التعليق على الموافقات (1429) - 01

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

طالب: السلام عليكم. الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

يقول المؤلف الشاطبي في كتابه الموافقات:

"النوع الرابع: في بيان قصد الشارع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة، ويشتمل على مسائل: المسألة الأولى: المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه، حتى يكون عبدًا لله اختيارًا، كما هو عبد لله اضطرارًا".

نعم، هذا النوع الرابع من أنواع المقاصد، النوع الرابع من أنواع المقاصد الشرعية.

النوع الأول تقدم بأول الجزء، يقول: النوع الأول في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة، والثاني في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة للإفهام، وهذا مثل ما تقدم يمكن إدخاله في النوع الذي قبله، لكنه أُبرز وأفرد؛ لبيان أهمية اللغة التي تُفهم بها الشريعة، وهي لغة العرب التي نزل بها القرآن. والنوع الثالث في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها.

ثم ذكر "النوع الرابع" الذي هو مبحث درسنا هذا "في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة"، وأنه لا يمكن أن يُخرج من دائرة التكليف إلا من أَخرجه الشارع ممن رُفع عنه قلم التكليف: من الصغير حتى يبلغ، والمجنون حتى يفيق، والنائم حتى يستيقظ. ومن عدا ذلك فكلهم مكلفون بهذه الشريعة التي لا يسع أحدًا الخروج عنها، ومن ادعى أنه يسعه الخروج عن شريعة محمد- عليه الصلاة والسلام- كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى -عليهما السلام- فهو ليس بمسلم، يكفر بهذا، وهذا ناقض من نواقض الإسلام.

فكل المكلفين داخلون في التكليف، ويستوي في ذلك من كان من هذه الأمة، سواء كان من أمة الإجابة ممن استجاب له -عليه الصلاة والسلام-، فليس لأحد مندوحة أن يتنصل عن شيء من أحكامها إلا بعذر، ما يقول: أنا مسلم، لكن أنا في حل ألا أفعل الواجب الفلاني، أو أرتكب المحظور الفلاني، كلهم داخلون في التكليف، ولا يرتفع التكليف إلا بالرافع العام من الثلاثة التي سبق ذكرها، أو الرافع الخاص وهو العجز الفردي الذي يتصف به أفراد الناس.

الناس كلهم عباد الله اضطرارًا، لا يستطيع أحد أن يستقل بنفسه، بمصالحه، بمنافعه، بدفع المضار عنه دون الله -جل وعلا-، سواء كان مسلمًا أو كافرًا، لا يمكن أن يستقل بنفسه، فالله- جل وعلا- هو الحي القيوم الذي قامت به الأمور كلها، الناس كلهم والمخلوقات كلها قامت به وقام بها، إنما تقوم بالله -جل وعلا-، لا يمكن أن يستقل أحد، ولا يدعي ذلك أحد لا كافر ولا مسلم، لا يمكن أن يعيش بمنعزل عن قيام الله -جل وعلا- بمصالحه، هو الذي خلقه، وهو الذي رزقه، وهو الذي رباه، وهو الذي تدرج به في أطوار الخلق إلى أن وصل ما وصل، وعلى هذا يجب أن يكون عبدًا لله -جل وعلا- مختارًا، العبودية الاضطرارية لا ينفك منها أحد، لكن بالنسبة للاختيار أمر لازم للناس كلهم، لكنهم على ما ذُكر اختيارًا، يعني للإنسان أن يختار طريق الحق وطريق الضلال: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10]؛ ولذا لا إكراه ولا اضطرار ولا جبرية في الدين، الإنسان له حرية وله اختيار، لكنه تابع إلى اختيار الله -جل وعلا-: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [التكوير: 29]، فكما أن العبد عبد لله اضطرارًا يجب أن يكون عبدًا له اختيارًا، وهذا هو مقصد من مقاصد الشرع في دخول المكلف تحت أحكام الشريعة التي هي محل هذا البحث.

طالب: "والدليل على ذلك أمور؛ أحدها: النص الصريح الدال على أن العباد خلقوا للتعبد لله".

نعم، {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، فالهدف من خلق الثقلين تحقيق العبودية لله -جل وعلا-، وهذا الهدف ينبغي أن يكون نصب العينين باستمرار، وأن يكون الإنسان على ذكر منه في جميع ما يأتي وجميع ما يذر.

طالب: "والدخول تحت أمره ونهيه، كقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات: 56، 57]، وقولُه تعالى".

وقولِه، وقولِه.

طالب: "وقولِه تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه: 132]، وَقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21]. ثم شرح هذه العبادة في تفاصيل السورة".

"تفاصيل السورة"، سورة البقرة التي جاء فيها كثير من الأوامر والنواهي، نقل بعضهم ما يذكر عن ابن عباس أنها تشتمل على ألف أمر وألف نهي وألف خبر. وعلى كل حال هذا كلام إجمالي، لو اعتنى أحد بجمع هذه الأوامر وهذه النواهي وهذه الأخبار علها أن تبلغ هذه العدة، لكن بعض الأرقام يذكرها أهل العلم؛ لتعظيم شأن المتحدث عنه، وإغراء طلاب العلم بملازمته، والاطلاع على هذه الأمور المهمة من الأوامر والنواهي والأخبار.

طالب: "كقوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ} إلى قوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177]. وهكذا إلى تمام ما ذكر في السورة من الأحكام، وقوله: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36]. إلى غير ذلك من الآيات الآمرة بالعبادة على الإطلاق، وبتفاصيلها على العموم، فذلك كله راجعٌ إلى الرجوع إلى الله في جميع الأحوال، والانقياد إلى أحكامه على كل حالٍ، وهو معنى التعبد لله".

يعني لو لم يرد في الباب إلا قول الله -جل وعلا-: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21]، يعني: هذه الأوامر العامة المجملة لا شك أنها تحتاج إلى تفصيل؛ لأن للمكلف أن يقول: كيف أعبدك يا ربي؟ فجاءت التفاصيل، فهذه التفاصيل كلها يمكن أن يُستدل لها بالعموم، ولأفرادها بما جاء فيها من تفاصيل.

طالب: "والثاني: ما دل على ذم مخالفة هذا القصد من النهي أولاً عن مخالفة أمر الله، وذم من أعرض عن الله، وإيعادهم بالعذاب العاجل من العقوبات الخاصة بكل صنفٍ من أصناف المخالفات، والعذاب الآجل في الدار الآخرة. وأصل ذلك اتباع الهوى والانقياد إلى طاعة الأغراض العاجلة، والشهوات الزائلة، فقد جعل الله اتباع الهوى مضادًّا للحق، وعده قسيمًا له، كما في قوله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ...} [ص: 26] الآية".

يعني كل مخالفة، سواء كانت بفعل محظور أو ترك مأمور، فإنما سببها والحامل عليها اتباع الهوى، يعني ما تهواه النفس وتشتهيه في مقابل اتباع الحق.

لكن قد يقول قائل: أنا أطيع الله -جل وعلا- لمصلحتي، لكي أنجو من العذاب، وأنال الثواب، أدخل الجنة وأنجو من النار. وهذا أيضًا تهواه النفوس، وهذه النفوس قد تهوى هذا وهذا على حد سواء، لولا أن الله -جل وعلا- حف الجنة بالمكاره والنار بالشهوات؛ لكانت هواية النفس لهذا وهذا على حد سواء، لكن الله -جل وعلا- حف الجنة بمكاره؛ ليتمحض طالبها من هوى نفسه وشيطانه، وحف النار بالشهوات؛ ليتمحض اجتنابها ويتخلص لله -جل وعلا-.

قد يقول قائل: إن الإنسان قد يعبد الله -جل وعلا- رجاء ثوابه وخشية عقابه، يعني ولولا ذلك ما أطاع الله وما عصاه؟ هذا ما جعل بعض الطوائف مثل طوائف المتصوفة تجعل الغاية هي حب الله -جل وعلا-، بحيث لو كان ما يحبه مؤديًا إلى ناره فعله، ولو كان ما يكرهه مفضيًا به إلى الجنة لتركه، لكن الله -جل وعلا- حينما رغب في الجنة، وحث على المسارعة إليها، ورهّب من النار، وشدَّد في قربان ما يؤدي إليها؛ لا شك أن هذا يجعل هذا من المقاصد غير مؤثر؛ لأنه قد يقول: أنت تطلب الجنة، ما تطلب رضا الله -جل وعلا-، وتخاف من النار وأنت لا تخاف الله -جل وعلا- في الحقيقة، وأنت تحب نفسك، ولا تحب النبي -عليه الصلاة والسلام-، لماذا؟

لأنك إنما أحببت النبي -عليه الصلاة والسلام-؛ لأنه صار سببًا لهدايتك ونجاتك من النار، فتعود المسألة الثانية إلى الأولى، فيكون متبعًا لهواه.

نقول: إذا وُجد التنصيص على العلة، أو التنصيص على المرغب، ولو كان هذا نافعًا له في دنياه أو في آخرته، استحضاره لا يؤثر. يعني: قراءة آية الكرسي مثلاً «لا يقربه شيطان»، لو كان قرأها من أجل ألا يقربه شيطان، أو قرأ كذا ليحفظ، أو ليكون حرزًا له، أو ليكون في ذمة الله مثلاً.

يعني ملاحظة هذه المقاصد غير مؤثرة في النية وإخلاص العمل لله -جل وعلا-؛ لأنها لو كانت مؤثرة لما ذُكرت في النصوص، لو كانت مؤثرة ما رُغب في النص بواسطتها، وحصل الإغراء بالعمل بها، فدل على أن ملاحظتها غير مؤثرة.

بعضهم يقول: إن عمل الإنسان للجنة ملاحظًا في ذلك الحور العين وما جاء في أوصافها، يُلام عليه الإنسان أو لا يُلام؟ ما يُلام باعتبار أن هذه الحور والإغراء بها وأوصافها والمبالغة في وصفها، يدل على أن ملاحظتها غير مؤثر.

لكن هل الأكمل ألا يلتفت إلى هذه الأمور أو يلتفت إليها؟ {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]، بعضهم أدخل هذه الأمور بالشرك، لكن إذا جاءت في كتاب الله وسنة رسوله -عليه الصلاة والسلام- نقول: إن ملاحظتها شرك؟ لأنهم ذكروا هذا: {وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]، من المتصوفة من يقول: تكون الغاية محبة الله -جل وعلا-، حتى لو توعدك على الصلاة بالنار وهو يحبها تصلي، ولو توعدك بترك الزنا مثلاً بالجنة أو على فعله بالنار وهو يحب تركه أو فعله تدور مع محبته! ويذكر في هذا ما يُذكر عن رابعة العدوية أنها قالت: ما عبدت الله خوفًا من عذابه ولا طلبًا في ثوابه ولا نعيمه، وإنما عبدته حبًّا لله. فلا شك أن هذا خلل؛ لأن المسلم مطالب بالحب، كما أنه مطالب بالخوف والرجاء، فهما كالسائق والقائد والحادي، والله المستعان.

طالب: "وقال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 37 - 39]، وقال في قسيمه: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40، 41]، وقال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4]. فقد حصر الأمر في شيئين: الوحي وهو الشريعة، والهوى، فلا ثالث لهما. وإذا كان كذلك، فهما متضادان، وحين تعين الحق في الوحي توجه للهوى ضده، فاتباع الهوى مضاد للحق".

وهو يقول هنا: "متضادان"، وهما قسيمان، يوجد قسم ثالث أم ما يوجد؟

طالب: يوجد...

نعم، يعني من لم يستحضر، خالي الذهن عن الهوى وعن خوف مقام الرب -جل وعلا-، ما حكمه؟ هل يأخذ حكم هذا أو هذا؟ إذا قال: "هما متضادان"، يعني: احتمال أن يرتفعا معًا، لكن لا يمكن أن يجتمعا، وهذه حقيقة الضدين. ولو قال: هما نقيضان، لما جاز اجتماعهما، وما جاز ارتفاعهما. فخالي الذهن عن هذا وهذا لا يوصف بأنه {طَغَى} [النازعات: 37]، ولا يوصف بأنه {خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} [النازعات: 40]، لكن الجحيم مأوى لمن طغى، والجنة مأوى لمن خاف مقام ربه.

الثالث الذي لم يطغ؟ الذي لم يطغَ ولم يخف مقام ربه خاوي الذهن عن الأمرين، إن كان سببه الإعراض بالكلية عن الدين، لا يرفع به رأسًا، ولا يتعلمه؛ هذا ذُكر من النواقض، لكن إذا خلى أو خلت نفسه عن معرفة شيء بعينه، إن كان مما يُعذر به بسبب الجهل عُذر، ولا يُلام حينئذ. وإن كان مما لا يُعذر به فإنه حينئذ يُلام فيرجع الأمر إلى القسمين.

طالب: "وقال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية: 23]، وقال: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71]، وقال: {الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد: 16]، وقال: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد: 14]".

وعلى هذا، فالهوى إنما يرد في النصوص مورد الذم، الهوى وروده في النصوص واللغة على سبيل الذم، وجعله المؤلف في مقابل الشريعة، التعبد لله -جل وعلا- بما شرعه من فعل أو كف.

طالب: "وتأمل، فكل موضعٍ ذكر الله تعالى فيه الهوى، فإنما جاء به في معرض الذم له ولمتبعيه، وقد رُوي هذا المعنى عن ابن عباسٍ، أنه قال: ما ذَكر الله الهوى في كتابه إلا ذمه. فهذا كله واضحٌ في أن قصد الشارع الخروج عن اتباع الهوى والدخول تحت التعبد للمولى.
والثالث: ما عُلم بالتجارب والعادات من أن المصالح الدينية والدنيوية لا تحصَّل مع الاسترسال في اتباع الهوى، والمشي مع الأغراض؛ لِما يلزم في ذلك من التهارج والتقاتل والهلاك"
.

يعني لو أن كل إنسان أُعطي هواه، وحقق ما يطالب به الكفار من حرية مطلقة، مع أنها غير متصورة ألبتة، كل إنسان يحقق ما تهواه نفسه. هل يمكن أن يكون هذا؟ لأن هوى كل إنسان يخالف هوى غيره؛ لأن الناس كلهم هواهم في تحقيق رغباتهم، فرغبة هذا في رغبة هذا، ورغبة هذا في رغبة ذاك. فلو تُرك الأمر على ما ينادي به الكفار من حرية مطلقة، من حرية رأي، من حرية فعل، وأن الناس أحرار، والتدخل في شؤونهم معارض لما ينادون به من حقوق الإنسان، أول من يخرج على هذه القوانين هم.

 هل يرضى أحد منهم أن ينتزع ما في يده؛ ليحقق رغبته؟ أو يعتدي على ممتلكاته لتحقيق رغبته؟ أو يتكلم فيه؛ لأن رغبته في الكلام فيه؟ ما يرضون بهذا. فالكلام كله نظري لتحقيق ما يريدون من مآرب، من غير نظر إلى رغبات رأيهم.

طالب: "والثالث: ما عُلم بالتجارب والعادات من أن المصالح الدينية والدنيوية لا تحصل مع الاسترسال في اتباع الهوى والمشي مع الأغراض؛ لما يلزم في ذلك من التهارج والتقاتل والهلاك الذي هو مضاد لتلك المصالح، وهذا معروفٌ عندهم بالتجارب والعادات المستمرة، ولذلك اتفقوا على ذم من اتبع شهواته، وسار حيث سارت به، حتى إن من تقدم ممن لا شريعة له يتبعها، أو كان له شريعة درست، كانوا يقتضون المصالح الدنيوية بكف كل من اتبع هواه في النظر العقلي".

لا يمكن تطبيق الحرية المطلقة في أي ديانة، وفي أي نظام، وفي أي سياسة، لا يمكن إطلاقًا، ينادون بالحرية، وينادون بالحقوق المطلقة للإنسان، لكن لماذا سنوا القوانين، ووضعوا الأنظمة إلا من أجل أن يكفلوا مصالح شعوبهم؛ لكون هذه الأنظمة باطلة، لكنها تحقق ما يريدون من مآرب، تحقق لهم ما يريدون من مآرب، وإلا لو تُرك الناس فوضى من دون أنظمة، يعني قد تحقق أنظمتهم سبعين بالمائة مما يريدون، خمسين بالمائة، ستين بالمائة، لكنها تحقق لهم شيئًا مما يريدونه، والتحقيق الكامل إنما هو بتطبيق شرع الله -جل وعلا- على ما يريده الله، لا على ما يقتضيه الهوى، والله المستعان.

طالب: "وما اتفقوا عليه إلا لصحته عندهم، واطراد العوائد باقتضائه، ما أرادوا من إقامة صلاح الدنيا، وهي التي يسمونها السياسة المدنية؛ فهذا أمر قد توارد النقل والعقل على صحته في الجملة، وهو أظهر من أن يُستدل عليه".

نعم، لا تجد دولة من الدول لا مسلمة ولا كافرة إلا ولها دستور تمشي عليه، ولها أنظمة وقوانين يُردع بها من خالفها. لكن كونها أنظمة باطلة مخالفة لشرع الله، هذا لا يعني أنها ما تنظم أمور حياتهم، يعني كونها تحقق بعض المصالح أو يترتب عليها كثير من المفاسد؛ لا يعني أنها لا تخدم مصالحهم. والخير كله في اقتفاء شرع الله -جل وعلا-، وهو الذي يحقق المصالح التامة للناس كلهم إذا طُبق بأمانة ونزاهة وعدل.

يعني حينما يستفتى الناس، وقد حصل وسمعنا ونقل إلينا: استفتي الناس في وضع المرأة في بلاد المسلمين وفي بلاد الكفر، أيهما أفضل: وضع المرأة المسلمة أو وضع المرأة في بلاد الغرب الذين خطوا خطوات واسعة في الحضارة والمدنية، وتحقق لهم كثير من رغباتهم وشهواتهم، أيهما أسعد؟ يعني كثير من المفتونين ممن ينتسب إلى الإسلام قال: المرأة الغربية أسعد من المرأة في بلاد المسلمين! نحن لا نخالف أن في بلاد المسلمين شيئًا من الشقاء أو من التعاسة في بعض البيوت، لكن ليس هذا مرده إلى الشرع؛ مرده مخالفة الشرع، سببه مخالفة الشرع. ومن نظر في أحوال الناس، وأحوال البيوت، واستقامة شأنها، وتربيتها لأولادها، ورعاية مصالح الأسرة؛ لا شك أن الأسرة في بلاد المسلمين في سعادة ، بالنسبة لشقاء الغرب.

يعني عندهم أنظمة تكفل الحقوق مثلاً، لكن على أي أساس وضعوها؟ من وجهة نظرهم؛ ولذلك هم في أنظمتهم ما يمنع الزوج من الاستمتاع بزوجته في أي لحظة أرادت، وعندنا في شرعنا أن الرجل إذا دعا زوجته وأبت عليه باتت تلعنها الملائكة. وفي قوانينهم باعتبار المساواة بين الرجال والنساء، وأن الرجل كما أن له أن يمتنع فالمرأة لها أن تمتنع، لها أن تتصل على الجهات الأمنية وتقول: إنه اغتصبني، وهي زوجته، فيتدخلون بينهما ويفرقون بينهما، وإذا رفض سجنوه! هل هذا يحقق سعادة؟ هل يمكن أن تعيش أسرة في ظل هذه الأنظمة؟ إلا بخيانات كما هو الحاصل عندهم، زوجته ترفض، فيخرج إلى غيرها، ما يمكن أن يعيشوا إلا بهذه الطريقة.

ومع الأسف أن يوضع مقارنة في بلاد المسلمين من مسلمين، ويقال: إن المرأة في بلاد الغرب أسعد، والمرأة في بلاد الشرق شقية وتعيسة! لكن بعض المفكرين، وإن كان غير مرضي في الجملة، لكن أحيانًا يصير عند بعض الناس إنصاف ونظرة صحيحة، يقول: لا يوجد في بلاد المسلمين أسرة شقية إلا التي تنظر إلى حضارة الغرب، وتريد تحقيق حضارة الغرب، وإلا فالأسرة التي تعيش بين جدران، لم تطلع على حضارة الغرب ولا ما وصل إليه الغرب، ما يُظن أنه سعادةـ وهو في الحقيقة شقاوة. بلاد المسلمين عاشوا قرونًا سعداء، ولا يعني أن السعادة يمكن أن تطبق مائة بالمائة، كل شيء له ضريبة، والسعادة الكاملة التامة التي لا منغص فيها إنما هي في الجنة، ووجود هذه المكدرات، والحياة طُبعت على كدر، لماذا؟ ليعرف الناس قدر الجنة، فيعملوا لها، وإلا لو كانت سعادة من كل وجه، تشبث الناس بها، وما عملوا للآخرة، والله المستعان.

طالب: "وإذا كان كذلك، لم يصح لأحدٍ أن يدعي على الشريعة أنها وُضعت على مقتضى تشهي العباد وأغراضهم؛ إذ لا تخلو أحكام الشرع من الخمسة، أما الوجوب والتحريم، فظاهرٌ مصادمتها لمقتضى الاسترسال الداخل تحت الاختيار".

نعم، "الوجوب والتحريم" لا شك أنها مصادمة لأغراض الناس مصادمة تامة، مصادمة "الوجوب والتحريم"، "الوجوب والتحريم" فيها مصادمة لأغراض الناس، كيف؟ شخص أعجبته امرأة، ويريد الاتصال بها، يقال له: حرام عليك أن تتصل بها، غرضه في الاتصال فيمنع منه. وشخص نام على فراشه في ليلة شاتية شديدة البرد، وصلاة الجماعة، صلاة الصبح عليه واجبة، لا شك أن وجوب صلاة الجماعة مصادم لغرضه وهواه؛ لأن هواه يدعوه إلى النوم، سيما في مثل هذا الظرف.

يقول: "أما الوجوب والتحريم، فظاهر مصادمتها لمقتضى الاسترسال الداخل تحت الاختيار". نعم.

طالب: "إذ يقال له: افعل كذا؛ كان لك فيه غرضٌ أم لا، ولا تفعل كذا؛ كان لك فيه غرضٌ أم لا".

إما غرض دنيوي، فليس له فيه غرض إلا إذا كان ذهابه إلى المكان المأمور به يحقق له فائدة دنيوية، يعني: لو قُدر أن شخصًا له دين، يطلب من شخص دينًا له عليه في ذمته، وهو يصلي في المسجد الفلاني، ويقال له: اخرج فصل مع الجماعة، فيخرج لهذا الغرض من أجل أن يحصل على غريمه. هذا وافق غرضًا، وهذا حال كثير من الناس أو قلة. هذا نادر، وهو خلاف الأصل، الأصل أن تخرج إلى المسجد من أجل أن تؤدي الصلاة المفروضة جماعة، وهذا مصادم لغرضك.

طالب: "فإن اتفق للمكلف فيه غرض موافق، وهوى باعث على مقتضى الأمر أو النهي؛ فبالعرض لا بالأصل".

نعم، "بالعرض لا بالأصل": تجد غريمًا قالوا يصلي في المسجد الفلاني، لو قيل مثلاً: إن صاحبك الذي في ذمته لك دين يصلي في جامع الراجحي الأصل، وأنت تقول: أنا أذهب لأصلي الجماعة، وأصلي على الجنائز. نقول: إنه وافق غرضًا ووافق هوى في نفسك، لكن مع ذلك أغراضك ومقاصدك صحيحة. هل نقول: إن هذا من التشريك؟ الغرض وجود الغريم أو وجود المدين هناك عارض ليس بأصله، بالعرض لا بالأصالة. كونك تقصد هذا المسجد لأداء الجماعة وأنت تصلي، أنت في الأصل تصلي مع الجماعة في هذا المسجد أو في غيره، لا يعارضه وجود الغريم هناك.

طالب: "وأما سائر الأقسام، وإن كان ظاهرها الدخول تحت خيرة المكلف".

يعني من الاستحباب والكراهة والإباحة، يعني داخلة تحت اختيار المكلف، له أن يفعل المستحب، وله أن يتركه، له أن يفعل المكروه وله أن يتركه، هو مخير في المباح بمستوى الطرفين، هذا فيه نوع اختيار. لكن كونه يُكلف بهذا الحكم، هو يسمى حكمًا تكليفيًّا من هذه الحيثية. وما تقدم من الخلاف في المباح هل هو حكم أو ليس بحكم؟ منهم من يقول: إنه حكم لأن الذي حكم به وأخبرنا أنه مباح هو الشارع، ومنهم من يقول: إنه ليس بحكم تكليفي؛ لأن الحكم التكليفي ما فيه إلزام، ما فيه كلفة، وهذا ما فيه كلفة، مستوي الطرفين، إلا أنه من باب تتميم القسمة.

طالب: "فإنما دخلت بإدخال الشارع لها تحت اختياره، فهي راجعة إلى إخراجها عن اختياره، ألا ترى أن المباح قد يكون له فيه اختيار وغرض، وقد لا يكون؟".

نعم، بدليل أن بعض الناس يتمنى أن هذا الأمر محرم، هو مباح، يتمنى أنه محرم. وبعض الناس يتمنى أن هذا المباح واجب؛ لما يرى من شدة ميله إليه، أو لما يرى من شدة نفرته منه، فيتمنى لو أن الشارع منعه، منع منه؛ لئلا تحدثه نفسه به، فحينئذ قد يدخل تحت الغرض، نعم، يعني يدخل في مخالفة النفس والهوى.

طالب: "فعلى تقدير أن ليس له فيه اختيار، بل في رفعه مثلاً، كيف يقال: إنه داخل تحت اختياره؟ فكم من صاحب هوى يود لو كان المباح الفلاني ممنوعًا، حتى إنه لو وُكل إليه مثلاً تشريعه لحرَّمه، كما يطرأ للمتنازعين في حق. وعلى تقدير أن اختياره وهواه في تحصيله يود لو كان مطلوب الحصول، حتى لو فُرض جعْل ذلك إليه لأوجبه، ثم قد يصير الأمر في ذلك المباح بعينه على العكس، فيحب الآن ما يكره غدًا، وبالعكس، فلا يستتب في قضية حكم على الإطلاق، وعند ذلك تتوارد الأغراض على الشيء الواحد، فينخرم النظام بسبب فرض اتباع الأغراض والهوى، فسبحان الذي أنزل في كتابه: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71].

 فإذًا، إباحة المباح مثلاً لا توجب دخوله بإطلاق تحت اختيار المكلف، إلا من حيث كان قضاءً من الشارع، وإذ ذاك يكون اختياره تابعًا لوضع الشارع، وغرضه مأخوذًا من تحت الإذن الشرعي لا بالاسترسال الطبيعي، وهذا هو عين إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبدًا لله. فإن قيل: وضع الشرائع، إما أن يكون عبثًا، أو لحكمة، فالأول باطل باتفاق، وقد قال تعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} [المؤمنون: 115]، وقال: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} [ص: 27]، {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ...} [الدخان: 38، 39] الآية.

وإن كان لحكمة ومصلحة، فالمصلحة إما أن تكون راجعةً إلى الله تعالى، أو إلى العباد، ورجوعها إلى الله محال؛ لأنه غني، ويستحيل عود المصالح إليه حسبما تبين في علم الكلام".

يعني كما جاء في حديث أبي ذر: «يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا»، وبالعكس: «لو كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا»، إنما هذه المصالح والحكم المرتبة على هذه الأوامر والنواهي إنما مردها أولاً وآخرًا إلى العباد.

طالب: "فالمصلحة إما أن تكون راجعة إلى الله تعالى أو إلى العباد، ورجوعها إلى الله محال؛ لأنه غني ويستحيل عود المصالح إليه حسبما تبين في علم الكلام، فلم يبق إلا رجوعها إلى العباد، وذلك مقتضى أغراضهم؛ لأن كل عاقل إنما يطلب مصلحة نفسه، وما يوافق هواه في دنياه وأخراه، والشريعة تكفلت لهم بهذا المطلب في ضمن التكليف، فكيف ينفي أن توضع الشريعة على وفق أغراض العباد ودواعي أهوائهم؟".

يقول: إذا كانت هذه الشرائع لمصلحة العباد، فكيف تشرع مصادِمة لأغراضهم وأهوائهم؟

لا شك أن كل مصلحة يقابلها مفسدة، مصلحة يقابلها مفسدة، ولا يوجد شر محض، كما أنه لا يوجد خير محض. فالمسألة موازنة بين المصالح والمفاسد، فكف المكلف عن المحرمات من محض مصلحته، وإن كان نظره القاصر يقتضي أنه كُف عن رغبته وهواه؛ لأنه إذا كُف عن لذة ساعة فقد ضُمن له لذة أبدية، ولا نسبة بينهما. ولذا لما قال، أورد بعضهم أنه كيف يباع حاضر بنسيئة؟ كيف يباع حاضر بنسيئة؟ لذة ساعة حاضر، والنسيئة ما يكون في الآخرة.

نقول: العقلاء كلهم مطبقون على بيع الحاضر بالنسيئة إذا ترتب على ذلك مصلحة، وأنتم ترون الآن الناس كلهم يفرطون بأموالهم إذا ترتب عليها مصلحة، يعني يستعملون المداينات والسلم والتورق وغيرها بأقيام آجلة لا عاجلة، من أجل ماذا؟ مصلحة يسيرة، عشرة بالمائة، عشرين بالمائة، ثلاثين بالمائة. فكيف يقال مثل هذا فيمن تضاعف له الحسنة إلى سبعمائة ضعف؟ فيه نسبة أم ما فيه نسبة؟ لا نسبة، سبعمائة ضعف، الحسنة الواحدة بسبعمائة حسنة. وجاء في حديث عند أحمد، لكنْ فيه كلام: «أن الله يضاعف لبعض عباده إلى ألفي ألف ضعف»، يعني ما تُفرط في جميع ما تملك في مقابل هذه الأضعاف الكثيرة؟ واللهِ قد تقدم نفسك في مقابل هذه الأضعاف.

الأمر الثاني: ما نسبة ما يعيشه الإنسان في هذه الحياة إلى نسبة النعيم الأبدي أو العذاب السرمدي في الآخر؟ افترض أن شخصًا تلذذ في حياته سبعين سنة ثم مات، يعني ما مر عليه ولا لحظة في غير لذة ثم مات، ما الذي يعقب ذلك؟ يعقب ذلك النار، خالدًا مخلدًا فيها. ولو أن شخصًا تعس في حياته، هو مطيع لربه مؤتمر بأوامره، مجتنب لنواهيه، ثم بعد ذلك الذي حصل أنه سُلطت عليه المصائب، لكن مع ذلك عاش في هذه التعاسة مدة سبعين أو ثمانين سنة، في مقابل ذلك سعد سعادة لا يشقى بعدها أبدًا.

فالمسألة مسألة نسب، الدنيا كلها لا نسبة لها بالنسبة للآخرة.

طالب: "وأيضًا فقد تقدم بيان أن الشريعة جاءت على وفق أغراض العباد وأثبتت لهم حظوظهم تفضلاً من الله تعالى على ما يقوله المحققون، أو وجوبًا على ما يزعمه المعتزلة، وإذا ثبت هذا من مقاصد الشارع حقًّا، كان ما ينافيه باطلاً".

رعاية الأصلح للمكلفين من الله -جل وعلا-، هذا من فضله، هذا تفضل به على عباده. والمعتزلة يقولون: إنه يجب عليه رعاية الأصلح، فكما أنه حرم على نفسه الظلم أوجب على نفسه العدل. وسواء كان هذا التحريم للظلم أو هذا الإيجاب، كله فضل من الله -جل وعلا-، وليس المراد أنه يجب عليه ويلزمه أن يفعل كذا. ولو عذب المطيع ونعَّم العاصي {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء: 23]، لكن حكمته اقتضت إثابة المطيع والوعيد بالنسبة للعاصي. فكلام المعتزلة لا شك أنه فيه من سوء الأدب مع الله -جل وعلا- ما فيه.

طالب: "فالجواب أن وضع الشريعة إذا سُلم أنها لمصالح العباد، فهي عائدة عليهم بحسب أمر الشارع، وعلى الحد الذي حده، لا على مقتضى أهوائهم وشهواتهم، ولذا كانت التكاليف الشرعية ثقيلةً على النفوس، والحس والعادة والتجربة شاهدة بذلك، فالأوامر والنواهي مُخرجة له عن دواعي طبعه واسترسال أغراضه، حتى يأخذها من تحت الحد المشروع، وهذا هو المراد، وهو عين مخالفة الأهواء والأغراض. أما أن مصالح التكليف عائدة على المكلف في العاجل والآجل، فصحيح، ولا يلزم من ذلك أن يكون نيله لها خارجًا عن حدود الشرع، ولا أن يكون متناولاً لها بنفسه دون أن يناولها إياه الشرع، وهو ظاهر، وبه يتبين أن لا تعارض بين هذا الكلام وبين ما تقدم؛ لأن ما تقدم نظر في ثبوت الحظ والغرض من حيث أثبته الشارع، لا من حيث اقتضاه الهوى والشهوة، وذلك ما أردنا هاهنا".

نقف على هذا.

في كلامه الأخير، يعني إذا كانت الشريعة جاءت على وفق الأغراض، فكيف يُمنع مما فيه ما يحقق أو ما يتمشى مع هواه؟ هذا ذكرنا جوابه فيما تقدم.

وجواب المؤلف: "فالجواب أن وضع الشريعة إذا سُلم أنها لمصالح العباد، فهي عائدة عليهم بحسب أمر الشارع، وعلى الحد الذي حده، لا على مقتضى أهوائهم وشهواتهم، ولذا كانت التكاليف الشرعية ثقيلةً على النفوس"، وثقلها لا شك أنه مما يزيد في ثوابه عند الله -جل وعلا-، حتى إن منهم من يفضل من يأتي المأمور على شيء من الكره، على من يأتيه مع التلذذ؛ لأن له أجر فعل المأمور، وله أجر المجاهدة.

وبعضهم يقول: لا، أداء العبادة مع التلذذ كما كان من شأنه -عليه الصلاة والسلام- أنه يتلذذ: «أرحنا بها»، هذا أفضل، والسبب في ذلك أنه ما وصل إلى مرحلة التلذذ حتى جاوز مرحلة المجاهدة.

يقول: ما رأيك فيمن توسع للمصلحة والمفسدة، حتى أصبحت كل فتواه تبعًا للمصلحة والمفسدة، وما الضابط والأصل في ذلك؟

أولاً: الأصل أن الفتوى إنما تنبع من النصوص، لا بد أن تعتمد على النصوص، على الكتاب والسنة، لا على مجرد الاحتمالات العقلية. والمصلحة والمفسدة التي يقررها أهل العلم، إنما هي المصالح العامة للدين وأهله. وبعضهم ينظر في المصالح الخاصة، وينزلها منزلة المصالح العامة، ويقضي بها على النصوص وعلى قواعد الشريعة؛ لا شك أن هذا مسلك موجود من القدم ابتدعه الطوفي، ومع ذلك رد عليه أهل العلم ردودًا قوية، ولم يوافَق على ذلك.

ونجد الآن بعض الناس، وإن كان منهم من كان من أهل العلم، إذا نوقش في مسألة ما حصل عنده في عمله، أو فيما تحت يده، يقول: أنتم ما تدرون عن شيء، نحن ندفع مفاسد، ندرأ مفاسد، ونجلب مصالح، قد تكون أعظم مما ارتكبناه. نقول: نعم، عندكم من العلم بالأمر ما ليس عندنا، لكن الظاهر أن ما ارتكبتموه محرم بالنص، فلا يمكن أن يتجاوز بسبب مصلحة مظنونة أو مفسدة متوقعة.

ثم في قوله -جل وعلا- في قصة الخضر: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} [الكهف: 71]، وفي الموضع الثاني قال: {نُكْرًا} [الكهف: 74]، يعني: فيمن يحتج بدرء المفاسد بارتكاب مفسدة محققة، ويدرأ مفسدة مظنونة، يقول: هي أشد منها، فنرتكب هذه المفسدة المحققة، وندرأ المفسدة المظنونة لأنها أعظم منها. هذا يرد على ألسنة بعض المسؤولين، وهذا لا شك أنه من باب حسن الظن بهم، أنهم يفعلون ما يرتكبونه من أجل هذا، يعني ما يساء بهم الظن أنهم فعلوا المنكر معاندة. نقول: ارتكبوا هذه المفسدة وبزعمهم أنهم يدفعون مفسدة أعظم منها. هذا يستدل بكثير من المسؤولين الذين يلاحظ عليهم بعض الأشياء من الضغوط، من الواقع، من الخارج، من الداخل، من ظروف الأمة التي تعيشها. يقال: نعم، هذا الكلام إذا كانت هناك مفسدة أعظم تُدفع بارتكاب المفسدة الأدنى، وارتكاب أخف الضررين عند أهل العلم مقرر.

لكن يبقى: هل المفسدة الأعظم واقعة، أو مظنونة، أو مشكوك فيها؟ والمفسدة المحققة الحاصلة حقيقية مرتكبة بلا شك كما هو الحاصل؟ نقول: يُخرج هذا على فعل الخضر، لما خرق السفينة قال له موسى: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا} [الكهف: 71]، ولما قتل الغلام قال له: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا} [الكهف: 74]. أيهما أعظم {إِمْرًا} أو {نُكْرًا}؟

طالب: {إِمْرًا}.

طالب: {نُكْرًا}.

نعم، المفسرون يختلفون أيهما أعظم، لكن في الحديث الصحيح لما قتل الغلام قالوا: هذه أشد. لماذا؟ لأن قتل الغلام مفسدة محققة، وخرق السفينة مفسدة مظنونة. نعم، هي مفسدة أعظم، يعني لو حصل الغرق للجميع أعظم من قتل الغلام، لكنها مظنونة، هي أعظم بالفعل، لكنها مظنونة. وتلك مقتلة، قتل الغلام مفسدة محققة ليست مظنونة، لكنها أقل من الأولى لو تحققت الأولى.

فعلى هذا، لأحد أن يرتكب مفسدة محققة لدرء مفسدة أعظم منها ليست محققة مظنونة من خلال قصة موسى مع الخضر؟ ليس له ذلك، وما يدريك علك أن تعاقب بالمفسدة العظمى؛ لأنك تجرأت على المفسدة الدنيا.

 

فعلى الإنسان أن يتعامل فيما بين يديه، والمستقبل يتولاه الله -جل وعلا-، وكل هذا مبني أيضًا على ما يتعدى خطره وضرره، وما يلزم أن يتضرر اللازم غير الضرر المتعدي. هو الضرر المتعدي هو ما يتعلق بالمصالح العامة واللازم المصالح الخاصة.