ابن تيمية -رحمه الله - صاحب المحرر، وهو من العُمَد في المذهب بحيث إذا اتفق مع الموفق فهو المذهب عند المتوسطين، وأبوه أيضاً حنبلي وأخوه، وهكذا أسرته كلهم حنابلة، فتفقه على مذهب الحنابلة، ثم بعد ذلك اجتهد.

"عن مذهبي وعقيدتي" عرفنا أن عطف العقيدة على المذهب من خلال النظر في طبيعة هذه المنظومة، وأنه ليس فيها أحكام فرعية أن العقيدة هي المذهب، وهي مأخوذة من العقد والشد، وهي ما يعتقده الإنسان بقلبه فيعقد عليه قلبه كما يُعقد المتاع بالحبل بحيث لا يتفلت ولا يضيع منه شيء فيضبطه ويعتقده بحزم وعزم وجد

"عن مذهبي وعقيدتي *** رزق الهدى" يدعو الناظم -رحمه الله تعالى - لمن يسأل عن الهداية.

................................

 

رزق الهدى من للهداية يسأل

هذا لفظه لفظ الخبر، والمراد منه الدعاء، أن الله -جل وعلا- يرزقه الهدى، والدعاء يأتي بلفظ الأمر، ويأتي بلفظ الخبر، كما أنه يأتي بلفظ النهي، يأتي بلفظ الخبر كما تقول: غفر الله لك، رحمك الله، رضي الله عنه، "رزق الهدى" ويأتي الدعاء بلفظ الأمر: اللهم اغفر لي، اللهم ارحمني، ويأتي بلفظ النهي: اللهم لا تؤاخذني، لا تعذبني... إلى آخره، فإذا جاء الدعاء بلفظ الخبر جاز اقترانه بالمشيئة، وإذا جاء بلفظ الأمر لم يجز اقترانه بالمشيئة، لا يقول أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، لكن جاء عنه -عليه الصلاة والسلام-: ((طهور إن شاء الله))  يعني بلفظ الخبر، وجاء: ((ذهب الظمأ وثبت الأجر إن شاء الله)) دعاء بلفظ الخبر.

"رزق الهدى" الذي هو لزوم الصراط المستقيم والاستقامة على دين الله -جل وعلا-.

"من للهداية يسأل" لأنه مأمور بالسؤال، فإذا امتثل هذا الأمر وسأل أهل العلم عمَّا يشكل عليه فإنه حينئذٍ يوفق للاستقامة، إذا سأل سؤال مسترشد طالب للحق لا متعنت، لا متعالم مظهر لعلمه؛ لأن بعض الناس يسأل وعنده الجواب، إما لأنه يريد إعنات المسئول، أو يريد إظهار ما عنده من علم، فمثل هذا لا يرزق الهدى في الغالب، ولا يرزق التوفيق ولا يوفق للعلم، أما من سأل سؤال طالب للهدى، وطالب لمعرفة الحق، فإن هذا يوفق؛ لأنه يمتثل ما أُمر به، ولذا جاء النهي عن الأغلوطات والأسئلة المحرجة التي تبين إما فضل السائل أو عجز المسئول، فمثل هذا منهي عنه، أما من يسأل للاستفادة فهذا مطلوب.

وفي عهده -عليه الصلاة والسلام- جاء النهي عن السؤال: ((ذروني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم)) فكثرة الأسئلة لا شك أنها توقع في عنت، لا سيما في وقت التنزيل؛ لأنه قد يسأل عن شيء مباح ثم يحرّم بسببه، أو يسأل عن شيء لا حكم له في الشرع إنما تستصحب فيه البراءة الأصلية ثم ينزل إيجابه، فلما سأل السائل عن الحج أكل عام يا رسول الله؟ سكت النبي -عليه الصلاة والسلام-، ثم قال: ((ذروني ما تركتكم)) لأنه لو قال: نعم لوجبت، ولو وجبت لما استطاعوا فهلكوا، فالذي يسأل إن كان يريد الحق ليعمل به، فهذا لا شك أنه يوفق ويثاب على ذلك، وإن كان يريد إعنات المسئول، أو إظهار ما عنده من علم فمثل هذا يُحرم بركة العلم والعمل.

قد يسأل الشخص للاختبار، يسأل للامتحان، وهذا من وسائل التعليم، يسأل عن شيء يعرفه لا يريد بذلك إعنات المسئول، ولا إظهار علم السائل، وإنما يريد امتحان المسئول لينظر ما عنده من علم، والامتحان معروف عند أهل العلم، واختبار الإمام البخاري بقلب مائة حديث عليه في القصة المشهورة معروف، والمعلم يمتحن طلابه، وقد يلقي الدرس على طريق السؤال والجواب، وهذه طريقة ناجحة، طريقة التعليم على هيئة سؤال وجواب، والأصل فيها حديث جبريل -عليه السلام- لما سأل النبي -عليه الصلاة والسلام- الأسئلة الثلاثة المعروفة؛ لأن بعض الناس يقول: إن هذه الطريقة جاءتنا من وسائل التربية الحديثة الوافدة علينا، التعليم بطريقة الحوار والسؤال والجواب هذه يقول: طريقة مستحدثة اكتسبناها من المربين، سواء كانوا من المسلمين أو من غيرهم، نقول: لا ، هذه طريقة شرعية.

...................................

 

رزق الهدى من للهداية يسأل

الذي يسأل للدلالة على الحق فقط؛ هذا يرزق الهدى فيهديه الله -جل وعلا - إلى صراطه المستقيم، ويلزمه هذا الصراط والاستقامة على الدين.

اسمع كلام محقق في قوله

 

...................................

(اسمع) أمر بالسمع، وهل المقصود السمع أو الاستماع؟ يعني هل المقصود اسمع وإلا استمع؟ المقصود الاستماع، المراد هنا الاستماع، أما مجرد السمع فلا يكفي، والفرق بينهما أن السماع قد يكون عن غير قصد، فلا يستفيد السامع، وأما الاستماع المقصود للإفادة هذا هو الذي يفيد السامع، ولذا يقول أهل العلم: يسجد المستمع دون السامع، وقل مثل هذا بعكس هذا: يأثم المستمع دون السامع، كيف؟ إذا كان الكلام يعني بالمقابل فيه إثم، أغاني مثلاً أو موسيقى أو كلام بذيء أو فاحش الذي يستمع له يأثم، لكن الذي يسمعه وهو مار في الطريق دون قصد لايأثم ، دائماً تسمعون بعض الناس في سيارته يشغل آلته على الأغاني مثلاً، أنت ليس بيدك شيء، فلا تستطيع أن تمنعه، فأنت تسمع ولا تستمع، لكن إن استمعت، وأعجبك وأطربك أثمت، لكن مجرد السماع لا يضرك -إن شاء الله تعالى - لا سيما مع الإنكار القلبي إن لم يتيسر الإنكار بالقول.

إذا كان الشخص في مجلس وفيه شيء محرم إما غناء أو غيبة، أو ما أشبه ذلك وهو جالس، يقول: أنا لا أستمع له، أنا في معزل عنه، أنا أنشغل بقراءة كتاب معي، وهم في شأنهم، فهذا لا  يكفي، لا بد أن تنكر، إن زال المنكر وإلا عليك أن تغادر المكان.

"اسمع كلام محقق" الكلام عند النحويين اللفظ المركب المفيـــد بالوضع، اللفظ: أي الملفوظ به، المركب من كلمتين فأكثر، المفيد فائدة يحسن السكوت عليها، بالوضع العربي، أو بالقصد على خلاف بينهم، وهو عند الفقهاء ما تركب من حرفين، ولو لم يفد عند الفقهاء يبطل الصلاة؛ لأنه كلام ولا يلزم أن يكون من كلمتين فأكثر كما يقول النحاة، وعلى كل حال الكلام له معاني كثيرة، لكن منها ما ذكرنا.

"اسمع كلام محقق" محقق متثبت معتمد على أصلٍ من كتابٍ أو سنةٍ، هذا هو التحقيق، فإذا قيل: فلان محقق معناه أنه يتثبت فيما يقول وفيما يكتب، ومعوَّله وعمدته على الكتاب والسنة.

قد يقول قائل: هذه دعوى، ما الذي يشهد لها؟ نقول: يشهد لها واقع المنظومة ففيها تحقيق عقيدة السلف الصالح، ووصف عالم من العلماء بأنه المحقق، قال: فلان، قال: شيخنا الإمام المحقق، وأحياناً يقال: والتحقيق كذا، وصف العالم بالتحقيق لا شك أنها تحكي وجهة نظر الواصف، فقد تكون وجهة هذه النظر صحيحة لكون الموصوف ممن يعتمد على الكتاب والسنة، وقد تكون دعوى، وأحياناً إذا رُجِّح قول من قبل بعض أهل العلم، يقول: اختاره كثير من المحققين، يريد أن يرجح هذا القول لأنه راجح عنده،  هذا مجرد دعم لكلامه ولما يُرجّحه، ولا شك أن هذا الوصف إنما يحكي وجهة نظر المتكلم، وقد يكون محققًا من وجهة نظره؛ لأنه يوافقه في مذهبه الأصلي أو الفرعي، فتجد الأشعري يصف الرازي بأنه محقق مثلاً، وتجد الحنفي يصف إماما من أئمة الحنفية بأنه محقق، وتجد المالكي يصف فلانا بأنه محقق، هذه كلها من وجهة نظر المتكلم، لكن هل تثبت هذه الدعوى عند التمحيص أو لا تثبت؟ هذا محل النظر، وكثير من الكتَّاب يدعمون أقوالهم بمثل هذا الكلام، وهي لا تؤثر على القارئ؛ لأن القارئ إن كان من أهل النظر فما يؤديه إليه اجتهاده هو التحقيق عنده، وافق قول هذا المحقق أو لم يوافقه، وعلى كل حال من يتثبت في أقواله وأفعاله محقق، من يعول على نصوص الوحيين محقق، أما من يخالف الكتاب والسنة مهما بلغ من المنزلة عند أتباعه فليس بمحقق.

اسمع كلام محقق في قوله

 

...................................

"في قوله" في المسائل العلمية، فيما يقوله، فيما يلفظ به، وفيما يكتبه، وفيما يعمل به، فالقول يطلق على ما هو أعم من اللفظ، فيطلق على اللفظ فيما إذا كان الكلام بالقول باللسان، ويطلق على الكتابة، كما أنه يطلق على الإشارة، ويطلق أيضاً على الفعل "فقال بيديه هكذا" فالقول أعم من أن يكون ملفوظاً به.

اسمع كلام محقق في قوله

 

لا ينثني عنه ولا يتبدل

لا شك أن القول المبني على الكتاب والسنة يكتسب صفة الثبوت واللزوم وعدم التبدل والتبديل من ثبوت نصوص الكتاب والسنة "لا ينثني عنه" هذا يعتمد على الكتاب والسنة، والنصوص ثابتة، إذاً ما أخذ منها فهو ثابت، لا سيما في هذا الباب، باب الاعتقاد الذي اتفق عليه سلف هذه الأمة، هذا لا يحصل له تغيير ولا تبديل ولا تزعزع بإذن الله، اللهم إلا إذا كان الإنسان غير راسخ في هذا الباب، ويعرِّض نفسه للشبهات، فمثل هذا قد يطرأ عليه التغير والتبدل.

أما من رسخ في علمه، واطلع على نصوص الكتاب والسنة، وما اتفق عليه سلف هذه الأمة، فإنه لا يتزعزع ولا يتبدل ولا ينثني عن ذلك، وقلنا: إن بعض طلاب العلم حصل عندهم شيءٌ من الانثناء والتبدل، وذلكم لعدم رسوخهم في هذا الباب، وأيضاً لاستماعهم إلى الشبه، وفتح قلوبهم لها، فليحذر الإنسان كل الحذر أن تميل به الأهواء، ويسمع من فلان وفلان غير الثقات من أهل العلم، والآن المجال مفتوح لاستماع كل ما يقال، وكل وجهة نظر، والشبه الآن غزت بيوت عوام المسلمين، ونسمع أسئلة من عوام لا يقرؤون ولا يكتبون في أصول العقائد، وسبب ذلك كون الإنسان يستمع لكل ناعق.

والناظم يقول:

...................................

 

لا ينثني عنه ولا يتبدل

لأنه رسخت قدمه في هذا الباب، واستمع إلى الشبه وفندها؛ ولذا يقال لطالب العلم: لا تستمع لهذه الشبه، وأنت ما عندك حصانة من رسوخ قدم في العلم، لا تستمع لهذه الشبهة، فضلاً على أن تكون عامياً أو في حكم العامي، وإذا تأهل لاستماع هذه الشبه، وتفنيد هذه الشبهة لا شك أن الرد على هذه الشبه باب من أعظم أبواب الجهاد.

وقد انبرى شيخُ الإسلامِ -رحمه الله تعالى - إلى شبه المبتدعة وفندها، الرازي يورد في تفسيره شبها لمبتدعة أعظم منه بدعة، أما بدعه التي يصوغها بأساليب بحيث تغزو القلوب هذا واضح، لكن كونه يورد شبها ويسميها "شبهة" ويحاول الإجابة عنها ، فعند إيراده للشبه تجده يجليها ويوضحها بحيث يجعلها مثل الشمس، ثم يرد عليها بردٍ ضعيف، فإذا التصقت وتمكنت من قلب القارئ ما وجد لها منازعا؛ ولذا يحذر من قراءة تفسيره إلا لعالم متمكن راسخ لكي يرَد عليه.

يقول بعض أهل العلم: إنه يورد الشبه نقدا، ويرد عليها نسيئة، وكتابه مشحون بهذه الشبه، وتفسير الزمخشري فيه أيضًا من البدع والشبه ما لا يستطيع رده كثير من أهل العلم فضلاً عن طلاب العلم، ووجد من أهل العلم -ولله الحمد - من يبين هذه الشبه وهذه البدع وتتبعوها بالمناقيش كما قالوا.

قال -رحمه الله - بعد ذلك:

حب الصحابة كلهم لي مذهب

 

ومودة القربى بها أتوسل

حب الصحابة -رضوان الله عليهم - الذين نصر الله بهم الدين، وحملوه وبلغوه إلى من بعدهم، "كلهم" بدون استثناء ما دام ثبتت الصحبة يجب حبهم، وحبهم إيمان، وبغضهم نفاق، حب الصحابة إذا كان ثبت في الحديث أنه ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) أخوه  من آحاد المسلمين، لا يؤمن حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه؛ فماذا عن من لهم المنة والفضل بعد الله -جل وعلا- ورسوله -عليه الصلاة والسلام- في تبليغنا الدين؟! افترض أن أبا هريرة مثلاً ما وُجد، وقد روي عن طريقه نصف الدين، ماذا يكون وضعك؟ وماذا يكون حالك؟ وماذا يكون الحال بعد الصحابة لو لم يوجد مثل هذا الذي حمل لنا الدين؟ وقل مثل ذلك في بقية الصحابة -رضوان الله عليهم - الذين بلغونا هذا الدين، فهل يبقى لنا دين لو لم يوجد هذا الجيل الذي تحمل الأمانة وبلغها امتثالاً لقوله -عليه الصلاة والسلام-: ((بلغوا عني ولو آية))؟! ((ليبلغ الشاهد منكم الغائب)) لو لم يكن من الفضل إلا هذا، كونهم نصروا الدين ونصروا النبي -عليه الصلاة والسلام-، وفدوه بأرواحهم ومهجهم، وبلغوا الدين إلى شرق الأرض وغربها، وافتتحوا به الأقطار والأقاليم والأمصار، وانتشر الدين على أيديهم، إذًا حبهم مثل حب الإنسان العادي أو أكثر؟ لا أحد يقول: إن حب أبي هريرة مثل زيد من الناس أبداً، إلا إنسانا لا يقيم لهذا الدين رأسا، والنبي -عليه الصلاة والسلام - دعا لأبي هريرة أن يحب الخلق ويحبه الخلق، فصار محبوباً لدى الجميع؛ ولذا لا يبغضه إلا منافق، وتجد الحملات والقدح في أبي هريرة أكثر من غيره؛ لأنه ليس المقصود ذات أبي هريرة، المقصود الدين والعلم الذي يحمله أبو هريرة، وإلاَّ لماذا أبو هريرة على وجه الخصوص دون غيره؟ لأن القدح في أبي هريرة قدح في مروياته، والقدح في أكثر من خمسة آلاف حديث بسبب شخص واحد أيسر من القدح في مائة راوي يروون خمسة آلاف حديث، لذا لا تجدون من يقدح في المقلين من الصحابة، أبيض بن حمال ما وجد من المستشرقين من  يقدح فيه؛لأنه يروي حديثا واحدا، تحتاج إلى سنين من أجل أن تقدح بمقدار ما تقدح به من السنة إذا قدحت في أبي هريرة؛ فكون حملاتهم -أعني المستشرقين والمبتدعة- مسعورة على أبي هريرة على وجه الخصوص، لا لأنه أبو هريرة؛ بل لما يحمله من العلم والدين الذي بلغنا بواسطته، هذا هو السبب الذي يجعل أبا هريرة موضعا لسهام الأعداء.

يقول: "حب الصحابة" الصحابة جمع صحابي، والصَحْبُ جمع صاحب، كركب جمع راكب.

حبهم "كلهم" يعني بدون استثناء، والمراد بالصحابي: من رأى النبي -عليه الصلاة والسلام - مؤمناً به ومات على ذلك، مات على الإيمان، مؤمنًا ليخرج بذلك المنافق الذي رأى النبي -عليه الصلاة والسلام-، وهو لا يؤمن به، والمراد بالإيمان الإيمان القلبي، وإلا الدعوة المجردة باللسان لا تنفع ولا تفيد؛ ولذا صار حكم المنافقين في الدرك الأسفل من النار -نسأل الله السلامة والعافية-، ولو شهدوا أن لا إله إلا الله مع الناس، ولو صلوا مع الناس، ولو حضروا مجالس النبي -عليه الصلاة والسلام-.

حب الصحابة كلهم لي مذهب

 

...................................

 قدم الناظم الصحابة من باب الاعتراف بحقهم وفضلهم، وقلنا: بأننا لو تصورنا إن الصحابة ما وجدوا، أو ما وجد منهم من يحمل هذا العلم والدين كيف يكون حال مَن بعدهم؟ إذا كانت الأمة بِأَمَسِّ الحاجة إلى العلم وإلى أهل العلم في أواخر عصورها، فكيف بمن كان الواسطة بين الأمة وبين نبيها -عليه الصلاة والسلام-؟، تصور نفسك في بلد ليس فيه من تستفتيه إذا أشكل عليك شيء في دينك؟

ذكر الآجرّي في أخلاق العلماء مثالاً يمثل به الحاجة الماسة إلى أهل العلم، قال: إن العلماء بمثابة المصابيح، فإذا تصورت أن قوماً في ليلة مظلمة في وادٍ موحش كله أشجار وهوام وسباع وحيات، والليلة شديدة الظلمة، والناس يمشون على غير هدى، ولا يدرون هل يذهبون يمينا أو شمالا، ثم جاءهم من بيده مصباح وتقدمهم وتبعوه هل له فضل عليهم أو ليس له فضل عليهم؟ له فضل كبير عليهم؛ مع أنه لو حصل لهم أسوأ الاحتمالات بأن أكلتهم الوحوش ماذا خسروا؟ خسروا الدنيا، والعالم الذي يأخذ بأيديهم إلى صراط الله المستقيم بعد أن كانوا يتيهون في مفازات الضلال، فقدانه لا شك أنه يفوت عليهم الدين، فأولئك تفوتهم الدنيا، وهؤلاء يفوتهم الدين؛ فالحاجة إلى أهل العلم أشد من الحاجة إلى صاحب المصباح، هذا في العصور المتأخرة، وقد يوجد غيره من أهل العلم ممَّن يقوم ببعض الشيء، فكيف إذا كان المفقود شخصا هو الواسطة بيننا وبين نبينا -عليه الصلاة والسلام- كأبي هريرة مثلاً؟ كيف يصل إلينا الدين عن طريق غيرهم؟ من هذه الحيثية جاءت محبتهم، ولذا قال -رحمه الله تعالى-:

حب الصحابة كلهم لي مذهب

 

...................................

وانتدب طوائف من المبتدعة لعداء الصحابة وبغضهم وشتمهم وسبهم، بل وصلوا إلى تكفير خيارهم -نسأل الله السلامة والعافية-، فبدلاً من أن يُحبَوا يذموا ويبغضوا ويشتموا ويسبوا، الآن أنت كفرت أبا هريرة فمن أين يصل إليك خمسة آلاف وثلاثمائة وسبعين حديثا؟ إذا حرمت من الصراط المستقيم مالت بك الأهواء إلى الطرق المؤدية إلى الجحيم -نسأل الله السلامة والعافية-.

فانتدبوا إلى ذمهم وسبهم وتكفيرهم، والذي يغلب على الظن أن المراد بذلك كله -وإن أظهروا ما أظهروا - القدح في الدين نفسه؛ ولذا الإمام مالك -رحمه الله تعالى- في آخر آية من سورة الفتح: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ} إلى أن قال: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [(29) سورة الفتح] فالذي يغيظه صحابة محمد -صلى الله عليه وسلم- فمذهب الإمام مالك   تكفيره؛ استدلالاً بهذه الآية.

وشيخ الإسلام استدل بقوله -جل وعلا-: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ...} [(10) سورة الحشر] بعد أن ذكر المهاجرين والأنصار قال: {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} أن هذا الذي لا يترضى عن المهاجرين والأنصار ليس له نصيب في الخُمس؛ فالأمر خطير، فعلى الإنسان أن يتولى الصحابة، وأن يترضى عنهم، ويعرف لهم منازلهم وأقدارهم ومراتبهم، فأفضلهم على الإطلاق أبو بكر، وهو خير هذه الأمة بعد نبيها -عليه الصلاة والسلام-، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي -رضي الله تعالى عن الجميع-، ثم بقية العشرة:

سعيد وسعد وابن عوف وطلحة

 

وعامر فهر والزبير الممدحُ

هؤلاء العشرة هم أفضل الصحابة، ثم بعد ذلك أهل بدر، وأهل الحديبية، والمهاجرون الأولون السابقون لهم فضل وسابقة، ثم بقية الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين-.

ومن الصحابة الذين ذكرناهم أزواجه -عليه الصلاة والسلام-، يدخلن في صحابته كما أنهن يدخلن في أهله وآله -عليه الصلاة والسلام-.

وأفضل الصحابة على الإطلاق أبو بكر وعمر ثم عثمان ثم علي، ثم بقية العشرة، ابن حزم له رأي في المسألة يقول: إن زوجات النبي -عليه الصلاة والسلام - أفضل من أبي بكر وعمر، دليله: أنهن -رضوان الله عليهن- معه في المنزلة في الجنة، يعني منزلة أبي بكر دون منزلة النبي -عليه الصلاة والسلام- في الجنة، وأزواجه -عليه الصلاة والسلام- معه في المنزلة، فدل على أنهن أفضل من أبي بكر وعمر فضلاً عن بقية العشرة، فضلاً عن بقية الصحابة، الاستدلال صحيح أو غير صحيح؟

طالب:........

نعم، غير صحيح، لماذا؟

طالب:.......

نعم؟

طالب:........

والشهداء والصالحين، أنا أقول: استدلاله صحيح وإلا غير صحيح؟ نقول: غير صحيح، لماذا؟

طالب:........

نعم؟

طالب:.......

إذاً يلزم عليه تفضيلهن على سائر الأنبياء.

طالب:.......

نعم؟

طالب:........

نعم والولدان وغيرهم، نعم؟

طالب:........

أنت؟

طالب:........

أنا الآن أناقش حجته، يقول: هن فوق أبي بكر وعمر في المنزلة في الجنة فهن خير، أفضل، أقول: يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً.

لو نظرنا إلى حياتنا العادية، نعم، تجد شخصا ثريا متنعما في دنياه موسع على نفسه، وشخص دونه في المنزلة، شخص عنده مائة مليون، وشخص عنده خمسين مليون، أو عشرة ملايين، هذا متنعم بنعيم يليق بنعيم الدنيا ومتوسع، فتجد الخادم عند هذا المتنعم أفضل حالاً من كثير من الأثرياء، تجد السائق مثلاً، أو الخادم يسكن في ملحق عند هذا الثري، هذا الملحق خير من بيوت كثير من الأغنياء، هل نقول: إن هذا الخادم أفضل من هؤلاء الأغنياء؟ يتنعم بأفخم المساكن والسيارات والملابس والمطاعم والمشارب، وما أشبه ذلك من متع الدنيا، وهو خادم عند هذا الثري، دونه في الثراء طبقة ثانية يتنعمون لكنهم أقل، فهذا الخادم هل نقول: إنه أفضل من هؤلاء الأغنياء؟ ما يقول هذا عاقل أبداً؛ لأنه ما وصل إلى هذه المنزلة بذاته، إنما وصلها بغيره، ألا تلاحظون أن ملاحق بعض الناس أفضل من بيوت كثير من الناس موجود، ويوجد شخص بنى قصور فيها ملاحق كلفت الملايين، بل عشرات الملايين، فقيل له لما رآها بعض الناس: هذا مكانه غير لائق، لو نقلته إلى هناك، ففوراً هدمها ونقلها إلى مكان آخر.

فالسائق أو الخادم عند هذا الشخص هل نقول: هذا أفضل من بقية الأغنياء الذين هم دون منزلة هذا؟ لا، الشيء الذي يثبت للإنسان على طريق التبعية لا يحكم له به على جهة الاستقلال

طالب:.......

من لازم مثل هذا الكلام أن زوجة العالم الأفضل فوق العالم الذي هو أدنى منه؛ لأنها معه في المنزلة، {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ – يعني في نفس المنزلة - وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ} [(21) سورة الطور] المقصود أن هذا قول مردود مرذول لا يلتفت إليه.

حب الصحابة كلهم لي مذهب

 

ومودة القربى بها أتوسل

{قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [(23) سورة الشورى] والمودة: خالص المحبة، والمراد بذوي القربى آله -عليه الصلاة والسلام-، ويدخل فيهم دخولاً أولياً ذريته وأزواجه فهم ذوو القربى {لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} [(33) سورة الأحزاب] والمراد بذلك في هذا السياق نساء النبي -عليه الصلاة والسلام-، فنساؤه من أهل بيته بالنص، فلا مجال لمحبة الآل وإخراج النساء، يعني من التناقض أن يدعي مدعي أنه يوالي أهل البيت، ويبغض بعض نساء النبي -عليه الصلاة والسلام-، اللائي دخلوهن في أهل البيت دخول أولي، والقربى كما تطلق على القرابة من حيث النسب، تطلق أيضاً بالنسبة للقرابة الحسية، فأزواجه -عليه الصلاة والسلام- أقرب الناس إليه لمعاشرته إياهم، واختلاطه بهم.

فـ"مودة القربى بها أتوسل" والناظم -رحمه الله وتعالى - جمع بين الصحب والآل الذين هم ذوي القربى للرد على طائفتين من طوائف المبتدعة؛ فالشطر الأول رد على الروافض الذين يبغضون الصحابة ويكفرونهم، والشطر الثاني رد على النواصب الذين ينصبون العداء لأهل البيت.

يقول: "بها أتوسل" التوسل: التقرب إلى الله -جل وعلا-، فنحن نتقرب إلى الله -جل وعلا - بحب الصحابة ومودة ذي القربى، فلا بد من الجمع بين الأمرين.

والتوسل: منه الممنوع ومنه المشروع، فالتوسل بذواتهم ممنوع، والتوسل بمحبتهم مشروع؛ لأنه دين وقربة إلى الله -جل وعلا - والتقرب إلى الله -جل وعلا- والتوسل إليه بالعبادة بعبادة الإنسان، ومنها محبة الصحابة ومودة ذوي القربى مشروعة؛ ولذا في حديث أصحاب الغار الثلاثة توسلوا بأعمالهم الصالحة، وسيق الخبر مساق المدح؛ فالتوسل بالأعمال الصالحة مشروع بخلاف التوسل بالذوات فهو ممنوع.

جمع الناظم بين الصحب والآل، وهذا يقودنا إلى شيء، وهو أن الإنسان إذا صلى على النبي -عليه الصلاة والسلام- امتثالاً لقول الله -جل وعلا-: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [(56) سورة الأحزاب] إن اقتصر على ذلك امتثل الأمر، إذا قال: صلى الله عليه وسلم امتثل الأمر، لكن إن عطف عليه فينبغي أن يعطف عليه الصحب والآل، فيقول: وعلى آله وصحبه، وبهذا يتم رده على الطوائف المبتدعة، لا أولئك الذين يبغضون الصحابة، ولا الطرف الثاني الذين يبغضون وينصبون العداء لآل البيت، فإذا عطف على النبي -عليه الصلاة والسلام- فليعطف عليه الآل لما لهم من حق؛ ولأنهم وصية النبي -عليه الصلاة والسلام-، وللصحب لما لهم علينا من فضل بتبليغ الدين وإيصاله إلينا كما أنزل.

بعضهم يقول: إننا نقتصر على الآل؛ لأنهم هم المأمور بهم، وهم الواردون في الصلاة الإبراهيمية في التشهد ((اللهم صل على محمد وعلى آل محمد)) وانتصر لهذا الصنعاني والشوكاني وصديق حسن خان، وبسبب ذلك طعنوا في أئمة الإسلام، الذين يقتصرون بالصلاة على النبي -عليه الصلاة والسلام-.

في الصحيح: "عرفنا كيف نسلم عليك فكيف نصلي عليك إذا صلينا في صلاتنا؟ قال: ((قولوا: اللهم صل على محمد وآل محمد)) فالصلاة على الآل مأمور بها، وأئمة الإسلام قاطبة في كتبهم إذا مر ذكره -عليه الصلاة والسلام- قالوا: صلى الله عليه وسلم، وقالوا: إن هؤلاء العلماء الذين لا يصلون على الآل امتثالاً لهذا الحديث في كتبهم، هؤلاء كلهم يدارون الولاة، يعني داهنوا الولاة، فحذفوا ما أوجب الله عليهم مداهنة للولاة، والولاة في عهد الأئمة من الآل من بني العباس ، ليسوا من بني أمية ولا من غيرهم، وكيف يظن بالأئمة المداهنة وقد نذروا أنفسهم وقدموها خدمة لدينهم، وفدوا دينهم، وفدوا نبيهم بأنفسهم؟! كيف يقال: إنهم داهنوا الولاة وداروهم وحذفوا الصلاة على الآل مداهنة للولاة؟! وهذا لا شك أن هذا طعن في كثير من أئمة الإسلام.

والصلاة الإبراهيمية فرد من أفراد الصلاة المأمور بها في قوله تعالى: {صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [(56) سورة الأحزاب] وهو فرد في موضع خاص "إذا صلينا عليك في صلاتنا" فتصلي الصلاة الإبراهيمية، وتقتصر على الآل، ولا يجوز أن تعطف الصحب عليهم، كما أنه لا يجوز لك أن تقول: اللهم صل على سيدنا، وهو سيد ولد آدم ولا فخر؛ لأن هذه ألفاظ متعبد بها لا تجوز الزيادة عليها، ولا النقص منها، أما إذا صليت خارج الصلاة فالامتثال يتم بقولك: صلى الله عليه وسلم؛ امتثالا للآية، وامتثالاً للنصوص الواردة عنه -عليه الصلاة والسلام- في الصلاة عليه، أما إذا عطفت عليه فلتعطف من له حق عليك، وإذا كان ذوي القربى والآل لهم حق عظيم علينا، وهم وصية النبي -عليه الصلاة والسلام- فالصحب أيضاً لهم شأن عظيم في تبليغنا الدين، ولهم حق علينا، إذ لولاهم ما وصلنا هذا الدين كما أنزل.

يقول:

ولكلهم قدرٌ علا وفضائل

 

...................................

"ولكلهم" يعني لجميع الصحابة، ولجميع ذوي الآل، والمقصود بذوي الآل الذين هم على الجادة، الصحابة كلهم على الجادة من غير استثناء، كلهم عدول، ونطق القرآن والسنة بعدالتهم، لكن ممن ينتسب إليه -صلى الله عليه وسلم- ممن تأخرت به الحياة، يعني من الأئمة من الآل علي -رضي الله تعالى عنه- إمام هدى، خليفة راشد، الحسن والحسين، زين العابدين علي بن الحسين من أئمة الهدى، محمد بن علي الباقر ثقة من ثقات المسلمين، ومخرج له في دواوين الإسلام، فهو ثقة، جعفر بن محمد أيضاً مخرج له في الصحاح، لكن جاء بعدهم ممن ينتسب إلى الآل من خالف سنة الرسول -عليه الصلاة والسلام-، فما نقول: هؤلاء كلهم على الحق، لا شك أن منهم من هو على الجادة، وله قدر، وله فضل، وله حق علينا، أما من حاد عنها فالرجال إنما يعرفون بالحق، والحق لا يعرف بالرجال كما هو مقرر عند أهل العلم.

"ولكلهم قدر" منزلة عالية رفيعة "قدر علا وفضائل" في بعض النسخ: "ولكلهم قدر وفضل ساطع" وهنا: "علا وفضائل" لهم فضائل، ولهم مناقب مدونة في كتب التراجم المبسوطة، ومن خير ما ألف، وأفضل ما ألف في مناقب العشرة (الرياض النضرة) للمحب الطبري، وليس لابن جرير محمد بن جرير المفسر المعروف، كما قال بعضهم، هو المحب الطبري صاحب: (القِرَىْ لقاصد أم القرى) وله كتب أخرى.

"علا وفضائل" والنسخة الأخرى: "وفضل ساطع"، نعم لهم فضائل، ولهم مناقب تحفظ لهم.

...................................

 

لكنما الصديق منهم أفضل

"لكنما الصديق" لكن هذا حرف الاستدراك المعروف الذي ينصب ما بعده من كأن، لكنها مكفوفة بـ(ما) لكنما (ما) هذه كافة، ولكنما مكفوفة، ولذا جاء الصديق مرفوعاً ليس بمنصوبٍ.

 

...................................

 

لكنما الصديق منهم أفضل

يعني من الصحابة، من جلتهم، بل هو أجلهم على الإطلاق، أفضل منهم دون منازع،

 

والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

"