تعليق على البلبل في أصول الفقه (17)

نعم.

بسم الله الرحمن الرحيم.

قال –رحمه الله -: "في باب الحرام: ثم الواحد بالجنس أو النوع يجوز أن يكون موردًا للأمر والنهي باعتبار أنواعه وأشخاصه، كالأمر بالزكاة، وصلاة الضحى مثلاً، والنهي عن الصلاة في وقت النهي.

أما الواحد بالشخص، فيمتنع كونه موردًا لهما، من جهة".

قد تقدم الكلام فيه، وأنه مع اتحاد الجهة يمتنع، ومع انفكاك الجهة لا يمتنع.

صلاة الضحى مثلاً في وقت الضحى الجهة واحدة، لكن لو قال: أنا أصلي الضحى مع طلوع الشمس، نقول: لا، انفكت الجهة، النهي عن الصلاة في وقت النهي جهة واحدة أم أكثر من جهة؟

طالب: من جهتين.

لا، عند علماء المذهب جهة واحدة؛ لأنه ما تصلى.

طالب: ما تصلى.

ما تصلى، جهة واحدة النهي ولو معارض له عندهم، لا معارض للنهي عندهم؛ لأن المعارض عام، وهذا خاص، والخاص يقضي على العام، بخلاف القول الآخر.

القول الآخر: أنه جاء بذوات الأسباب، صار لا معارض له من النهي، والصحيح أن المعارض موجود سواءٌ قلنا بهذا أو بذاك؛ لأن كون الصلاة مأمورًا بها «إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يُصلي ركعتين»، والنهي عن الصلاة في أوقات النهي هذه يتناولها الأمر والنهي معًا، فهي منهيٌّ عنها باعتبار، ومأمورٌ بها باعتبار.

وتقدم الكلام في فوات الأسباب وفعلها في أوقات النهي مرارًا.

"الواحد بالشخص، فيمتنع كونه موردًا لهما، من جهة" نستطيع أن نقول: إن صلاة المغرب في وقتها بشروطها وأركانها وواجباتها يُمكن أن يُنهى عنها؟ لا، إذا كانت من جهة واحدة استوفت الشروط والأركان، وانتفت الموانع، فهي مأمورٌ بها فقط، لكن إذا وُجِد مانع يُنهى عنها من هذه الحيثية من هذه الجهة، فكونها في دارٍ مغصوبة، كونها في ثوب حرير، كونه عليه عمامة حرير، كونه في يده خاتم ذهب، كونه صلى من غير طهارة وما أشبه ذلك، إذا انفكت الجهة يمكن أن يكون مأمورًا بها منهيًّا عنها، والكلام هنا في الدار المغصوبة مثال لانفكاك الجهة بأن يكون الشيء مأمورًا به من جهة، ومنهيًّا عنه من جهةٍ أخرى.    

"أما من جهتين، كالصلاة في الدار المغصوبة، فلا تصح في أشهر القولين لنا، خلافًا للأكثرين".

يعني من صحح الصلاة في الدار المغصوبة قال: الصلاة مستوفية للشروط والأركان، البقعة طهارة، الثوب طاهر، صلاة إلى القبلة فهي صحيحة، ولم يُذكر في شروط الصلاة البقعة؛ لأنه إذا عاد النهي إلى ذات المنهي عنه أو إلى شرطه بطل، لكن إذا عاد إليه من الخارج فإن الصلاة حينئذٍ تكون صحيحة مع التحريم؛ لأنه لو صلى وبيده خاتم ذهب فصلاته صحيحة مع التحريم، صلى عليه عمامة حرير صلاته صحيحة مع التحريم، صلى وعليه سترة حرير فصلاته أيش؟ باطلة؛ لأن النهي عاد على الشرط، السترة شرط، البقعة هل هي شرط أو ليست بشرط؟ من نظر إلى أن طهارة البقعة شرط في صحة الصلاة لم يُصحح الصلاة في الدار المغصوبة؛ لأن في حكم الطهارة الإباحة عمومًا، فالبقعة لا شك أنها تُلاحظ بالنسبة للصلاة، فاشتراطها مطلوب، وكذلك إباحتها، فالبقعة شرطٌ في الجملة.

مأخذ الخلاف "وقيل: يسقط الفرض عندها لا بها" الأكثر صحّحوا الصلاة في الدار المغصوبة، قالوا: النهي لا يعود إلى الشرط ولا إلى ذات الصلاة، الصلاة صحيحة مع التحريم، إذا كان صلى شخص وهو عاق لوالديه فصلاته صحيحة وعليه إثم العقوق.      

"وقيل: يسقط الفرض عندها لا بها" ما معنى هذا الكلام؟ يعني أن فعلها سببٌ لسقوط الفرض، فعله لهذه الصلاة سببٌ لسقوط الفرض، وهذا الفعل مُحرَّم، فلا يسقط به، وإنما يسقط عنده، لماذا؟ لأن القائل- والمتصور أنه أشعري- تأثير الأسباب عنده ليس بحقيقي لا تأثير حقيقي للأسباب، فالأصم يمكن أن يسمع عندهم؛ لأن السمع سبب للسماع وليس بمؤثر، الأعمى يُمكن أن يرى، ونصوا في كتبهم في مواضع كثيرة أن أعمى الصين يجوز أن يرى بقة الأندلس، وهو في الصين في أقصى المشرق يرى صغار البعوض في أقصى المغرب.

الري يحصل عند الشرب لا به، الشِّبع يحصل عند الأكل لا به، الأكل سبب، لكن السبب ليس بمؤثر فيحصل الشِّبع عنده لا بالأكل، وإنما عند الأكل، وهذا كلام في غاية الضعف، وهنا يقولون: الفرد صلى الظهر في دارٍ مغصوبة يسقط الفرض، لماذا يسقط؟ يسقط عند هذه الصلاة لا بها.     

"ومأخذ الخلاف أن النظر إلى هذه الصلاة المعينة أو إلى جنس الصلاة".

"ومأخذ الخلاف أن النظر إلى هذه الصلاة المعينة" صلاة بشروطها وأركانها وواجباتها، فهي صحيحة، هذه الصلاة المعينة في هذه البقعة، يعني يتصور أن يكون الشخص بفعلٍ واحد مأجورًا وآثمًا بنفس الفعل؟ الذين لم يصححوها نظروا إلى أن هذه الصلاة ترتب عليه إثم؛ لأن بقاءه ومُكثه في الدار المغصوبة مُستلزمٌ للإثم، فكيف نقول: إنه مأجور وآثم في آنٍ واحد؟ بالنظر إلى هذه الصلاة من صححها نظر على جنس الصلاة، كيف الصلاة وماذا فيها، شخص مكلف مأمور بأداء الصلاة في وقتها بأركانها وشروطها وواجباتها فصلاته صحيحة، كونه آثمًا آثم من جهةٍ أخرى كما لو صلى في بيته صلاته صحيحة ومُسقطة للطلب؛ لكنه آثم بترك الجماعة، فهذه الصلاة يترتب عليها الأجر والثواب، ويترتب عليها أيضًا العقاب من جهةٍ أخرى، لا من الجهة نفسها.

طالب:......

في سترة الحرير؛ لأنه ستر عورته بسترة حرير، فصلاته باطلة؛ لأن النهي عاد إلى الشرط، شرط الصلاة.

طالب:......

ماذا؟

طالب:......

المهم أن الإباحة والطهارة معًا، مثله الصلاة في الدار المغصوبة؛ لأنه مثل ما يتجه النهي إلى الصلاة في البقعة النجسة يتجه النهي إلى الصلاة في البقعة المغصوبة؛ لأنه فرق بين النجس والحدث، فرق بينهما، يعني النجس بالنسبة للصلاة منهيٌّ عنه، بلا شك، كما أن النجاسة المعنوية كالغصب مثلاً يختلف عن رفع الحدث؛ ولذا الإباحة شرط، إباحة السترة شرط، الماء المغصوب، توضأ بماءٍ مغصوب وضوؤه صحيح أو ليس بصحيح؟ بخلاف ما لو توضأ بآنية ذهب، الماء ما فيه إشكال، لكن الآنية ليست بشرط.

طالب:......

ماذا فيه؟

طالب:......

كمل كمل الكلام طويل، حتى في المذهب أكثر من رواية.

طالب:......

الحرير؟

طالب:......

عندهم إذا عاد النهي إلى الشرط هذا الشرط وعاد إليه نهي، شرطٌ عاد إليه نهي، فعلى القاعدة تكون باطلة.

"النافي: ماهية الصلاة مركبة".

"النافي" للصحة.

"ماهية الصلاة مركبة من الحركات والسكنات المنهي عنها، والمركب من المنهي عنه منهيٌّ عنه، فهذه الصلاة منهيٌّ عنها، والمنهي عنه لا يكون طاعةً، ولا مأمورًا به، وإلا اجتمع النقيضان".

يقول: هذا الذي يتصرف في مال الغير بغير إذنه ظالم، والظلم حرام «إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا».

هذا الذي يتصرف في هذه البقعة حرام، ركوعه وسجوده حرام؛ لأنه تصرف في هذه البقعة، فهو منهيٌّ عنه، فكيف نقول: إن هذا الركوع، وهذا السجود مأمورٌ به وهو في الوقت نفسه منهيٌّ عنه، هذا مأخذ من قال بنفي الصحة.

"المثبت: لا مانع إلا اتحاد المتعلقين إجماعًا".

إذا اتحد المتعلقان امتنع مثل ما نظَّرنا سابقًا إذا دخل شخص قصير القامة طويل العمر، حينئذٍ يمكن أن نقول: جاء الطويل القصير، هل يقول أحد: كلامكم ليس بصحيح؟ هو من جهة طويل العمر مائة سنة، لكن قامته قصيرة، فهو طويلٌ قصير، لكن لو جاءنا قصير القامة وعمره عشر سنوات نستطيع أن نقول: جاء الطويل القصير أو عشرين سنة؟ لا، الجهة متحدة، فحينئذٍ لا يُتصور أن يُخبر عنه بالأمرين المتضادين.

وعند علماء الحديث –مثل ما ذكرنا سابقًا- منعوا أن يُقال: هذا مقطوعٌ متصل، المقطوع ما يُضاف إلى التابعي كما هو معروف، المتصل ما اتصل إسناده من أوله إلى آخره، فللتنافر اللفظي ما يُقال: هذا مقطوع متصل؛ لوجود التنافر اللفظي وإلا فالجهة مُنفكة، لكنهم يتحاشون التنافر اللفظي. 

"ولا اتحاد، إذ الصلاة من حيث هي صلاة مأمورٌ بها، والغصب من حيث هو غصبٌ منهيٌّ عنه، وكلٌّ منهما معقولٌ بدون الآخر، وجمع المكلف لهما لا يخرجهما عن حكمهما منفردين.

وأيضًا طاعة العبد وعصيانه، بخياطة ثوبٍ أمر بخياطته، في مكانٍ نُهي عن دخوله، يدل عليه، ولو مرق سهمه من كافرٍ إلى مسلمٍ فقتله، ضمن قصاصًا أو ديةً، واستحق سَلب الكافر".

هذا الذي يُصحّح الصلاة في الدار المغصوبة، يقول: الجهة منفكة ولا اتحاد بينهما.

يقول: "والغصب من حيث هو غصبٌ منهيٌّ عنه" معروف متصور من غير الصلاة، والصلاة من حيث هي مأمور بها مأجورٌ عليها، مُثابٌ عليها، متصورة من غير غصب، فالجهة منفكة.

"وكلٌّ منهما معقولٌ بدون الآخر، وجمع المكلف لهما لا يخرجهما عن حكمهما منفردين" يعني لو جاء بقلمين وربطهما معًا أحدهما مغصوب والثاني اشتراه من حر ماله، كونه يجمع بينهما لا يُخرجهما عن كونهما منفردين، كل واحد منفرد، لكن لو جاء بقلمين أحدهما مُشترى، والثاني مغصوب، فمزجهما معًا بحيث لا يمكن إفراد أحدهما عن الآخر، فأخذ غطاء هذا المغصوب ووضعه على المباح، والغطاء هذا مغصوب وتركه مع المباح، ووضع المباح على المغصوب وقال: هذا قلم، هو مشترٍ للاثنين، مشترٍ قلمًا وغاصبٍ قلمًا، ولونهما واحد، كلاهما أسود، فجاء أخذ الغطاء الأسفل هذا المغصوب مع الثاني وركبه مع المباح، وأخذ من المباح مثلهما فركبهم على المغصوب، ما يُمكن أن يقول: أنا اشتريت واحدًا، وهو هذا، نقول: لا، هذا اتحدت الجهة، لكن لو جاء بهما معًا مربوطين لا يمنع من الانفكاك، وهذا على حدا، وهذا على حدا.

يقول: "طاعة العبد وعصيانه، بخياطة ثوبٍ أمر بخياطته، في مكانٍ نُهي عن دخوله، يدل عليه" امتثل الأمر وارتكب المحظور.

"ولو مرق سهمه من كافرٍ إلى مسلمٍ" صوَّب السهم إلى كافر، فقتله وأصاب قلبه، ونفذ إلى مسلمٍ خلفه، فإنه يستحق سلب الكافر، ويدفع دية المسلم.

وأُجيب من قِبل مَن؟ مَن لا يُصحح الصلاة في الدار المغصوبة، ماذا قالوا؟

"وأُجيب عن الكل، بأن مع النظر إلى عين هذه الصلاة، لا جهتين، بخلاف ما ذكرتم، ثم يلزم عليه صوم يوم النحر بالجهتين، ولا فرق".

يلزم عليه أيضًا لو جاء لواحد جالس في المسجد لما بزغت الشمس قام يُصلي ركعتين، قال: أنا مأمور «أعني على نفسك بكثرة السجود» وهذا منه، أنا مأمور أن أصلي، وهذا تطوع كونه في وقت نهي هذا إثم وهذا أجر، نقول: صحيح أو ليس بصحيح؟ ليس بصحيح.

"ثم إن الإخلال بشرط العبادة مُبطِل، ونية التقرب بالصلاة شرط، والتقرب بالمعصية محال، والمختار صحة الصلاة، نظرًا إلى جنسها، لا إلى عين محل النزاع".

"ثم إن الإخلال بشرط العبادة مُبطِل" نعم إذا عاد النهي إلى الشرط بطلت الصلاة، بخلاف ما إذا عاد إلى أمرٍ خارج عن ماهية المنهي عنه وشرطه، هذا المقرر عند أكثر العلماء، نية التقرب بالصلاة شرط، والنية منهيٌّ عنها، لكن هل المنهي عنه نية أداء هذه الصلاة أو المنهي عنه أداء هذه الصلاة في هذه الأرض؟ إذًا النية لا أثر لها، النية لا علاقة لها بهذا.

ولذا قال: "والمختار صحة الصلاة، نظرًا إلى جنسها، لا إلى عين محل النزاع" فأنت نظرت إلى جنس الصلاة، جنس الصلاة مأمور بها، وهي مؤداةٌ بتمام شرائطها وأركانها وواجباتها، فلا أثر لهذا الأمر الخارج لا إلى عين محل النزاع من غير نظر إلى عين محل النزاع الذي هو الدار المغصوبة.

"تنبيه: مصحِّحو هذه الصلاة قالوا: النهي، إما راجعٌ إلى ذات المنهي عنه، فيُضاد وجوبه".

"إلى ذات المنهي عنه" صيام يوم العيد مثلاً، السجود لصنم هذا عائد إلى ذات المنهي عنه.

"نحو {لا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء:32]، أو إلى خارجٍ عن ذاته، نحو{أَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:43] مع «لا تلبسوا الحرير» فلا يضاده، فيصح الجمع بينهما، ولكل حكمه، أو إلى وصف المنهي عنه فقط، نحو{أَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة:43] مع {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء:43] و«دعي الصلاة أيام أقرائك».

 وكالنهي عن الصلاة في الأماكن والأوقات المنهي عنها، وكإحلال البيع مع المنع من الربا فهو باطلٌ عندنا، وهو قول الشافعي".

باطل لا يمكن تصحيحه، العقد باطل لا يمكن تصحيحه.

"وعند أبي حنيفة: هو فاسدٌ غير باطل، إعمالاً لدليلي الجواز والمنع".

نعم باعتباره عقدًا يمكن تصحيحه بحذف الزائد فهو يمكن، فهو فاسد، والفاسد غير باطل، فلا يلزم رد العين المبيعة على البائع، ولا الثمن على المشتري، وإنما يُصحّح الزيادة تُرد إلى المشتري.

لنا: أن المنهي عنه، ليس هذه الصفة، بل الموصوف بها".

بل البيع نفسه هو المنهي عنه، فعاد النهي إلى ذات المنهي عنه، وحينئذٍ يلزم منه البطلان.

"وإلا للزم صحة بيع المضامين والملاقيح".

ما في أجواف الدواب.

"إذ النهي عنها لوصفها، وهو تضمنها الغرر، لا لكونها بيعًا، إذ البيع مشروعٌ إجماعًا".

البيع مشروع؛ لكن إنما نُهي عن هذا البيع على وجه الخصوص لتضمنه الغرر والجهالة.

والله أعلم.

وصلى الله عليه وسلم.