شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح - كتاب الاعتكاف - 01

 

المقدم:

 

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله، والصلاة والسلام على أشرف خلق الله مُحمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد، فالسلام عليكم ورحمته وبركاته، وأهلًا بكم مُستمعينا الكِرام إلى هذا اللقاء الأول في هذا الرمضان، نسأل الله تعالى أن يتقبل منّا ومنكم، في مطلع هذه اللقاءات يُسعدني أن أُرحب بمعالي الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخُضير- وفقه الله- عضو هيئة كبار العُلماء، وعضو اللجنة الدائمة للإفتاء، فمرحبًا بكم فضيلة الشيخ، وأهلًا وسهلًا.

حياكم الله وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين.

المقدم: في سنواتٍ مضت مُستمعينا الكِرام شرح الشيخ وفَّقهُ الله من كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح كتاب الصيام، وفي هذا العام نشرعُ في عرض كتاب الاعتكافِ على فضيلتِهِ، فنسأل الله تبارك وتعالى أن يُعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علّمنا، إنهُ جوادٌ كريم.

قال المؤلف- رحمهُ الله-: عن عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم-ورضي عنها: «أن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان يعتكفُ العشر الأواخر من رمضان، حتى توفاهُ الله، ثم اعتكف أزواجُهُ من بعده».

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد: فراوية الحديث أم المؤمنين الصديقةُ بنت الصدّيق، عائشةُ بنت أبي بكرٍ زوج النبي صلى الله عليه وسلم-مرّ ذكرُها مرِارًا، وهذا الحديث ترجم عليه الإمام البُخاري بقوله: أبواب الاعتكاف.

أبواب الاعتكاف؛ باب الاعتكاف في العشر الأواخر، والاعتكافِ في المساجدِ كُلِّها لقوله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}[البقرة:187]، يقول ابن حجر: قوله أبواب الاعتكاف، كذا للمستملي، وسقط لغيره إلا النسفي، فإنه قال: كتاب، وثبتت له البسملة مقدمة، النسفي ثبتت له البسملة مُقدّمة.

بسم الله الرحمن الرحيم، كتاب الاعتكاف، كذا للنسفي، قال: وللمستملي مؤخرة، ومر بنا مرارًا اختلاف الرواة في تقديم البسملة على الترجمة والتأخير، ونظّرنا ذلك فيما تقدم بتقديم اسم السورة على البسملة؛ يعني من قدَّم البسملة هذا هو الأصل؛ يعني قال: بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الاعتكاف أو أبواب الاعتكاف، بسم الله الرحمن الرحيم، بدأ بالبسملة حقيقة، لكن من قدّم الترجمة على البسملة جعل ذلك نظير تقدير اسم السورة على البسملة التي تُفتتح بها السورة.

والاعتكاف لغةً لزوم الشيء وحبس النفس عليه، وشرعًا المقام في المسجد من شخص مخصوص على صفة مخصوصة، قال الكرماني: الاعتكاف لغةً الإقامة وحبس النفس على الشيء، واصطلاحًا هو لُبث المسلم العاقل في المسجد بالنية، ويُسمي الاعتكاف جوارًا، الكرماني: يسمى الاعتكاف جوارًا، ومن اعتكف في بيت الله، سماه أهل العلم جار الله، وكذلك من ترك بلده وجاور ولو لم يكن معتكفًا، إنما نزل بجوار البيت في مكة مثلاً، سموه جار الله نعم.

ومن ذلكم الزمخشري. ويُسمى الاعتكاف جوارًا. وكثير غيره ممن جاور في بيت الله الحرام، جاور في مكة مثلاً، هذا يسمونه جوارًا، وتسمية الاعتكاف جوارًا، كما في كلام الكرماني، يدل له حديث عائشة -رضي الله عنها- في بعض طرق حديث الباب، حديث عائشة -رضي الله عنها- وسيأتي هذا، «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصغي إلي رأسه وهو مجاور في المسجد فأرجله وأنا حائض»، وسيأتي الكلام عليه. "مجاور" يعني معتكف، فأطلقت على الاعتكاف جوارًا.

يدل على أن الاعتكاف في أي مسجد كان يُسمي جوارًا، وهذا لا يختص بالمسجد الحرام، وإنما يقولون: جاور بمكة يعني جاور البيت، وإن لم يعتكف بالمعنى الأعم، وأما تسمية الاعتكاف جوارًا فهذا يدل له قول عائشة: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصغي إليَّ رأسه وهو مجاور في المسجد يعني معتكف في مسجده- عليه الصلاة والسلام.

وليس الاعتكاف بواجب إجماعًا إلا على من نذره، وكذا من شرع فيه فقطعه عامدًا عند قوم -وسيأتي هذا كله-، واختلف في اشتراط الصوم له كما سيأتي في باب مفرد، وانفرد سويد بن غفلة باشتراط الطهارة له، يعني ما يجلس في المسجد معتكفًا إلا على طهارة، عند سويد بن غفلة، لكن هذا انفرد به، وهو قول على كل حال شاذ؛ لأنه يرده الواقع؛ إذ من مستلزمات الاعتكاف وعدم الخروج من المسجد النوم وهو ناقض للوضوء.

وقال العيني: كتاب الاعتكاف أي هذا كتاب في بيان الاعتكاف وأحواله، وهو في اللغة اللُّبث مطلقًا، ويقال: الاعتكاف والعكوف: الإقامة على الشيء بالمكان، الإقامة على الشيء وبالمكان ولزومها في اللغة، لابد من لزوم، يعني فلا يكفي مجرد اللُّبث اليسير لتسميته اعتكافًا، وسيأتي في كلام بعض أهل العلم أنه لا يشترط أو لا يلزم من تسمية الاعتكاف طول المدة والمُكث، بل يكفي أن ينوي الاعتكاف ولو مرَّ بالمسجد، وهذا قول لا يسنده لغة ولا دليل شرعي.

ونجد في بعض المساجد، لاسيما في غير هذه البلاد، عند مدخل المسجد، يقول قل نويت الاعتكاف، لمجرد دخولك المسجد، وهذا لا دليل عليه، واللفظ بالنية قل نويت هذا مبتدع، نعم هذا أمر مبتدع؛ لأنها عبادة، والله- جل وعلا- يعلم ما في النيات، فلا يحتاج أن يُصرَّح بها، وليس عليه دليل، لا من الكتاب ولا السنة، كما بيَّن ذلك أهل العلم.

وهو في اللغة اللُّبث مطلقًا، ويقال: الاعتكاف والعكوف للإقامة على الشيء وبالمكان، ولزومها في اللغة، ومنه يقال لمن لازم المسجد: عاكف ومعتكف، هكذا ذكره ابن الأثير في النهاية، يعني مقابلة العاكف بالبادي في قوله- جل وعلا-: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ}، البادي الذي يأتي من البادية ويصلي فرضًا، فرضين ويرجع، يقابله العاكف {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ}، يعني يستوي فيه من أقام فيه ومكث فيه معتكفًا فيه ملازمًا له مجاورًا فيه، ومن جاء لأداء فرض ونحوه من البادية، هذا يقابل هذا، لكنهم يستوون في الحقوق، فلا يقدم هذا في مكان ولا غيره ولا صف.

إذا كان عاكفًا فيقدم على هذا البادي الذي جاء من البادية، ولذا جاء الوعيد على من ألحد، { سواء العاكف فيه والباد ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم} [آل عمران:25]، هذا يدخل فيه حتى من فرّق بين العاكف والبادي، فرأى أن العاكف أحق من البادي، والله -جل وعلا- يقول: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ}، فمن رأي أن للعاكف فيه فضلاً لا من حيث الأجر، إنما من حيث تقديم في صف أو في مكان، بحيث لا يقال: هذا بادي قم لهذا العاكف، عن هذا المكان الذي سبقت إليه، نعم فهم يستوون فيه.

أما من حيث الأجر، فالاعتكاف له أجره بلا شك، والمُكث أيضًا له أجره، وانتظار الصلاة له أجره، والبقاء في الصلاة له أجره، وهذه أمور لا يختلَف فيها، وجاءت في النصوص الصريحة الصحيحة، فقوله: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ}، يعني من حيث التقدم إلى شيء مباح، فإذا تقدم من الصف الأول هذا البادي، ما يقول: والله تأخر، هذا عاكف في المسجد وأحق منك، وكذا لو تقدم في مكان مريح ساري أو شبهه أو يقام عنها؛ لأن هذا عاكف لا، {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ}.

 ولذا جاء الوعيد الشديد، أن من رأى أن له حقًّا في المسجد، يستحقه بعكوفه فيه ولزومه فيه على غيره، وأنه يستطيع أن يطرد أحدًا من مكانه الذي سبق إليه، {ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم}، فهما مستويان العاكف والبادي، ومقابلة العاكف بالبادي الذي يرد على المسجد؛ ليصلي فرضًا أو فرضين مقابلته بالعاكف يدل أن العاكف يمكث، ويلزم المسجد مدة تزيد على هذا القدر.

بحيث يُسمى معتكفًا وعاكفًا لغة وشرعًا، هكذا ذكره ابن الأثير في النهاية، وفي المغني: هو لزوم الشيء وحبس النفس عليه بِرَّا كان أو غيره، حتى من عكف على شيء يضره يقال له: عاكف، ومن اعتكف في المسجد ليعبد الله- جل وعلا-، ويخلو بمناجاته والانكسار بين يديه فهذا عاكف، والذي يلزم ما يضره من غير أعمال البر، يقال له أيضًا: عاكف، بِرًّا كان أو غيره، منه قوله تعالى: {مَاهَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء:52]، وقوله تعالى: {يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ}[الأعراف:138]، وقوله تعالى: {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا}[طه:97]، وحينئذٍ نستطيع أن نقول: الذين يلازمون برامج معينة، والإنترنت أو أجهزة معينة يلزمونها بحيث تضرهم، نقول لهم: عاكفون عليها.

وكذلك من لزم هذه الأجهزة لحضور الدروس العلمية وما ينفع، نقول: عاكفون عليها، فالعكوف يستوي سواء كان برًّا أو غيره، كما قال ابن قدامة، واستدل لها بالآيات، {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء:55]، و{يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ}[الأعراف:138]، و{وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا} [طه:98]، وفي الشرع.

المقدم: لو أجلنا، فضيلة الشيخ بارك الله فيكم- تعريفه الشرعي للحلقة القادمة؛ إذ يصل بنا الوقت إلى خاتمة هذه الحلقة الأولى من حلقات برنامجكم شرح التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، النسخة الرمضانية، والذي بدأ وشرع فيها الشيخ في كتاب الاعتكاف.

نسأل الله تبارك وتعالى أن يعلمنا ما ينفعنا، وينفعنا بما علمنا، وأن يجزي معالي الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير- وفقه الله- عضو هيئة كبار العلماء وعضو المجلس الدائم للكتاب، ويجزيه عنا خيرًا، وشكر الله لكم أنتم مستمعينا الكرام، نلقاكم في الحلقة المقبلة بإذن الله.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.