شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (120)

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً بكم إلى حلقة جديدة في برنامجكم شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح.

مع مطلع حلقتنا نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير، فأهلاً ومرحبًا بكم شيخ عبد الكريم.

حياكم الله، وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين.

لازلنا- أحسن الله إليكم- في حديث أبي واقد الليثي، نستكمل ما تبقى منه. أحسن الله إليك.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وقفنا على قوله: «وأما الثالث فأدبر ذاهبًا»، أي حال كونه ذاهبًا، وعرفنا أن كلمة: (ذاهبًا) قد تؤخذ من أدبر.

المقدم: لكن تأكيد للذهاب.

لكن تأكيد للذهاب، وأنه لم يرجع، يقول الكرماني: فإن قلت: فهل هذا مكرر؟ لأنه قال: «فأقبل اثنان إلى الرسول وذهب واحد، وأما الثالث فأدبر ذاهبًا»؛ لأنه قال متقدمًا: «وذهب واحد»، يقول الكرماني: قلتُ: عُلم من ذكره أولًا أنه لم يقبل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومن ذكره ثانيًا أنه أدبر مستمرًّا في ذهابه ولم يرجع.

لأن كلمة أدبر تدل على أنه قبل هذا الإدبار كان مقبلًا، ألا يدل قوله: فأدبر ذاهبًا مفهومه أنه أقبل ثم أدبر.

المقدم: لا ما يفهمها هكذا.

ما يفهم؟ إذن كيف يقول: «وذهب واحد»؟ انظر كلام الكرماني: قلت: عُلم من ذكره أولاً أنه لم يقبل وذهب واحد من الأصل ما فيه لا أقبل ولا أدبر، ذهب، ما فيه إقبال ولا إدبار، أنه لم يقبل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الأصل.

المقدم: لكن نحن اتفقنا في شرح الإقبالين في الحلقة الماضية يا شيخ، قلنا: أقبل ثلاثة، فأقبل اثنان وأدبر واحد.

كيف؟ في الحديث أقبل اثنان وذهب واحد: «وأما الثالث فأدبر ذاهبًا»، الأول والثاني: «أما أحدهما.. وأما الآخر» ذكرهما لمعنى جديد، لكن الثالث هل فيه معنى جديد؟ فيه معنى جديد بالنسبة للثالث؟ هو مدبر وذاهب من الأصل.

أقبل اثنان أحدهما وجد فرجة وجلس، والثاني جلس حيث انتهى به المجلس، الآخر جلس خلفهم حيث انتهى به المجلس، الثالث يحتاج إلى ذكر؛ لأنه من الأصل ذهب واحد؟ ما كان منه إقبال أصلًا.

يقول: عُلم من ذكره أولاً -يعني وذهب واحد- أنه لم يقبل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومن ذكره ثانيًا -فأدبر ذاهبًا- أنه أدبر مستمرًّا في ذهابه ولم يرجع. فلما فرغ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مما كان مشتغلًا به من تعليم القرآن أو العلم أو الذكر أو الخطبة أو نحو ذلك، ما كان مشتغلًا به- عليه الصلاة والسلام- وهو إما مشتغل بتعليم (قرآن أو علم) أو ذكر أو خطبة أو ما أشبه ذلك.

قال: «ألا» بالتخفيف حرف تنبيه، والهمزة يحتمل أن تكون للاستفهام و(لا): للنفي. احتمال قائم.

ثم قال: «ألا أخبركم عن النفر الثلاثة»، قال الكرماني: في الكلام طي، كأنهم قالوا: أخبرنا، فقال:..

وحذف مثل هذا كثير في النصوص، يحذف من القصة ما يعلم، قال الكرماني: في الكلام طي كأنهم قالوا أخبرنا، فقال: «أما أحدهم فأوى»، بقصر الهمزة؛ أي لجأ إلى الله تعالى، «فآواه الله» بالمد.

 قال القرطبي: الرواية الصحيحة بقصر الأول ومد الثاني: أوى فآواه الله، وهو المشهور في اللغة، وفي القرآن: { إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ} [الكهف:11].

بالقصر، { وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ} [المؤمنون 50]، بالمد وحكي في اللغة القصر والمد معًا فيهما.

الحاضر:....

نعم فيهما، لكن في اللغة..

المقدم: آوى وآويناه.

هذا في اللغة لا في القراءة.

الحاضر:....

 كيف؟ عندك في الحديث: «وأما أحدهم فأوى إلى الله فآواه الله». وتأتي أيضًا: فآوى إلى الله فآواه الله، بالقصر والمد.

نظيره: (آتى وأتى)، أتى بمعنى جاء، وآتى..

المقدم: وآتى أعطى.

وآتى: أعطى، فأوى غير آوى من حيث المعنى. وإن جاءت اللغة بقصر الممدود ومد المقصور.

وهذا متى يكون؟ إذا أُمن اللبس، إذا أمن اللبس، مثل: آمين، «إذا قال: ولا الضالين، فقولوا: آمين» بالمد. جاءت بالقصر: أمين. لكن هذا متى؟ إذا أمن اللبس.

المقدم: إذا أُمن اللبس.

إذا أُمن اللبس، قال الجوهري: أوى فلان إلى منزله، يأوي أويًا، وآويته إيواءً، وأويته إذا أنزلته بك.

فرق بين: إذا وبين أي، وأويته إذا أنزلته بك، لكن لو أتيت بأي، قلت ماذا؟ أي أنزلته بي، ما تأتي: بك.

المقدم: أنزلته بي.

وأويته إذا أنزلته بك، وأويته أي أنزلته بي. إذا أتيت بإذا كما هنا وأويته إذا أنزلته بك. ولو جئت بأي بدل إذا قلت: وأويته أي أنزلته بي، ما تقول بك تتحدث عن نفسك.

يقول: فعلت وأفعلت بمعنىً، قال ابن حجر: معنى أوى إلى الله: لجأ إلى الله، أو على الحذف: أي انضم إلى مجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ومعنى: فآواه الله: أي جازاه بنظير فعله، بأن ضمه إلى رحمته ورضوانه. هل هذا فيه تأويل؟ سيأتي بحث هذا عند الاستحياء، بحث المسألتين معًا.

الحاضر:.....

يأتي هذا إن شاء الله كله. والاستحياء أيضًا.

وأما الآخر وهو الثاني فاستحيا: أي ترك المزاحمة، أو استحى.

المقدم: استحيا أو استحى.

استحيا لغة قريش، واستحى لغة تميم. أي ترك المزاحمة حياءً من رسول الله– صلى الله عليه وسلم- ومن أصحابه، وعند الحاكم: «ومضى الثاني قليلًا ثم جاء فجلس»، أراد أن يذهب ثم استحيا من نظر الرسول-صلى الله عليه وسلم- إليه، ونظر الناس فاستحيا، ثم رجع فجلس. «ومضى الثاني قليلًا ثم جاء فجلس».

أما الثالث فأدبر ذاهبًا، ما رجع، قال ابن حجر: فالمعنى أنه استحيا من الذهاب عن المجلس كما فعل رفيقه الثالث، فاستحيا الله منه: في هذا إثبات صفة الحياء لله -عز وجل-، على ما يليق بجلاله وعظمته من غير مشابهة لحياء المخلوق؛ لأن حياء المخلوق أصله تغير وانكسار يعتري المخلوق، لكن هنا بالنسبة لحياء الله- جل وعلا- على ما يليق بجلاله وعظمته من غير تعرض لتكييفه.

وأما الآخَر أو الآخِر؟

المقدم: هنا في الحديث: وأما الآخَر.

وأما الآخَر فجلس خلفهم الذي هو الثاني، وأما الأخير الذي هو الثالث فتكون: وأما الآخَر وهي كناية عن الثالث. كما تقدم أن الآخر هو الثاني.

والأصل أنه الأخير، يعني الآخر بمعنى المتأخر، وأما الآخر والثالث فأعرضا عن مجلس رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يلتفت إليه، بل ولى مدبرًا من غير رغبة ولا حياء.

ولى مدبرًا من غير رغبة كما فعل الأول، ولا حياءً كما فعل الثاني. فأعرض الله تعالى عنه، فمن أعرض عن تعلم ما ينفعه فلم يتعلمه من غير عذر، أو أعرض عن مذاكرته بحيث عرضه للنسيان فإنه يعاقب على ذلك.

قال ابن حجر: هو محمول على من ذهب معرضًا لا لعذر، هذا إن كان مسلمًا، حكم الإعراض عن دين الله لا يتعلمه ولا يرفع به رأسًا حكمه ماذا؟

الحاضر: من النواقض.

نعم ذكره من النواقض. والعلم بحسب المعلوم، يعني تعلم الواجبات واجب، وتعلم الأركان لا بد منه، وتعلم المستحبات على حسب المعلوم. وتقدم بيان حكم العلم في بداية كتاب العلم.

الحاضر:...

بلا شك، قال ابن حجر: هو محمول على من ذهب معرضًا لا لعذر هذا إن كان مسلمًا، ويحتمل أن يكون منافقًا، واطلع النبي-عليه الصلاة والسلام- على أمره، كما يحتمل أن يكون قوله: «فأعرض الله عنه»، إخبارًا أو دعاءً.

هل هو إخبار من النبي -عليه الصلاة والسلام- أن الله أعرض عنه، أو دعاءً عليه بأن يعرض الله -جل وعلا- عنه؟ الاحتمال القائم؛ لأن الصيغة واحدة في الأمرين؛ الصيغة صيغة خبر، والخبر يَرِد ويراد به الدعاء.

وقع في حديث أنس: «فاستغنى فاستغنى الله عنه»، وهذا يرشح كونه خبرًا. هل يتصور أن يدعو عليه أن الله يستغني عنه؟ لا، فهذا يرجح كونه خبرًا.

وإطلاق الإعراض وغيره في حق الله تعالى على سبيل المقابلة والمشاكلة. كما تقدم نظيره في: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة 67].

فيحمل كل لفظ منها على ما يليق بجلاله سبحانه وتعالى، يعني نحمل هذه الألفاظ على ما يليق بالله -جل وعلا- من غير نظر إلى ما يليق بالمخلوق؛ لأن من نظر إلى ما يليق بالمخلوق، والتزم به نفى ما ورد عن الله وعن رسوله -عليه الصلاة والسلام- فيما يتعلق بالله -جل وعلا- من صفات. فلا ننظر إلى ما يتعلق بالمخلوق في مثل هذه الألفاظ.

 في هذا الحديث استحباب الأدب في مجالس العلم.

المقدم: فيه مسألة، إن أذنت فضيلة الدكتور، أحسن الله إليك، ألا يفهم هكذا من ظاهر الحديث أن الشخص الذي جلس حيث انتهى به المجلس هو الذي اتبع السنة، رغم أن الثناء كان للأول، لكن إذا جاء الإنسان لحلقة... الأفضل في حقه أن يجلس حيث انتهى به ما يزاحم ولا يتخطى الرقاب كما يفهم من فعل الثاني هذا؟

الإمام البخاري -رحمه الله تعالى- ترجم الحديث بقوله: باب من قعد حيث ينتهي به المجلس، ومن رأى فرجة في الحلقة، سد الفرجة سواء كانت في حلقة أو في صف أولى من الجلوس حيث ينتهي به المجلس؛ شريطة ألا يترتب عليه أذى لأحد.

لكن إذا ترتب عليه أذى لأحد صار الفاضل مفضولًا كما أشرنا.

المقدم: لكن الثناء الذي جاء من النبي -عليه الصلاة والسلام- للأول أيضًا يفهم أنه أكثر من الثاني، أوى إلى الله فآواه الله.

نعم؛ لأنه وجد فرجة، وسد الفرج في مثل هذه الأحوال، يعني أولًا: مجيئه إلى هذه الفرجة من قصد أن يقرب من النبي -عليه الصلاة والسلام- فلا يفوته شيء مما يقوله -عليه الصلاة والسلام-، وهذا يدل على حرص، بخلاف من انتهى به المجلس فجلس، وإن كان مطبقًا للسنة، فالتطبيق درجات. التطبيق درجات.

الحاضر:....

المقصود أن الأول مدح؛ لأنه وجد فرجة، وتعديه إلى أن يصل إلى سد هذه الفرجة باعثه الحرص، تجد كثيرًا من الطلاب يجلس عند باب المسجد والمسجد فاضٍ، وقد يستند إلى الجدار الآخر في المسجد، ويصلي والناس يمرون بين يديه، والصفوف أمامه، هذا ينبئ عن عدم اكتراث، وعدم اهتمام، بخلاف من تخطى وتعدى وسد الفرج، شريطة ألا يتخطى رقاب الناس، ولا يؤذي أحدًا، أما إذا آذى فلا شك أن درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.

في الحديث استحباب الأدب في مجالس العلم، وفضل سد خلل الحلقة، كما ورد الترغيب في سد خلل الصفوف.

وجواز التخطي لسد الخلل ما لم يؤذِ، فإن خشي استحب الجلوس حيث ينتهي به المجلس، كما فعل الثاني.

وفيه الثناء على من زاحم في طلب الخير، على ألا يؤذي أحدًا، وهذا هو عين المنافسة، { وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين 26]، فيه الثناء على من زاحم في طلب الخير ونافس، على ألا يؤذي أحدًا.

بعض الناس يأتي متأخرًا، ويحرص أن يكون في الصف الأول وفي يمين الصف، فيترتب على ذلك أذية للناس، فهل معنى هذا أنه طبق السنة؟ ما طبق السنة في مزاحمته وإيذائه للآخرين، يا أخي إذا كنت تريد الصف الأول الذي إذا تزاحم عليه اثنان بأن دخلا دفعة واحدة وفيه فرجة لا تكفي إلا واحدًا، لو لم يكن هناك إلا أن يستهموا، يقترعوا على هذه الفرجة، كذلك النداء: لو وجد اثنان الشروط فيهما على حد سواء، «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا عليه»، يعني يقترعوا قرعة، وهذا من المسارعة والمبادرة والحرص على الخير.

بحيث لا يفهم من الإنسان عدم الاكتراث، بعض الناس مثل ما أشرنا يأتي والصفوف فارغة وفيها فرجات وفيها أماكن شاغرة، ثم يذهب إلى الآخر.

هنا مسألة الإيثار: الإيثار في القرب مثلًا، شخص في الصف الأول، وفي يمين الصف كذلك، فدخل أبوه مثلًا فأراد أن يؤثره، في الحديث: «ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا»، هل معنى هذا أنه إذا آثر أباه كان راغبًا عن الخير؟ أو ليحصِّل مصلحة هي أعظم مما بادر إليه؟

الحاضر:...

الإيثار في القرب حكمه معروف، يطلقون الكراهة وعلى حسب هذه القربة، فالإيثار بالواجبات حرم، لو كان بمستحبات فعلى ما يترتب على هذا الإيثار من مصالح، قد تكون المصلحة في الإيثار أعظم من مصلحة تحصيل الفضل المرتب على هذه القربة.

المقدم: كما في فعل عائشة مثلاً؟

نعم، معروف.

المقدم: أحسن الله إليك يا شيخ، إذا أذنت: صورة الرجل الثالث الذي أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه أعرض فأعرض الله عنه، هل يمكن أن يقال إنها تنطبق على ما يتكرر كثيرًا ما إذا صلى المرء في مسجد ثم تكلم الإمام، أو تكلم خطيب بعد الصلاة، فخرج المرء لا لعذر، لكنه تثاقل أو تململ، ومثلها مثلاً الإذاعة إذا فتح المذياع، وكان القارئ يقرأ القرآن، فبحث عن أخبار أو شيء غير هذا، هل هذا أعرض فيُخشى عليه أن يكون ممن كان كذلك؟

بحسب ما يقر في قلبه، هذا بحسب ما يقر في قلبه؛ لأن هناك أمورًا فاضلة لكنها مدركة مع الوقت، وهناك أمور مفضولة، لكنها تفوت.

فيقدم حينئذٍ المفضول على الفاضل؛ لأنه يفوت، أما من كان ديدنه إذا تكلم الإمام أو حدث الإمام قرأ من كتاب مثلاً، ديدنه الإعراض، إذا سلم صار بحيث يكون من السرعان، نعم الصحابة فيهم سرعان كما جاء في حديث ذي اليدين، لكن ما ينبغي أن يكون ديدن المسلم لمجرد ما يسلم يخرج من المسجد، كأنه طير في قفص، لا يا أخي، والملائكة تصلي على المصلي مادام في مصلاه، يعني تدعو له مادام في مصلاه ما لم يحدث، ما لم يؤذِ. فينبغي للمسلم أن يعنى بهذا ولا يتشبه بمثل هذا، ولو لم يقر في قلبه الإعراض عن الله وعن ذكره؛ لئلا يتشبه بمثل هذا فيكون ديدنًا له ووصفًا له ملازمًا، فيعرض لمثل هذا الوعيد.

المقدم: الأخ يسأل في تفاوت الأفضلية بين القرب من الإمام أو الخطيب، أو تحصيل الصف الأول.

هذا متصور في خطبة الجمعة مثلًا طرف الصف الأول أبعد عن الخطيب من منتصف الصف الثاني، ولا شك أن النصوص جاءت في الصف الأول، يعني النصوص عمومها جاء في تحصيل أجر الصف الأول، والفضل المرتب عليه أكثر مما جاء في القرب من الخطيب، وإن كان قرب الناس في يوم المزيد من الله- جل وعلا- بحسب قربهم من الخطيب، لكن على أن لا يتعارض مع نصوص أخرى.

فيه أيضًا جواز الإخبار عن أهل المعاصي وأحوالهم للزجر عنها، «فأعرض فأعرض الله عنه»، ولا يُعدّ ذلك من الغيبة، وفي الحديث أيضًا فضل ملازمة حلق الذكر، والعلم، وجلوس العالم والمذكر في المسجد، وفيه الثناء على المستحيي.

فيه الثناء على الراغب ما فيه إشكال، ولكن فيه أيضًا الثناء على المستحيي، «استحيا فاستحيا الله منه».

وقال ابن بطال: قال المهلب: فيه من الفقه أن من جلس إلى حلقة فيها علم، أو ذكر، أنه في كنف الله وفي إيوائه، وهو ممن تضع له الملائكة أجنحتها، يعني رضًا بما يصنع، وكذلك يجب على العالم أن يؤوي من جلس إليه متعلمًا؛ لقوله: «فآواه الله»، ما لم يكن هذا معارضًا بعمل آخر، يكون عند هذا العالم بحيث لا يعوقه عن تحصيل مصلحة، فينبغي للعالم أن يفتح نفسه وصدره وقلبه لطلاب العلم، ويرحب بهم، فهم وصية النبي -صلى الله عليه وسلم-.

وفيه من الفقه أن من قصد العلم ومجالسه فاستحيا ولم يمنعه الحياء من التعلم ومجالسة العلماء أن الله يستحيي منه، يعني ما هو في درجة الراغب الذي جاء راغبًا في العلم، لكن هذا وجد الناس فاستحيا أن يخرج.

مثل هذا يستحيي الله منه، كما جاء في الحديث، فلا يعذبه جزاء استحيائه، وقد قالت عائشة -رضي الله عنها-: «نِعْمَ النِّسَاءُ نِسَاءُ الْأَنْصَارِ لَمْ يَمْنَعُهُنَّ الْحَيَاءُ أَنْ يَتَفَقَّهْنَ فِي الدِّينِ»، فالحياء المذموم في العلم هو الذي يبعث على ترك العلم، هي سَمَّت الذي يمنع من التفقه في الدين سمته حياءً، لكنه حياء عرفي، وليس بحياء شرعي؛ لأن الحياء كله خير.

وفيه ذم من أعرض عن العلم قبل التعلم أو بعده، ألا ترى قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا} [الأعراف 175].

وهذا انسلخ من إيواء الله بإعراضه عنه.

والحديث أخرجه الإمام البخاري في موضعين؛ الأول: هنا في كتاب العلم: باب من قعد حيث ينتهي به المجلس، ومن رأى فرجة في حلقة فجلس فيها.

قال -رحمه الله-: حدثنا إسماعيل بن أبي أويس ابن أخت مالك قال: حدثني مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة أنا أبا مرة مولى عقيل بن أبي طالب أخبره عن أبي واقد الليثي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بينما هو جالس في المسجد..الحديث. وسبق ذكر مناسبته.

والموضع الثاني: في كتاب الصلاة: باب الحلق والجلوس في المسجد، قال: حدثنا عبد الله بن يوسف قال: أخبرنا مالك عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، أن أبا مرة مولى عقيل بن أبي طالب أخبره أن أبا واقد الليثي..فذكره.

والمناسبة بين قوله: «فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة»، في حديث الباب في هذا الموضع فيه: «فرأى فرجة في الحلقة» في الموضع الثاني الذي فيه باب الحِلق ليس فيه: «في الحلقة».

البخاري -رحمه الله- يترجم على الحديث بناءً على مجموع رواياته، وقد يشير في الترجمة إلى رواية لم يخرجها هو؛ لكونها ليست على شرطه، لكنها صحيحة.

والمناسبة بين قوله: «فأما أحدهما فرأى فرجة في الحلقة» المذكورة في رواية الباب ظاهرة. والحديث أيضًا خرجه مسلم، فهو متفق عليه.

المقدم: أحسن الله إليك، في قوله -صلى الله عليه وسلم-: «وأما الآخر فاستحيا فاستحيا الله منه» كيف يجمع بينه وبين قوله -صلى الله عليه وسلم- لما أخبر عمن جلس في مجالس الذكر ثم أخبر عن الله- عز وجل- أنه قال: «هم القوم لا يشقى بهم جليسهم».

بمعنى أن الأجر يشملهم، مع اختلاف مقاصدهم وأهدافهم، فالجالس مع الأخيار لن يشقى بجلوسه معهم، وإن لم يكن الجلوس مقصدًا له من الأصل، فهم الأخيار القوم لا يشقى بهم جليسهم، كما أن الأشرار لا يسعد بهم جليسهم. وإن كان الأخيار متفاوتين في هذا الأجر، كل على حسب نيته: «إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى»، وإنما القاسم المشترك بين هؤلاء الأخيار هو الأجر، لكن هم متفاوتون في الأجر، بقدر مقاصدهم وأهدافهم، والله المستعان.

المقدم: جزاكم الله خيرًا، وأحسن الله إليكم، ونفع بعلمكم. بها نصل وإياكم، أيها الإخوة والأخوات، إلى ختام هذه الحلقة من برنامجكم، على أن نلقاكم بإذن الله تعالى في حلقة قادمة، وأنتم على خير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.