شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح - كتاب الاعتكاف - 26

 

المقدم:

 

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله مُحمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد، فالسلام عليكم ورحمته وبركاته، وأهلًا ومرحبًا بكم مستمعينا الكِرام إلى لقاء جديد في شرح التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، لمعالي الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير- وفقه الله- عضو هيئة كبار العُلماء، وعضو اللجنة الدائمة للإفتاء، والذي يسعدني أن أرحب به في مطلع هذا اللقاء، فأهلاً وسهلاً بكم فضيلة الشيخ.

حياكم الله وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين.

المقدم: الكلام موصول في حديث صفية مستمعينا الكرام زوج النبي -صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنها-: وفيه أنها جاءت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تزوره في اعتكافه في المسجد في العشر الأواخر من رمضان، فتحدثت عنده ساعة ثم قامت تنقلب، فقام النبي -صلى الله عليه وسلم- معها يقلبها، حتى إذا بلغت باب المسجد عند باب أم سلمة مر رجلان من الأنصار، فسلما على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال لهما النبي -صلى الله عليه وسلم-: «على رسلكما، إنما هي صفية بنت حيي» فقالا: سبحان الله يا رسول الله، وكَبُر عليهما، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «إن الشيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئًا».

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد،،

فمازال الحديث عن فوائد وأحكام حديث صفية، فيقول ابن حجر: في الحديث من الفوائد جواز اشتغال المعتكف بالأمور المباحة من تشييع زائر، والقيام معه، والحديث مع غيره، وإباحة خلوة المعتكف بالزوجة، يعني إذا كان يأمن على نفسه، وهي أيضًا كذلك، وإلا إذا كان لا يأمن ولا يصبر عنها مثل هذا يبتعد عنها، ولا يخلو بها، إلا إذا أراد نقض الاعتكاف ويخرج، وهو متطوع في ذلك، على الخلاف فيمن دخل في عبادة، هل له أن يقطعها أو يلزمه الاستمرار بها؟ وقد تقدم تفصيله.

وزيارة المرأة للمعتكِف، فيه أيضًا بيان شفقته -صلى الله عليه وسلم- على أمته، وإرشادهم إلى ما يدفع عنهم الإثم، وفيه التحرز من التعرض لسوء الظن، والاحتفاظ من كيد الشيطان والاعتذار، التحرز من التعرض لظن السَّوء والاحتفاظ من كيد الشيطان والاعتذار؛ لأنه اعتذر لهما -عليه الصلاة والسلام-.

كما سبق في كلام ابن الملقن قريبًا قال ابن دقيق العيد: وهذا متأكّد في حق العلماء، ومن يُقتدى به، فلا يجوز لهم أن يفعلوا فعلاً يوجب سوء الظن بهم، وإن كان لهم فيه مَخلَص؛ لأن ذلك سبب إلى إبطال الانتفاع بعلمهم.

نعم، العالم الذي يبتذل نفسه ويقع في مواقع لا تليق به، تجعل العامة يزهدون به وبعلمه، فلا ينتفعون به، ومن ثم قال بعض العلماء: ينبغي للحاكم أن يبين للمحكوم عليه وجه الحكم، إذا كان خافيًا؛ نفيًا للتهمة، حتى ما يخرج المحكوم عليه ويتحدث بالمجالس أن القاضي فعل وترك وحكم عليّ ظلمًا وجورًا، إذا بيَّن له وجه الحكم إذا كان يستوعب، ولكن بعض العوام لا يستوعب ولو بُيِّن له.

على كل حال قال بعض العلماء: ينبغي للحاكم أن يبين للمحكوم عليه وجه الحكم، إذا كان خافيًا؛ نفيًا للتهمة، ومن هنا يقول ابن حجر: ومن هنا يظهر خطأ من يتظاهر بمظاهر السوء، ويعتذر بأنه يجرب بذلك على نفسه، وقد عظم البلاء بهذا الصنف، والله أعلم.

كيف يجرب بذلك على نفسه؟ يتظاهر بمظاهر السوء؛ لأن السيئ مظهره مظهر سوء، يجرئ عليه من لا يجرؤ على الأخيار، فقد يكون من الأخيار وبعلة أو بأخرى، أو لهدف أو لآخر يقول: إنما يتظاهر بمظهر السوء ليختبر بعض الناس أو يختبر كذا، ثم بعد ذلك يقع، ثم لا يستطيع أن يتخلص، نعم من خطوات الشيطان.

يقول: ومن هنا يظهر خطأ من يتظاهر بمظاهر السوء، ويعتذر بأنه يجرب بذلك على نفسه، وقد عظم البلاء بهذا الصنف، والله أعلم، وفيه إضافة بيوت أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- إليهن، وفيه جواز خروج المرأة ليلاً يعني مع الحاجة وأمن الفتنة، لكن إذا لم تدعُ الحاجة إلى ذلك فالأصل القرار في البيوت، وأيضًا مع أمن الفتنة، أما إذا وجد احتمال للفتنة فلا يجوز الخروج بحال.

وفيه قول سبحان الله عند التعجب، وقد وقعت في الحديث؛ لتعظيم الأمر وتهويله، وللحياء من ذكره كما في حديث أم سليم: سبحان الله! لما ذكرت أن المرأة ترى ما يرى الرجل في منامه، قال: نعم إذا هي رأت الماء، سبحان الله، وهل تحتلم المرأة؟ نعم، يعني لما ذكر عنده -عليه الصلاة والسلام-، قالت أم سليم: سبحان الله متعجبة.

واستدل به لأبي يوسف ومحمد في جواز تمادي المعتكف، إذا خرج من مكان اعتكافه لحاجته، وأقام زمنًا يسيرًا زائدًا عن الحاجة، ما لم يستغرق أكثر اليوم.

قال ابن حجر: ولا دلالة فيه؛ لأنه لم يثبت أن منزل صفية كان بينه وبين المسجد فاصل زائد، وقد حد بعضهم اليسير بنصف يوم، وليس في الخبر ما يدل عليه، استدل به لأبي يوسف ومحمد في جواز تمادي المعتكف إذا خرج من مكان اعتكافه لحاجته وأقام زمنًا يسيرًا عن الحاجة ما لم يستغرق أكثر اليوم، كيف زمن يسير يستغرق أكثر اليوم؟! ولا دلالة فيه؛ لأنه لم يثبت أن منزل صفية كان بينه وبين المسجد فاصل زائد، وقد حد بعضهم اليسير بنصف يوم، وليس في الخبر ما يدل عليه، والله أعلم.

العيني تعقَّب ابن حجر في هذا الكلام؛ لأنه نسبه لأبي يوسف ومحمد، العيني يقول: ليس مذهب أبي يوسف ومحمد في حد اليسير بنصف يوم، وإنما مذهبهما أنه إذا خرج أكثر النهار يفسد اعتكافه؛ لأن في القليل ضرورة، والعجب أنهم ينقلون يعني ابن حجر والعجب أنهم ينقلون عن أحدٍ من أصحابنا، ما هو ليس مذهبه، ثم يردون عليه بما لا وجه له، ففي أي كتاب من كتب أصحابنا ذُكر أنهما حدا اليسير بنصف يوم، مستدلين بالحديث المذكور.

المقدم: هو أدرى حنفي وأدرى.

هو حنفي وأدرى بلا شك، لكن ألم يقع من العيني أنه نسب لأحمد ولغيره من أئمة المذاهب ما لا يوجد في كتبهم، ولذا نقول وفي مناسبات كررنا أن المذاهب لا تؤخذ إلا من كتب أصحابها، ولا يعني هذا عدم الثقة بنقل أهل العلم، الأصل فيهم الثقة، لكن قد ينقل ابن حجر مذهب أحمد وينسبه لأحمد على أنه المذهب وهو رواية مرجوحة بالمذهب، وقد ينسب لأبي حنيفة أو لأبي يوسف، وقد ينسب العيني لمالك أو لأحمد أو للشافعي ما لا يوجد في كتبهم، يعني معتمد وإلا فقد يتداولون النقل، بناءً على أنهم يرون أن مثل هذا القول جاري على قواعدهم، مما لا يوجد في كتبهم.

على كل حال طالب العلم عليه أن يتحرى ويتثبت، يتحرى الدقة في نقله، ولا تُنقَل الأقوال إلا من كتب أصحابها.

يقول العيني: وفيه جواز التسليم على رجل معه امرأة، بخلاف ما يقوله بعض الأغبياء، كيف؟

المقدم: هذا من كلام من؟

العيني، فيه جواز التسليم على رجل معه امرأة، بخلاف ما يقوله بعض الأغبياء؛ لأن السنة أن تسلم على الرجل ويرد عليه، هذا ما فيه إشكال، لكن لا يُسلم على المرأة، خشية الفتنة، الآن عندنا رجل وامرأة، وفيه أمر بالسلام وحض وفيه منع، فهذا الغبي الذي منع من التسليم على رجل معه امرأته، قال: الحظر مقدم على الإباحة، ودرأ المفاسد مقدم على جلب المصالح، وأي مفسدة على السلام عليهما معًا والزوج موجود بحضرتي! لا يمكن أن يوجد مثل هذه التهمة إلا في قلب رجل مريض القلب، ليسمع صوتها إذا ردت أو شيء من هذا، أو يتوقع أنها ترد.

ويقول العيني: وله- يعني المعتكف- قراءة القرآن، والحديث والعلم والتدريس، وله- يعني المعتكف- قراءة القرآن والحديث والعلم والتدريس وكتابة أمور الدين وسماع العلم، وعرفنا آراء الأئمة في هذا، وقول مالك على وجه الخصوص.

وقال أبو الطيب في المجرد: قال الشافعي في الأم والجامع والكبير: لا بأس أن يقص في المسجد، القُصاص الوعاظ، والقصص هو الوعظ، يقصد به الوعظ، بأن يقص في المسجد؛ لأن القصص وعظ وتذكير، وقال النووي: ما قاله الشافعي محمول على الأحاديث المشهورة والمغازي والرقائق، مما ليس فيه موضع كلام، وجدال وأخذ ورد لاسيما ما يتعلق بدراسة العقائد على طريقة المتكلمين وغيرهم.

المقصود يقول: ما قاله الشافعي محمول على الأحاديث المشهورة والمغازي والرقائق، مما ليس فيه موضع كلام، وما لا تحتمله عقول العوام، ولا ما يذكره أهل التواريخ وقصص الأنبياء وحكاياتهم أن بعض الأنبياء جرى له كذا من فتنة ونحوه، فإن كل هذا يمنع منه، هذا يذكره القصاص بكثرة، وهي موجودة في كثير من كتب التفسير، اعتمادًا على الإسرائيليات، مثل هذا لا يُتعرض له.

ومما ينبغي أن تُنزه منه كتب التفسير، لاسيما ما فيه طعن في الأنبياء، يجب أن تُنزه كتب التفسير مما فيه من القصص التي تشتمل على شيء من تنقُّص الأنبياء، أو إنزالهم عن منزلتهم الرفيعة التي أنزلهم الله إياها.

المقدم: لكن العظة بعمومها لو حدثت.

ما فيها إشكال بناءً على أن العلم خير ما يتقرب به لله- جل وعلا-.

المقدم: لاسيما إذا كان البديل مثل ما أسلفتم في حلقة ربما الماضية إذا كان البديل هو الأحاديث العامة والتي لا طائل منها أو النوم..

القيل والقال والنوم وما أشبه ذلك، العلم أفضل بلا شك ولا مقارنة، لكن لو استصحب المعتكف معه مع كتاب الله -جل وعلا- بعض كتب الرقائق التي تعينه على حضور قلبه، وبعض الكتب التي تعالج أمراض القلوب كبعض كتب ابن القيم وابن رجب وما أشبه ذلك، لا شك أنها تعينه على حضور قلبه، وبه يتحقق الهدف من الاعتكاف، ولا يكون على حساب ما شُرع الاعتكاف من أجله من قراءة وذكر وصلاة.

المقدم: نسأل الله -عز وجل- أن يتقبل من المعتكفين اعتكافهم، وأن يدلنا وإياهم على ما فيه رضاه، إنه جواد كريم، بهذا نصل إلى ختام هذه الحلقة مستمعي الكرام، نتقدم في ختامها بالشكر الجزيل لمعالي الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير -وفقه الله- عضو هيئة كبار العلماء، وعضو اللجنة الدائمة للإفتاء، شكر الله لفضيلته ولكم، ونلقاكم بإذن الله تعالى وأنتم بخير وعلى خير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.