شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (005)

يقول: "وهذا حين الشروع -إن شاء الله تعالى-"، يعني في الاختصار بدءًا ­بالباب الأول كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم -.

المقدم: أحسن الله إليك يا شيخ، ذكر المؤلف بجاه سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- وأشرتم إلى قضية الجاه، لكن نسمع في كلام بعض المتأخرين ممن ينتسبون إلى العلم التسويد، يقول: سيدنا محمد أو سيدنا أبو بكر، أو سيدنا عمر، وبعضهم ينكر -بعض الإخوان- ينكر عليهم وبعضهم يجوِّز مثل هذا، ما أدري، ما رأيكم -أحسن الله إليكم- في التسويد سواء للنبي -صلى الله عليه وسلم- أو للصحابة أو من بعدهم؟

ثبت عنه -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» وثبت عنه أنه قال: «السيد الله» فإذا لُمِسَ من الأسلوب والتعبير الغلو والمبالغة فينبغي أن يقال: «السيد الله»، وإذا أُنزِل النبي -صلى الله عليه وسلم- في منزلته اللائقة به، وقيل: هو سيد الخلق، لا شك أنه سيد الخلق، وهو الذي يقول -عليه الصلاة والسلام- : «أنا سيد ولد آدم ولا فخر» لكن هذا فيما للإنسان فيه سعة، أما الأمور المتعبَّد بها لا يجوز أن يضاف عليها أي كلمة، فلا يقال في التشهد مثلاً: وأشهد أن سيدنا محمد رسول الله...؛ لأن هذا متعبَّد بلفظه، هذا ذكر متعبَّد بلفظه، لكن إذا قلت: سيدُنا رسولُ الله، اللهم صلِّ وسلم على سيدنا محمد، لا إشكال في ذلك؛ لأنه سيد ولد آدم، وكذلك الصحابة لا شك أنهم سادة لما اشتملوا عليه، ولما اتصفوا به من السيادة في الدِّين والإمامة فيه، ينبغي أن ينزَّه هذا اللفظ الذي فيه شيء من التعظيم والتبجيل، فلا يطلق على منافق أو على فاسق، وما أشبه ذلك، أما لا شك أن المسلم التقي الورع والعالِم لا شك أنهم سادة، وأما الجهال فليسوا بسادة.

المقدم: ما يُنكَر يا شيخ على من قال: سيدنا عمر؟

ما فيه إشكال في التعبير العادي، لا إشكال فيه، لكن ما تُعبِّد بلفظه لا، ينبغي أنه إذا اشتف أو لُمسَ من تعبير الشخص أنه ينزل هذا الشخص فوق منزلته ينبغي أن يقال: «السيد الله» حسْمًا للمادة؛ لأن الغلو يوصل إلى ما لا تحمد عقباه.

المقدم: أحسن الله إليكم، ذكر المؤلف في خطبته أيضًا التزامه بالنقل عن الإمام البخاري كما قال فإن قال: عن أنس قال هو: عن أنس، إن قال: عن أنس بن مالك قال: عن أنس بن مالك، هل يعني هذا أن الكتب ومن نقل عن أهل السنة في هذا أنه ينقل بنفس اللفظ، فمثلاً: عن ابن عمر يقول عن ابن عمر ولا يحق له أن ينقل فيقول: عن عبد الله بن عمر، وإذا كان الصحابي -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أو أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال، هل ألتزم بهذا النقل كما هو أم يحق لي التغيير؟

أقول مثل هذا الالتزام قدرٌ زائد على المطلوب، وهو زيادة في التحرِّي والتثبُّت والدقة والأمانة في النقل، لكن لو غيَّر فقال: عن أنس أو عن أنس بن مالك لا فرق؛ لأن الذات واحدة في المقصود، وبحث أهل العلم إبدال الرسول بالنبي والعكس، لا شك أنه إذا تُعبِّد باللفظ لا يجوز التغيير، ولذا رد النبي -عليه الصلاة والسلام- على البراء في حديث ذكر النوم: "ورسولك الذي أرسلت" قال: «لا، ونبيك الذي أرسلت» لكن لو قال عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو قال عن نبي الله -عليه الصلاة والسلام- لا فرق؛ لأن الذات التي نُسِب إليها الكلام واحدة، الذات واحدة، فلا فرق بين رسول الله -عليه الصلاة والسلام- باعتبار ذاته التي قالت هذا الكلام، ولا نبي الله -عليه الصلاة والسلام -، لكن من حافظ على الألفاظ التي اعتمدها في الأصل لا شك أنه زيادة في التثبت والتحرِّي. يبحث أهل العلم أيضًا الزيادة في نسب الشيخ، إذا قال: حدثنا محمد فهل للإنسان أن يقول: قال البخاري: حدثنا محمد بن بشار، وهو قال: حدثنا محمد فقط، وهو يجزم بأنه محمد بن بشار، أهل العلم يقولون: الورع ألا يفعل ذلك، بل يقتصر على ما قاله الإمام، وإذا أراد أن يزيد فليسلك الجادة المتبعة عند أهل العلم، فليقل: قال الإمام البخاري حدثنا محمدٌ يعني ابن بشار أو هو ابن بشار؛ ليدل على أنه هو الذي أضاف هذه الكلمة، وليست من قول شيخه الذي روَّاه هذا الخبر وهكذا.

لا شك أن هذا من زيادة تحرِّيهم وتثبُّتهم، وإلا فالذات ما تتغير سواءٌ نسبت أو لم تنسب، لكن لا شك أنه زيادة على القدر الذي روَّاه شيخه، الشيخ قال: حدثني محمد، أنت تعرف أن محمدًا تجزم مائة بالمائة أن محمدًا هو المقصود به ابن بشار، نعم لك أن تزيد في نسبه لكن لا تضفه إلى من حدَّثك، فتفصل بين كلامه بكلامٍ يُعرَف أنه من زيادتك، فتقول: يعني ابن بشار، أو هو ابن بشار وهكذا.

المقدم: ولذلك أهل العلم يسمون حديث ابن مسعود: حديث الصادق المصدوق، هل قوله: وهو الصادق المصدوق هذا اللفظة عن ابن مسعود -رضي الله عنه-؟

بلا شك، حدثني الصادق المصدوق يقصد به الرسول -عليه الصلاة والسلام- هي من لفظ ابن مسعود.

المقدم: ومن نقل: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بدون قول ابن مسعود: حدثني الصادق المصدوق؟

هذا الكلام لا يتغير، والصادق المصدوق هو -عليه الصلاة والسلام-، مثل لو قال: رسول الله أو نبي الله، لكن المحافظة على اللفظ الوارد في الأصل أمرٌ عند أهل العلم معتبَر، ويعتنون به كثيرًا؛ للدقة وزيادة التثبت والأمانة في النقل؛ لئلا يجرؤ أحد لو فُتح مثل هذا الباب أن يغيِّر ما يترتب على تغييره تغييرٌ في المعنى، لو فُتح الباب للناس كلهم أن يتصرفوا لاسيما في الكتب المدونة المكتوبة، يعني لو فُتح المجال لتعرضت هذه الكتب إلى التغيير والتبديل؛ لأنه ليس الناس كلهم على مستوًى واحد من الفهم والإدراك، ولذا جمهور العلماء يجيزون الرواية بالمعنى، ومع ذلك لا يجيزونها في الكتب في المصنفات، تَنقُل من صحيح البخاري بالمعنى لا يجوز لك أن تَنقُل بالمعنى، لكن فيما رويته بالمشافهة عن أحد يجوز أن ترويه بالمعنى؛ لأنه لو تطرقت الرواية بالمعنى إلى الكتب والمدوَّنات لمسخت هذه الكتب وهذه المدونات، كل واحد يزيد بالمعنى، وواحد ينقص بالمعنى، واحد يفهم غير فهم الآخر، ثم بعد ذلك تضيع هذه الكتب، بل لا بد إذا نُقِل من هذه الكتب من مصنَّف إلى مصنَّف لا بد أن يُنقَل بلفظه؛ لأن الرواية بالمعنى إنما أُجيزَت لحاجة، ومادام اللفظ عندنا بالحرف لا حاجة إلى الرواية بالمعنى، فانتفت الحاجة فانتفى الحكم.

المقدم: ثم قال بعد ذلك: "كتاب بدء الوحي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟" ثم ساق الحديث.

الكتاب الصحيح بكتاب بدء الوحي، فليس من وضع الإمام -رحمه الله تعالى-، ولذا قال الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى-: لم يستفتح المصنف بدء الوحي بكتاب­؛ لأن المقدمة لا تُستفتَح بما يُستفتَح به غيرها؛ لأنها تنطوي على ما يتعلق بما بعدها، ولفظ باب أيضًا بعد ذلك لا يوجد عند أبي ذر والأصيلي وثبت في رواية غيرهما، وبالمناسبة أبو ذر والأصيلي من رواة الصحيح، ذكرنا سابقًا أن الصحيح رواه عن مؤلِّفه أو تلقَّاه عن مؤلف أكثر من تسعين ألفًا، واشتهر، واستفاض في البلدان والأقطار، وحمله الخالفون عن السالفين برواياتٍ متعددة، وهذه الروايات يوجد في بعضها ما لا يوجد في بعض. ولذا يَستشكِل كثيرٌ من طلبة العلم الإكثار من ذكر أبي ذر في الشروح، ويذهب وهَلَه إلى أنه الصحابي الجليل، حتى استشكل بعضهم أن ذكر أبي ذر في صحيح البخاري أكثر من ذكر أبي هريرة، وقد سئلت مرارًا عن هذا السؤال، ذكر أبي ذر في صحيح البخاري ويقصد بذلك الشروح عند الشراح أكثر من ذكر أبي هريرة، والمجمع عليه أن أبا هريرة هو أكثر الصحابة على الإطلاق رواية للحديث.

فنقول: أبو ذر هذا عبد بن أحمد الهروي راوي الصحيح، وروايته هي أتقن الروايات وأضبطها، ولذا اعتمد عليها الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى-، والذين أدخلوا المتن مع الشرح أدخلوا متنًا لا يناسب الشرح، ولذا يوجَد في كثيرٍ من المواضع قوله ولا يوجد في المتن، ويوجد في المتن ألفاظ تحتاج إلى شرح هي من روايات أخرى غير روايات أبي ذر ولا يوجد لها شرح في فتح الباري وأمثاله ممن اعتمد على رواية أبي ذر.

على كل حال الكتاب من وضع الطابعين وليس من وضع.. حتى لا يوجد في شيء من الروايات كتاب بدء الوحي، ولذا نص الحافظ على أن المصنف لم يستفتح بدء الوحي بكتاب، أما الباب باب كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهذا لا يوجد أيضًا عند أبي ذر والأصيلي، لكنه موجود في غيرهما من الروايات. والباب في الأصل اسمٌ لما يُدخَل معه ويُخرَج منه، وهو في عرف المؤلفين اسمٌ لما يضم فصولاً ومسائلَ غالبًا، وهو مرفوع على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره هذا باب، ويجوز فيه التنوين والقطع عما بعده، ويجوز أيضًا تركه للإضافة إلى الجملة التالية، وجوَّز الكرماني الشارح التسكين على سبيل التعداد للأبواب فلا يكون له حينئذٍ إعراب.

و"بدء الوحي" روي بالهمز مع سكون الدال من الابتداء وبغير همزٍ مع ضم الدال وتشديد الواو من الظهور، قاله عياض، والوحي في اللغة: الإعلام في خفاء، ويطلق أيضًا على الإلهام، وشرعًا الإعلام بالشرع، ويطلق ويراد به اسم المفعول أي الموحى، وهو كلام الله المنزَّل على رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وقد اعترض بعضهم على المؤلف -رحمه الله تعالى- فقال: لو قال: كيف كان الوحي لكان أحسن؟ لأنه تعرَّض فيه لبيان كيفية الوحي، لا لبيان كيفية بدء الوحي فقط، وأجيب بأن المراد من بدء الوحي حاله مع كل ما يتعلق بشأنه أي تعلقٍ كان، وعطف في الصحيح على الترجمة وقول الله -عز وجل-: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ} [سورة النساء 163] وقول مرفوع عطفًا على باب، أو مجرور عطف على الجملة التي أضيفت إلى الباب، والتقدير: باب معنى قول الله -تعالى- كذا؛ لأن العطف على نية تكرار العامل، وحينئذٍ يقال: باب كيف كان بدء الوحي؟ وباب معنى قول الله -تعالى- كذا.

المقدم:....

هذا في الأصل، لكن الآية لا بد منها؛ لأنها هي التي الشاهد منها أوضح من الحديث للباب، وسيأتي ما ذكره بعض أهل العلم من أن الحديث لا تعلق له بالترجمة أصلاً، فإثبات الآية أولى من إثبات الحديث.

المقدم: يعني ننبه الإخوان إلى تغيير مسمى هذا الباب بناءً على الأصل الموجود؟

الآية مناسبة جدًّا للباب، ولذا حذْفها من المؤلِّف غير متجه، نعم هي لا توجد في المختصَر، لكن إثباتها أمرٌ لا بد منه، قوله: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ} [سورة النساء 163] الآية، قُدِّم ذكر نوح لأنه هو أول رسول، فلا يرد آدم -عليه السلام-، وإن اعترض العيني على ذلك فقال: "الذي يظهر من الجواب الشافي عن هذا أن نوحًا -عليه السلام- هو الأب الثاني، وجميع أهل الأرض من أولاده الثلاثة إلى قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ} [سورة الصافات 77] على كل حال هذا الاعتراض وإن استظهره العيني لكن يبقى أن كون الإشادة بالأب الثاني لا تعني إهمال الأب الأول، نعم فلا يندفع الإشكال، فتقديم نوح؛ لأنه أول رسول أولى، ومناسبة الآية للترجمة واضح، من جهة أن صفة الوحي إلى نبينا -صلى الله عليه وسلم- توافق صفة الوحي إلى من تقدمه من النبيين.

نعم اقرأ الحديث.

"قال رحمه الله: عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه»."

هذا الحديث حديث عمر في الأعمال بالنيات استُشكِل واعتُرِض على الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- في إدخاله هذا الحديث في ترجمة بدء الوحي، حتى قال بعضهم: إنه لا تعلق له بالباب أصلاً، ولذا فإن الخطابي في شرحه والإسماعيلي في مستخرجه أخرجاه قبل الترجمة؛ لاعتقادهما أنه إنما أورده للتبرك به فقط، أو ليكون بمثابة الخطبة للكتاب قبل الشروع في مقصود الكتاب، وقال ابن رشيد -رحمه الله-: لم يقصد البخاري بإيراده سوى بيان حسن نيته فيه، في هذا التأليف، ونقله الحافظ في الفتح عن ابن رشيد.

ونقل ابن بطال عن أبي عبد الله بن النجار قال: التبويب يتعلق بالآية والحديث معًا، ولذا قلنا: أن حذف الآية من الباب لا وجه له، بل ينبغي أن تثبت الآية، التبويب يتعلق بالآية والحديث معًا؛ لأن الله -تعالى- أوحى إلى الأنبياء ثم إلى محمد -صلى الله عليه وسلم- أن الأعمال بالنيات؛ لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [سورة البينة 5] وقال ابن المنيِّر في أول التراجم: كان مقدمة النبوة في حق النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الله -تعالى- بالخلوة في غار حراء، فناسب الافتتاح بحديث الهجرة، وقال ابن حجر: ومن المناسبات البديعة الوجيزة ما تقدمت الإشارة إليه أن الكتاب لما كان موضوعًا لجمع وحي السنة صدَّره ببدء الوحي، ولما كان الوحي لبيان الأعمال الشرعية صدَّره بحديث الأعمال.

يقول ابن حجر: ومع هذه المناسبات لا يليق الجزم بأنه لا تعلق له بالترجمة أصلاً، مع هذه المناسبات التي أبداها ابن رُشَيد وغيره وما نقل عن أبي عبد الله بن النجار، وما قاله ابن حجر من المناسبة البديعة لا يليق الجزم بأن الحديث لا تعلق له بالترجمة أصلاً.

والحديث يذكر أهل العلم أن له سببًا، يقول ابن دقيق العيد: نقلوا أن رجلاً هاجر من مكة إلى المدينة لا يريد بذلك فضيلة الهجرة، وإنما هاجر ليتزوج امرأة تسمى أم قيس، فلهذا خُصَّ في الحديث ذكر المرأة دون سائر ما ينوى به، وقصة المهاجر رواها سعيد بن منصور والطبراني عن ابن مسعود، قال ابن حجر: قصة المهاجر إسنادها صحيح على شرط الشيخين، لكن ليس فيه أن حديث الأعمال سيق بسبب ذلك، يقول: ولم أرَ في شيء من الطرق ما يقتضي التصريح بذلك.

وعلى كل حال الحديث صحيح متفقٌ عليه، مخرَّجٌ في الصحيحين وغيرهما من دواوين الإسلام المشهورة في السنن والمسانيد والجوامع وغيرها، يقول ابن حجر: "ثم إن هذا الحديث متفقٌ على صحته، أخرجه الأئمة المشهورون إلا الموطأ، ووهم من زعم أنه في الموطأ، مغترًّا بتخريج الشيخين له والنسائي من طريق مالك". قلتُ: لكنه في الموطأ، هو في الموطأ من رواية محمد بن الحسن الشيباني، في باب النوادر من كتاب السير في أواخر الكتاب.

يقول السيوطي في تنوير الحوالك: رواية محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة فيها أحاديث يسيرة زيادة على سائر الموطآت، منها حديث: «إنما الأعمال بالنيات» وبذلك يتبين صحة قول من عزا روايته إلى الموطأ ووهمُ من خطأه في ذلك.

والحديث مع ذلك حديثٌ فرْد، فرْدٌ مطلق تفرَّد بروايته عمر بن الخطاب عن النبي -صلى الله عليه وسلم-، وتفرد بروايته عنه علقمة بن وقاص الليثي، وتفرد بروايته عنه محمد بن إبراهيم التيمي، وتفرد بروايته عنه يحيى بن سعيد الأنصاري، وعنه انتشر انتشارًا بالغًا حتى نُقِل عن أبي إسماعيل الأنصاري الهروي أنه قال: كتبته من حديث سبعمائة من أصحاب يحيى، يقول ابن حجر: قلتُ: وأنا أستبعد صحة هذا، فقد تتبعت طرقه من الروايات المشهورة والأجزاء المنثورة منذُ طلبت الحديث إلى وقتي، فما قدرت على تكميل المائة، وقد تتبعت طرق غيره فزادت على ما نقل عمن تقدم، وأطلق الخطابي نفي الخلاف بين أهل الحديث في أنه لا يُعرَف إلا بهذا الإسناد، قال ابن حجر: وهو كما قال، نفي الخلاف على إطلاقه، أنه لا يروى إلا بهذا الإسناد أو لا يُعرَف إلا بهذا الإسناد هو كما قال لكن بقيدين: أحدهما: الصحة، والثاني: السياق؛ لأنه ورد من طرق معلولة ذكرها الدارقطني وأبو القاسم بن منده، وورد في معناه عدة أحاديث صحت في مطلق النية، كحديث عائشة وأم سلمة عند مسلم: «يُبعَثون على نياتهم»، وحديث ابن عباس: «ولكن جهاد ونية» وحديث أبي موسى: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» متفقٌ عليهما، وحديث ابن مسعود: «رب قتيلٍ بين الصفين الله أعلم بنيته» أخرجه أحمد، وحديث عبادة: «من غزا وهو لا ينوي إلا عقالاً فله ما نوى» أخرجه النسائي، إلى غير ذلك مما يتعسر حصره.

وإطلاق الخطابي نفي الخلاف بين أهل الحديث أنه لا يعرف إلا بهذا الإسناد كلامٌ صحيح، لكن بالقيدين اللذين ذكرها ابن حجر، الصحة؛ لأنه ورد من طرق عن جمعٍ من الصحابة لكنه لا يثبت، وورد بسياقٍ أو بألفاظ أخرى في مناسبات كثيرة غير السياق الذي أورده به عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-، وعرف بهذا التقرير غلط من زعم أنه حديثٌ متواتر، إلا إن حمل على التواتر المعنوي فيحتمل، حمل على التواتر المعنوي فالأحاديث التي ذكرت في النية وأهميتها تبلغ حد التواتر، بمجموعها تبلغ حد التواتر، وإن كانت مفرداتها لا تصل إلى ذلك.

المقدم: هذه القاعدة تقول أن كل حديث وجدت له طرق غير صحيحة لا يعتبر بها ولا تعد طرق للحديث؟

أولاً: الحديث إذا صح وثبت عند أهل العلم لا نحتاج له إلى طرق، الأمر الثاني: أن الطرق منها ما يعتد به ويلجأ إليه عند الحاجة، وذلكم إذا كان الضعف غير شديد، إذا أردنا تقوية الحديث من الضعيف إلى الحسن لغيره فإننا نلجأ إلى مثل هذه الطرق إذا كان ضعفها غير شديد، أما إذا كان ضعفها شديد فوجودها مثل عدمها.

المقدم: أحسن الله إليك يا شيخ ذكرتم أن الحديث رواه عن عمر علقة وهو غريب مطلق، لماذا لم يروه عن عمر إلا علقمة رغم أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- حدث بالحديث على المنبر، وورد هذا في سند الحديث أنه حدث به أو سمعت عمر بن الخطاب وهو على المنبر؟

 

نعم الحديث فرْدٌ مطلق لم يثبت عن النبي -عليه الصلاة والسلام- إلا من طريق عمر، ولا عن عمر إلا عن علقمة، وعلقمة يقول: سمعت عمر بن الخطاب على المنبر يقول..