شرح العقيدة الطحاوية (65)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم اغفر لنا ولشيخنا، واجزه عن خير الجزاء برحمتك يا أرحم الراحمين.

قال الطحاوي -رحمه الله تعالى-: ( وَأَفْعَالُ الْعِبَادِ خَلْقُ اللَّهِ وَكَسْبٌ مِنَ الْعِبَادِ )".

قال الشارح -رحمه الله-: "اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَفْعَالِ الْعِبَادِ الِاخْتِيَارِيَّةِ، فَزَعَمَتِ الْجَبْرِيَّةُ وَرَئِيسُهُمُ الْجَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ التِّرْمِذِيُّ: أَنَّ التَّدْبِيرَ فِي أَفْعَالِ الْخَلْقِ كُلِّهَا لِلَّهِ تَعَالَى، وَهِيَ كُلُّهَا اضْطِرَارِيَّةٌ، كَحَرَكَاتِ الْمُرْتَعِشِ، وَالْعُرُوقِ النَّابِضَةِ، وَحَرَكَاتِ الْأَشْجَارِ، وَإِضَافَتِهَا إِلَى الْخَلْقِ مَجَازٌ! وَهِيَ عَلَى حَسَبِ مَا يُضَافُ الشَّيْءُ إِلَى مَحَلِّهِ دُونَ مَا يُضَافُ إِلَى مُحَصِّلِهِ!

وَقَابَلَتْهُمُ الْمُعْتَزِلَةُ، فَقَالُوا: إِنَّ جَمِيعَ الْأَفْعَالِ الِاخْتِيَارِيَّةِ مِنْ جَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ بِخَلْقِهَا، لَا تَعَلُّقَ لَهَا بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى. وَاخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقْدِرُ عَلَى أَفْعَالِ الْعِبَادِ أَمْ لَا!"

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

أما  بعد، فيقول المصنف -رحمه الله تعالى-: وأفعال العباد خلق الله، يقول الله -جل وعلا-: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} ]الصافات  96] فهي خلق لله -جل وعلا-، فهم خلق لله وأفعالهم خلق لله {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} ] الصافات  96]، وللإمام البخاري -رحمه الله تعالى- مصنف في الباب مستقل اسمه خلق أفعال العباد، وعلى هذا السلف قاطبة وأئمة الإسلام وقدواتهم كلهم على هذا، إلى أن نبع في الإسلام أهل الجبر الذين يقولون إن العباد مجبورون على أفعالهم وإنهم لا قدرة لهم ولا إرادة لهم، وتصرفاتهم كتصرفات ورق الشجر في مهب الريح أو كحركة المرتعش لا يُنسب إليهم شيء، ويقابلهم في ذلك المعتزلة ومن يقول بقولهم من الروافض وبعض الزيدية وجمع من طوائف الضلال، الذين يقولون إن العبد يستقل بفعله، وإنه مريد إرادة كاملة يتصرف خارجًا عن إرادة الله ومشيئته -نسأل الله العافية-، مع خلاف فيما بينهم هل القدرة الإلهية تصلح لأفعال العبد؟ يعني هل يقدر عليها الله -جل وعلا- أو لا يقدر؟ فأثبتوا خالقًا مع الله -جل وعلا- قالوا إن العبد يخلق فعله، وهم في ذلك يقابلون من يقول من الجبرية إن العبد لا قدرة له ولا إرادة ولا مشيئة، وأنه يتحرك حركة جبرية لا اختيارية، فهما في طرفي نقيض، وتوسط أهل الحق من أهل السنة والجماعة فقالوا: إن العبد له قدرة، وله حرية، وله اختيار، وله مشيئة، لكن كل ذلك تابع لقدرة الله ومشيئته {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ} ]الإنسان30]،  فقدرة العبد له حرية وله اختيار، وليس بمجبور، ولكنه ليس له الحرية التامة التي يستقل بها عن إرادة الله ومشيئته، بل كل ذلك تابع لإرادة الله {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ} ]الإنسان-30]   وأدلة الفريقين هي أدلة أهل السنة والجماعة، فما ينكره الجبرية يثبتونه بأدلة القدرية، وما ينكره القدرية يثبتونه بأدلة الجبرية؛ لأنهم وفقهم الله فوفَّقوا بين النصوص وعملوا بنصوص هؤلاء وهؤلاء، وخرجوا بالرأي الوسط الذي هو الحق الموافق لنصوص الكتاب والسنة، والشارح -رحمه الله- سيعرض بعض الأدلة من هؤلاء وهؤلاء، ويستثمر هذه الأدلة من الفريقين لصالح المذهب الراجح الصحيح الذي هو مذهب أهل السنة والجماعة.

"وَقَالَ أَهْلُ الْحَقِّ: أَفْعَالُ الْعِبَادِ بِهَا صَارُوا مُطِيعِينَ وَعُصَاةً".

فهي منسوبة إليهم حقيقة لا مجازًا كما يقوله الجبرية.

"وَهِيَ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعَالَى".

لا خارجة عن إرادته وقدرته كما يقوله القدرية.

"وَالْحَقُّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُنْفَرِدٌ بِخَلْقِ الْمَخْلُوقَاتِ، لَا خَالِقَ لَهَا سِوَاهُ. فَالْجَبْرِيَّةُ غَلَوْا فِي إِثْبَاتِ الْقَدَرِ، فَنَفَوْا صُنْعَ الْعَبْدِ أَصْلًا، كَمَا عَمِلَتِ الْمُشَبِّهَةُ فِي إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ، فَشَبَّهُوا. وَالْقَدَرِيَّةُ نُفَاةُ الْقَدَرِ جَعَلُوا الْعِبَادَ خَالِقِينَ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى. وَلِهَذَا كَانُوا مَجُوسَ هَذِهِ الْأُمَّةِ".

لأنهم أثبتوا خالقين، المجوس أثبتوا خالقَين، والقدرية أثبتوا خالقِين، أثبتوا صفة الخلق لكل واحد من هؤلاء، الذي لديه من الأفعال ما ينسب إليه فيكون من خلقه، فزادوا على المجوس، المجوس أثبتوا خالقَين خالق الخير وخالق الشر، وخالق النور وخالق الظلمة، وهؤلاء أيضًا أثبتوا مع الله- جل وعلا- خالقِين بعدد من يصح أنه يُنسب إليه فعل، فيكون من خلقه.

"المقدم: وَلِهَذَا كَانُوا مَجُوسَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، بَلْ أَرْدَأَ مِنَ الْمَجُوسِ، مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْمَجُوسَ أَثْبَتُوا خَالِقَيْنِ، وَهُمْ أَثْبَتُوا خَالِقِينَ! !

وَهَدَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَهْلَ السُّنَّةِ لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ، وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ".

 ولذلك شرع في الاستفتاح لصلاة الليل قول: اهدني لما اختُلِف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم، وأبو بكر -رضي الله عنه وأرضاه- لما وجد ما وجد من ردة بعض قبائل العرب صار يقنت في صلاة المغرب بقول الله -جل وعلا-: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا}  ]آل عمران 8]، وإلا فمثل هذا الكلام هل يمشي على عقل سويّ؟ يقول: إن العبد مثل ورق الشجر، والسوي الذي له حرية واختيار، ويمد يده متى شاء، ويكفها متى شاء، ويصلي متى ما أراد، وينام متى شاء مثل المرتعش الذي لا يتصرف في أطرافه! من يقول مثل هذا الكلام؟ وهذا المذهب مذهب الجبر تقريره في تفسير الرازي في مواضع لا تعد ولا تحصى، الرازي صاحب ذكاء من العباقرة، لكن كيف يمشي عليه مثل هذه الأمور؟ ولذا يتعين على كل مسلم لاسيما طالب العلم الذي يسمع مثل هذه الآراء أن يلهج بالدعاء بالثبات،  {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا}  ]آل عمران 8]،  يا مقلب القلوب ثبِّت قلوبنا على طاعتك وهكذا.

"المقدم: فَكُلُّ دَلِيلٍ صَحِيحٍ يُقِيمُهُ الْجَبْرِيُّ، فَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مِنْ جُمْلَةِ مَخْلُوقَاتِهِ، وَأَنَّهُ مَا شَاءَ كَانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ بِفَاعِلٍ فِي الْحَقِيقَةِ وَلَا مُرِيدٍ وَلَا مُخْتَارٍ، وَأَنَّ حَرَكَاتِهِ الِاخْتِيَارِيَّةَ بِمَنْزِلَةِ حَرَكَةِ الْمُرْتَعِشِ وَهُبُوبِ الرِّيَاحِ وَحَرَكَاتِ الْأَشْجَارِ".

"وَكُلُّ دَلِيلٍ صَحِيحٍ يُقِيمُهُ الْقَدَرِيُّ فَإِنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ فَاعِلٌ لِفِعْلِهِ حَقِيقَةً، وَأَنَّهُ مُرِيدٌ لَهُ مُخْتَارٌ لَهُ حَقِيقَةً، وَأَنَّ إِضَافَتَهُ وَنِسْبَتَهُ إِلَيْهِ إِضَافَةُ حَقٍّ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورٍ لِلَّهِ تَعَالَى وَأَنَّهُ وَاقِعٌ بِغَيْرِ مَشِيئَتِهِ وَقُدْرَتِهِ".

تقرير هذه المسألة بهذه الطريقة هي طريقة شيخ الإسلام -رحمه الله- في إثبات وسطية أهل السنة والجماعة بين المذاهب كلها والأهواء والفرق، كما قرر ذلك في الواسطية أنهم وسط في باب كذا بين كذا وكذا، ويستفيدون ويستدلون بأدلة هؤلاء وأدلة هؤلاء، لكن لا يضربون بعضها ببعض كما تفعل هذه الطوائف، بل يوفِّقون بينها، ويحملون أدلة الفريق الأول على كذا، ويحملون أدلة الفريق الثاني على كذا، وبه تلتئم هذه الأدلة وتجتمع.

" فَإِذَا ضَمَمْتَ مَا مَعَ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْهُمَا مِنَ الْحَقِّ إِلَى حَقِّ الْأُخْرَى".

لأن الجبرية عندهم أدلة، والقدرية عندهم أدلة. عندهم أدلة من الكتاب والسنة، ماذا نصنع بهذه الأدلة؟ لابد من التوفيق بينها؛ لأنها كلها من عند الله، إذا أخذنا بطرف وتركنا الطرف الآخر معناه أننا آمنا ببعض الكتاب وكفرنا ببعض، لكن علينا أن نؤمن بهذا وهذا، وعلينا أن نجمع بين النصوص ونوفِّق بين النصوص، ولا نضرب بعضها ببعض.

" فَإِنَّمَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ وَسَائِرُ كُتُبِ اللَّهِ الْمُنَزَّلَةِ، مِنْ عُمُومِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَمَشِيئَتِهِ لِجَمِيعِ مَا فِي الْكَوْنِ مِنَ الْأَعْيَانِ وَالْأَفْعَالِ، وَأَنَّ الْعِبَادَ فَاعِلُونَ لِأَفْعَالِهِمْ حَقِيقَةً، وَأَنَّهُمْ يَسْتَوْجِبُونَ عَلَيْهَا الْمَدْحَ وَالذَّمَّ".

يعني بخلاف قول الجبرية الذين يقولون: إنما إضافة الأعمال للعباد إنما هي على طريق المجاز، وإلا فما لهم علاقة، وما لهم دور في هذه الأفعال، إنما هم مجبورون عليها لابد أن يقوموا بها، فالكافر مجبور على الكفر، والمؤمن مجبور على الإيمان، ولا فرق بينهما من حيث الأصل.

المقدم: وَهَذَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، فَإِنَّ أَدِلَّةَ الْحَقِّ لَا تَتَعَارَضُ، وَالْحَقُّ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا. وَيَضِيقُ هَذَا الْمُخْتَصَرُ عَنْ ذِكْرِ أَدِلَّةِ الْفَرِيقَيْنِ، وَلَكِنَّهَا تَتَكَافَأُ وَتَتَسَاقَطُ، وَيُسْتَفَادُ مِنْ دَلِيلِ كُلِّ فَرِيقٍ بُطْلَانُ قَوْلِ الْآخَرِينَ. وَلَكِنْ أَذْكُرُ شَيْئًا مِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ كُلٌّ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، ثُمَّ أُبَيِّنُ أَنَّهُ لَا يَدُلُّ عَلَى مَا اسْتُدِلَّ عَلَيْهِ مِنَ الْبَاطِلِ. فَمِمَّا اسْتَدَلَّتْ بِهِ الْجَبْرِيَّةُ، قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى } [ الْأَنْفَالِ: 17 ]. فَنَفَى اللَّهُ عَنْ نَبِيِّهِ الرَّمْيَ، وَأَثْبَتَهُ لِنَفْسِهِ سُبْحَانَهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا صُنْعَ لِلْعَبْدِ. قَالُوا: وَالْجَزَاءُ غَيْرُ مُرَتَّبٍ عَلَى الْأَعْمَالِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: « لَنْ يَدْخُلَ أَحَدٌ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ، قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ».

الذي يسمع هذا القدر ولا يضم إليه النصوص الأخرى بل لا يفهم هذا القدر الفهم الصحيح قد ينخدع بكلامهم، {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ}  ]الأنفال17 ] نفى الرمي وأثبته في الوقت نفسه {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ}، هل يصلح أن يقال: ما صليت إذ صليت؟ إلا على حمل هذا المنفي على حالة، والمثبت على حالة، ارجع فصلِّ فإنك لم تصلِّ، هو صلى يعني لم تصلِّ الصلاة المجزئة المسقطة للطلب، لكنك صليت في الصورة في الظاهر، وهنا {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} نفاه وأثبته، فيُحمل الرمي الأول على الإصابة، والرمي الثاني على الحذف؛ لأننا نرى الذي يرمي يحذف الحجر، من الذي يرمي؟ {وَلَٰكِنَّ اللَّهَ رَمَىٰ}، الذي رمى الحجر هل هو الله- جل وعلا- ؟ لا، بل رماه الشخص، والإصابة من الله -جل وعلا-، وما أصبت إذا حذفت الحجر، ولكن الله -جل وعلا- أصاب.

"وَمِمَّا اسْتَدَلَّ بِهِ الْقَدَرِيَّةُ، قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [ الْمُؤْمِنُونَ14 ]"

 فأثبتوا مع الله خالقين، الله خالق، والعبد خالق، والعباد خالقون، لكن الله -جل وعلا- هو أحسن هؤلاء الخالقين.

"قَالُوا: وَالْجَزَاءُ مُرَتَّبٌ عَلَى الْأَعْمَالِ تَرْتِيبَ الْعِوَضِ".

عكس ما قاله أولئك، أن الجزاء غير مرتب على الأعمال بدليل: «لن يدخل أحد الجنة بعمله»، وهؤلاء لهم دليل {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ادخلوا الجنة {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} ]الزخرف 72] .

" كَمَا قَالَ تَعَالَى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [ فُصِّلَتْ: 17 ] وَ [ الْأَحْقَافِ: 14 ] وَ [ الْوَاقِعَةِ: 24 ]. {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الزُّخْرُفِ: 72 ]".

فالنفي في قوله: لن يدخل أحد الجنة بعمله، دخولًا ابتداءً واستحقاقًا، هذا بفضل الله ورحمته، وأما المنازل التي تُورَث في الجنة فإنها على حسب الأعمال؛ بسبب هذه الأعمال.

"ونحو ذلك، فَأَمَّا مَا اسْتَدَلَّتْ بِهِ الْجَبْرِيَّةُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [ الْأَنْفَالِ: 17 ] - فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُ تَعَالَى أَثْبَتَ لِرَسُولِهِ [ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ] رَمْيًا بِقَوْلِهِ".

بعد أن نفاه {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} أثبت له الرمي، وهؤلاء يقولون لا رمي للمخلوق، إنما هو يتحرك كما يتحرك لو كان مرتعشًا، لكن هل حركة هذا مثل حركة هذا الذي يقصد الهدف ويصيبه أو يقع قريبًا منه؟ مثل لو وضعت بيد المرتعش حجر أين يذهب؟ مثله يقولون ما فيه فرق، حركة هذا مثل حركة هذا، هل يمشي على عاقل مثل هذا؟ هذه أمور مدرَكة عند الناس قاطبة كبارهم وصغارهم، عقلائهم ومجانينهم، ومع ذلك الرازي يقول مثل هذا الكلام.

"لِأَنَّ الله تَعَالَى أَثْبَتَ لِرَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَمْيًا، بِقَوْلِهِ: إِذْ رَمَيْتَ، فَعُلِمَ أَنَّ الْمُثْبَتَ غَيْرُ الْمَنْفِيِّ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّمْيَ لَهُ ابْتِدَاءٌ وَانْتِهَاءٌ: فَابْتِدَاؤُهُ الْحَذْفُ، وَانْتِهَاؤُهُ الْإِصَابَةُ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا يُسَمَّى رَمْيًا، فَالْمَعْنَى حِينَئِذٍ -وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ-: وَمَا أَصَبْتَ إِذْ حَذَفْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَصَابَ".

كما يمرق السهم من الرمية، الرمية ما هي؟ ما يُرمى، الذي أُصيب بالسهم، الهدف الذي أُصيب فهو رمية بمعنى مصابة، فالرمي هنا الحذف أم الإصابة؟ الإصابة.

"وَإِلَّا فَطَرْدُ قَوْلِهِمْ: وَمَا صَلَّيْتَ إِذْ صَلَّيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ صَلَّى! وَمَا صُمْتَ إِذْ صُمْتَ! وَمَا زَنَيْتَ إِذْ زَنَيْتَ! وَمَا سَرَقْتَ إِذْ سَرَقْتَ! ! وَفَسَادُ هَذَا ظَاهِرٌ".

كلها تنسب لله، كل هذه الأعمال حسنها وقبيحها عباداتها وفواحشها، هي في الحقيقة أفعال الله، والعبد مجرد آلة.

"وَأَمَّا تَرَتُّبُ الْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ، فَقَدْ ضَلَّتْ فِيهِ الْجَبْرِيَّةُ وَالْقَدَرِيَّةُ".

يعني مثل الآلات، يعني لو أن شخصًا دهس إنسانًا بسيارته، ولما جاء أولياء المقتول، قال: والله ما فعلت شيئًا، السيارة هي التي دهسته، يُصدق؟ ما يُصدق؛ لأنها ليست لها إرادة ولا حرية ولا اختيار، والحرية بيد القائد، قائدها هو الملوم. هو يقول الإنسان مثل الآلة ما عليه لوم، لكن هل يرضون إذا حصل عليهم شيء؟

لو افترض أن المقتول منهم.

قل: لو ضربه واحد يقول: هو مكتوب عليك ومقدر عليك، وأنا مجرد آلة، يطيعك؟ والله ما يطيعك.

"وَهَدَى اللَّهُ أَهْلَ السُّنَّةِ، وَلَهُ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. فَإِنَّ الْبَاءَ الَّتِي فِي النَّفْيِ غَيْرُ الْبَاءِ الَّتِي فِي الْإِثْبَاتِ، فَالْمَنْفِيُّ فِي قَوْلِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ أَحَدٌ بِعَمَلِهِ " بَاءُ الْعِوَضِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ كَالثَّمَنِ لِدُخُولِ الرَّجُلِ إِلَى الْجَنَّةِ، كَمَا زَعَمَتِ الْمُعْتَزِلَةُ أَنَّ الْعَامِلَ يسْتَحِق دُخُولَ الْجَنَّةِ عَلَى رَبِّهِ بِعَمَلِهِ"!.

يعني يوجبون على الله -جل وعلا- مجازة المحسن بإحسانه، يجب عليه؛ لأن الباء باء عوض واستحقاق مثل ما تستوجب السلعة إذا بذلت الثمن، يستطيع إنسان إذا اشتريت منه سلعة أن يقول: والله الباء هذه ليست عوضًا، هذا فضل مني أتفضل به عليك، وإن تبادلنا الثمن، لا هذه معاوضة، ولكن الله -جل وعلا -خلق العباد، وله التصرف التام في خلقه، وأغدق عليهم من النعم، وأسبغ عليهم من سوابغ النعم، وله الفضل عليهم، ووعدهم بأن يثيب المطيع، ويعاقب العاصي من غير وجوب كما تقوله المعتزلة، فطردًا لرأيهم الفاسد في الإيجاب على الله -جل وعلا- قالوا: إن دخول الجنة معاوضة لعملهم.

"بَلْ ذَلِكَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ. وَالْبَاءُ الَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى { جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [ فُصِّلَتْ: 17 ] وَنَحْوُهَا بَاءُ السَّبَبِ، أَيْ بِسَبَبِ عَمَلِكُمْ، وَاللَّهُ تَعَالَى هُوَ خَالِقُ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبِّبَاتِ، فَرَجَعَ الْكُلُّ إِلَى مَحْضِ فَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ".

لأنه قد يوجد السبب المقتضي مع وجود مانع، ماذا يقول المعتزلة إذا وجد السبب وإذا وجد العوض مع وجود مانع؟ إذا وجدت السبب مع وجود مانع تتكافأ، لكن إذا وجد العوض مع وجود مانع، الآن لو اشتريت سلعة بدراهم من شخص، وهذا المال الذي اشتريت به فيه نوع شبهة أو تحريم صريح، فهل نقول: إن البيع باطل، أو لا تستحق هذه السلعة من هذا الشخص؛ لأن المال فيه شبهة؟ هذه المعاوضة بين العباد انتهت، هو يستحق المال، وأنت تستحق السلعة، وانتهى البيع، العقد، لكن ما وراء ذلك في طريق الكسب أنت محاسب به أمام الله -جل وعلا-، لكن هذا المال لو استخدمته في سبب يوصلك إلى مرضاة الله، هذا المال الذي فيه شبهة، هذا وجد السبب، لكن وجد ما يمنع من قبول هذا السبب وترتب الأثر عليه.

من هذا النوع، فالمعاوضة مع الله -جل وعلا- تختلف عن المعاوضة مع المخلوق، المخلوق ليس لديه من نعمة يربك بها، والمخلوق ليس له تصرف فيك، المخلوق مثلك، واحد زائد واحد يساوي اثنين، ما فيه زيادة  ولا نقص عنك، لكن بين الخالق والمخلوق يختلف الأمر.

"وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ الْمُعْتَزِلَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: { فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [ الْمُؤْمِنُونَ: 14 ]، فَمَعْنَى الْآيَةِ: أَحْسَنُ الْمُصَوِّرِينَ الْمُقَدِّرِينَ. وَالْخَلْقُ يُذْكَرُ وَيُرَادُ بِهِ التَّقْدِيرُ، وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [ الرَّعْدِ: 16 ] وَ [ الزُّمَرِ: 62 ] أَيِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ مَخْلُوقٍ، فَدَخَلَتْ أَفْعَالُ الْعِبَادِ فِي عُمُومِ: ( كُلِّ ). وَمَا أَفْسَدُ قَوْلَهُمْ فِي إِدْخَالِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى فِي عُمُومِ: ( كُلِّ )، الَّذِي هُوَ صِفَةٌ".

في عموم.

" وَمَا أَفْسَدُ قَوْلَهُمْ فِي إِدْخَالِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى فِي عُمُومِ: ( كُلِّ )، الَّذِي هُوَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ".

قوله: { فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} ]المؤمنون 14] الخلق هنا بمعنى التصوير والتقدير، فالمخلوق يصور ويقدر، ويقدر بمعنى الخلق الذي هو معنى التصوير، يعني يأتي بالأدوات ويضبطها على ما يريد من الصورة التي يريد خلقها، هو يقدر، والشواهد حاضرة سواء كانت الصور التي لها ظل كما يقولون والتماثيل، أو الصور التي يقدرونها في الرسوم ونحوها، هذا يقال مصور، وهذا خلق هذه الصورة، لذا يقال يوم القيامة: أحيوا ما خلقتم، فهو من هذه الحيثية مقدِّر ومصوِّر وخالق، لكن هل هو خالق مثل خلق الله -جل وعلا-؟ كلا، يخلق جمادًا، لكن لا يمكن أن يخلق ما فيه روح، هو يقدر ويصور وقد يضاهي خلق الله من وجه، لذا جاء التشديد في أمر التصوير؛ لأنه مضاهاة ومحاكاة لخلق الله، لكن العبرة بالروح، أحيوا ما خلقتم، هل يستطيعون؟ لا يستطيعون.

"وَمَا أَفْسَد قَوْلَهُمْ فِي إِدْخَالِ كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى فِي عُمُومِ: ( كُلِّ )، الَّذِي هُوَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ، يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا! وَأَخْرَجُوا أَفْعَالَهُمُ الَّتِي هِيَ مَخْلُوقَةٌ مِنْ عُمُومِ: ( كُلِّ )"!.

قالوا: كلام الله داخل في عموم كل، وأفعالهم غير داخلة في عموم كل، كلام الله الذي هو صفة من صفاته قالوا داخل في عموم كل، فكلامه مخلوق؛ لأن الله -جل وعلا- يقول: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}  ]الزمر62 والقرآن شيء، كلام الله شيء فهو داخل في عموم كل، طيب أفعالك ما هي بشيء؟ قالوا: لا، أفعالنا نستقل بها ونفعلها ونخلقها، ويفرون بذلك من لوازم الجبر، فوقعوا في شر مما فروا منه.

" وَهَلْ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ: (كُلِّ) إِلَّا مَا هُوَ مَخْلُوقٌ؟ فَذَاتُهُ الْمُقَدَّسَةُ وَصِفَاتُهُ غَيْرُ دَاخِلَةٍ فِي هَذَا الْعُمُومِ، وَدَخَلَ سَائِرُ الْمَخْلُوقَاتِ فِي عُمُومِهَا. وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } [الصَّافَّاتِ96 ]. وَلَا نَقُولُ لِأَنَّ: " مَا " مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ: خَلْقَكُمْ وَعَمَلَكُمْ؛ إِذْ سِيَاقُ الْآيَةِ يَأْبَاهُ؛ لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- إِنَّمَا أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ عِبَادَةَ الْمَنْحُوتِ، لَا النَّحْتَ، وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَنْحُوتَ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مَا صَارَ مَنْحُوتًا إِلَّا بِفِعْلِهِمْ، فَيَكُونُ مَا هُوَ مِنْ آثَارِ فِعْلِهِمْ مَخْلُوقًا لِلَّهِ تَعَالَى".

النحت من عملهم، نحت هذه الأوثان والأصنام من عملهم إما من حجارة أو من خشب أو من ذهب، هذا من عملهم، وهو داخل في قوله -جل وعلا-: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} ]الصافات–96].

"وَلَوْ لَمْ يَكُنِ النَّحْتُ مَخْلُوقًا لِلَّهِ تَعَالَى لَمْ يَكُنِ الْمَنْحُوتُ مَخْلُوقًا لَهُ، بَلِ الْخَشَبُ أَوِ الْحَجَرُ لَا غَيْرَ. وَذَكَرَ أَبُو الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيُّ إِمَامُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ: أَنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ الْعَبْدَ يُحْدِثُ فِعْلَهُ  ضَرُورِيٌّ وَذَكَرَ الرَّازِيُّ أَنَّ افْتِقَارَ الْفِعْلِ الْمُحْدَثِ الْمُمْكِنِ إِلَى مُرَجِّحٍ يَجِبُ وَجُودُهُ عِنْدَهُ، وَيَمْتَنِعُ عِنْدَ عَدَمِهِ- ضَرُورِيٌّ".

فتقابلا، الأول أبو الحسين البصري يمثل المعتزلة القدرية، والرازي يمثل الجبرية.

"وَكِلَاهُمَا صَادِقٌ فِيمَا ذَكَرَهُ مِنَ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ، ثُمَّ ادِّعَا كُلٍّ مِنْهُمَا".

ثم ادعاء كل منهما.

"ثُمَّ ادِّعَاءُ كُلٍّ مِنْهُمَا أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ يُبْطِلُ مَا ادَّعَاهُ الْآخَرُ مِنَ الضَّرُورَةِ".

وكما قيل في أول الفصل في أول الدرس من تقابل الأدلة التي يستدلون بها، من حيث النظر كل منهما يستدل بالعلم الضروري الذي يجب تصديقه والالتزام بمفاده، كل واحد يدعي أن علمه علم ضروري، فماذا يستفاد من تقابل النظر في هذا كما يستفاد من تقابل الأدلة هناك؟ نستفيد من ادعاء أبي الحسين البصري رد ما يقابلهم من كلام الجبرية، وكذلك نستفيد من كلام الرازي أبي عبد الله الرازي في رد ما يقابله من كلام القدرية، حينما يقال مثلاً أحيانًا يستفاد من الأقوال الشاذة في تقرير الحق؛ مثلاً يقول بعض الناس إن التكبير المقيد بدعة، وأشيع في الأيام الأخيرة أن  التكبير المقيد بدعة. نقول أبو الحسين البصري ماذا يقول؟ يقول: المسبوق يكبر مع الإمام والمأمومين التكبير المقيد، ثم يأتي بما سبق به، هذا قول مقابل من يقول إنه بدعة، يضرب هذا بهذا. سعيد بن جبير يقول: من تجاوز الميقات بغير إحرام فلا حج له، يكون في مقابل سعيد بن المسيب أن من تجاوز الميقات لا شيء عليه. هذه الأقوال الشاذة ماذا يستفاد منها؟ التقريب، يعني نلم هذا إلى هذا، ونخرج بالقول الوسط، والغالب في أحكام الشريعة أن الحق مع الوسط، وصفة الشريعة أنها وسط، {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}  ]البقرة 143 ]. وهنا لما ادعى العلم الضروري الذي يؤيد مذهبه، والثاني ادعى العلم الضروري، ما معنى العلم الضروري؟ العلم الضروري الذي لا تستطيع إنكاره ألبتة تستسلم النفس بمجرد سماعه، فنقول في دعواهم هذه مثل ما قلنا في استدلالهم بالآيات والأحاديث، يعني لما يقول ابن حزم: إن من ترك الصلاة عمدًا حتى خرج وقتها فإنه لا يقضي بالإجماع. ونُقل الإجماع على أنه من ترك الصلاة حتى خرج وقتها أنه يجب عليه القضاء، معنى هذا أننا ما نهدر الأقوال الأخرى، وقد ظهرت فتاوى أنه من ركَّب الساعة والمنبه على الدوام أنه كفر ولا يلزمه القضاء، ولا يقضي، القول الوسط أنه آثم وعلى خطر عظيم، لكن يلزمه القضاء؛ لأنه ما خرج من الإسلام بهذا إلا على قول ابن حزم ومن يقول بقوله.

" ثُمَّ ادِّعَاءُ كُلٍّ مِنْهُمَا أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ يُبْطِلُ مَا ادَّعَاهُ الْآخَرُ مِنَ الضَّرُورَةِ.

لأنه لا يمكن أن يتقابل قطعيان؛ علم ضروري وملزم تصدقه النفوس بمجرد سماعه لا يقابله علم ضروري بمستواه أبدًا.

" غَيْرُ مُسَلَّمٍ، بَلْ كِلَاهُمَا صَادِقٌ فِيمَا ادَّعَاهُ مِنَ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ".

كيف يكون صادقًا؟ صادق مع انفكاك الجهة، أما مع اتحاد الجهة فلا يمكن إذا انفكت الجهة تحمل هذا على وجه، وهذا على وجه ما يخالف، ولهذا نظائر حين ترد الأدلة على مورد واحد وتتعارض لا يمكن أن تكون متعارضة من كل وجه، بل لابد أن يُحمل بعضها على وجه، ويُحمل البعض الآخر على وجه آخر، فيكون هناك انفكاك في الجهة، فيصح التصور بخلاف ما إذا تواردت على شيء واحد.

"بَلْ كِلَاهُمَا صَادِقٌ فِيمَا ادَّعَاهُ مِنَ الْعِلْمِ الضَّرُورِيِّ، وَإِنَّمَا وَقَعَ غَلَطُهُ فِي إِنْكَارِهِ مَا مَعَ الْآخَرِ مِنَ الْحَقِّ. فَإِنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ كَوْنِ الْعَبْدِ مُحْدِثًا لِفِعْلِهِ، وَكَوْنِ هَذَا الْإِحْدَاث وَجَبَ وُجُودُهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا قَالَ تَعَالَى:{ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} ] الشَّمْسِ  7 - 8 ]. فَقَوْلُهُ :{ فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} إِثْبَاتٌ لِلْقَدَرِ بِقَوْلِهِ: فَأَلْهَمَهَا، وَإِثْبَاتٌ لِفِعْلِ الْعَبْدِ بِإِضَافَةِ الْفُجُورِ وَالتَّقْوَى إِلَى نَفْسِهِ؛ لِيُعْلَمَ أَنَّهَا هِيَ الْفَاجِرَةُ وَالْمُتَّقِيَةُ. وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: { قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} ] الشَّمْسِ  9 - 10 ] إِثْبَاتٌ أَيْضًا لِفِعْلِ الْعَبْدِ، وَنَظَائِرُ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ."

لأنه أضيفت إليه التزكية، وأضيفت إليه التدسية.

"وَهَذِهِ شُبْهَةٌ أُخْرَى مِنْ شُبَهِ الْقَوْمِ الَّتِي فَرَّقَتْهُمْ، بَلْ مَزَّقَتْهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ، وَهِيَ: أَنَّهُمْ قَالُوا: كَيْفَ يَسْتَقِيمُ الْحُكْمُ عَلَى قَوْلِكُمْ بِأَنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الْمُكَلَّفِينَ عَلَى ذُنُوبِهِمْ وَهُوَ خَلَقَهَا فِيهِمْ؟ فَأَيْنَ الْعَدْلُ فِي تَعْذِيبِهِمْ عَلَى مَا هُوَ خَالِقُهُ وَفَاعِلُهُ فِيهِمْ؟ وَهَذَا السُّؤَالُ لَمْ يَزَلْ مَطْرُوقًا فِي الْعَالَمِ عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ، وَكُلٌّ مِنْهُمْ يَتَكَلَّمُ فِي جَوَابِهِ بِحَسَبِ عِلْمِهِ وَمَعْرِفَتِهِ، وَعَنْهُ تَفَرَّقَتْ بِهِمُ الطُّرُقُ: فَطَائِفَةٌ أَخْرَجَتْ أَفْعَالَهُمْ عَنْ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَطَائِفَةٌ أَنْكَرَتِ الْحُكْمَ وَالتَّعْلِيلَ، وَسَدَّتْ بَابَ السُّؤَالِ. وَطَائِفَةٌ أَثْبَتَتْ كَسْبًا لَا يُعْقَلُ ! جَعَلَتِ الثَّوَابَ  وَالْعِقَابَ  عَلَيْهِ. وَطَائِفَةٌ الْتَزَمَتْ لِأَجْلِهِ وُقُوعَ مَقْدُورٍ بَيْنَ قَادِرِيْنِ، وَمَفْعُولٍ بَيْنَ فَاعِلِيْنِ"!.

فاعلِين يا شيخ أم فاعلَين؟

راجع تائية القدر موجودة هنا؟

تحتاج إلى وقت..

طالب:.........

أعد

وهذه شبهة من شبه القوم..

أين طبعة الشيخ؟ طبعة أحمد شاكر هذه، ما هي بجامعة الإمام، صورت، طبعة أحمد شاكر وليست الطبعة التي أشرف عليها الشيخ بنفسه. هذه ثاني طبعة للكتاب الأصل ليست هذه، هذه صورة، الصورة ما تحمل اسمًا مستقلاً؛ لأنها تبع لأصلها، الشيخ أحمد شاكر طبع الكتاب قبل أكثر من ستين سنة أو سبعين بالتعاون والاشتراك مع أخيه علي الصغير، وطبعها عن طبعة مكة التي أشرف عليها الشيخ عبد الله بن الحسن بمكة على نفقة الملك عبد العزيز، طبعه الشيخ أحمد شاكر -رحمه الله-، تصرَّف وصحَّح بعض العبارات، ثم طبع بعد ذلك في المكتب الإسلامي، وتتابعت الطبعات في دار الرسالة محققة وأكثر من طبعة، بدءًا من طبعة الشيخ عبد الله بن حسن التي أنفق عليها الملك عبد العزيز -رحمه الله-، وهي طبعة جيدة في الجملة وجد ووقف على أشياء يسيرة من مقابلة نسخ وقف عليها بعد ذلك، ولكن بذل عليها جهد عظيم لتصحيحها، الشيخ أحمد شاكر أيضًا بذل شيئًا من الجهد وصحّح، ثم بعد ذلك وقف على نسخ ما كانت منسوبة للشارح إلا بعد أن وقف على نسخ تحمل اسمه في طبعة المكتب الإسلامي وما بعده، على كل حال طبعة الشيخ أحمد شاكر لا بأس بها، الشيخ معروف في باب التحقيق والتعليق أيضًا، لكن الإشكال في توافر النسخ الصحيحة، إذا لم يتوافر لديه النسخ الصحيحة اجتهد في التصحيح، قد يصيب في كثير مما يجتهد فيه، لكن تبقى أمور محتمِلة.

"وَطَائِفَةٌ الْتَزَمَتْ لِأَجْلِهِ وُقُوعَ مَقْدُورٍ".

أين هذه؟

ثالث سطر في نفس الفقرة.

كثير هذا، أنا انشغلت في تائية القدر، ابدأ من أول الفقرة.

"وَهَذِهِ شُبْهَةٌ أُخْرَى مِنْ شُبَهِ الْقَوْمِ الَّتِي فَرَّقَتْهُمْ، بَلْ مَزَّقَتْهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ، وَهِيَ: أَنَّهُمْ قَالُوا: كَيْفَ يَسْتَقِيمُ الْحُكْمُ عَلَى قَوْلِكُمْ بِأَنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الْمُكَلَّفِينَ عَلَى ذُنُوبِهِمْ وَهُوَ خَلَقَهَا فِيهِمْ؟ فَأَيْنَ الْعَدْلُ فِي تَعْذِيبِهِمْ عَلَى مَا هُوَ خَالِقُهُ وَفَاعِلُهُ فِيهِمْ؟ وَهَذَا السُّؤَالُ لَمْ يَزَلْ مَطْرُوقًا فِي الْعَالَمِ عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ".

هذا الكلام هو الذي جرني للوقوف على تائية القدر، وهي أصلها سؤال من ذمي يسأل شيخ الإسلام ابن تيمية، وأجابه بنظم على زنة نظمه، ولعل بعض الإخوان يعرف موضعها، أنا بعيد العهد، هذا قسم القدر، وقطعًا هي موجودة فيه، تحتاج إلى تصفح الكتاب والفهرس، التائية وشرحها الشيخ عبد الرحمن بن السعدي شرحًا مختصرًا، وأوسع كتاب في القدر هو شفاء العليل لابن القيم.

"وَكُلٌّ مِنْهُمْ يَتَكَلَّمُ فِي جَوَابِهِ بِحَسَبِ عِلْمِهِ وَمَعْرِفَتِهِ، وَعَنْهُ تَفَرَّقَتْ بِهِمُ الطُّرُقُ: فَطَائِفَةٌ أَخْرَجَتْ أَفْعَالَهُمْ عَنْ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَطَائِفَةٌ أَنْكَرَتِ الْحُكْمَ وَالتَّعْلِيلَ، وَسَدَّتْ بَابَ السُّؤَالِ".

ما هما الطائفتان اللتان تقدمتا؟ أخرجت أفعالهم عن قدرة الله، هذه القدرية والمعتزلة، وطائفة أنكرت الحكم والتعليل وأنكرت تأثير الأسباب هذا أهل الجبر.

"وَطَائِفَةٌ أَثْبَتَتْ كَسْبًا لَا يُعْقَلُ!  جَعَلَتِ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ عَلَيْهِ. وَطَائِفَةٌ الْتَزَمَتْ لِأَجْلِهِ وُقُوعَ مَقْدُورٍ بَيْنَ قَادِرِيْنِ، وَمَفْعُولٍ بَيْنَ فَاعِلَيْنِ".

لا، دربهم واحد.

قادرَين؟

"التزمت لأجله وقوع مقدور"، ما يختلف الحكم قَادِرِيْنِ وفاعِلِيْنِ.

"وَطَائِفَةٌ الْتَزَمَتْ لِأَجْلِهِ وُقُوعَ مَقْدُورٍ بَيْنَ قَادِرِيْنِ، وَمَفْعُولٍ بَيْنَ فاعِلِيْنِ ! وَطَائِفَةٌ الْتَزَمَتِ الْجَبْرَ، وَأَنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُهُمْ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْه".

أو التثنية مَقْدُورٍ بَيْنَ قَادِرَيْنِ، ولعله يريد الخالق والمخلوق، وأن القدرة كما تكون من الخالق تكون من المخلوق، والفعل كما يكون من الخالق يكون من المخلوق.

"وَأَنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُهُمْ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ! وَهَذَا السُّؤَالُ هُوَ الَّذِي أَوْجَبَ التَّفَرُّقَ وَالِاخْتِلَافَ.
وَالْجَوَابُ الصَّحِيحُ عَنْهُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ مَا يُبْتَلَى بِهِ الْعَبْدُ مِنَ الذُّنُوبِ الْوُجُودِيَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ خَلْقًا لِلَّهِ تَعَالَى، فَهِيَ عُقُوبَةٌ لَهُ عَلَى ذُنُوبٍ قَبْلَهَا، فَالذَّنْبُ يُكْسِبُ الذَّنْبَ، وَمِنْ عِقَابِ السَّيِّئَةِ السَّيِّئَةُ بَعْدَهَا. فَالذُّنُوبُ كَالْأَمْرَاضِ الَّتِي يُورِثُ بَعْضُهَا بَعْضًا.

يَبْقَى أَنْ يُقَالَ: فَالْكَلَامُ فِي الذَّنْبِ الْأَوَّلِ الْجَالِبِ لِمَا بَعْدَهُ مِنَ الذُّنُوبِ يُقَالُ: هُوَ عُقُوبَةٌ أَيْضًا عَلَى عَدَمِ فِعْلِ مَا خُلِقَ لَهُ وَفُطِرَ عَلَيْهِ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَهُ لِعِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَفَطَرَهُ عَلَى مَحَبَّتِهِ، وَتَأَلُّهِهِ".

يعني جاء في كلام السلف الأثر أن الحسنة تقو:ل أختي أختي، يعني تدعو أختها، فيوفّق عامل الحسنة إلى حسنة أخرى، ويجازى بحسنته بتيسير حسنة أخرى، والمسيئ بالعكس، السيئة تقول: أختي أختي، فالمسيء والعاصي يُعاقَب بمعصية أخرى إذا أصر عليها ولم يتب منها.

"وَفَطَرَهُ عَلَى مَحَبَّتِهِ وَتَأَلُّهِهِ وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} ] الرُّوم30 فلما لَمْ يَفْعَلْ مَا خُلِقَ لَهُ وَفُطِرَ عَلَيْهِ، مِنْ مَحَبَّةِ اللَّهِ وَعُبُودِيَّتِهِ، وَالْإِنَابَةِ إِلَيْهِ، عُوقِبَ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ زَيَّنَ لَهُ الشَّيْطَانُ مَا يَفْعَلُهُ مِنَ الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي، فَإِنَّهُ صَادَفَ قَلْبًا خَالِيًا قَابِلًا لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَلَوْ كَانَ فِيهِ الْخَيْرُ الَّذِي يَمْنَعُ ضِدَّهُ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْهُ الشَّرُّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} ]يُوسُفَ  24]".

ولذلك تجدون المطيع من بداية عمره تجد حياته مستقرة، وعلى ما يقولون على وتيرة واحدة، ما يكون يومًا فاسقًا ويومًا تقيًّا صالحًا، ويومًا كذا ويومًا كذا، ما تجدون مثل هذا النوع، بل تجدون الصالح التقي على صراط الله المستقيم إلى أن يموت بتوفيق الله -جل وعلا- لا بقوته ولا بقدرته ولا بحيلته، لا حول ولا قوة إلا بالله، ما تجدون من في عقله خلل أن يكون يومًا من أتقى الناس ويومًا من أفسق الناس؟ ما يصير هذا؟ فالذي يعمل الصالحات يُوّفق للصالحات، والذي يعلم الجرائم والمنكرات يُعاقَب بمثلها.

"وَقَالَ إِبْلِيسُ: { قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}".

قد يقول قائل إنه قد يعمل العمل الصالح السنين الطويلة والعقود ثم يختم له بغير ذلك، والعكس، كما جاء في حديث ابن مسعود: « وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة ثم ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها»، وبالمقابل الثاني وجاء في حديث ما يفيد القيد أنه يعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس، وهذا في الغالب أن في نيته شيئًا، في نيته خلل، وفي قلبه دغل.

"وَقَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: { هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} ]الْحِجْرِ  41 - 42].  وَالْإِخْلَاصُ: خُلُوصُ الْقَلْبِ مِنْ تَألهِ مَا سِوَى اللَّهِ تَعَالَى وَإِرَادَتِهِ وَمَحَبَّتِهِ، فَخَلَصَ لِلَّهِ، فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْهُ الشَّيْطَانُ. وَأَمَّا إِذَا صَادَفَهُ فَارِغًا مِنْ ذَلِكَ، تَمَكَّنَ مِنْهُ بِحَسَبِ فَرَاغِهِ، فَيَكُونُ جَعْلُهُ مُذْنِبًا مُسِيئًا فِي هَذِهِ الْحَالِ عُقُوبَةً لَهُ عَلَى عَدَمِ هَذَا الْإِخْلَاصِ. وَهِيَ مَحْضُ الْعَدْلِ.
فَإِنْ قُلْتَ: فَذَلِكَ الْعَدَمُ مَنْ خَلَقَهُ فِيهِ؟ قِيلَ: هَذَا سُؤَالٌ فَاسِدٌ، فَإِنَّ الْعَدَمَ كَاسْمِهِ، لَا يَفْتَقِرُ إِلَى تَعَلُّقِ التَّكْوِينِ وَالْإِحْدَاثِ بِهِ، فَإِنَّ عَدَمَ الْفِعْلِ لَيْسَ أَمْرًا وُجُودِيًّا حَتَّى يُضَافَ إِلَى الْفَاعِلِ، بَلْ هُوَ شَرٌّ مَحْضٌ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، كَمَا قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي حَدِيثِ الِاسْتِفْتَاحِ : لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ بيَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ. وَكَذَا فِي حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، حِينَ يَقُولُ لَهُ اللَّهُ".

العلماء يختلفون في الترك، هل هو من ضمن الأفعال والأعمال، فيدخل في حديث إنما الأعمال بالنيات، أو هو ليس بشيء، فلا يُحكم له ولا عليه بشيء، ولكن قول القائل من الصحابة وهم يبنون المسجد مع النبي -عليه الصلاة والسلام- قال:

لإن قعدنا والنبي يعمل

 

فذاك منا العمل المضلل

سماه عملًا، ولا شك أنه عزيمة وهم للقلب على عدم الفعل وعلى الترك، فمن هذه الحيثية لا شك أنه يُضاف إليه، لكن أيضًا الترك هذا عقوبة كالفعل، فعل السيئة عقوبة على سيئة أخرى، والترك والقعود عن الحسنة عقوبة لسيئة أخرى ومعاقبة لترك قبله، هؤلاء الذين قعدوا عن الجهاد في غزوة تبوك مثلاً هؤلاء لا شك أنهم عُوتبوا وهُجِروا وتِيب عليهم بعد ذلك، لكن هل تركُهم هذا أنه مجرد عن الحكمة الآلهية التي جعلهم يتركون {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا} ] الأنفال 23]...

ماذا؟

طالب: لأسمعهم.

المقصود أن التارك مؤاخذ، ولذلك من يترك الطاعات يُؤاخَذ على تركها، فترك العمل عقوبة، وإن كان كلام الشارح له من يقول به، وأنه يقول ما يُنسب له وعدم ما ينسب إليه من تعلق إرادة ولا غيرها.

العدم الذي هو في حالة ترك الخير، أما مطلق الترك فلا.

"حِينَ يَقُولُ لَهُ اللَّهُ: يَا مُحَمَّدُ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ.
وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ تَسْلِيطَ الشَّيْطَانِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ، فَلَمَّا تَوَلَّوْهُ دُونَ اللَّهِ وَأَشْرَكُوا بِهِ مَعَهُ عُوقِبُوا عَلَى ذَلِكَ بِتَسْلِيطِهِ عَلَيْهِمْ، وَكَانَتْ هَذِهِ الْوِلَايَةُ وَالْإِشْرَاكُ عُقُوبَةَ خُلُوِّ الْقَلْبِ وَفَرَاغِهِ مِنَ الْإِخْلَاصِ. فَإِلْهَامُه الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ثَمَرَةُ هَذَا الْإِخْلَاصِ وَنَتِيجَتُهُ، وَإِلْهَامُ الْفُجُورِ عُقُوبَةٌ عَلَى خُلُوِّهِ مِنَ الْإِخْلَاصِ.

فَإِنْ قُلْتَ: إِنْ كَانَ هَذَا التَّرْكُ أَمْرًا وُجُودِيًّا عَادَ السُّؤَالُ جَذَعًا، وَإِنْ كَانَ أَمْرًا عَدَمِيًّا فَكَيْفَ يُعَاقَبُ عَلَى الْعَدَمِ الْمَحْضِ؟

قِيلَ: لَيْسَ هَنَا تَرْكٌ هُوَ كَفُّ النَّفْسِ وَمَنْعُهَا عَمَّا تُرِيدُهُ وَتُحِبُّهُ، فَهَذَا قَدْ يُقَالُ: إِنَّهُ أَمْرٌ وُجُودِيٌّ، وَإِنَّمَا هُنَا عَدَمٌ وَخُلُوٌّ مِنْ أَسْبَابِ الْخَيْرِ، وَهَذَا الْعَدَمُ هُوَ مَحْضُ خُلُوِّهَا مِمَّا هُوَ أَنْفَعُ شَيْءٍ لَهَا، وَالْعُقُوبَةُ عَلَى الْأَمْرِ الْعَدَمِيِّ هِيَ بِفِعْلِ السَّيِّئَاتِ، لَا بِالْعُقُوبَاتِ الَّتِي تَنَالُهُ بَعْدَ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ بِالرُّسُلِ. فَلِلَّهِ فِيهِ عُقُوبَتَان:

إِحْدَاهُمَا: جَعْلُهُ مُذْنِبًا خَاطِئًا، وَهَذِهِ عُقُوبَةُ عَدَمِ إِخْلَاصِهِ وَإِنَابَتِهِ وَإِقْبَالِهِ عَلَى اللَّهِ، وَهَذِهِ الْعُقُوبَةُ قَدْ لَا يُحِسُّ بِأَلَمِهَا وَمَضَرَّتِهَا، لِمُوَافَقَتِهَا شَهْوَتَهُ وَإِرَادَتَهُ، وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ مِنْ أَعْظَمِ الْعُقُوبَاتِ."

يعني كثير من الناس معاقَب في قلبه ومعذب في حياته وهو لا يشعر، ويظن أنه من أحسن الناس حالاً، بينما من هو دونه في المعيشة وفي أمور الحياة الظاهرة بكثير هو في الحقيقة أسعد منه، وهذا مشاهَد، تجدون الطبقات الدنيا من الناس أكثر الناس ضحكًا، هذا شيء مشاهَد أكثر الناس ضحكًا تجدوهم الذين في الطرقات، وأنتم ذاهبون المسجد الحرام وراجعون منه يتسولون الناس ويتكففون، وتجدهم بالشمس على قرطاسه أو على شيء من هذا ويأكلون ويشربون ويضحكون..  من فضلات الناس ومسرورين، وشخص في الحج نائم بالشمس على كرتون ثلاجة ووضعه على الأرض ونام عليها نومًا عميقًا، مر عليه واحد من أثرياء العالم قال: والله ما أتمنى إلا مثل هذه النومة، أتقلب بالفراش وما يتيسر لي النوم، وهو من الباذلين في وجوه الخير، فكيف بمن يبذلون في وجوه الشر ويدعمون الشر؟ {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً}  ]الأنفال36 ] الله حكيم عليم يعني وإلا يموت الفقير حسرة؛ لأن الفقير أُعطي أمورًا لم يعطها الغني، والغني أُعطي أمورًا لم يُعطَها الفقير، والله -جل وعلا- وزّع الأرزاق والأخلاق والقدرات وأنواع الطيبات موزعة في الناس كلهم، والله المستعان.

"وَالثَّانِيَةُ: الْعُقُوبَاتُ الْمُؤْلِمَةُ بَعْدَ فِعْلِهِ لِلسَّيِّئَاتِ. وَقَدْ قَرَنَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ هَاتَيْنِ الْعُقُوبَتَيْنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: { فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ}] الْأَنْعَامِ: 44 ]. فَهَذِهِ الْعُقُوبَةُ الْأُولَى، ثُمَّ قَالَ: { حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} ]الْأَنْعَامِ: 44 ] فَهَذِهِ الْعُقُوبَةُ الثَّانِيَةُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ كَانَ يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِالْإِخْلَاصِ وَالْإِنَابَةِ وَالْمَحَبَّةِ لَهُ وَحْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْلُقَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِهِمْ وَيَجْعَلَهُمْ مُخْلِصِينَ لَهُ مُنِيبِينَ إليَهُ مُحِبِّينَ لَهُ وحده، أَمْ ذَلِكَ مَحْضُ جَعْلِهِ فِي قُلُوبِهِمْ وَإِلْقَائِهِ فِيهَا؟ قِيلَ : لَا، بَلْ هُوَ مَحْضُ مِنَّتِهِ وَفَضْلِهِ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْخَيْرِ الَّذِي هُوَ بِيَدِهِ، وَالْخَيْرُ كُلُّهُ فِي يَدَيْهِ، وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَأْخُذَ مِنَ الْخَيْرِ إِلَّا مَا أَعْطَاهُ، وَلَا يَتَّقِي مِنَ الشَّرِّ إِلَّا مَا وَقَاهُ."

وليس لأحد حجة على الله -جل وعلا- ما ترك لأحد حجة، أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وهدى الناس إلى الصراط { وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} ]البلد 10 ]، المقصود أنه ما ترك لأحد حجة، لكن هذا اختار، وهذا اختار، هذا اختيار، هذا اختياره لنفسه، ولا يوجد ما يمنعه من ذلك، وما كتب عليه وما قدر عليه في الأزل في السابق هو موافق لما سيمشي عليه في حياته، من غير جبر ولا شيء، الله -جل وعلا- عالم أنه سوف يختار، فقدَّر عليه.

"فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا لَمْ يُخْلَقْ ذَلِكَ فِي قُلُوبِهِمْ وَلَمْ يُوَفَّقُوا لَهُ، وَلَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَيْهِ بِأَنْفُسِهِمْ، عَادَ السُّؤَالُ؟ وَكَانَ مَنْعُهُمْ مِنْهُ ظُلْمًا، وَلَزِمَكُمُ الْقَوْلُ بِأَنَّ الْعَدْلَ هُوَ تَصَرُّفُ الْمَالِكِ فِي مُلْكِهِ بِمَا يَشَاءُ، لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ.

قِيلَ: لَا يَكُونُ سُبْحَانَهُ بِمَنْعِهِمْ مِنْ ذَلِكَ ظَالِمًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْمَانِعُ ظَالِمًا إِذَا مَنَعَ غَيْرَهُ حَقًّا لِذَلِكَ الْغَيْرِ عَلَيْهِ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي حَرَّمَهُ الرَّبُّ عَلَى نَفْسِهِ، وَأَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ خِلَافَهُ."

ذكرت مرارًا وفي مناسبات كثيرة مثالًا وإن كان ما يتعلق بالله -جل وعلا- تعالى الله عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا، لكن في أمثلة تقريبية من تصرفات البشر، وأنا ذكرت هنا في مناسبات أنه قد يمدح الشيخ كتابًا مناسبًا ونافعًا لطلاب العلم، ويوصيهم به ويحضهم على اقتنائه وعلى قراءته والإفادة منه، طلع مائة طالب وتفرقوا في أنحاء البلد يبحثون عنه في المكتبات، بقي منهم عشرة قال لهم: هو في المكتبة الفلانية، هل هو ظالم لأولئك؟ 

طالب: لا.

ما ظلمهم، بعضهم يمكن ما يجده، يُحرم من الوقوف عليه، لكنه ما ظلم. وهؤلاء زِيد لهم في الفضل، طلع العشرة بقي منهم اثنان أو ثلاثة وقال: عندي لكم النسخ، زيادة في الفضل، أولئك الذين تعجّلوا وتفرّقوا في البلاد بعضهم ما وجد الكتاب، هل نقول إنه ظالم لأولئك؟ هذا ليس بظالم لهم.

"وَأَمَّا إِذَا مَنَعَ غَيْرَهُ مَا لَيْسَ بِحَقٍّ لَهُ، بَلْ هُوَ مَحْضُ فَضْلِهِ".

بخلاف ما إذا قال: اصبروا واتركوا هؤلاء يخرجون، ثم أعلمكم عن شيء عندي، يعلمهم بالكتاب النافع هذا، لكن ينتظر بعض الطلاب يطلعون ما يستفيدون، هذا هو في حقهم ظالم ما عدل بين الطلاب.

"وَأَمَّا إِذَا مَنَعَ غَيْرَهُ مَا لَيْسَ بِحَقٍّ لَهُ، بَلْ هُوَ مَحْضُ فَضْلِهِ وَمِنَّتِهِ عَلَيْهِ، لَمْ يَكُنْ ظَالِمًا بِمَنْعِهِ، فَمَنْعُ الْحَقِّ ظُلْمٌ، وَمَنْعُ الْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ عَدْلٌ. وَهُوَ سُبْحَانَهُ الْعَدْلُ فِي مَنْعِهِ، كَمَا هُوَ الْمُحْسِنُ الْمَنَّانُ بِعَطَائِهِ.

فَإِنْ قِيلَ: فَإِذَا كَانَ الْعَطَاءُ وَالتَّوْفِيقُ إِحْسَانًا وَرَحْمَةً، فَهَلَّا كَانَ الْعَمَلُ لَهُ وَالْغَلَبَةُ، كَمَا أَنَّ رَحْمَتَهُ تَغْلِبُ غَضَبَهُ؟"

لكن الواقع أن أهل الجنة واحد من ألف.

يا سلعة الرحمن ليس ينالها

 

في الألف إلا واحد لا اثنان

أخرج بعث النار، قال: كم؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، هل الألف إلا واحد هؤلاء لهم حجة على الله؟ ما بيَّن لهم مثل غيرهم؟

"قِيلَ: الْمَقْصُودُ فِي هَذَا الْمَقَامِ بَيَانُ أَنَّ هَذِهِ الْعُقُوبَةَ الْمُتَرَتِّبَةَ عَلَى هَذَا الْمَنْعِ، وَالْمَنْعَ الْمُسْتَلْزِمَ لِلْعُقُوبَةِ لَيْسَ بِظُلْمٍ، بَلْ هُوَ مَحْضُ الْعَدْلِ.

وَهَذَا سُؤَالٌ عَنِ الْحِكْمَةِ الَّتِي أَوْجَبَتْ تَقْدِيمَ الْعَدْلِ عَلَى الْفَضْلِ فِي بَعْضِ الْمَحَالِّ، وَهَلَّا سَوَّى بَيْنَ الْعِبَادِ فِي الْفَضْلِ، وَهَذَا السُّؤَالُ حَاصِلُهُ : لِمَ تَفَضَّلَ عَلَى هَذَا، وَلَمْ يَتَفَضَّلْ عَلَى الْآخَرِ؟ وَقَدْ تَوَلَّى اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْجَوَابَ عَنْهُ بِقَوْلِه:ِ { ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} ]الْحَدِيدِ: 21 ]. وَقَوْلِهِ: { لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} ] الْحَدِيدِ 29 ]. وَلَمَّا سَأَلَهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى عَنْ تَخْصِيصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِأَجْرَيْنِ وَإِعْطَائِهِمْ هُمْ أَجْرًا أَجْرًا، قَالَ: هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ شَيْئًا ؟ قَالُوا : لَا، قَالَ: فَذَلِكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ".

يعني المؤاجرة التي في الحديث قبل البداية بالعمل، تعملون في منتصف النهار بدينار فوافقوا على ذلك، وأعطوا الدينار، ما بُخِسوا من حقهم شيئًا، والطائفة الثانية: تعملون إلى وقت العصر بدينار، قالوا: نعم، هل ظُلِموا؟ الطائفة الثالثة إلى غروب الشمس بدينارين فضل، يعني لو اشتغل عمال عند شخص بأجرة إلى أذان الظهر وأعطاهم أجرتهم ومشوا، وآخرون أعطاهم أجرتهم إلى العصر ومشوا، الدفعة الثالثة لما جاءت إلى وقت العشاء قد حضر وعددهم مناسب لما سيقدم، وقال لهم: تفضلوا، هل ظلم الطائفتين؟ خلاص اتفق معهم على أجرة، وأداها كاملة.

"قَالَ: فَذَلِكَ فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ وَلَيْسَ فِي الْحِكْمَةِ إِطْلَاعُ كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ النَّاسِ عَلَى كَمَالِ حِكْمَتِهِ فِي عَطَائِهِ وَمَنْعِهِ".

بل تقتضي الحكمة أحيانًا حجب مثل هذه المعلومات على كثير من الناس؛ لأن القدر سر الله في الخلق، كثير من الناس ما يستوعب هذا الكلام، يستوعب الشبهة، الشبهة واضحة، لكن ما يستوعب الرد بالأدلة، ولذلك ضل من ضل وهم أصحاب ذكاء خارق وعقول كبيرة، ثم مع ذلك ما كتب الله لهم هداية.

"بَلْ إِذَا كَشَفَ اللَّهُ عَنْ بَصِيرَةِ الْعَبْدِ، حَتَّى أَبْصَرَ طَرَفًا يَسِيرًا مِنْ حِكْمَتِهِ فِي خَلْقِهِ، وَأَمْرِهِ وَثَوَابِهِ وَعِقَابِهِ، وَتَخْصِيصِهِ وَحِرْمَانِهِ، وَتَأَمَّلَ أَحْوَالَ مَحَالِّ ذَلِكَ، اسْتَدَلَّ بِمَا عَلِمَهُ عَلَى مَا لَمْ يَعْلَمْهُ.
وَلَمَّا اسْتَشْكَلَ أَعْدَاؤُهُ الْمُشْرِكُونَ هَذَا التَّخْصِيصَ، قَالُوا :{ أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} قَالَ تَعَالَى مُجِيبًا لَهُمْ: { أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} ] الْأَنْعَام 53]؟.  فَتَأَمَّلْ هَذَا الْجَوَابَ، تَرَ فِي ضِمْنِهِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِالْمَحَلِّ الَّذِي يَصْلُحُ لِغَرْسِ شَجَرَةِ النِّعْمَةِ فَتُثْمِرُ بِالشُّكْرِ، مِنَ الْمَحَلِّ الَّذِي لَا يَصْلُحُ لِغَرْسِهَا، فَلَوْ غُرِسَتْ فِيهِ لَمْ تُثْمِرْ، فَكَانَ غَرْسُهَا هُنَاكَ ضَائِعًا لَا يَلِيقُ بِالْحِكْمَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: { اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} ]الْأَنْعَامِ  124 ].

فَإِنْ قِيلَ: إِذَا حَكَمْتُمْ بِاسْتِحَالَةِ الْإِيجَادِ مِنَ الْعَبْدِ، فَإِذًا لَا فِعْلَ لِلْعَبْدِ أَصْلًا؟ قِيلَ: الْعَبْدُ فَاعِلٌ لِفِعْلِهِ حَقِيقَةً، وَلَهُ قُدْرَةٌ حَقِيقَيةً. قَالَ تَعَالَى: { وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ }] الْبَقَرَةِ: 197]، وقال تعالى: { فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ }] هُودٍ 124 ] وَأَمْثَالُ ذَلِك. وَإِذَا ثَبَتَ كَوْنُ الْعَبْدِ فَاعِلًا، فَأَفْعَالُهُ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يَكُونُ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ اقْتِرَانِ قُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ".

نكتفي، قف على هذا.

"