التعليق على الموافقات (1435) - 11

نعم.

طالب: الحمد لله رب العالمين،

 وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-: "فصل: وقد بنوا أيضًا على هذا المعنى مسألةً أخرى، وهي: هل يجب الأخذ بأخف القولين، أم بأثقلهما؟ واستُدل لمن قال بالأخف بقوله تعالى".

"استَدل"، أو.. "استُدل"، نعم.

طالب: "واستُدل لمن قال بالأخف".

يعني هذه مسألة مفترضة فيما إذا تعذر الترجيح، إذا تعذر الترجيح بين قولين: هل يميل المجتهد إلى الأخف؛ لأن هذه سمة الشريعة، أو يميل إلى الأثقل؛ لأن الأصل في التكاليف أنها إلزام ما فيه كلفة ومشقة، وبعض التكاليف الظاهرة فيها مشقة على كثير من الناس، ومع ذلك لا تخرجها عن كون هذه الشريعة وأن الدين يسر.

طالب: "بقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة: 185] الآية، وقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقوله -عليه الصلاة والسلام-: «لا ضرر ولا ضرار»، وقوله: «بعثت بالحنيفية السمحة».

 كل ذلك ينافي شرع الشاق الثقيل".

وبعضهم يستدل على ذلك بكونه -عليه الصلاة والسلام- ما خُيِّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما. الآن الأحكام الشرعية فيها تخيير أم انتهى التخيير؟ التخيير في وقت التنزيل، أما وقد تقررت الأحكام واستوت الشريعة وكملت، فما فيها تخيير، ما فيها إلا راجح ومرجوح. نعم.

طالب: "ومن جهة القياس أن الله غني كريم، والعبد محتاج فقير، وإذا وقع التعارض بين الجانبين كان الحمل على جانب الغني أولى. والجواب عن هذا ما تقدم".

هذا الكلام النظري، الذي أحرم وهو صائم فجلس في الشمس ولم يظلل عليه حتى أغمي عليه، قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: «إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني»، لماذا؟ لأنه التزم بالدليل وعمل بالراجح؟ لا لا.

طالب: "والجواب عن هذا ما تقدم، وهو أيضًا مُؤدٍّ إلى إيجاب إسقاط التكليف جملةً، فإن التكاليف كلها شاقة ثقيلة، ولذلك سُميت تكليفًا من الكلفة".

نعم. «وحفت الجنة بالمكاره».

طالب: "وهي المشقة، فإذا كانت المشقة حيث لحقت في التكليف تقتضي الرفع بهذه الدلائل، لزم ذلك في الطهارات والصلوات والزكوات والحج".

إذا جاء يوم بارد نتوضأ أم ما نتوضأ؟ نتوضأ. يقول لك: هذا فيه مشقة. نعم إذا وصل الأمر إلى حد يكون هذا الماء قاتلاً بحيث لو اغتسل فيه، نعم الحمد لله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، ولا وسائل لتدفئته، يتيمم إذا خشي على نفسه. لكن ابتداءً يقول: واللهِ الماء بارد ما أقدر أن أتوضأ، والجو بارد، وما أستطيع أن أخرج إلى صلاة الصبح، وما أشبه ذلك، هذا الكلام ليس بصحيح، هذا تضييع للشريعة.  

طالب: "والصلوات والزكوات والحج والجهاد وغير ذلك، ولا يقف عند حد".

ما فيه أشق من الجهاد، الذي يقدم نفسه للقتل وقد يُقتل، هل نقول: إنه فيه مشقة، والشريعة سمحة سهلة، ما فيه جهاد؟ هذا كلام ما يصير صحيحًا.

طالب: .......

ماذا؟

طالب: .......

منصور الماتريدي؟

طالب: ..........

... يمكن.

طالب: "ولا يقف عند حد إلا إذا لم يبق على العبد تكليف، وهذا محال، فما أدى إليه مثله، فإنَّ رفع الشريعة مع فرض وضعها محال، ثم قال المنتصر لهذا الرأي: إنه يرجع حاصله إلى أن الأصل في الملاذ الإذن، وفي المضار الحرمة، وهو أصل قرره في موضع آخر، وقد تقدم التنبيه على ما فيه في كتاب المقاصد".

يعني الأصل فيما ينفع الحل، والأصل فيما يضر الحرمة، أن كل ما يضر محرم، وكل ما ينفع الأصل فيه الحل، الأصل، وقد يعارض هذا الأصل بدليل من الخاص، بدليل خاص، وقد يكون ضارًّا من وجه، ونفعه أكثر؛ لأنه فيه ضرر، لكن النفع فيه أكثر، فيرجح جانب المصلحة؛ لأنها غالبة، والعكس.

الآن العلاجات الموجودة، ويصرفها الأطباء للمرضى، قد يكون نفعها بنسبة ثمانين بالمائة، وفيها ضرر بنسبة عشرين بالمائة، تُصرف أم ما تُصرف؟ تُصرف بناءً على أن المصلحة راجحة، لكن لو كانت خمسين وخمسين ما تُصرف؛ تغليبًا لجانب الحظر والمنع. واحد يقول إنه رأى قارورة صغيرة فيها ماء أبيض، ولما قرأ الورقة التي معها قال: هذا علاج للبهق والبياض، يعني البرص، والمحظورات: احتمال أن يكون سببًا في سرطان الجلد. هذا يؤخذ أم ما يؤخذ؟ هذا ضرره راجح ولا يأخذه عاقل.

طالب: "وإذا حكَّمنا ذلك الأصل هنا، لزم منه أن الأصل رفع التكليف بعد وضعه على المكلف، وهذا كله إنما جرَّه عدم الالتفات إلى ما تقدم".

يعني لو قلنا: إن كل شاق لا تأتي به الشريعة، معناه يرتفع التكليف، ما فيه شيء إلا وفيه مشقة، وأصل التكليف إلزام ما فيه كلفة. الصيام شاق على النفس ولو قُدر أنك تنام من وقت اللزوم إلى أن أفطرت، شاق على النفس؛ لأن نفسك تشتاق إلى الأكل، إلى الشرب إلى الطعام، وهذه مشقة، وأنت في مخدعك، في مكيفك، في بيتك، عند أهلك، معناه أنه ما فيه، ترتفع أصل التكاليف كلها ترتفع بهذه.

طالب: .......

طيب ماذا تبغي أن تقول؟ ما فيه كلفة؟

طالب: .......

لكن ما فيه كلفة؟ الواقع؟

طالب: .......

نفت، فيه آصار عندنا وأغلال؟ هل قالت الشريعة: احمل هذه الصخرة التي زنتها خمسمائة كيلو؟ هل قالت: اقرض النجاسة من بدنك بالمقص؟ آصار وأغلال، ما عندنا آصار، ما فيه شيء لا يطيقه المكلف، ما فيه تكليف بما لا يطاق مثل ما كان قبلنا، كلها مقدور عليها، وإن بلغت من المشقة، وتفاوت الناس في تقدير هذه المشقة؛ لأنه حتى المترف يشق عليه كل شيء، نقول له: لا تصلي؟ يعني طلعته في الشمس لصلاة الظهر شاق؛ لأنه ترفه زائد، هذا معناه أنه لا شريعة.

طالب: "فصل: فإن قيل: فما معنى مراعاة الخلاف المذكورة في المذهب المالكي؟

فإن الظاهر فيها أنها اعتبار للخلاف، فلذلك نجد المسائل المتفق عليها لا يُراعى فيها غير دليلها، فإن كانت مختلفًا فيها، رُوعي فيها قول المخالف، وإن كان على خلاف الدليل الراجح عند المالكي، فلم يعامل المسائل المختلف فيها معاملة المتفق عليها؟ ألا تراهم يقولون: كل نكاح فاسد اختلف فيه فإنه يثبت به الميراث، ويفتقر في فسخه إلى الطلاق، وإذا دخل مع الإمام في الركوع وكبر للركوع ناسيًا تكبيرة الإحرام، فإنه يتمادى مع الإمام؛ مراعاةً لقول من قال: إن تكبيرة الركوع تجزئ عن تكبيرة الإحرام، وكذلك من قام إلى ثالثة في النافلة".

وعلى العالم المجتهد أن يعمل ويفتي بما يدين الله به مما يترجح عنده بالدليل، نعم مراعاة الخلاف في مسائل فيها شيء من الخفاء في الاستدلال أو في الدليل، والقائل به ممن تبرأ الذمة بتقليده، ولو وُجه عليه بعض العامة لا سيما ممن انتشر قول هذا العالم فيهم كجهات ينتشر فيها أقوال مالك، وجهات ينتشر فيها أقوال أبي حنيفة، ولا وضوح في المسألة، ولم يستطع المجتهد الترجيح بشيء تطمئن إليه نفسه، يحيله على مذهبه، نعم، ويراعي فيه مثل هذا الخلاف.

وبعض الناس يراعي في الترجيح اعتبار القائل، إن هذه المسألة مبناها على الأثر، وفيها قول للإمام مالك أو لأحمد، وفيها قول لأبي حنيفة مثلاً، وحينئذ يقول المفتي: لا شك أن الإمام مالك وأحمد أمكن من أبي حنيفة في الأثر؛ لأنها مبنية على الأثر. ومسألة أخرى مبناها على النظر، نعم، فيقول مثل هذا في ترجيح مذهب أبي حنيفة، مثلاً. فلا شك أن العلماء لهم مسالك في تقرير بعض المسائل التي في الاستدلال لها نوع خفاء.

طالب: .......

أين؟

طالب: .......

واللهِ إذا أمكن الخروج من الخلاف، لا سيما الخلاف المعتبر.

طالب: .......

هذا الأصل بين الاثنين.

طالب: .......

أنت تنظر هذا في مسألة الصلح في القضاء، فيها مقطع مسألة بينات ودعاوى، ويحكم لصاحب الحكم من خلال هذه البينات والدعاوى. لكن إذا قال: أريد أن أصلح بينكما، يعني هذا تنظير عملي قد لا ينطبق مائة بالمائة، لكنه تنظير عملي. أنت ما خالفت لا الأول ولا الثاني، ورضيا جميعًا.

أنت عندك قول فيه دليل قوي، وقول آخر فيه دليل أرجح من وجهة نظرك أنت، وقال قوم آخرون: الأرجح من حيث الدليل القول الثاني خلاف ما ذكرت أنت. فخشية أن يطابق قولهم الواقع، تريد أن تبرئ ذمتك من هذا الخلاف، لا سيما إذا كان القول بتجنب الخلاف لا يترتب عليه تعطيل دليل.

طالب: .......

ماذا؟

طالب: .......

لا؛ لأنه قد يحمل نفسه على ما لا يحمله عليه غيره؛ لأن الدليل لا ينهض على الإلزام، ارتكب محظورًا ففتى المفتي، لكن جاءك مسكين ضعيف وأنت ما عندك دليل ملزم بالفدية لهذا المحظور، انظر في الأقوال الأخرى؛ لأن النص لا يرقى إلى الإلزام.

طالب: "وكذلك من قام إلى ثالثة في النافلة، وعقدها يضيف إليها رابعةً؛ مراعاةً لقول من يجيز التنفل بأربع".

هذا في صلاة النهار، أما في صلاة الليل: «صلاة الليل مثنى مثنى». نعم.

طالب: "بخلاف المسائل المتفق عليها، فإنه لا يراعى فيها غير دلائلها، ومثله جارٍ في عقود البيع وغيرها، فلا يعاملون الفاسد المختلف في فساده معاملة المتفق على فساده، ويعللون التفرقة بالخلاف، فأنت تراهم يعتبرون الخلاف، وهو مضاد لما تقرر في المسألة. فاعلم أن المسألة قد أشكلت على طائفة، منهم ابن عبد البر، فإنه قال: الخلاف لا يكون حجةً في الشريعة. وما قاله ظاهر".

لأنه ليس من الأدلة، ليس من الأدلة المتفق عليها ولا المختلف فيها، فكيف يُعتمد عليه؟ وليس المراد نفس الخلاف أو المخالف للقول، الذي يُنظر إليه ويلحظ هو دليل هذا المخالف، دليل المخالف للخروج من عهدته.

طالب: "فإن دليلي القولين لا بد أن يكونا متعارضين، كل واحد منهما يقتضي ضد ما يقتضيه الآخر، وإعطاء كل واحد منهما ما يقتضيه الآخر أو بعض ما يقتضيه هو معنى مراعاة الخلاف، وهو جمع بين متنافيين كما تقدم. وقد سألت عنها جماعةً من الشيوخ الذين أدركتهم، فمنهم من تأول العبارة ولم يحملها على ظاهرها، بل أنكر مقتضاها بناءً على أنها لا أصل لها، وذلك بأن يكون دليل المسألة يقتضي المنع ابتداءً، ويكون هو الراجح، ثم بعد الوقوع يصير الراجح مرجوحًا؛ لمعارضة دليل آخر يقتضي رجحان دليل المخالف".

هذه المسألة لا تأتي في قولين أحدهما يقتضي الوجوب، والثاني يقتضي التحريم؛ لأنه لا يمكن فيها الاحتياط، لا تأتي؛ بل إذا قيل بأن المسألة دائرة بين التحريم والكراهية، أو الوجوب والاستحباب، قد يستروح المفتي ترجيح التحريم؛ لأنه ما ينكره الآخر، وهو محتوٍ له.

 على كل حال: مثل هذه الأمور يقدرها المجتهد بقدرها بالنظر، يعني الحال، وما يحتف بها. نعم.

طالب: "فيكون القول بأحدهما في غير الوجه الذي يقول فيه بالقول الآخر، فالأول فيما بعد الوقوع، والآخر فيما قبله، وهما مسألتان مختلفتان، فليس جمعًا بين متنافيين ولا قولاً بهما معًا، هذا حاصل ما أجاب به من سألته عن المسألة من أهل فاس وتونس، وحكى لي بعضهم أنه قول بعض من لقي من الأشياخ، وأنه قد أشار إليه أبو عمران الفاسي، وبه يندفع سؤال اعتبار الخلاف، وسيأتي للمسألة تقرير آخر بعدُ، إن شاء الله. على أن الباجي حكى خلافًا في اعتبار الخلاف في الأحكام، وذكر اعتباره".

بعضهم يفرِّق في الفتوى بين ما إذا كان المستفتي يريد أن يفعل، وبين ما إذا فعل وانتهى. صلى فأتى يسأل: هل صلاته صحيحة أو باطلة؟ الإبطال لا بد أن يكون عن يقين. أو حج أو فعل أي فعل. وبين أن يكون قبل الفعل، فمثل هذا يكون الجواب على الاحتياط. ما بعد الفعل يكون على إبراء ذمة المفتي والمستفتي على وجه لا يعارض الأدلة.

 إذا جاءك من يقول: أنا حججت وسافرت إلى المشرق أو المغرب وكذا، ويمكن تصحيح هذا الحج، إلزامه بالرجوع فيه مشقة عليه، وفيه من يقول بتصحيح حجه. مثل هذا يختلف فيمن جاء يسأل قبل الحج، جاء يقول: علمني كيفية الحج، فمثل هذا لا تطلعه على الأقوال المرخصة والمسهلة، حتى إذا وقع في ذلك الوقت، إذا وقع يمكن أن تبحث له عن مخرج لا يكون من باب تتبع الرخص.

طالب: "على أن الباجي حكى خلافًا في اعتبار الخلاف في الأحكام، وذكر اعتباره عن الشيرازي، واستدل على ذلك بأن ما جاز أن يكون علةً بالنطق جاز أن يكون علةً بالاستنباط، ولو قال الشارع: إن كل ما لم تجتمع أمتي على تحريمه، واختلفوا في جواز أكله فإن جلده يطهر بالدباغ؛ لكان ذلك صحيحًا، فكذلك إذا علق هذا الحكم عليه بالاستنباط. وما قاله غير ظاهر؛ لأمرين".

قلنا: "إن كل ما لم تجتمع أمتي على تحريمه، واختلفوا في جواز أكله فإن جلده يطهر بالدباغ"؛ لأن المسألة معروف أنه اختلف فيها على ثمانية أقوال، وأما ما يؤكل فهذا قرره كثير من أهل العلم، وإن كان بعضهم لا يرى أن جلد الميتة لا يطهر بالدباغ مطلقًا. لكن دعونا ممن يقول بأنه يطهر إذا دُبغ إذا كانت ميتة مما يؤكل لحمه. وبعضهم يطلق، يقول: الدباغ يحل جميع أنواع الجلود، سواء كانت من مأكول اللحم أو من غيره: «أيما إهاب دُبغ فقد طهر».

 فما يوجد في الأسواق من الشنط والأحذية وغيرها مما يُستمتع به، وُجدت في أسواق المسلمين واستعملوها، وقد يكون بعضها أو كثير منها مما لا يؤكل لحمه، ألا يشمله عموم: «أيما إهاب دُبغ فقد طهر»؟

طالب: بلى.

المسألة تداولها الناس واشتروها واستعملوها، وعليها لوازم، يعني لو جاءك شخص قال: أنا اشتريت خفافًا من لحم أي لحم مما لا يؤكل وصليت، هل تقول له: صلاتك باطلة؟

طالب: لا.

وفيه وجه لتصحيحها، نعم. لكن لو جاءك قبل أن يشتري تدله على الأحوط. لكن إذا اشترى واستعمل، وأمكن التصحيح، وله مستمسك عموم: «أيما إهاب دُبغ فقد طهر». يبقى جلود السباع والنمور التي جاء النهي عن استعمالها، هذا غير الطهارة، هذه مسألة أخرى غير الطهارة.

طالب: .......

علة استنباطية التي عندنا، الذي لم تجتمع الأمة على تحريمه، واختلفوا في جواز أكله فإن جلده يطهر، هذا الجلد طاهر لما دُبغ، لماذا؟ لأن الأمة لم تجتمع على تحريمه واختلفوا في جواز أكله، فهو طاهر.

 لو جاءنا نص يقول: إن كل ما لم تجتمع عليه الأمة على تحريمه، واختلفوا في جواز أكله، فإن جلده يطهر، سواء كانت العلة هذه منصوصة أو مستنبطة. لكن معروف أن العلل المستنبطة أضعف من العلل المنصوصة، حتى قال بعضهم: إن العلل المستنبطة لا تدخل في القياس، ولا يعم حكمها، بخلاف، ولا يدور معها الحكم وجودًا وعدمًا، بخلاف العلل المنصوصة.

طالب: "وما قاله غير ظاهر لأمرين؛ أحدهما: أن هذا الدليل مشترك الإلزام، ومنقلب على المستدل به؛ إذ لقائل أن يسلِّم أن ما جاز أن يكون علةً بالنطق جاز أن يكون علةً بالاستنباط ثم يقول: لو قال الشارع: إن كل ما لم تجتمع أمتي على تحليله واختلفوا في جواز أكله، فإن جلده لا يطهر بالدباغ؛ لكان ذلك صحيحًا".

الكل يقرر على ما يراه، فالأول يقول بالنص السابق، والثاني يقول بنقيضه؛ لأنه لا يراه. نعم.

طالب: "فكذلك إذا عُلق الحكم عليه بالاستنباط، ويكون هذا القلب أرجح؛ لأنه مائل إلى جانب الاحتياط، وهكذا كل مسألة تُفرض على هذا الوجه.

والثاني: أن ليس كل جائز واقعًا؛ بل الوقوع محتاج إلى دليل، ألا ترى أنا نقول: يجوز أن ينص الشارع على أن مس الحائض"؟

لا، "الحائط".

طالب: "على أن مس الحائط ينقض الوضوء، وأن شرب الماء المسخَّن يفسد الحج، وأن المشي من غير نعل يفرق بين الزوجين، وما أشبه ذلك، ولا يكون هذا التجويز سببًا في وضع الأشياء المذكورة عللاً شرعيةً بالاستنباط، فلمَّا لم يصح ذلك دل على أن نفس التجويز ليس بمسوغ لما قال".

المعول على النص، وما يتناوله النص بعمومه، وما يمكن أن يقاس عليه لاشتراكه بالعلة، أما الاحتمالات العقلية التي لا يسندها الدليل فلا قيمة لها.  

طالب: "فإن قال: إنما أعني ما يصح أن يكون علةً لمعنًى فيه من مناسبة أو شَبه، والأمثلة المذكورة لا معنى فيها يستند إليه في التعليل. قيل: لم تفصل أنت هذا التفصيل، وأيضًا فمِن طرق الاستنباط ما لا يلزم فيه ظهور معنى يُستند إليه، كالاطراد والانعكاس ونحوه، ويمكن أن يكون الباجي أشار في الجواز إلى ما في الخلاف من المعنى المتقدم، ولا يكون بين القولين خلاف في المعنى.

واحتج المانعون بأن الخلاف متأخر عن تقرير، والحكم لا يجوز أن يتقدم على علته، قال الباجي: ذلك غير ممتنع، كالإجماع، فإن الحكم..".

ذلكم لأن العلة هي سبب في الحكم، العلة سبب في الحكم، ولا شك أن السبب متقدم على المسبب. لكن العلل التي يستنبطها أهل العلم من النصوص، يقررون الحكم من هذا النص، ثم يستنبطون العلة، تكون حينئذٍ العلة مستنبطة، وإن كانت في وجودها متقدمة على النص، إلا أنها في وقت استنباطها متأخرة.

طالب: "قال الباجي: ذلك غير ممتنع كالإجماع، فإن الحكم يثبت به وإن حدث في عصرنا. وأيضًا: فمعنى قولنا: إنه مختلف فيه أنه يسوغ فيه الاجتهاد، وهذا كان حاله في زمان رسول الله ، فلم يتقدم على علته. والجواب عن كلام الباجي: أن الإجماع ليس بعلة للحكم، بل هو أصل الحكم، وقوله: إن معنى قولنا مختلف فيه كذا، هي عين الدعوى.

فصل: ومن القواعد المبنية على هذه المسألة أن يقال: هل للمجتهد أن يجمع بين الدليلين بوجه من وجوه الجمع، حتى يعمل بمقتضى كل واحد منهما فعلاً أو تركًا كما يفعله المتورعون في التروك، أم لا؟".

يعني ما هو بالجمع من حيث التوجيه، يعني توجيه هذا الدليل على حال وتوجيه هذا الدليل على حال، الجمع بين النصوص المتعارضة؛ إنما الجمع بالعمل فيه، مقصوده على هذا أن يقال: هل للمجتهد أن يجمع بين الدليلين بوجه من وجوه الجمع حتى يعمل بمقتضى كل واحد منهما فعلاً أو تركًا؟ أما إذا أمكن الجمع بين النصوص فهذا متعين، كل العلماء هذا لا يلجئون إلى الترجيح ولا إلى النسخ إلا إذا تعذر الجمع.

طالب: "أما في ترك العمل".

لكن كما يفعله المتورعون في التروك، المتورعون التروك كل ما أشكل عليهم يتركوه وانتهى الإشكال، لو جاء نص يبيحه ما فيه مخالفة للنص. نعم.

طالب: "أما في ترك العمل بهما معًا مجتمعين أو متفرقين، فهو التوقف عن القول بمقتضى أحدهما".

لا سيما إذا لم يتبين المرجح، فإن القول بأحدهما من غير مرجح تَشَهٍّ.

طالب: "وهو الواجب إذا لم يقع ترجيح. وأما في العمل، فإن أمكن الجمع بدليله فلا تعارض، وإن فُرض التعارض، فالجمع بينهما في العمل جمع بين متنافيين، ورجوع إلى إثبات الاختلاف في الشريعة، وقد مر إبطاله".

لا سيما إذا كان أحدهما يقتضي التحريم، والثاني يقتضي الإيجاب، ولا يمكن الاحتياط. نعم.

طالب:

"وهكذا يجري الحكم في المقلد بالنسبة إلى تعارض المجتهدين عليه، ولهذا الفصل تقرير في كتاب التعارض والترجيح، إن شاء الله تعالى".

اللهم صلِّ على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.