شرح العقيدة الواسطية (44)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، نعم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد فقد قال المصنف -رحمه الله تعالى-: فصل، ثم هم مع هذه الأصول: يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر على ما توجبه الشريعة. ويرون إقامة الحج والجهاد والجُمع والأعياد مع الأمراء أبرارًا كانوا أو فجارًا، ويحافظون على الجماعات. ويدينون بالنصيحة للأمة، ويعتقدون معنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضه بعضًا. وشبك بين أصابعه -صلى الله عليه وسلم-» وقوله: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر» ويأمرون بالصبر عند البلاء، والشكر عند الرخاء، والرضا بمر القضاء، ويدعون إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ويعتقدون معنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: «أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا». ويندبون إلى أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، ويأمرون ببر الوالدين، وصلة الأرحام وحسن الجوار، والإحسان إلى اليتامى والمساكين وابن السبيل، والرفق بالمملوك، وينهون عن الفخر والخيلاء، والبغي والاستطالة على الخلق بحق أو بغير حق، ويأمرون بمعالي الأخلاق وينهون عن سفاسفها، وكل ما يقولونه أو يفعلونه من هذا أو غيره فإنما هم فيه متبعون للكتاب والسنة، وطريقتهم هي دين الإسلام الذي بعث الله به محمدًا -صلى الله عليه وسلم-. لكن لما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة -وهي الجماعة- وفي حديث عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي» صار المتمسكون بالإسلام المحض الخالص عن الشوب هم أهل السنة والجماعة، وفيهم الصديقون والشهداء والصالحون ومنهم أعلام الهدى، ومصابيح الدجى؛ أولوا المناقب المأثورة والفضائل المذكورة، وفيهم الأبدال: الأئمة الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم وهم الطائفة المنصورة الذين قال فيهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة». فنسأل الله العظيم أن يجعلنا منهم، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب، والله أعلم. وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليما كثيرًا.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد، فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى- في الفصل الأخير من هذه الرسالة المباركة في عقيدة أهل السنة والجماعة: فصلٌ، ثم هم مع هذه الأصول التي تقدم ذكرها من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وصفاته وأسمائه الحسنى وصفاته العلا، وجميع ما تقدم في الفصول الماضية، بعد ذلك يعني من مسائل الاعتقاد، ثم مع هذه الأصول يعني لا يقتصرون عليها، يعني ليس إيمانهم وعملهم وعقيدتهم مجرد أمور نظرية لا واقع لها في العمل، بل هم مع ذلك يقرنون الاعتقاد بالعمل، ويجمعون بين التنظير والتطبيق، ثم مع هذه الأصول يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر على ما توجبه الشريعة، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هذه الشعيرة هي ميزة هذه الأمة، وهي سبب خيريتها {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله}، قُدِّم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الإيمان، وإن كان الأمر والنهي لا يصلح إلا بعد الإيمان، من شرط صحته كسائر العبادات وكسائر الأعمال الشرعية الإيمان، لكنه قُدِّم؛ لأنه هو الذي تميَّزت به هذه الأمة، وإلا فالإيمان يشاركهم فيه غيرهم من الأمم الذين اتبعوا الأنبياء وهذا هو سبب تقديم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما لُعن بنو إسرائيل إلا لكونهم لا يتناهون عن منكر فعلوه، وهذه الشعيرة من أوجب شعائر الإسلام الظاهرة، بل اعتبرها جمع من أهل العلم ركن من أركان الإسلام وما ساءت أحوال الناس وما فسدت المجتمعات إلا بترك هذه الشعيرة، وجاء في الحديث الصحيح: «من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه» وللأمر والنهي شروط: أولاً المعروف ما طلبه الشرع، والمنكر ما نهى عنه الشرع، ومنهم من يعرف المعروف بما عرف حسنه شرعًا أو عقلاً، والمنكر ما عرف سوؤه ونكره شرعًا أو عرفًا، لكن كل ما يطلبه الشرع معروف يؤمر به، كل ما يأمر به الشرع فإنه من المعروف الذي يؤمر به، وكل ما ينهى عنه الشرع فهو من المنكر الذي ينهى عنه، على درجات ما يطلب ودرجات ما ينهى، فما يطلب منه الواجب فهذا يؤمر به بحزم وعزم، ومنه المستحب، وهذا يطلب بما يناسبه من الأسلوب ومما ينهى عنه ما يطلب تركه بحزم وعزم وهو المحرَّم، والمحرمات متفاوتة بدءًا من الشرك إلى ما حرَّمه الله -جلَّ وعلا- في كتابه وسنة نبيه -عليه الصلاة والسلام- من الصغائر، ومنه ما يطلب لا بعزم ولا حزم وهو المكروه وفي كل منكر يسلك الأسلوب المناسب لإنكاره، وفي كل معروف يسلك الأسلوب المناسب للأمر به فالأساليب الناجعة المفيدة التي تترتب عليها آثارها من فعل المعروف وترك المنكر، ولا يترتب عليها ضرر لا عام ولا خاص، ولا يترتب عليها أيضًا منكر أعظم منها، فبهذه الطريقة تزول المنكرات وتطهَّر المجتمعات من المنكرات الظاهرة التي عمّت وطمت في بلاد المسلمين، حتى أدّى الأمر ببعض الناس إلى أن يقولوا هذه الأمور مما عمت بها البلوى فلا تنكر، وصاروا يبررون لأنفسهم في ترك الإنكار بمثل هذا الكلام؛ الأمر بالمعروف واجب نعم على الكفاية، لا يلزم الناس كلهم أن ينكروا منكرًا واحدًا، أو يأمروا بمعروف واحد، لا، لكن إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين، فهو من واجبات من فروض الكفاية شريطة ألا يترتب على الأمر أو النهي منكر أعظم منه، أو ترك ما هو أوجب من هذا المعروف؛ لأن بعض المخالفين عنده عناد، وقد تكون لديه قوة ومنعة، فإذا نهي عن شرب الخمر ارتكب الفواحش، بل قد يكفر بالله -جلَّ وعلا-، وكذلك إذا أمر بمعروف فقد يتجاوز ذلك إلى ما هو أشدُّ منه، يؤمر الإنسان برفق إذا ترك الحج يؤمر برفق؛ لئلا يؤدي أمره بالحج إلى ترك الصلاة، يعني إذا جئت إلى من لم يحج تعرف من طبعه أن فيه الحدة والشدة والغضب، وقلت له: كتب عمر إلى الأمصار أن انظروا من كانت لديه جِدَة فلم يحج فاضربوا عليهم الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين، قال: إذا كان الوضع هكذا، لماذا أصلي؟ أترك الصلاة، مثل هذا يعامل بمعاملة فيها شيء من الرفق الذي يحقق المصلحة ولا يترتب عليه مفسدة، وقل مثل هذا في جميع الأمور.

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له شروط وله آداب بينها أهل العلم، ومن القبيح أن يأمر الإنسان بشيء ولا يفعله، وينهى عن شيء وهو يرتكبه، وبعضهم يشترط ذلك لصحة الأمر والنهي، وإن كان الجمهور على خلافه اللهم إلا إذا كان أمره أو نهيه على سبيل الاستهزاء، على سبيل الاستهزاء والسخرية، فهذا منكر على منكر -نسأل الله العافية- بعض الناس يلتفت إلى غيره وبيده أو في..، هو مزاول للمنكر، أثناء مزاولته المنكر يقول: يا فلان، اتق الله، اثنان على كرسي حلاق، كلاهما تحلق لحيته بطوعه واختياره، ويلتفت على صاحبه: يا فلان لا تحلق لحيتك، حلق اللحية حرام، هل هذا يقصد النهي عن المنكر؟ لا يقصد، لكن إذا دلت القرائن وإن كان في أثناء مزاولة المنكر دلت القرائن على صدقه فله أن يأمر وله أن ينهى، شخص بيده السجارة الدخان وهو كبير في السن، واعتاد ذلك من سنين ولا يستطيع تركه على حد زعمه، يرى شاب صغير يدخن يقول: يا ولدي لا تدخن، طيب أنت تدخن، يقول: أنا ابتليت ومن سنين، لكن أنت في مقتبل العمر بإمكانك، كلامه له ما يدل على صدقه بخلاف الأول، أكثر أهل العلم يرون أن لا ارتباط بين الارتكاب والأمر، أنت مأمور بأمرين تفعل الواجب وتأمر به، تترك المنكر وتنهى عنه، فإذا أخللت بواحد فلا تخل بالثاني، لكن يمكن هذا أن يكون مع انفكاك الجهة، ولو وقت الأمر والنهي ولا يبالغ أيضًا بانفكاك الجهة كما يقول بعض الأشعرية أنهم يجب على الزاني أن يغض بصره عن المزني بها؛ لأنه عن الأمرين منهي عن إطلاق النظر، ومنهي عن الزنا، فإذا كان لا يستطيع ترك الزنا فعليه أن يغض بصره، نقول: هذه من الوسائل إلى الأكبر، فإذا ارتكب الأكبر وما منع إرسال النظر وما نهي عن وما أُمر بغض البصر إلا من أجل الفاحشة، فإذا تحققت الأمر لا قيمة له، فعلى كل حال مثل هذه الأمور لا بد من تقديرها، وهذا الباب باب عظيم من أبواب الدين ومن يقوم به من أهل الحسبة وغيرهم من المتطوعين، هؤلاء لهم شأن عند الله -جلَّ وعلا- وعند خلقه، والواقع والحس والمشاهد يشهد بذلك، وأنتم ترون أن من يتحمل هذه المسؤولية له قدر وله شأن عند عموم المسلمين يرفعه الله -جلَّ وعلا- بهذا، وأهل العلم الذين لهم عناية بهذا الأمر ما رفع الله أقدارهم إلا بهذا، وكثير من أهل العلم يناقش في بعض القضايا ويشد عليه، إما أن تصمد في هذه المسألة أو تستقيل، كثير منهم ليس عمله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قد يكون قاضيًا من القضاة، وقد يكون مفتيًا من المفتين ويقول: لولا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما جلست في الوظيفة، وهذا جواب كثير من الكبار، فهذا الأمر له شأن عظيم في الإسلام وأعداء الملة والدين وأذنابهم وأتباعهم يرون أن هذا من التدخل في شؤون الغير، كل هذا من باب التخذيل عن هذه الشعيرة العظيمة وهي توطئة للإباحية -نسأل الله السلامة والعافية-.

على كل حال الكلام في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا ينتهي، والحاجة إليه أمس من الحاجة إلى كثير من الأمور التي يزاولها بعض العلماء وطلاب العلم، وإن كان الكل على خير، وبعضهم يقول: إن الأمر والنهي يعوقنا عن التحصيل، وكذلك الدعوة، نقول: ما فيه منافرة ولا فيه تضاد، إذا علمت شيئًا فبلغه، إذا رأيت شيئًا مما تعرف أنه حرام بدليله أنكره، وهكذا في الأمر بالمعروف، والإنسان في طريقه إلى عمله وفي طريقه إلى المسجد وفي طريقه إلى مكان التحصيل يرى شيئًا منكرًا ينكره على غيره، بالأسلوب المناسب، بالرفق واللين، وإذا خاف على نفسه وأراد أن يترخص فله ذلك، «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطيع فبلسانه»، واللسان بالأسلوب المناسب ما فيه شيء يمنع منه، إذا قدمت الدعوة الصالحة الخالصة لهذا المخالف ثم بعد ذلك بُيِّن له وبالأسلوب بالرفق، باللين، وإذا اقتضى الأمر أن يمدح بما فيه من خير؛ لأن أمثال هؤلاء يحبون المدح فيثنى عليه: ويقال: أنت مسلم، ولدت بين مسلمين، وفي بيئة مسلمة، وفيك خير، وفيك صلاح، ولكن يلاحظ كذا، على كل حال بما لا يغره؛ لأنه من الغش أن يغر الإنسان لا سيما كما نص أهل العلم ولاة الأمور أن يُغرُّوا بالثناء الكاذب، هذا ليس من النصيحة، لكن ما يمنع أن يُمدحوا بما فيهم، وهذا هو الأصل، والإنصاف مطلوب، لكنه عزيز على ما توجبه الشريعة ويرون إقامة الحج والجهاد والجمع والأعياد مع الأمراء يعني مع ولاة الأمر، سواء كانت الإمامة المطلقة أو من ولاهم ولي الأمر، ووكل إليهم أمر من الأمور يرون إقامة الحج والجهاد والجمع؛ لأن هذه لا بد فيها من رأس، ولا يترك الناس فوضى، والأعياد مع الأمراء أبرارًا كانوا أو فجارًا يعني سواء كانوا من أهل الاستقامة والصلاح، أو كانوا ممن يزاول المحرمات ما لم يصل الأمر إلى حد الكفر البواح، أو لم يصل الحد إلى ترك الصلاة فإن هذه هي الغاية التي عُلقت بها الطاعة، أمرنا بطاعة ولاة الأمر، {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}.

لكن ما أمروا بمعروف ما لم يأمروا بمنكر، إذا أمروا بمحرم فإنه لا طاعة حينئذٍ لمخلوق في معصية الخالق، وإذا تركوا الصلاة فلا طاعة لهم، إذا أتوا بمكفر فيه من الله برهان فحينئذٍ لا طاعة لهم، ويبقى أن مثل هذه الأمور أيضًا مع وجود هذه الأدلة مقرونة بالقدرة، مقرونة بالقدرة والله المستعان.

فأهل السنة وسط في هذه الأمور، وسط في هذه الأمور، يعني إقامة الحج والجهاد والجُمع والأعياد مع الأمراء أبرارًا كانوا أم فجارا، يعني نظرة أهل السنة والجماعة إلى ولي الأمر نظرة إنصاف وتوسط واعتدال، لا يرون فيهم العِصْمة ولا يدعونها، ويبررون ما عندهم من منكرات، المنكر منكر ممن جاء به سواء كان كبير والا صغير، أمير والا خطير والا حقير، هو منكر، لكن مثل هذا المنكر لا يقتضي نزع اليد من الطاعة، ولا يقتضي المخالفة، ولا يقتضي إشهار وإعلان مخالفة، أبدًا، حتى ولا الحديث في المجالس إلا بما يحقق المصلحة الذي يزول به هذا المنكر، والأصل في هذا الدين النصيحة، الدين النصيحة، فولي الأمر يُنصح، تسدى له النصيحة ويسدد، ويبين له الخطأ من الصواب وينصح، لا بد من النصيحة، ولا تقوم أمور المسلمين إلا بالنصيحة؛ ولذا جاء حصر الدين بها، الدين النصيحة، بما يحقق المصلحة ولا يترتب عليه مفسدة؛ لأن بعض الناس فيهم شيء من العناد لا سيما إذا كان النصيحة يجهر بها؛ لأن النفس لها حظ فلا بد من مراعاة هذه الأمور؛ لأن قصد الناصح تحقيق هذا الأمر من المعروف فيفعل، واجتناب هذا المنكر فيترك، هذا قصد الناصح، إذا كان القصد هو غير ذلك فإنما هو يدعو لنفسه، يدعو لنفسه، وعلى كل حال أهل السنة والجماعة أهل إنصاف، الخوارج إذا رأوا ولي الأمر ارتكب محرمًا خلاص انتهى، خرجوا عليه وسلُّوا السيف في وجهه، ووجد في عهد بني أمية ومن بعدهم من يرى أن الخلفاء معصومون كما بيّن ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة، فلا هذا ولا هذا، فعلينا أن نتوسط في أمورنا كما هو منهج أهل السنة والجماعة، ويحافظون على الجماعات ويدينون بالنصيحة للأمة، فمن منهج أهل السنة ومسلك أهل السنة العملي المحافظة على الجماعات، فلا تجد الواحد منهم يتخلف عن الجمع والأعياد والجماعات والمناسبات التي شرع فيها الاجتماع، لا يتخلفون عنها.

ويحافظون على الجماعات، ويدينون بالنصيحة للأمة؛ امتثالاً لقوله -عليه الصلاة والسلام-: «الدين النصيحة» قلنا: لمن يا رسول، قال: «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» ولكل واحد من هذه الأشياء من يناسبه من النصيحة، والعلماء شرحوا هذا الحديث بشروح موسعة ومستفيضة، وذكروا كيفية النصح لله وكيفية النصح لرسوله، والمراد بذلك ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم.

ويعتقدون معنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا»؛ لأن الواحد لا يستطيع أن يستقل بنفسه، لا يستطيع أن يستقل بنفسه، بل لا بد له من أخيه، ولا بد لأخيه منه، فلا بد أن يتعاونوا ويتعاملوا على ضوء هذا الحديث «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا»، «ولا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه وشبك بين أصابعه -عليه الصلاة والسلام-» التشبيك يدل على التلاحم بين هؤلاء المؤمنين، بخلاف تفريق الأصابع وتشتيتها، وقوله -صلى الله عليه وسلم-: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر» يعني ننظر إلى إخواننا المسلمين أفرادًا كانوا أو جماعات بهذا المنظار، كالجسد الواحد، قتل مسلم في أقصى الأرض كأنه سهم في جسدك، اعتُدي على شعب من الشعوب المسلمة تتألم وتهتم لذلك، وجاء في الخبر: «وإن كان فيه ما فيه»، «من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم» فلا بد أن تحب لأخيك المسلم ما تحبه لنفسك، وبعض الناس وصلت به الأنانية إلى حد أن قتل المسلم وغير المسلم سواء عنده، بل قد يكون قتل غير المسلم المعتدي عند بعض الناس لا سيما إذا كانت له به مصلحة أو تربطه به علاقة، أشد من قتل المسلم، هذا خلل لا بد أن يراجع نفسه، وتبعًا لذلك يكون تألمه لأهل الاستقامة وأهل الاعتقاد الصحيح أكثر من تألمه لما يتعرض له أخوه المسلم ممن هو دون ذلك، فالمسلمون لا شك أنهم مراتب، مراتب، فليس الفاسق مثل التقي الصالح، وليس الأشعري مثل السني –مثلاً- الذي يعتقد اعتقاد أهل السنة والجماعة، فضلاً عمن هو أبعد منهم كالمعتزلي أو غيره من فئات البدع، فهذه درجات، فكل ما يقرب الإنسان من تحقيق الكتاب والسنة يكون أقرب إلى القلب وتكون محبته بقدر استقامته والتزامه على الصراط المستقيم.

«مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر»، وهذا حينما تتحقق في المسلم المحبة في الله، لكن إذا كانت المحبة من أجل الدنيا، إذا كانت المحبة من أجل الدنيا، فإن هذا لن يتحقق إلا بقدر ما عند الإنسان من الحب في الله والبغض في الله، تجد بعض الناس من الأخيار ومن طلاب العلم يحصل من أخيه هفوة أو جفوة، خلاص ينتهي، يتمنى وفاته، ينتظر خبر وفاته فقط؛ لأنه حصل منه أدنى زلة أو هفوة، لا سيما إذا كانت تجاه هذا الشخص في أمور دنياه، تصور أن شخص خطب امرأة فجاء شخص آخر وخطبها ولم يعلم بخطبته، عاداه وتمنى موته؛ لأنه تقدموا إلى أسرة فكان الثاني أرجح عندهم فزوجوه، وما علم بخطبة الأول، يعني يصل الأمر إلى هذا الحد أو يكون في نفسه تلك البضاعة، أو تلك السيارة، أو الأرض الفلانية، ثم يتقدم عليه واحد ويشتريها، خلاص انتهى كل ما بينهما من وُد، هذا خلل، هذا خلل، وفي خبر ابن عباس يقول: ولقد صارت عامة مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئًا، إذا كانت المؤاخاة من أجل الدنيا فهذه المعاني كلها تنتهي، أما إذا كان باعثها الحب في الله والبغض في الله فإن هذه الأمور تتحقق.

«إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر» يعني لو إنسان اشتكى عينه أو أذنه أو أصبعه أو يد أو رجل أو ما أشبه ذلك، فإن الجسد كله يتألم، وكذلك إذا أصيب مسلم من المسلمين فينبغي أن الأمة كلها تتألم لإصابته، وبعض الناس يتشفى ببعض المصائب التي تصيب بعض إخوانه، هذا قدر زائد على مجرد عدم التألم، وبعض الناس يتمنى زوال النعم عن الآخرين وهذا هو الحسد المذموم والله المستعان.

والشكر عند الرخاء والرضا بمُرّ القضاء، إيش قبل ذلك؟ ويأمرون بالصبر عند البلاء، الصبر على المصائب، الصبر له شأن في الدين، وهو من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، لا بد من الصبر، لا تؤدى العبادات إلا بصبر لا تترك المحظورات إلا بصبر أيضًا، الصبر على الأقدار، فالصبر على الأوامر والصبر على النواهي والصبر على الأقدار، وجاء في الصبر من نصوص الكتاب والسنة ما يدل على عِظم شأنه بالنسبة للمبتلى، والشكر عند الرخاء، سواء أصيب ببلوى يصبر، إذا أصيب بسراء يشكر، والرضا بمر القضاء الرضا بمر القضاء، أما بما يقضيه الله -جلَّ وعلا- على الإنسان سواء كان قدريًا أو شرعيًا فيجب الرضا به، كون الإنسان لا يرضى بفرض الصلاة مثلاً أو بفرض الصيام ويتذمر من ذلك لا يجوز، المرأة لا ترضى بما شرعه الله -جلَّ وعلا- من التعدد مثلاً، لا بد أن ترضى بأن هذا الحكم حكم شرعي ولا اعتراض لها عليه، لكن مثل هذا لا يُلزمها، لا يُلزِمها بالقبول، لا يُلزِمها بالقبول، مادامت تجد من لا يتزوج عليها أو يتزوج على غيرها فالأمر إليها، فالمقصود أن الرضا بالحكم غير الرضا بالمقضي، فالرضا غير الرضا بالمقضي، فالرضا بالحكم واجب، والرضا بالمقضي يقول أهل العلم: إنه سنة.

طالب: ...............

الصبر واجب والرضا بالحكم الشرعي، يعني كون امرأة تقول: هذا الشرع الذي شرع التعدد وتتذمر، هذا يجوز؟ ما يجوز بحال، هذا اعتراض على الحكم الشرعي، لكن كونه يخطبها شخص عنده امرأة أو امرأتان تُلزم بالقبول؟ ما تلزم، كما أنها لا تلزم بأمور في أمور أخرى تنقصها في أمور دينها أو دنياها؛ لأن هذا من المضايق، بعض الناس يظن أن من ترد الخاطب إذا كانت زوجة تُظن أنها لا ترضى بالحكم، لا، ترضى بالحكم تقول: هذا حكم الله، هذا حكم الله، وهذا شرعه، لكنها تتعذر بعذر النبي -عليه الصلاة والسلام- خطب امرأة فقالت: إني امرأة مُصبية، فشكرها النبي -عليه الصلاة والسلام-، وإيش معنى مصبية؟ لها أبناء وصبيان، يمكن يتعبون الرسول -عليه الصلاة والسلام- بكثرة صياحهم ومشاكلهم، فإذا وجد المبرر قد تقول المرأة: والله أنا لا أستطيع أن أتزوج وعنده امرأة؛ لأن عندي غيرة زائدة، أو بدلاً من أن تكون حقوق كاملة منوطة بهذا الشخص يكون لي نصف الحقوق، يعني لها حق أن ترفض، لكن مع ذلك الحكم الشرعي لا يجوز بحال الاعتراض عليه، لا منها ولا من غيرها.

ويدعون -يعني أهل السنة والجماعة- إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، ويعتقدون معنى قوله -صلى الله عليه وسلم-: «أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا» وهم أقرب الناس مجالس يوم القيامة إلى النبي -عليه الصلاة والسلام-، وما وُضع في الميزان أثقل من حسن الخلق، فحسن الخلق له شأن عظيم في الدين، لكن قد يقول إنسان: أنا والله مجبول على سوء الخلق، لكنك إذا تخلقت وُفِّقت، الحلم بالتحلم، كما أن العلم بالتعلم، والفقه بالتفقه أيضًا، الحلم بالتحلم، هناك أمور غريزية جُبل عليه الإنسان مثلما جبل الأحنف على الحلم والأناة، جُبل كثير من الناس على الأخلاق الفاضلة؛ على الكرم، على الشجاعة، على غيرها من الأخلاق الفاضلة، لكن بعض الناس جُبل على خلافها، ومع ذلك يستطيع أن يعدِّل من بعض أخلاقه، بعض الناس غضوب، لكن يقال له: لا تغضب، هل يكون الجواب منه: أنا لا أستطيع ألا أغضب؟ لا، مرّن نفسك على عدم الغضب، مرّن نفسك على اللين في الكلام، مرّن نفسك على حسن الخلق وتُوفق في ذلك، وأنت إذا أدَّيت ما عليك وعلم الله منك صدق النية، فالذي لا تستطيعه لا تلام عليه، لا يكلِّف الله نفسًا إلا وسعها.

ويندبون إلى أن تصل من قطعك، يندبون الصلة واجبة، صلة الرحم واجبة والقطيعة محرمة، بل من كبائر الذنوب، والصلة من أوجب الواجبات، كيف يقول: ويندبون إلى أن تصل من قطعك وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك، صلة من قطع إذا كان ممن تجب صلته ولو قطع، وقد شكا بعضهم إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- أن له قرابة يصلهم ويقطعونه، فقال النبي -عليه الصلاة والسلام-: «إن كان كما تقول فكأنما تُسفهم المل» وعليك أن تصل، يجب عليك أن تؤدي ما أوجب الله عليك، وتسأل الله -جلَّ وعلا- الذي لك، تصل من قطعك، وتعطي من حرمك وتعطي من حرمك، لك حق عند فلان وعليك حق له أو لغيره، ما تقول: والله أنا حرمني حقي لا أصل، لا أعطي، الوالد فضل عليك بعض إخوانك تقول: والله الوالد هذا ما يستحق بر، وأنا ما أستحق شيئًا عنده أنا بهذه المنزلة عنده يجب علي بره ليس من العدل، يقول بعض الناس: هكذا عليك أن تبر بوالديك، ولو حصل منهما ما حصل؛ لأن عليك أن تؤدي ما أوجب الله عليك، وأما بالنسبة للذي لك لن تفقده إن جاء في الدنيا وإلا فيدخر لك يوم القيامة وهو أعظم وأولى.

وتعفو عمن ظلمك {إن عاقبتم فعاقبوا} لكن أن تعفو أقرب للتقوى، وتعفو عمن ظلمك، ويأمرون ببر الوالدين وصلة الأرحام، بر الوالدين وصلة الأرحام، وهذه من الواجبات الشرعية، من الواجبات الشرعية، بل من أوجب الواجبات بعد حق الله -جلَّ وعلا- حق الوالدين، وهي أعظم حقوق المخلوقين يليها الصلة يليها الأدب، فالبر بالوالدين والصلة للأقارب، والأدب مع بقية الناس. تجدون في كتب السنة يترجمون باب البر والصلة والأدب، أو الآداب، ويُعنى أهل العلم من المحدثين بالأدب عناية فائقة، فمنهم من يجعله في كتابه الجامع، ومنهم من يفرده بمصنف مستقل، وقد جمع بينهما الإمام البخاري، ففي كتابه في صحيحه كتاب الأدب من أوسع الكتب عنده، مع أنه أفرد الأدب بأدب مفرد، وصلة الأرحام وحسن الجوار «فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذِ جاره» «ومازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه».

والإحسان إلى اليتامى والمساكين وابن السبيل، يقول النبي -عليه الصلاة والسلام- «أنا وكافل اليتيم كهاتين يعني في الجنة» هذا شأنه عظيم، واليتيم من مات أبوه وهو دون البلوغ، من مات أبوه وهو دون البلوغ، وهذا اليتيم جاء الحث على الإحسان إليه والتشديد في حقوقه وأمواله ورعايته، يعني تضييع هذه الأمور من أشد ..، من المحرمات، من كبائر الذنوب أكل مال اليتيم، لكن أيهما أشد: هذا اليتيم الذي عُرف أبوه فمات في صغره وله أعمام وله إخوان وله أخوال، وجاء الشرع على الحث على الإحسان إليه، وبين اللقيط مثلاً لا يعرف أب ولا يعرف له أقارب ولا شيء؟ أيهما أولى بالإحسان؟ النصوص جاءت في اليتيم، لكن ماذا عمن لا يعرف له قريب، ولد زنا ألقي في شارع أو في مسجد، ماذا عن الإحسان إلى مثل هذا؟ هل هو أشدُّ من الإحسان إلى اليتيم؟ لأن اليتيم قد يكون وارثًا عنده أموال، اليتيم له عم، له أخ يحنو عليه له أم له كذا، أيهما أولى بالعناية والرعاية؟ لا شك أن النصوص جاءت في حق اليتيم، وإذا قلنا: إن هناك ما يقال له قياس الأولى فذاك أولى، وإذا قلنا: الاقتصار على مورد النص فهذا أولى، ونظير ذلك من مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث فتمسه النار إلا تحلة القسم، فماذا عمن مات له ثلاثة أولاد في الثلاثين والخامسة والثلاثين والأربعين؟ وكلهم الآن في خدمته وتحت نظره، وأحدهم من الأثرياء المحسنين، والثاني من العلماء العاملين، والثالث من الدعاة المخلصين، ماتوا ثلاثة، نقول: هؤلاء أشد أو الصغار الذين لم يبلغوا الحنث، النصوص جاءت في الصغار فهل نقول: إن المصيبة بمثل هؤلاء أشق؛ لأن هؤلاء فرغوه لأمر دينه، ديدنه المسجد، فلما مات هؤلاء الثلاثة انشغل برعاية أولاده وأسره وانصرف عن أمور دينه، هل نقول: إن المصيبة بموت الصغار الذين لم يبلغوا الحنث أشد من هؤلاء أو أقل؟

من أهل العلم من يقول: إن هذا من باب قياس الأولى، وأن المصيبة بهم أعظم، فإذا كان هذا في صغار ما بلغوا الحنث ولا جاء نفعهم، بل مشاكلهم تزيد، ومع ذلك هذا الوعد من الشارع محفوظ ومعروف وصحيح، حتى في الاثنين، حتى في الواحد، فهذا نظير مسألتنا، وللنظر في هذا مجال، لكن يبقى أن هذا محل عناية، وهذا محل عناية، والفرق في كون هذا أولى وهذا أولى، فإذا كان عندك مبلغ يكفل يتيمًا عرف أبوه لكنه مات، أو يكفل من هذا النوع الذي لا يُعرف له أب ولا يعرف له قريب، تبقى المفاضلة في هذا والاجتهاد مسرحه في مثل هذه الأمور إلى أهله، والإحسان إلى اليتامى والمساكين؛ والمساكين يشمل المسكين الاصطلاحي الذي عنده بعض الكفاية ومن باب أولى الفقير الذي لا يجد شيئًا، وابن السبيل المسافر الذي انقطعت به الأسباب، ولو كان غنيًا في بلده، والرفق بالمملوك ولا شك أن المملوك له نصيبه، له حظه، للملوك طعامه وشرابه وكسوته، وألا يكلف فوق ما يطيق، وفي حكمه الخدم في البيوت، والآن يعانون أشد المعاناة من بعض الأسر يظلمونهم ويؤخرون استحقاقاتهم بما يضرهم، ويكلفونهم فوق ما يطيقون، وليس هذا من صنيع أهل السنة والجماعة، وهو خلاف ما جاء من النصوص في شأن المملوك، سواء من بني آدم أو من غيره من الحيوانات، جاءت النصوص برعاية الحيوانات والرفق بها، فمن باب أولى هؤلاء المسلمين الذين مكنك الله من خدمتهم.

والرفق بالمملوك وينهون عن الفخر والخيلاء، الفخر والخيلاء والترفع على الناس بمظاهره الظاهرة والباطنة من إسبال ومن تبختر في المِشية أو ما أشبه ذلك، على كل حال كل هذه من الأمور المحرمة: الفخر والخيلاء والبغي التعدي على الآخرين بظلمهم في أموالهم في أبدانهم في أعراضهم، كل هذا مما ينهى عنه.

والاستطالة على الخلق، رجل أعطاه الله شيئًا من الكمالات سواء كان في بدنه أو في ماله أو في جاهه يستطيل على الخلق، سواء كان ذلك بحق أو بغير حق، عيّن مثلاً مديرًا على مجموعة، يعني لا شك أن رئاسته لهم بحق، لكن عليه أن يتواضع وإذا كانت بغير حق فمن باب أولى منعها من باب أولى.

يقول -رحمه الله تعالى- ويأمرون بمعالي الأخلاق، يعني اللائقة بالمسلم مما جاء الحث عليه في الكتاب والسنة، وينهون عن سفاسف أو سفسافها، يعني الأخلاق الحقيرة الرديئة، فالذي يحفظ نفسه عن هذه الأمور ولو كان من عامة الناس، لا شك أنه سوف يكون له شأن في نفوس الآخرين، وبعض الناس ديدنه هذه السفاسف الأخلاق الرديئة، تجد ديدنه في المجالس التنكيت وإضحاك الناس وتقليد الأصوات من النساء والحيوانات وغيرها، أو التفكه بأعراض الآخرين، أو إلصاق النكت والتندر بغيره مما يبتكره ومما يؤثره، بعض المراكز -مراكز الهيئة الحسبة- وجدوا مع شخص مجلد في ثلاثمائة صفحة نكات، كلها نكات ملصقة بأخيار، فضلاً عن أن تنشر هذه في وسائل الإعلام، يكون ديدن هذا الإنسان تقليد النساء أو تقليد الحيوانات أو الطيور أو الاستخفاف بأهل الخير وأهل الفضل، لا شك أن هذه تليق بمن زاولها؛ لأن هذه سفاسف لا تليق بعاقل، يمجها العقل السليم والفطرة المستقيمة، فكيف بمتدين يدين بالإسلام، يرجو ما عند الله ويخاف عقابه، بعض الجهات ابتليت بهذه النكات من هؤلاء السفهاء، وهذا لا يجوز بحال، فضلاً عن كونه أولا كونه من سفاسف الأمور التي على المسلم أن يترفع عنها مما لا يليق أن يصدر ممن ينتسب لهذا الدين الكامل الحنيف، الأمر الثاني أن ضرره متعدٍّ، ضرره متعدًّ إلى الآخرين والله المستعان، وكل ما يقولونه ويفعلونه من هذا وغيره يعني جميع التصرفات من هذا وغيره فإنما هم فيه متبعون للكتاب والسنة، لا تجدهم يصدرون عن غير دليل، حتى قال القائل من أهل السنة: إن استطعت ألا تحك رأسك إلا بأثر فافعل، وقد أحسن من انتهى إلى ما سمع هذا شأنهم وهذا ديدنهم، لا يجتهدون في مقام أو في مجال فيه نص، فهم متبعون للكتاب والسنة وطريقتهم هي دين الإسلام الذي بعث الله به محمدًا -صلى الله عليه وسلم-، دين الإسلام الكامل التام الذي لا يقبل الله -جلَّ وعلا- دينا سواه، الذي لا يحتاج إلى مزيد، خلافًا لمن يبتدع في الدين -نسأل الله العافية- وهو بذلك في بدعته يزعم نقص الدين ويستدرك على الله وعلى رسوله.

إنما المسلم يجب أن يكون متبعًا وهذا شأن أهل السنة والجماعة، بل هم أبعد الناس عن البدع ولو وُجدت البدع فيهم ما استحقوا أن يسموا أهل سنة، لكن قد يوجد شيء من المخالفات؛ لأنهم ليسوا بمعصومين، لكن الأصل أن منطلقهم الكتاب والسنة وإجماع سلف هذه الأمة، هذا الأصل؛ ولذا هم مقربون وأبرار سابقون ومقتصدون، وفيهم أيضًا الظالم لنفسه، الظالم لنفسه، لكن ليس فيهم من يحدث في الدين، ليس فيهم من يحدث ما ليس منه، وإلا لو وجد فيهم من يحدث لما استحق أن يسمى من أهل السنة؛ ولذا قول السفَّاريني وغيره من أن أهل السنة ثلاث فرق، هذا نبهنا عليه سابقا، السفاريني في أوائل شرح عقيدته يقول: إن أهل السنة ثلاث فرق: الأثرية وإمامهم أحمد بن حنبل، والأشعرية وإمامهم أبو الحسن الأشعري، والماتريدية وإمامهم أبو منصور، هؤلاء بينهم خلاف جوهري في الاعتقاد، خلاف كبير في الأصول، فكيف يجمع من بينه خلاف مع مخالفه تحت مسمًّى واحد؟ كيف يجعل من يخالف السنة، السنة تثبت صفات وأسماء لله -جلَّ وعلا- وهو ينفيها، كيف نقول: إن هذا من أهل السنة؟ وأهل البدع وطوائف البدع لا شك أنهم متفاوتون؛ منهم من بدعته مكفرة مخرجة عن الملة، ومنهم من بدعته مغلظة، لكنها لا تصل إلى حد الإخراج من الملة، ومنهم من بدعته مخففة، فهؤلاء كلما قربوا إلى الكتاب والسنة كانوا أقرب إلينا، وكلما بعدوا كانوا أبعد منا، إلا أننا لا نستطيع إدخالهم في أهل السنة لمخالفتهم للسنة، لكن لما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، نعم افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، افترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وجاء بيانها بأنهم هم من كان عليه النبي -عليه الصلاة والسلام- وأصحابه، والمراد بالأمة أمة الإجابة، أمة الإجابة الذين ينتسبون إلى هذه الملة وإلى هذه القبلة، هؤلاء هم الذين فيهم النص، أما أمة الدعوة لا يمكن ورودهم في مثل هذا الخبر؛ لأنهم جُعلوا قسيمًا لهذه الأمة، اليهود والنصارى قسم من هذه الأمة أو قسيم؟ قسيم ولا يدخل القسيم في القسم، لا يدخل القسيم في القسم، كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة، وفي حديث عنه أنه قال: «هم من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي»، صار المتمسكون بالإسلام المحض الخالص عن الشوب هم أهل السنة والجماعة، يعني هل يُفهم من كلام الشيخ أنهم معصومون؟ لا، لكن في الجملة الأصول واحدة، وقصد إصابة الحق موجودة، وقد توجد المخالفة لشهوة أو نحوها، مع أنهم في الغالب يوفقون للتوبة، بخلاف المبتدع الذي يرى نفسه على الحق، فإنه في الغالب لا يوفق للتوبة، يقول: وفيهم الصديقون والشهداء والصالحون، يعني الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، النبيون ليس فيهم نبيون إلا محمد -عليه الصلاة والسلام- وإن كانوا الأنبياء السابقين، كان الأنبياء السابقون ممن يجب الإيمان بهم على هذه الأمة إلا أن نبيهم وهو محمد -عليه الصلاة والسلام- فهو نصيبهم من الأنبياء، وإن وجب الإيمان بغيره من الأنبياء فالإيمان بالأنبياء بالرسل ركن من أركان الإيمان بالنسبة لهذه الأمة، لكن فيهم الصديقون، والصدِّيق المبالغ في الصدق، والتصديق المبالغ في الصدق والتصديق فِعِّيل صيغة مبالغة، ورأسهم ومقدمهم أبو بكر الذي جاء النص بتسميته صِدِّيقًا، وإمامته وخلافته أثبتها أهل العلم بنصوص كثيرة، ومنها قول الله -جلَّ وعلا-: {اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم}، ومنهم من ذكر الصديقون والشهداء والصالحون، هؤلاء الذين أنعم الله عليهم، وفيهم الصديقون والشهداء، الشهداء يشمل من قُتل في سبيل الله، ويشمل أيضًا من ثبتت له الشهادة كالغريق والحريق والمبطون ومن مات بالطاعون، ويشمل أيضًا الشهداء بمعنى الشهود، الشهداء جمع شاهد {ممن ترضون من الشهداء} جمع شاهد، وهم الذين يشهدون على الأمم السابقة ويشهدون للأنبياء بالبلاغ من أهل العلم، والصالحون الصالح كل مستقيم على أمر الله، المؤدي لحقوق الله وحقوق عباده في هذه الأمة، في هذه الأمة الصالحون، وفيهم كثرة، فليحرص الإنسان على أن يكون صالحًا ليدخل في دعوات المسلمين «السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين»، كم ممن على وجه الأرض من سابق ولا حق ومعاصر ممن يدعو بهذه الدعوة فلا تحرم نفسك من الدخول فيها، فعليك أن تتصف بهذا الوصف.

ومنهم أعلام الهدى أئمة الإسلام من الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم وتبعهم بإحسان، والأصل في الأعلام جمع علم وهو الجبل، ويستعار هذا إلى..، يستعار إلى الجبال، من أهل العلم، أهل العلم والعمل أهل الرسوخ، أعلام الهدى يعني ممن يقتدى بهم ويهتدى بهديهم لا لذواتهم، وإنما لشدة تمسكهم بالكتاب والسنة واعتصامهم بهما، ومصابيح الدجى الذين ينيرون للناس ما خفي عليهم مما هو في حكم الظلمة، ومنة أهل العلم على سائر الناس أشد من منة الأطباء -أطباء الأبدان- وأشد من منة أي مخلوق.

وقد ذكر الآجري في أخلاق العلماء له مثالاً يوضح فيه شدة الحاجة ومسيس الحاجة إلى العلماء الأعلام العاملين، قال: كأن قومًا ساروا في طريق مظلم فيه أودية وأشجار، وفيه هوام وسباع، والطريق مظلم لا يأمن الإنسان فيه أن يلدغ من حية، أو ينهش من سبع، أو يقع في حفرة فينكسر منه ما ينكسر، ثم جاءهم -بينما هم على هذه الحال- جاءهم من بيده مصباح أنار لهم الطريق حتى خرجوا من هذا الوادي، هذا له فضل عليهم والا ليس له فضل؟ له فضل كبير عليهم، كلهم يشكرونه ويعترفون له بالفضل ويمتنون له بما قدم لهم، ومع ذلك هذا الفضل منوط بأمر دنيا التي عاقبتها الفناء، وهي مهما طالت قصيرة، فكيف بمن يهدي الناس إلى صراط الله المستقيم الذي فيه النجاة والخلاص التام يوم القيامة.

ومنهم أعلام الهدى ومصابيح الدجى أولوا المناقب المأثورة، المناقب المحاسن والمزايا والفضائل، ويقابلها المثالب التي هي المساوئ والفضائل المشهورة أو المذكورة.

وفيهم الأبدال، والأبدال جمع بدل وهم الأولياء، وجاء في حديث الأبدال بالشام، جاء في حديث الأبدال بالشام، وشيخ الإسلام يحكم على أحاديث الأبدال بأنها ضعيفة، وكذلك ابن القيم في المنار المُنيف يحكم بأن ما جاء في الأبدال والأوتاد والنجباء كلها ضعيفة، لكن إن أريد بالأبدال هنا المجددون، إن أريد بهم المجددين في الدين فهذا حديث صحيح، في أنه يأتي على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها، وهم أيضًا يصدق على أهل العلم الذين يخلف بعضهم بعضًا في إحياء ما اندثر من السنن، يقول ابن الأثير في حديث عن الأبدال بالشام: هم الأولياء والعباد، الواحد بدل كجمل وأجمال، وسموا بذلك؛ لأنهم كلما مات واحد منهم أبدل بآخر، ولو قيل: إن الأبدال هم الذين يجددون الدين كما في الحديث لما كان بعيدًا، وليس مراده بالأبدال ما اشتهر على لسان عُباد القبور؛ حيث يقولون: الأقطاب والأوتاد والنجباء والأبدال والغوث، فيضلون بهذه الأسماء الجهال، زاعمين أن لها حقيقة، وما هي والله إلا خرافات لا حقيقة لها سوى العقائد الفاسدة الزائغة الشركية.

نسأل الله العافية من كل بدعة وضلالة، وأن يثبتنا على صراطه المستقيم بمنه وكرمه، هذا في حاشية ابن مانع -رحمه الله- على الواسطية يقول: وفيهم الأبدال، وفيهم أئمة الدين، الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم كالأئمة الأربعة والسفيانين، وغيرهم على مر العصور شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم والإمام المجدد الشيخ محمد بن عبدالوهاب، هؤلاء أئمة الدين وغيرهم كثير ولله الحمد، الخير في هذه الأمة إلى يوم القيامة.

وفيهم أئمة الدين الذين أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم ومعرفتهم وخبرتهم، وهم الطائفة المنصورة الذين قال فيهم النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة -وهذا تقدم الكلام فيه- يقول: لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى تقوم الساعة».

يقول الشيخ -رحمه الله-: فنسأل الله أن يجعلنا منهم، نسأل الله -جلَّ وعلا- أن يجعلنا منهم، وألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب، والله أعلم.

 

وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.