التعليق على الموافقات (1432) - 15

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

هذا يقول: كثيرًا ما ينشغل الإنسان في صلاته ويفكر فيها في أمور دنياه، ولو نصحت شخصًا غارقًا بالمعاصي لقال لي: إنني- والحمد لله- أصلي، وإني -ولله الحمد- أصلي وقد قال : «الصلوات الخمس إلى الصلوات الخمس مكفرات لما بينهن».

يقول: سؤالي هل الصلاة التي ينشغل صاحبها عنها تعتبر من الصلاة المكفرة؟

ثانيًا: نصيحة بخصوص هذا الموضوع وهذا الانشغال في الصلاة، لا شك أن الأصل في الصلاة أنها هي الصلة بين العبد وربه، وإذا تصورنا هذا وأنه لا بد من هذه البوصلة وهذا الاتصال، فالانشغال عنها انقطاع، هذا ليس من الاتصال، وإنما هو انقطاع، فانشغالك بغير الله انقطاع عنه، وجاء في الحديث: «أن الرجل ينصرف من صلاته وليس له إلا نصفها»، يعني نصف الأجر المرتب عليها، «والرجل ينصرف من صلاته وليس له إلا ربعها، والرجل ينصرف وليس له إلا العشر، وقد ينصرف وليس له أجر». نعم إذا توافرت الشروط والأركان والواجبات، جمهور العلماء على أنها مجزئة مسقطة للطلب، بمعنى أنه لا يؤمر بإعادتها، على أن من أهل العلم من يرى أن الخشوع والإقبال على الله، وهو لب الصلاة مؤثر فيها، بل يقول: إذا انشغل عنها ولم يعقل منها شيئًا فإنه تلزمه الإعادة، وهذا قول ينصره من يوجب الخشوع في الصلاة كابن رجب والغزالي وجمع من أهل العلم، وإن كان الجمهور على أن الخشوع سنة. وليس معنى أنهم إذا قالوا: إن الخشوع سنة أنهم يهونون من شأنه، لكن الأصل: إذا توافرت الشروط والأركان والواجبات في كل عبادة أو في كل عقد أنه صحيح مسقط للطلب.

 لكن يبقى: ما الأثر المترتب عليه الذي من أجله شُرع؟ تكلم واحد في الحج بكلام عجيب، يقول: أسرار الحج لا يدركها من قرأ كتب المناسك، ولا يدركها ما كتبه الفقهاء في أبواب الحج، فهم يعرفون الحج في اللغة والاصطلاح والشروط والأركان والواجبات والمحظورات، وتخرج بل وقلبك تخرج من الحج وقلبك كما دخل، لكن اقرأ سورة الحج شف كيف تؤثر فيك في هذه الشعيرة العظيمة، افتتحت بماذا؟ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} [الحج: 1]، نعم، افتتحت بالتقوى، ما فيها واجبات الحج ولا شروط الحج ولا أركان الحج، فيها ما ينفع القلب في هذه الشعيرة.

وعلى كل حال: لا شك أن الواجبات والشروط والأركان أمور لا بد منها، لا تصح العبادة إلا بها، فلا بد من معرفتها، لكن ما الذي وراء ذلك؟ ما ينفع الإنسان في حياته من هذه العبادات هو ما يتعلق بالقلب، إذا أقبلت على عبادتك بقلب متيقظ خاشع متصل بالله -جل وعلا- في الصلاة: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45]، هل يكفي في هذه الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر إقامة الشروط والأركان والواجبات؟ وإنسان يصلي مكتمل الشروط والأركان والواجبات ويخرج يسرق أو يشرب خمرًا أو.. هذه صلاته نهته عن الفحشاء والمنكر؟ لا، صلاته هذه لم تعالج قلبه.

الصيام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، الإنسان من أول يوم من رمضان إلى آخر يوم ليلة العيد ما أخل بواجب الصيام، صيامه صحيح ومسقط للطلب، لكن ليلة العيد يروح للأسواق يتعرض للنساء! حقق التقوى صيامُه؟ ما حقق التقوى. ولذلك تجده طول رمضان يصوم ويصلي ويقرأ القرآن ويعتكف في العشر الأواخر، ويطلع حينما يعلم العيد، وإذا كانت تفوته الصلاة صلاة العشاء قبل رمضان فسوف تفوته ليلة العيد، يجيء وقد فاته ركعة أو ركعتان وطالع من المعتكف! لماذا؟ لأن هذه العبادات ما عالجت القلب.

شيخ الإسلام لما تكلم عن الموضوع، في صلب السؤال قال: إن الذي يخرج من صلاته وليس له من أجرها إلا العشر، هذه إن كفرت نفسها يكفي، بركة! كيف تكفر ما بينها وبين الصلاة الأخرى وهي تحتاج إلى تكفير؟

فأمورنا تحتاج إلى إعادة نظر، يعني الفقه مهم، ومعرفة الأحكام في غاية الأهمية، و«من يرد الله به خيرًا يفقه في الدين»، يعرف الأحكام، ويعرف جميع ما يتعلق بأبواب الدين كلها، ما يكتفي بأنواع العبادات ومعاملات ومناكحات جنايات ما تكفي، طيب أنت عرفت هذه الأمور ما الذي يحدوك إلى العمل؟ أبواب أخرى من أبواب الدين. يعني رابطتك وعلاقتك بكتاب الله وسنة نبيه -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- يغني عنه أن تحفظ الزاد، وتعرف مسائله ولو بأدلته والراجح منها؟ ما يكفي، لا بد أن يكون تحقيقًا لقوله -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: «من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين»، يعني في جميع أبوابه.

جبريل لما جاء يسأل النبي -عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- سأله عن الإيمان وعن الإسلام وعن الإحسان، يشمل جميع الشرائع الظاهرة والباطنة، ثم قال: «هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم». فهذا الدين الذي من فقهه أراد الله به خيرًا؛ ولذا لا يمتنع أن يوجد في الواقع من هو بارع في علم الأحكام والفروع، فقيه في عرف الناس، وعنده شهادات عليا وكفء، يعني ما هو بمزيف، لا، فقيه بالفعل يُحسن التعامل مع كلام أهل العلم ويدرس المسائل ويخرج بقول راجح، لكن تجده في العمل ما له زود. هذا استفاد من الفقه؟ هذا أراد الله به خيرًا؟ هذه أمور لا بد من فقهها، والله المستعان.

نصيحة بخصوص هذا الموضوع وهو الانشغال في الصلاة؟

أنا أقول: إن وجدت علاجًا فاذكره لنا، جزاك الله خيرًا.

نعم.

طالب: أحسن الله إليك. الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد،

فيقول المؤلف الشاطبي -رحمه الله تعالى- في كتابه الموافقات تتمة لأحكام الأدلة: "الفصل الرابع: في العموم والخصوص، ولا بد من مقدمة تبين المقصود من العموم والخصوص هاهنا، والمراد العموم المعنوي، كان له صيغة مخصوصة أو لا".

هو قال في أول الأمر: "تابع الطرف الأول في أحكام الأدلة عامة"، ثم دخل في العموم والخصوص؛ لأنه ينتاب الأدلة كلها، بخلاف الأدلة أو الكلام الذي يتناول الأدلة على حدة كل دليل على حدة، هذا سيأتي فيما بعد، سيأتي بعد كم؟ صفحة كم؟ في السبعينيات.

طالب: نعم، ثلاث وسبعين.

ماذا؟

طالب: ثلاث وسبعين.

ومائة؟

طالب: .......

نعم.

طالب: نعم.

نعم، فيما يقول فيه: "الطرف الثاني في الأدلة على التفصيل"، "الأدلة على التفصيل"، وهي الكتاب والسنة والإجماع والرأي، وسيأتي الكلام عليها. لكن الكلام الذي سبق كله وما يأتي إلى صفحة مائة وأربعين، هذا كله مشترك، مشاع بين الأدلة كلها. والذي يأتي بعد ذلك هو في الكلام على الأدلة كل دليل على حدة.

طالب: يقول: "ولا بد من مقدمة تبين المقصود من العموم والخصوص هاهنا، والمراد العموم المعنوي، كان له صيغة مخصوصة أو لا، فإذا قلنا في وجوب الصلاة أو غيرها من الواجبات وفي تحريم الظلم أو غيره: إنه عام، فإنما معنى ذلك أن ذلك ثابت على الإطلاق والعموم، بدليل فيه صيغة عموم أو لا، بناءً على الأدلة المستعملة".

لأنه ما فيه نوع من أنواع الظلم مباح؛ لأن إباحته تخرجه عن مسمى الظلم، فيبقى تحريم الظلم عامًّا في أفراده ومطلقًا في أوصافه. وقل مثل هذا فيما حث عليه الشرع من عبادات كالصلاة وغيرها.

طالب: "بناءً على أن الأدلة المستعملة هنا إنما هي الاستقرائية، المحصلة بمجموعها القطع بالحكم حسبما تبين في المقدمات. والخصوص بخلاف العموم، فإذا ثبت مناط النظر وتحقق، فيتعلق به مسائل:

المسألة الأولى: إذا ثبتت قاعدة عامة أو مطلقة، فلا تؤثر فيها معارضة قضايا الأعيان ولا حكايات الأحوال، والدليل على ذلك أمور؛ أحدها: أن القاعدة مقطوع بها بالفرض؛ لأنا إنما نتكلم في الأصول الكلية القطعية، وقضايا الأعيان مظنونة أو متوهمة، والمظنون لا يقف للقطعي ولا يعارضه".

بحيث تحتاج كل قضية من قضايا الأعيان إلى معالجة خاصة، يعني ما يحتاج إلى أن تُذكر مع الأصل العام، تُترك إلى حصولها، فإذا حصلت عُولجت. بخلاف ما يرد من نص يعالج هذا النص العام بخصوصه، أو ذلك المطلق بتقييده؛ فهذا يُذكر معه إذا ورد فيه نص، لكن نص يُنزل على قضايا خاصة، أو قضية خاصة تحتاج إلى معالجة خاصة؛ فإن هذا لا يُذكر مع النص العام، بل يبقى النص على عمومه ثم تعالج هذه القضايا.

ونظير ذلك الأحكام الشرعية الثابتة التي لا تتغير ولا تتبدل؛ هذا هو الأصل فيها، لكن بعض الناس له ممارسات خاطئة يظنها بعض الناس مؤثرة على الحكم، فمثلاً: مسألة التورق الأئمة الأربعة وعامة أهل العلم على جوازها، لكن بعض الناس أثناء تطبيق هذه العملية يُخطئ، وكثير من الناس يخطئ، لكن هل هذا يؤثر على الحكم العام أو ينبغي أن يذكر معه؟ ما له علاقة، شخص ما قبض، اشترى تورقًا ولا قبض السلعة، هل نقول: إن هذا مؤثر في الحكم؟ وإن كثر وقوعه؟ نقول: لا ما يؤثر.

بعض الناس أفتى بتحريم الزواج الذي لا يُعلن مثلاً إعلانًا كافيًا، أنه يشتهر اشتهارًا كليًّا بحيث يعلم به كل أحد، الذي يسمونه المسيار، لماذا؟ لأن بعض الناس أساء استخدامه. نقول: إساءة بعض الناس باستخدام هذا الحكم لا يؤثر في أصل الحكم، إنما مزاولة هذا الشخص أو ممارسة هذا الشخص لهذا العمل حرام، يجب عليه أن يصحح، ولا يؤثر في الحكم. ومثل هذا يتأثر به بعض من يفتي، فيغير الحكم من أجل هذه الممارسات الخاطئة، وهذا خطأ. يبقى الحكم حكمًا شرعيًّا ثابتًا لا يتغير، أما الممارسات فيصدر عليها أحكامها.

طالب: "والثاني: أن القاعدة غير محتملة لاستنادها إلى الأدلة القطعية، وقضايا الأعيان محتملة؛ لإمكان أن تكون على غير ظاهرها".

القواعد العامة في الشريعة سواء كانت كلية، وهذه لا إشكال فيها لا تنخرم، أو أغلبية ويخرج عنها بعض الصور، هذه متى تسمى قاعدة؟ إذا اطردت ودلت عليها نصوص تبلغ إلى حد أن يُستخرج منها هذه القاعدة. مثل هذه لا تؤثر فيها خروج بعض الصور، إذا كانت كلية، فهذا لا إشكال فيها، ولا يمكن أن يتكلم فيها، إذا كانت أغلبية فإنها أيضًا لا يؤثر فيها ما يخرج عنها من بعض الصور؛ لأنها لا تستحق أن تكون قاعدة حتى تستند إلى أدلة قطعية، يعني بمجموعها.

طالب: "لإمكان أن تكون على غير ظاهرها، أو على ظاهرها وهي مقتطعة ومستثناة من ذلك الأصل، فلا يمكن والحالة هذه إبطال كلية القاعدة بما هذا شأنه.

والثالث: أن قضايا الأعيان جزئية، والقواعد المطردة كليات، ولا تنهض الجزئيات أن تنقض الكليات".

لأنها إن نهضت إلى نقض الكليات لكثرتها...

طالب: لم تعد.

ما صارت كليات، والمفترض أنها كليات.

طالب: "ولذلك تبقى أحكام الكليات جاريةً في الجزئيات، وإن لم يظهر فيها معنى الكليات على الخصوص، كما في المسألة السَّفَرية بالنسبة إلى الملك المُترف، وكما في الغني بالنسبة إلى مالك النصاب والنصابُ لا يغنيه على الخصوص، وبالضد في مالك غير النصاب وهو به غني".

إذا قيل: إن العلة في الترخص في السفر المشقة، والمفترض أن تكون العلة مطردة وجودًا وعدمًا؛ ليترتب عليها الحكم، ويدور معها. بعض الناس إذا سافر حاله أفضل كثيرًا من كثير كثير من الناس حاله، إذا سافر أفضل كثيرًا من تسعين بالمائة من الناس وهو مقيم، ما عليه مشقة. هل نقول: إن هذا لا يترخص؟ أو نقول: إن هذه العلة التي هي في الأصل علة مؤثرة لوحظ فيها عدم الاطراد فنُقل التعليل إلى شيء مطرد وهو السفر؟ السفر مطرد موجود سواء وُجدت المشقة أو لم توجد، فصار هو الوصف المؤثر الذي تُعلق به الأحكام، أحكام السفر وجودًا وعدمًا.

فالعلل لا بد أن تكون مطردة، والمشقة قد توجد، وقد لا توجد، والمشقة في السابق قد تكون متحققة لجميع الناس، لكن في وقتنا هذا الذي سافر عشرة آلاف ميل بعشرين ساعة أو خمس عشرة ساعة في طائرة فيها غرفة نوم، وفيها كل ما يحتاج إليه كأنك في بيتك. سافرنا بعض الأسفار على بعض الرحلات، واللهِ، إن استقرارها مثل استقرار هذا الكرسي، ولا حركة ولا شيء أبدًا، ومع ذلك يسمى مسافرًا ويترخص؛ لأن المشقة لا يمكن الإحالة عليها وإن كانت هي الأصل لأنها غير منضبطة، ولذلك قال: "بالنسبة إلى الملك المترف"، ويبقى أن السفر وهو الخروج عن المألوف الأصل فيه أنه قطعة من العذاب، كما جاء في الحديث، يخرج عن المألوف.

بعض الناس يخرج من طائرة مريحة إلى سيارة فارهة إلى فندق إلى كذا، لكنه إذا تغير عليه مكان النوم ما ينام، هذه مشقة، وهي مشقة نسبية، مثل هذا الملك المترف يمكن أنه ما ينام مثلًا. فيبقى أن الأصل في السفر أنه قطعة من العذاب، ولو تيسرت أمور وتسهلت. هناك أمر قد لا ينتبه له كثير من الناس، صحيح أن الوسائل مريحة، والأماكن المنتقل منها والمنتقل إليها مريحة، ومدة السفر قصرت جدًّا بدل الأيام ساعة، عشر مراحل تُقطع في ساعة الآن، وكانت تُقطع على الإبل في عشرة أيام، تُقطع في ساعة، وأكثر من ذلك، ثمانون كيلو يعني مرحلتين، فألف كيلو ثلاثون مرحلة تقريبًا أو خمسة وعشرون، وتقطع في ساعة. مثل هذا مع هذا الترف ومع هذه الراحة للأبدان، القلوب شقيت، وهذه مشقة في حد ذاتها. يعني لو تأخرت الطائرة عن الوقت المقرر ربع ساعة، فما وضع الناس؟

أنت تصور الناس في سلم الطائرة ماذا يفعلون؟ يتزاحمون، والمسألة كلها خمس دقائق أو ربع ساعة ما تزيد، فأنت انظر إلى الناس حينما يقف أحد قدامه وهو يتجه يمينًا انظر كيف تحترق قلوبهم، بعضهم يصاب بجلطات، ويصاب بأمور بعظائم الأمور من أجل هذه الثواني التي يجلسها، ولا شك أن شقاء القلوب أعظم بكثير من شقاء الأبدان.

 الآن من الرياض إلى الطائف أو إلى جدة بساعة، ابن بطوطة يقول: خرجنا من طنجا للحج، وبعد عشرة أيام مات القاضي فرجعنا ندفنه في طنجا! هذه عشرون يومًا بدون فائدة، عشرون يومًا ماذا تفعل بهذا الوقت؟ تجوب الدنيا كلها وتستقر في البلدان تصير مقيمًا، يُحكم عليك بأنك مقيم في هذه البلدان بعد عشرين يومًا، في القارات تسمى مقيمًا وهي عشرون يومًا، مع هؤلاء راح عليهم عشرون يومًا، مات القاضي فيرجعون ليدفنوه. فرق كبير بين ما نعيشه وما يعيشونه، بالنسبة لأبدانهم شقيت، ونحن أبداننا ارتاحت، لكن الإشكال في القلوب، هذا الذي يحتاج إلى علاج.

وكل هذا سببه الغفلة، يعني يقال: لو ركبت فلا تفك أحزام المقعد حتى تطفأ الإشارة، الناس مجرد ما تقف الطيارة يفكون ويقفون، وأنا واحد منهم، يعني ما أتكلم هباءً، نحن الواحد ابن بيئته. لكن لو تعود الذكر وقال: بدل خمس دقائق التي أنتظرها، أردد «سبحان الله وبحمده مائة مرة حطت عنه خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر»، وأنا جالس ومرتاح، وأدع السرعان يروحون. والمسألة هي هي ما لها فرق؛ لأنكم تصلون جميعًا، تركبون باصًا يذهب بكم جميعًا، ما لها فرق، لكن هي العجلة التي جُبل عليها ابن آدم، وتحرك القلب وشقاؤه، وأكثر الأمراض هذا سببه، من راحة البدن وشقاء القلب.

 يُذكر عن ابن ملك من الملوك يقول: إن الله -جل وعلا- ذكر عن البيت الحرام أننا لن نبلغه إلا بشق الأنفس، وأنا إن شاء الله أبلغ- ما أدري قال: إن شاء الله أم لا، وأظن ما قالها- بدون شق الأنفس، براحة الأنفس، فهُيئ له مركب مريح جدًّا، وصار يتنقل وكأنه في البيت، فمر هذا المركب بشجرة فأخذت عينه! هؤلاء الذين يحملون هذا المركب أسهل منه مشقة، ناله من المشقة أكثر منهم.

طالب: .......

أضعاف نعم. ولا تظن أنه الآن ينقل بدقائق إلى المستشفى ويبنج ويرتاح، لا، هذا بقي له شهر ما وصل المستشفى، صحيح. ويبقى أنهم مع تعبهم وشقاء أبدانهم أكثر راحة منا، تقول: هذا الحاصل، يعني ما تقول: هذا خاص بملوك وبأغنياء وبكذا، لا، كل له نصيب من هذا، كل له نصيب من هذا، وكلما هانت الدنيا عند الإنسان ارتاح قلبه.

 ولذلك تجدون أكثر الناس ضحكًا هؤلاء الذين يفترشون الأرصفة، ويبيتون على الدرج. نحن نراهم إذا جئنا للحرم في طريقنا بالدرج، ساكنين على كرتون أو على شيء، ويأخذون ما يسقط من الناس، هؤلاء رأيناهم أكثر الناس ضحكًا، والتاجر الكبير وقته كله معبس! صحيح، قد يكون هناك تجار يسهرون إلى الفجر في دور علوي ببنك من البنوك في بلد من بلدان المملكة يشاهدون الشاشات والبورصات، ارتفع شيء هذا يأخذ حبة، نزل شيء ذاك! نسأل الله السلامة، نسأل الله العافية! هذه حياة ذي؟ هل هذه الحياة؟ والله ما هي بحياة، وكم من واحد دخل المستشفى؛ بسبب سقوط الأسهم، بل كم من واحد مات، نسأل الله العافية، وانجن كم واحد!

يعني شخص يُسمع وهو يقول: آمين بأعلى صوت وهو ساجد، نسأل الله العافية. أنقول مثل هذه الحياة تخدم الإنسان؟ هل الأصل في المال أن يخدمك أم تخدمه أنت؟ الأصل أن يخدمك، {وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص: 77] لماذا؟ من أجل أن تحقق به الهدف الذي من أجله خُلقت؛ لأنه ما يمكن أن تعيش بدون مال، لكن ما يصير هو الهدف بحيث تسخر له دينك، وتتوصل إليه بشيء من التنازل عن دينك، عن رأس مالك، المشكلة أن هذا واقع. الله -جل وعلا- نعى على أهل الكتاب أنهم يشترون به ثمنًا قليلًا؟

طالب: .......

ماذا؟

طالب: .......

نعم، {يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلاً} [آل عمران: 199]، وما الثمن القليل هذا؟ الدنيا كلها كلها ثمن قليل، لو حيزت له الدنيا بحذافيرها كلها قليلة، مهما كانت، في مقابل الدين، و«ركعتا الصبح خير من الدنيا وما فيها».

يقول: "وكما في الغنى بالنسبة إلى مالك النصاب والنصاب لا يغنيه عن الخصوص"، الآن قد يملك الإنسان عشرين نصابًا، وتجب عليه الزكاة، ويأخذ من الزكاة؛ لأنه لا يكفيه، إذا تصورنا أن النصاب ستة وخمسين ريالاً عربيًّا فضة، والريال بعشرين مثلاً، كم؟ ألف ريال، وهو يحتاج إلى خمسة أنصبة ستة ويأخذ من الزكاة، والعكس: بعض الناس ما يملك نصابًا وعايش كفافًا، والمسألة مسألة تدبير، والأحوال والوقائع تشهد لهذا، كم من مدير مدين للفراش؟ هذا واقع، مدير يتقاضى عشرين ألفًا، والفراش ألفين، وتجد هذا الفراش ما شاء الله عنده أسرتان، وكل أسرة ببيت فالمسألة مسألة تدبير لأمور الدين وأمور الدنيا، وهذا الذي ينقص كثيرًا من الناس.

طالب: "والرابع: أنها لو عارضتها؛ فإما أن يعملا معًا أو يُهملَا، أو يُعمل بأحدهما دون الآخر، أعني في محل المعارضة، فإعمالهما معًا باطل".

لأنه جمع بين النقيضين.

طالب: "وكذلك إهمالهما؛ لأنه إعمال للمعارضة فيما بين الظني والقطعي، وإعمال الجزئي دون الكلي ترجيح له على الكلي، وهو خلاف القاعدة، فلم يبق إلا الوجه الرابع، وهو إعمال الكلي دون الجزئي، وهو المطلوب. فإن قيل: هذا مشكل على بابي التخصيص والتقييد، فإن تخصيص العموم وتقييد المطلق صحيح عند الأصوليين بأخبار الآحاد وغيرها من الأمور المظنونة وما ذكرت جارٍ فيها، فيلزم إما بطلان ما قالوه، وإما بطلان هذه القاعدة، لكن ما قالوه صحيح، فلزم إبطال هذه القاعدة.

 فالجواب من وجهين؛ أحدهما: أن ما فُرض في السؤال ليس من مسألتنا بحال، فإن ما نحن فيه من قبيل ما يتوهم فيه الجزئي معارضًا، وفي الحقيقة ليس بمعارض، فإن القاعدة إذا كانت كلية، ثم ورد في شيء مخصوص وقضية عينية ما يقتضي بظاهره المعارضة في تلك القضية المخصوصة وحدها، مع إمكان أن يكون معناها موافقًا لا مخالفًا؛ فلا إشكال في أن لا معارضة هنا، وهو هنا محل التأويل لمن تأول، أو محل عدم الاعتبار إن لاقى بالموضع الاطراح والإهمال كما إذا ثبت لنا أصل التنزيه كليًّا عامًّا، ثم ورد موضع ظاهره التشبيه في أمر خاص يمكن أن يراد به خلاف ظاهره".

كلام المؤلف في قضايا الأعيان التي تخص المخلوق، فكونه يخرج منها إلى ما يختص بالخالق، هذا خروج عن المطلوب، وإن كان لا يوافَق على ما قال، إنما يُثبَت لله -جل وعلا- ما أثبته لنفسه، وأثبته له رسوله -عليه الصلاة والسلام-، وإن رأى بعض الناس أنه يقتضي التشبيه، وهو في الحقيقة لا يقتضيه؛ لأن لكل من المخلوق والخالق ما يخصه، فإذا أثبتنا لله يدًا، والمخلوق له يد، لكن يد الخالق تليق به، ويد المخلوق تليق به. هذا خروج عن موضع البحث؛ لأن البحث أصله في قضايا الأعيان الخاصة بالمخلوق المتعلقة بالمخلوق، لا ما يتعلق بالخالق.

طالب: "أو محل عدم الاعتبار إن لاقى بالموضع الاطراح والإهمال كما إذا ثبت لنا أصل التنزيه كليًّا عامًّا".

نعم ثبت: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، تنزيه كلي وعام ولا يدخله مخصص ولا خارم، ومطرد. كونه يلتبس على بعض الناس أو يهجم على ذهن بعض الناس أن هذه الآية المتضمنة لإثبات صفة تقتضي التشبيه؛ هذا أمر يخصه هو، هذا خلاف الصحيح، ولا معارضة بين الإثبات في موضعه والنفي في موضعه.

طالب: "ثم ورد موضع ظاهره التشبيه في أمر خاص يمكن أن يراد به خلاف ظاهره، على ما أعطته قاعدة التنزيه، فمثل هذا لا يؤثر في صحة الكلية الثابتة، وكما إذا ثبت لنا أصل عصمة الأنبياء من الذنوب، ثم جاء قوله: «لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات» ونحو ذلك، فهذا لا يؤثر؛ لاحتمال حمله على وجه لا يخرم ذلك الأصل".

نعم. أولاً معنى الكذب هنا في الحديث، الكذب الأصل فيه أنه مخالفة الواقع، هذا الأصل: مخالفة الكلام للواقع. إبراهيم -عليه السلام- قال لسارة: هذه أختي، فإن كان مراده أنها أخته من أمه وأبيه، هذا الكلام ليس بصحيح، لكن مراد إبراهيم في هذا الموضع أنها أخته في الدين. فهو كذب من وجه وصدق من وجه، ومراده -عليه السلام- الصدق بلا شك؛ لأنه معصوم من الكذب، لكنه بهذه التورية تخلص من ظلم هذا الظالم. قال: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89]، قد يقول قائل: إنه ليس بمريض، إنما تخلف ليكسر الأصنام، هم يرونه ليس بسقيم، قال: {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89]، باعتبار أنه مخالف للواقع، ولا يوجد به سُقم سماه كذبًا، وباعتبار أن هذا السقم والضعف الذي هو ملازم للبشر، ما فيه بشر مخلوق يسلم من مرض أيًّا كان، الإنسان خُلق ضعيفًا، وضعفه سواء كان من جهة بدنه أو في نفسه أو في أي شيء يتعلق به، فالسقم لا بد منه موجود. والثالثة..

طالب: .......

نعم، {كَبِيرُهُمْ} [الأنبياء: 63]، هذا قاله من باب الإلزام لهم، ولم يقصد بذلك حقيقة ما ادعاه، يعني هذا لا يمكن أن يصدقه عليه عاقل.

المقصود أن هذه كلها من باب خلاف الأولى، ولا تقع في الكذب الذي جاءت النصوص بتحريمه، إنما هي من باب خلاف الأولى، وتسميتها كذبًا من باب ما يطلقه أهل العلم: إن حسنات الأبرار سيئات المقربين، هذا بالنسبة له يمكن أن يسمى كذبًا؛ لأنه من المقربين، وقد يكون عند بعض الناس إذا ارتكب مثل هذه التي يسمونها معاريض، مثل هذه المعاريض صارت حسنات بالنسبة له.  

طالب: "وأما تخصيص العموم فشيء آخر؛ لأنه إنما يُعمل بناءً على أن المراد بالمخصِّص ظاهره من غير تأويل ولا احتمال، فحينئذ يُعمل ويعتبر كما قاله الأصوليون، وليس ذلك مما نحن فيه.

فصل: وهذا الموضع كثير الفائدة، عظيم النفع بالنسبة إلى المتمسك بالكليات إذا عارضتها الجزئيات وقضايا الأعيان، فإنه إذا تمسك بالكلي كان له الخيرة في الجزئي في حمله على وجوه كثيرة، فإن تمسك بالجزئي لم يمكنه مع التمسك الخيرة في الكلي، فثبت في حقه المعارضة، ورمت به أيدي الإشكالات في مهاوٍ بعيدة، وهذا هو أصل الزيغ والضلال في الدين".

نلاحظ أن المؤلف -رحمه الله- لم يذكر الوجه الثاني من وجهي الجواب على الإشكال، ذكر واحدًا وما ذكر الثاني.

طالب: "وهذا هو أصل الزيغ والضلال في الدين؛ لأنه اتباع للمتشابهات، وتشكك في القواطع المحكمات، ولا توفيق إلا بالله. ومن فوائده: سهولة المتناول في انقطاع الخصام والتشغيب الواقع من المخالفين".

لأن المفترض في الخصوم مع مخالفيهم الاتفاق في الكليات والاختلاف في هذه الجزئيات، فإذا احتُكم إلى الكليات انقطع الخصام والتشغيب، انتهوا لأن كلهم يعتمدون هذا الأصل، وفي المناظرات يشترطون أن يكون بينهم أصل يتفقون عليه، أما أن تناظر شخصًا ما تتفق معه على شيء، ماذا تناظر فيه؟ ما يمكن، يختلف معك في أصل من الأصول، في القرآن مثلاً وفي السنة، كيف تناقشه في مثل هذا؟ تتفق أنت وإياه في العقل، لكن العقل ما يسعف في كل مسألة، قد يسعف في قضايا، لكن يبقى أن كثيرًا من القضايا قد لا يدركها الإنسان بعقله، عنده نصوص، وعنده أدلة، وعنده أصول يرجع إليها هذه المسألة.

طالب: شيخ، أحسن الله إليك، متى يُحكم في مسألة أن هذه قضية عين أو حكاية حال؟ يعني يرد كثيرًا في النصوص أقوال للنبي -عليه الصلاة والسلام-، وتجد يُصرف مثلاً هذه ... إن كان أمرًا يُصرف للندب أو النهي يُصرف للكراهة بفعله -عليه الصلاة والسلام- بحادثة أو نحوها، فالضابط في مسألة تفريقنا هذه حكاية حال أو قضية عين حتى لا تشغب على الأصل؟

نعم، إذا لم يمكن تطبيقها على عدد من الناس صارت قضية عين، أما إذا أمكن اشتراك كثير من الناس معه في مثلها؛ لأنه ينتابه ما ينتابه من المعارضات، فعند المعارض نقول: قضية عين، ولا يمكن تطبيقها أيضًا قد لا تحصل لغير هذا الشخص أو لغيره في هذا الظرف أو له في غير هذا الظرف.

طالب: «تجزئ عنك ولا تجزئ عن أحد بعدك»؟

نعم، مثل هذا بالنص.

طالب: ومن يقيس على مثل حاله؟

ما هو بصحيح، شيخ الإسلام قاس، لكن ليس بصحيح، يعني يقول: «تجزئ عنك، ولا تجزئ عن غيرك»، ونقول: إنها تجزئ عمن كان في مثل ظرفه؟ ما يمكن.

طالب: لا نقول: الشريعة لا تخص أحدًا بشيء؟

خصت، من الذي قال هذا الكلام؟ من الذي قال: «تجزئ عنك، ولا تجزئ عن غيرك»؟

طالب: صاحب الشرع.

خلاص، ما لأحد كلام.

طالب: .......

ما هي؟

طالب: .......

مثله، سالم مولى أبي حذيفة.

طالب: .......

الكليات ثم ننظر في الجزئيات، إن كان يمكن اندراج كثير من الناس فيها صارت خصوصيات، وإلا فقضايا أعيان لا تصلح إلا لمثل هذا الشخص.

طالب: "ومثال هذا ما وقع في بعض المجالس، وقد ورد على غرناطة بعض طلبة من العدوة الإفريقية، فأُورد على مسألة العصمة الإشكال المورد في قتل موسى للقبطي، وأن ظاهر القرآن يقضي بوقوع المعصية منه -عليه السلام- بقوله: {هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [القصص: 15]، وقوله: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص: 16]. فأُخذ معه في تفصيل ألفاظ الآية بمجردها، وما ذُكر فيها من التأويلات بإخراج الآيات عن ظواهرها، وهذا المأخذ لا يتخلص، وربما وقع الانفصال على غير وفاق، فكان مما ذاكرت به بعض الأصحاب في ذلك: أن المسألة سهلة في النظر إذا روجع بها الأصل، وهي مسألة عصمة الأنبياء -عليهم السلام-".

هذا الأصل: أنهم معصومون من الكبائر بالاتفاق، ومن الصغائر عند جمع من أهل العلم، فعندنا هذا الأصل مقرر، فما خالفه يحتاج إلى جواب.

طالب: "فيقال له: الأنبياء معصومون من الكبائر باتفاق أهل السنة، وعن الصغائر باختلاف، وقد قام البرهان على ذلك في علم الكلام، فمحالٌ أن يكون هذا الفعل من موسى كبيرةً".

لماذا محال؟ القتل كبيرة أم صغيرة؟

طالب: كبيرة.

كبيرة، لكن قتل من يستحق القتل، هل هذا معصوم؟

طالب: واجب.

نعم؟

طالب: واجب.

نعم. فننظر في ذات القتل، هل هو ملحق بالكبائر، أو خلاف الأولى، أو دون ذلك من الصغائر وفوق خلاف الأولى، أو مباح، أو واجب؟ لأن القتل له صور؛ لأن الإنسان قد يكون حربيًّا فيقتل، قد يكون معاهدًا فيحرم قتله، وينتابه أيضًا ظروف القاتل وظروف المقتول أيضًا.

طالب: "وإن قيل: إنهم معصومون أيضًا من الصغائر، وهو صحيح، فمحال أن يكون ذلك الفعل منه ذنبًا، فلم يبق إلا أن يقال: إنه ليس بذنب، ولك في التأويل السعة بكل ما يليق بأهل النبوة ولا ينبو عنه ظاهر الآيات فاستحسن ذلك، ورأى ذلك مأخذًا علميًّا في المناظرات، وكثيرًا ما يَبني عليه النظار، وهو حسن، والله أعلم".

اللهم صلِّ على محمد.