شرح العقيدة الطحاوية (66)

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد،

في الدرس الماضي أشرنا إلى تائية القدر، منظومة لشيخ الإسلام ابن تيمية، وذكرنا أن لها شرحًا مختصرًا للشيخ عبد الرحمن بن سِعدي مطبوع مفرد أكثر من مرة، ومطبوع ضمن مجموعات كتب ورسائل الشيخ في (مجموع الفتاوى) في الجزء الثامن، صفحة (245)، يقول:

سُؤَالٌ عَنْ الْقَدَرِ

أَوْرَدَ أَحَدُ عُلَمَاءِ الذِّمِّيِّينَ فَقَالَ:

أَيَا عُلَمَاءَ الدِّينِ ذِمِّيُّ دِينِكُمْ

 

تَحَيَّرَ دُلُّوهُ بِأَوْضَحِ حُجَّةٍ"

يعني ليس بغريب أن يتحيَّر ذمي، ليس عنده من الأدلة مثل ما عندنا في كتاب الله وسُنة نبيه- صلى الله عليه وسلم-، عندهم ما يُبيِّن لهم ويوضح لهم من كتبهم السماوية، لكنها تعدت إليها يد التحريف والتغيير والتبديل. فمتأخروهم الذين لم يطلعوا على الكتب المُنزَّلة قبل تحريفها وتبديلها، قد يحصل عندهم شيء مثل ما حصل للسائل من الحيرة. وإذا وجِدَ هذا فيمن ينتسب إلى محمد- صلى الله عليه وسلم- وكتابه القرآن مصونٌ من التحريف والتبديل والزيادة والنقصان، وجِدَت الحيرة عند جموع من ينتسب إلى العلم، فضلاً عن من دونهم. يقول:

"أَيَا عُلَمَاءَ الدِّينِ ذِمِّيُّ دِينِكُمْ

 

تَحَيَّرَ دُلُّوهُ بِأَوْضَحِ حُجَّةٍ

إذَا مَا قَضَى رَبِّي بِكُفْرِي بِزَعْمِكُمْ

 

                ...                 "

هو غير مُقر ومُعترف أنه كافر؛ لأنه تابع -على حد زعمه- لموسى أو عيسى، لكن يقول: "إذَا مَا قَضَى رَبِّي بِكُفْرِي بِزَعْمِكُمْ" وعندنا أن اليهود والنصارى كفار بالإجماع، {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [سورة البينة:1]. قد يقول قائل: لماذا لا تكون (من) تبعيضية، فيكون بعض الذين كفروا من أهل الكتاب، والذين كفروا هم بعض أهل الكتاب وما أشبه ذلك؟ نقول: لا، لو كانت (من) داخلة على الكتاب فقط، لأمكن أن يُقال، مع وجود أدلة أخرى تُصرِّح بكفرهم، لكنه عُطِفَ عليهم المشركون، والمشركون كفار كلهم بالاتفاق، فتكون حينئذٍ (من) بيانية؛ لأن العطف على نية تكرار العامل، {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ} [سورة البينة:1] يعني على نية تكرار العامل. ف(من) هنا بيانية قطعًا، وليست تبعيضية.

"إذَا مَا قَضَى رَبِّي بِكُفْرِي بِزَعْمِكُمْ

 

وَلَمْ يَرْضَهُ مِنِّي فَمَا وَجْهُ حِيلَتِي

دَعَانِي وَسَدَّ الْبَابَ عَنِّي، فَهَلْ إلَى

 

دُخُولِي سَبِيلٌ بَيِّنُوا لِي قَضِيَّتِي

قَضَى بِضَلَالِي ثُمَّ قَالَ ارْضَ بالقضا

 

فَمَا أَنَا رَاضٍ بِاَلَّذِي فِيهِ شِقْوَتِي

فَإِنْ كُنْتُ بِالْمَقْضِيِّ يَا قَوْمُ رَاضِيًا

 

فَرَبِّي لَا يَرْضَى بِشُؤْمِ بَلِيَّتِي

فَهَلْ لِي رِضَا مَا لَيْسَ يَرْضَاهُ سيدي

 

فَقَدْ حِرْتُ دُلُّونِي عَلَى كَشْفِ حيرتي

إذَا شَاءَ رَبِّي الْكُفْرَ مِنِّي مَشِيئَةً

 

فَهَلْ أَنَا عَاصٍ فِي اتِّبَاعِ الْمَشِيئَةِ

وَهَلْ لِي اخْتِيَارٌ أَنْ أُخَالِفَ حُكْمَهُ

 

فَبِاَللَّهِ فَاشْفُوا بِالْبَرَاهِينِ غَلَّتِي"          

كثير من المثقفين الآن، الذين ما لهم عناية ولا علاقة بالعلوم الشرعية، ... وكثيرٌ منهم يقنع بما يسمع، لو يسمع مثل هذا الكلام، وما عنده صلة بالعلم الشرعي ولا عناية به، قد تدخل عليه هذه الشُبهة كما مشت على كثير من المُبتدعة.

"فَأَجَابَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْعَالِمُ الْعَلَّامَةُ أَحْمَد ابْنُ تَيْمِيَّة مُرْتَجِلًا:

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

سُؤَالُكَ يَا هَذَا سُؤَالُ مُعَانِدٍ

 

مُخَاصِمِ رَبِّ الْعَرْشِ بَارِي الْبَرِيَّةِ

فَهَذَا سُؤَالٌ خَاصَمَ الْمَلَأَ الْعُلَا

 

قَدِيمًا بِهِ إبْلِيسُ أَصْلُ الْبَلِيَّةِ"

"فَهَذَا سُؤَالٌ خَاصَمَ الْمَلَأَ الْعُلَا" يعني: الملائكة، "قَدِيمًا بِهِ إبْلِيسُ أَصْلُ الْبَلِيَّةِ".

"فَهَذَا سُؤَالٌ خَاصَمَ الْمَلَأَ الْعُلَا

 

قَدِيمًا بِهِ إبْلِيسُ أَصْلُ الْبَلِيَّةِ

وَمَنْ يَكُ خَصْمًا لِلْمُهَيْمِنِ يَرْجِعَنْ

 

عَلَى أُمِّ رَأْسٍ هَاوِيًا فِي الْحَفِيرَةِ"

إلى آخرها، القصيدة طويلة جدًّا في عشر صفحات، في كل صفحة خمسة عشرة بيتًا، تزيد على 150؛ لأن هنا 16 بيت.

على كل حال، تزيد على 150 بيت، وشرح الشيخ ابن سعدي شرح مُختصر مُيسَّر، ينتفع به طالب العلم.

ولابن القيم -رحمه الله- كتابٌ مُطوَّل في القضاء والقدر، اسمه (شفاء العليل في القضاء والقدر والحكمة والتعليل).

أيضًا مرَّ معنا في كلام شيخ الإسلام: "ثلاثة أشياء لا حقيقة لها: طفرة النظَّام، وأحوال أبي هاشم، وكسب الأشعري". ما معنى طفرة النظَّام؟

طالب: ...

أين؟ في أوله أم في آخره؟ كلام طويل هذا، الكلام في الطفرة، كلام ابن حزم؟

طالب: في أول الصفحة الأولى، كلام شيخ الإسلام.

هذه ترجمته.

طالب: آخر ثلاثة أسطر بدأ ...

السادسة؟

طالب: نعم.

السادسة يقول: "وافق الفلاسفةَ في نفي الجزء الذي لا يتجزأ، وأحدث القول بالطفرة، لما ألزم مشي نملةٍ على صخرة من طرفٍ إلى طرف، أنها قطعت ما لا يتناهى، فكيف يقطع ما يتناهى ما لا يتناهى؟" قال: "تقطع بعضها بالمشي وبعضها بالطفرة، وشبَّه ذلك بحبلٍ شُدَّ على خشبةٍ مُعترضة وسط البئر، وطوله خمسون ذراعًا، وعليه دلو مُعلقٌ وحبلٌ طوله خمسون ذراعًا، عُلِّقَ عليه معلاقٌ، فيُجَّر به الحبل المتوسط؛ فإن الدلو يصل إلى رأس البئر، وقد قطع مئة ذراع بحبلٍ طوله خمسون ذراعًا في زمانٍ واحد، وليس ذلك إلا أن بعض القطع بالطفرة. ولم يعلم أن الطفرة قطع مسافة أيضًا موازية في المسافة، فالإلزام لا يندفع عنه، وإنما الفرق بين المشي والطفرة يرجع إلى سرعة الزمان وبطئه‏‏".

الحمد لله الذي عافانا مما ابتلاهم به.

في كلامٍ لابن حزم حول الطفرة، لكن يكفينا هذا، أنها لا حقيقة لها.

ما كتبت الآخرين؟ أحوال أبي هاشم الجُبَّائي، أما أحوال أبي هاشم، فالمراد بها: الصفات المعنوية التي فرض بإثباتها أبو هاشم دون سائر المُعتزلة، من نفيه لصفات المعاني، أي: أنه ينفي العلم والقدرة والإرادة، إلى آخر الصفات، ثمَّ يُثبت كونه عالمًا قادرًا ومُريدًا، الله المُستعان، فيه كلامٌ طويل. كسب الأشعري بقي؟

طالب: ...

نعم، مسألة الكسب.

"بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله ربِّ العالمين، وصلى الله وسلَّم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، اللهم علمنا وانفعنا بما علمتنا برحمتك يا أرحم الراحمين، قال الشارح -رحمه الله تعالى-:

وَإِذَا ثَبَتَ كَوْنُ الْعَبْدِ فَاعِلًا، فَأَفْعَالُهُ نَوْعَانِ:

نَوْعٌ يَكُونُ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ اقْتِرَانِ قُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ"

"فإن قيل" قرأته؟ الذي قبله بثلاثة أسطر؟

"فَإِنْ قِيلَ: إِذَا حَكَمْتُمْ بِاسْتِحَالَةِ الْإِيجَادِ مِنَ الْعَبْدِ، فَإِذًا لَا فِعْلَ لِلْعَبْدِ أَصْلًا؟ قِيلَ: الْعَبْدُ فَاعِلٌ لِفِعْلِهِ حَقِيقَةً، وَلَهُ قُدْرَةٌ حَقِيقَيةً".

حقيقة؟

طالب: أحسن الله إليك.

"قِيلَ: الْعَبْدُ فَاعِلٌ لِفِعْلِهِ حَقِيقَةً، وَلَهُ قُدْرَةٌ حَقِيقَيةً".

حقيقية أو حقيقة؟

طالب: حقيقة، حقيقة نعم، أحسن الله إليك.

"قِيلَ: الْعَبْدُ فَاعِلٌ لِفِعْلِهِ حَقِيقَةً، وَلَهُ قُدْرَةٌ حَقِيقَةً".

حقيقة، يعني: ليست من باب المجاز، عندهم لا يقدر؛ لأن القدرة والاستطاعة عندهم مُلازِمة للفعل، يعني قبل الفعل بثانية لا يستطيع، حتى يفعل، نعرف أنه استطاع. وقبل ذلك لا يقدر، وهل التكليف يكون بهذه الاستطاعة وبهذه القدرة؟ لا يُمكن. معناه: أنه قبل الفعل غير مُكلَّف بالفعل؛ لأن الاستطاعة غير موجودة.

"قَالَ تَعَالَى: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} [سورة البقرة:197]، وقال: {فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [سورة هود:36] وَأَمْثَالُ ذَلِكَ.

وَإِذَا ثَبَتَ كَوْنُ الْعَبْدِ فَاعِلًا، فَأَفْعَالُهُ نَوْعَانِ:

نَوْعٌ يَكُونُ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ اقْتِرَانِ قُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، فَيَكُونُ صِفَةً لَهُ وَلَا يَكُونُ فِعْلًا، كَحَرَكَاتِ الْمُرْتَعِشِ".

هذا بدون إرادة، حركات المُرتعش هذه بدون إرادة من الفاعل، وليست مثل حركات السليم، المُختار، الذي له قدرة وله إرادة، يفعل ما يريد ويتركه إن شاء، مع أن قدرته ومشيئته وإرادته، تابعة لإرادة الله ومشيئته.

"وَنَوْعٌ يَكُونُ مِنْهُ مُقَارِنًا لِإِيجَادِ قُدْرَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ، فَيُوصَفُ بِكَوْنِهِ صِفَةً وَفِعْلًا وَكَسْبًا لِلْعَبْدِ، كَالْحَرَكَاتِ الِاخْتِيَارِيَّةِ. وَاللَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي جَعَلَ الْعَبْدَ فَاعِلًا مُخْتَارًا، وَهُوَ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. وَلِهَذَا أَنْكَرَ السَّلَفُ الْجَبْرَ، فَإِنَّ الْجَبْرَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ عَاجِزٍ، فَلَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ الْإِكْرَاهِ، يُقَالُ: لِلْأَبِ وِلَايَةُ إِجْبَارِ الْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ عَلَى النِّكَاحِ، وَلَيْسَ لَهُ إِجْبَارُ الثَّيِّبِ الْبَالِغِ، أَيْ: لَيْسَ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا مُكْرَهَةً".

يعني الجبر، كما ذكر الشارح -رحمه الله- لا يكون إلا من عاجز، الذي لا يملك التصرُّف في القلب، أما الذي يملك التصرُّف في القلب، فلا يحتاج إلى جبر، يودع فيك القدرة والحرية والاختيار، لكن لن تخرج عن إرادته وقدرته. أما الذي يجبرك بالعصا والسيف، فهذا يجبر ولا يجبل، فرق بين من يجبل على الأخلاق ويُبيِّن الأخلاق النافعة والضارة، ويترك لك حرية اختيار ما تشاء منهما، وبين من يجبرك على أحدهما. إذا وجِدَت القوة، الآن ما الذي يجعل الحكام والسلاطين يتولون البُلدان بالقدرة والقهر والغلبة، وقد يكون بشخصه من أضعف الناس؟ لو برز له أقل الناس، أو من أوساط الناس، لصرعه. لكن يجبرهم بغيره، لا يستطيع أن يجبرهم بنفسه؛ ولذلك وجِدَت الجيوش للدول، وإلا فالسلطان بذاته أو بمفرده لا يستطيع أن يصنع شيئًا أمام هذه الجموع الغفيرة من الشعوب. لكن هو يجبرهم بالجيش، وطبيعة مُلك البشر، هذه طبيعتهم. فإن جبرهم وملكهم وساسهم بالحق والعدل والإنصاف، وبما جاء عن الله وعن رسوله، صار خيرًا لهم ونعمة من الله -جلَّ وعلا- لهم. وإن حكمهم بغير ذلك، صار نقمة. والله -جلَّ وعلا- لا يحتاج إلى جيوش، ولا يحتاج إلى أسلحة؛ لأنه ليس بعاجزٍ عن تصريف مُلكه بنفسه، كعجز المخلوق.

"وَاللَّهُ تَعَالَى لَا يُوصَفُ بِالْإِجْبَارِ بِهَذَا الاعتبار؛ لأنه سبحانه خالق الإرادة، وَالْمُرَادِ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَجْعَلَهُ مُخْتَارًا بِخِلَافِ غَيْرِهِ. وَلِهَذَا جَاءَ فِي أَلْفَاظِ الشَّارِعِ: "الْجَبْلُ"دُونَ"الْجَبْرِ"، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم لأشج عبد القيس: «إن فيك خلتين يُحِبُّهُمَا اللَّهُ: الْحِلْمُ وَالْأَنَاةُ»، فَقَالَ: أَخُلُقَيْنِ تَخَلَّقْتُ بِهِمَا؟ أَمْ خُلُقَيْنِ جُبِلْتُ عَلَيْهِمَا؟ فَقَالَ: «بَلْ خلقان جُبِلْتَ عَلَيْهِمَا»"

ولا يجوز أن يُقال حينئذٍ: جُبرت عليهما.

طالب: شيخ، أحسن الله إليك، إن بك لخلتين؟

خصلتين.

طالب: لا، أقصد في اللام؟

النفي؟ يجوز حذفها؛ لأن اللام لام التأكيد، تأتي بخبر المُزحلقة يسمونها. أو ليست مُزحلقة؛ لأنها صارت في اسم (إن).

"فَقَالَ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَبَلَنِي على خلقين يحبهما الله ورسوله". وَاللَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا يُعَذِّبُ عَبْدَهُ عَلَى فِعْلِهِ الِاخْتِيَارِيِّ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعِقَابِ عَلَى الْفِعْلِ الِاخْتِيَارِيِّ وَغَيْرِ الِاخْتِيَارِيِّ مُسْتَقِرٌّ فِي الْفِطَرِ وَالْعُقُولِ.

وَإِذَا قِيلَ: خَلْقُ الْفِعْلِ مَعَ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ ظُلْمٌ! كَانَ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُقَالَ: خَلْقُ أَكْلِ السُّمِّ ثُمَّ حُصُولُ الْمَوْتِ بِهِ ظُلْمٌ!! فَكَمَا أَنَّ هَذَا سَبَبٌ لِلْمَوْتِ، فَهَذَا سَبَبٌ لِلْعُقُوبَةِ، وَلَا ظُلْمَ فِيهِمَا".

لو قدر الله على هذا الشخص أن يأكل ما يضره، مريض بنوع من المرض ويعرف أن هذا الأكل يضره، بل يؤدي إلى وفاته، ثمَّ يأكل منه، هل يجوز له أن يحتج بأن الله جبره على ذلك؛ لأنه كتبه عليه؟ طيب أين الاختيار؟ ما عندك عقل تُميِّز، أليس عنده عقل؟ هل يُلام أم لا يُلام؟ حتى هو يلوم نفسه قبل الناس، وأقرب الناس إليه يلومونه؛ لأنه يستطيع أن يترك وله عقل يُميِّز ويعرف ما يضره، بهذه المعرفة يجب عليه أن يترك ما يضره، وقل مثل هذا فيما يضره في دينه.

"فَالْحَاصِلُ: أَنَّ فِعْلَ الْعَبْدِ فِعْلٌ لَهُ حَقِيقَةً، وَلَكِنَّهُ مَخْلُوقٌ لِلَّهِ تَعَالَى، وَمَفْعُولٌ لله تَعَالَى، لَيْسَ هُوَ نَفْسَ فِعْلِ اللَّهِ. فَفَرْقٌ بَيْنَ الْفِعْلِ وَالْمَفْعُولِ، وَالْخَلْقِ وَالْمَخْلُوقِ.

وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ الشَّيْخُ -رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى- بِقَوْلِهِ: "وَأَفْعَالُ الْعِبَادِ خَلْقُ للَّهِ وَكَسْبٌ مِنَ الْعِبَادِ"- أَثْبَتَ لِلْعِبَادِ فعلاً وكَسْبًا، وأضاف الخلق إلى الله تَعَالَى. وَالْكَسْبُ: هُوَ الْفِعْلُ الَّذِي يَعُودُ عَلَى فَاعِلِهِ مِنْهُ نَفْعٌ أَوْ ضَرَرٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [سورة البقرة:286].

قَوْلُهُ: (وَلَمْ يُكَلِّفْهُمُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَّا مَا يُطِيقُونَ، وَلَا يُطِيقُونَ إِلَّا مَا كَلَّفَهُمْ)".

"ولم يُكلفهم الله تعالى إلا ما يطيقون"، وهذا منصوص في كتاب الله -جلَّ وعلا-. لكن "لا يطيقون إلا ما كلفهم"، هذه ليست بصحيحة، بل يطيقون أكثر مما كلفهم. يعني: كلفهم خمس صلوات، لو كلفهم بعشر صلوات في اليوم والليلة ما يطيقون؟. كلفهم بصيام شهر، لو كلفهم بصيام شهرين، ما يطيقون؟ كلفهم بحجة واحدة في العمر، لو كلفهم بأكثر من ذلك، ما يُطيقون؟. مقتضى قوله: "ولا يُطيقون إلا ما كلفهم" أنهم لا يُطيقون إلا هذا القدر الواجب عليهم. وإلا فما معنى أن المسلمين عمومًا، لا سيما خلاصتهم من المؤمنين والصالحين والعُبَّاد، أنهم يصلون أضعاف أضعاف ما كلفوا به، وذُكِر عن بعضهم، مثلاً: الإمام أحمد ثلاثمائة ركعة في اليوم والليلة. لو قيل: إنهم لا يطيقون إلا ما كلفهم، قلنا: غير صحيح. وذُكِر عن الحافظ عبد الغني المقدسي أنه يصلي أعدادًا كبيرة من الركعات بين خروج وقت النهي بارتفاع الشمس إلى الزوال. وهذا في حدود ما يستوعبه الزمان، وإلا قال ابن المُطهِّر في (منهاج الكرامة) أن علي بن أبي طالب يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة، قال شيخ الإسلام: "الزمان لا يستوعب"، الزمان لا يستوعب ألف ركعة في اليوم والليلة؛ لأنه أقل ركعة مُجزئة تؤدى بدقيقة، أقل ركعة مُجزئة تؤدى بدقيقة، فيحتاج من غير فواصل إلى ألف دقيقة، تصور أنه مُكلَّف بأمورٍ أخرى، بعباداتٍ أخرى، بواجباتٍ أخرى، مُكلَّف براحة، بنوم، بأكل وشرب، والتزامات أخرى؛ لأنه ما هو بإنسانٍ عادي ينطوي في بيته، في سجادته ويصلي ليل نهار، حتى لو كان كذلك، الزمان ما يستوعب، كما قال شيخ الإسلام. لكن المقصود أنهم يُطيقون أكثر مما كلفهم.

"وَهُوَ تَفْسِيرُ "لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ"، نَقُولُ: لَا حِيلَةَ لِأَحَدٍ، وَلَا تَحَوُّلَ لِأَحَدٍ، وَلَا حَرَكَةَ لِأَحَدٍ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ، إِلَّا بِمَعُونَةِ اللَّهِ، وَلَا قُوَّةَ لِأَحَدٍ عَلَى إِقَامَةِ طَاعَةِ اللَّهِ وَالثَّبَاتِ عَلَيْهَا إِلَّا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى".

وإعانته، بتوفيقه وإعانته.

"وَكُلُّ شَيْءٍ يَجْرِي بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِلْمِهِ وقضائه وقدره. غلبت مشيئته المشيئات كلها، وَغَلَبَ قَضَاؤُهُ الْحِيَلَ كُلَّهَا. يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ أَبَدًا. {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [سورة الأنبياء:23].

قال الشارح -رحمه الله-:

فَقَوْلُهُ: "لَمْ يُكَلِّفْهُمُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَّا مَا يُطِيقُونَ"، قَالَ تَعَالَى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [سورة البقرة:286]، وقال تَعَالَى: {لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [سورة الأنعام:152].

وَعَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ جَائِزٌ عَقْلًا"

يعني {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا} [سورة الطلاق:7]، يعني مثلاً: في رؤية الهلال، هل الناس مُكلفون بالمناظير؟ وغيرها مما يُقرِّب ويُكبِّر الصورة، هل هم مُكلفون بذلك؟ أم أن هذا كمالي والأصل العين المُجردة؟ لأن الله لا يُكلِّف نفسًا إلا ما آتاها. يعني: لو تركوا المناظير ما أثموا، لكن لو استعملوها، فإنها لا تُغيِّر من الواقع شيئًا، لكنها توضح.

طالب: قوله: "وعكست إرادته الإرادات كلها".

أين؟

طالب: "غلبت مشيئته المشيئات كلها، وعكست إرادته الإرادات كلها".

لا، "وَغَلَبَ قَضَاؤُهُ الْحِيَلَ كُلَّهَا".

طالب: نعم، عندي ما بين الكلمتين: "وعكست إرادته الإرادات كلها"؟

غير موجودة عندنا.

طالب: موجودة.

أي طبعة؟

طالب: ...

المكتبة الإسلامية؟

طالب: دار الرسالة.

التي معنا أيضًا هي طبعة الرسالة.

طالب: ما فيها هذا، يا شيخ.

لا، ما فيها هذا، يبدو أنها زائدة. يبدو إنها مُقحمة. يعني معك طبعة مكة أم طبعة أحمد شاكر؟

طالب: طبعة أحمد شاكر.

هي التي معك؟

 نعم.

"وَعَنْ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ أَنَّ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ جَائِزٌ عَقْلًا، ثُمَّ تَرَدَّدَ أَصْحَابُهُ أَنَّهُ: هَلْ وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ أَمْ لَا؟"

جائزٌ عقلاً، يعني وإن لم يرد به شرع؛ لأن العبيد والخلق مُلكٌ لله جميعًا، له أن يكلفهم ما لا يطيقون، ولا يُسأل عما يفعل، هذا من جهة العقل. لكن هل من جهة الشرع حاصل؟ ليس بحاصل، ولا واقع. فالتجويز العقلي لا قيمة له، بل العبرة بالأحكام الشرعية.

"وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِوُرُودِهِ بِأَمْرِ أَبِي لَهَبٍ بِالْإِيمَانِ، فَإِنَّ الله تَعَالَى أَخْبَرَ بِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ، وَأَنَّهُ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ، فَكَانَ مَأْمُورًا بِأَنْ يُؤْمِنَ. وَهَذَا تَكْلِيفٌ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ، وَهُوَ مُحَالٌ.

وَالْجَوَابُ عَنْ هذا بالمنع: فلا نسلّم بأنه مَأْمُورٌ بِأَنْ يُؤْمِنَ، وَالِاسْتِطَاعَةُ الَّتِي بِهَا يَقْدِرُ عَلَى الْإِيمَانِ كَانَتْ حَاصِلَةً، فَهُوَ غَيْرُ عَاجِزٍ عَنْ تَحْصِيلِ الْإِيمَانِ، فَمَا كُلِّفَ إِلَّا مَا يُطِيقُهُ".

يعني: كما كُلف غيره ممن استجاب، يعني: هل تكليف أبي لهب بالإيمان تكليف بما لا يُطاق؟ لا، هو تكليفٌ بما يُطاق، بدليل: إيمان غيره، أن الإيمان المطلوب منه وجِدَ من غيره، ممن هو مثله، إذًا هو تكليفٌ بما يُطاق.

"فَمَا كُلِّفَ إِلَّا مَا يُطِيقُهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ الِاسْتِطَاعَةِ. وَلَا يَلْزَمُ قَوْلُهُ تَعَالَى لِلْمَلَائِكَةِ: {أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ} [سورة البقرة:31] مَعَ عَدَمِ عِلْمِهِمْ بِذَلِكَ، وَلَا لِلْمُصَوِّرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: «أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ»، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَكْلِيفِ طَلَبِ فِعْلٍ يُثَابُ فَاعِلُهُ وَيُعَاقَبُ تَارِكُهُ، بَلْ هُوَ خِطَابُ تَعْجِيزٍ".

{كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً} [سورة الإسراء:50]، الأمر يأتي لمعانٍ كثيرة، كما بُيِّن بالأدلة والأمثلة في علوم البلاغة، ومنها أن يكون للتعجيز، كما في قوله: «أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ»، ومن أرى عينيه ما لا ترى، يعني: في النوم، يعني: ادعى رؤية وهو ما رأى، يُكلَّف أن يعقد بين شعيرتين، حبة شعير، حبتين يعقد بينهما، هل يستطيع؟ لا يُمكن، هذا تعجيز. وللمصوِّر، الذي تساهل الناس فيه الآن، يصورون بكل ارتياح، «أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ».

"وَكَذَا لَا يَلْزَمُ دُعَاءُ الْمُؤْمِنِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [سورة البقرة:286]؛ لِأَنَّ تَحْمِيلَ مَا لَا يُطَاقُ لَيْسَ تَكْلِيفًا، بَلْ يَجُوزُ أَنْ يُحَمِّلَهُ جَبَلًا لَا يُطِيقُهُ فَيَمُوتَ. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: أَيْ لَا تُحَمِّلْنَا مَا يَثْقُلُ عَلَيْنَا أَدَاؤُهُ وَإِنْ كُنَّا مُطِيقِينَ لَهُ عَلَى تَجَشُّمٍ وَتَحَمُّلٍ مَكْرُوهٍ، قَالَ: فَخَاطَبَ الْعَرَبَ عَلَى حَسَبِ مَا تَعْقِلُ، فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ يَقُولُ لِلرَّجُلِ يُبْغِضُهُ: مَا أُطِيقُ النَّظَرَ إليك، وهو مطيقٌ لذلك، لكنه يثقُل عليه.

وَلَا يَجُوزُ فِي الْحِكْمَةِ أَنْ يُكَلِّفَهُ بِحَمْلِ جَبَلٍ بِحَيْثُ لَوْ فَعَلَ يُثَابُ".

لأنه لا يُمكن، يُكلفه بحمل جبل، فإن فعل أثابه، وإن لم يفعل عاقبه، هذا لا يُمكن أن يكون. لكن الطاقة التي أشار إليها، وهي واردة في أساليب العرب، فهي شيء يثقل عليه، وإن كان ثِقَل نسبي، يقول: لا أطيق رؤية فلان، لكن هل هو بالفعل مثل تكليف ما لو كلفه بصخرة يعجز عنها؟ لو رآه ما حصل شيء، إلا أن النفس تنفر منه، وإلا لو رآه وجلس معه المدة الطويلة وجهًا لوجه، ما حصل شيء، ما تضرر.

"بِحَيْثُ لَوْ فَعَلَ يُثَابُ، وَلَوِ امْتَنَعَ يُعَاقَبُ، كَمَا أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَا يُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا.

وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: يَجُوزُ تَكْلِيفُ الْمُمْتَنَعِ عَادَةً، دُونَ الْمُمْتَنَعِ لِذَاتِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ وَجُودُهُ، فَلَا يُعْقَلُ الْأَمْرُ بِهِ، بِخِلَافِ هَذَا".

تكليف المُمتنع لذاته كالجمع بين الضدين، مستحيل، هذا لذاته مُمتنع، ما يمكن أن تجمع بين الوجود والعدم في آنٍ واحد.

"وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: مَا لَا يُطَاقُ لِلْعَجْزِ عَنْهُ لَا يَجُوزُ تَكْلِيفُهُ، بِخِلَافِ مَا لَا يُطَاقُ لِلِاشْتِغَالِ بِضِدِّهِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ تَكْلِيفُهُ".

"مَا لَا يُطَاقُ لِلْعَجْزِ عَنْهُ" هذا المُكلف لن يستطيعه؛ لأنه عاجزٌ عنه، فلا يُكلَّف به. لكن يُكلَّف بأمرٍ هو مأمورٌ بغيره في الوقت نفسه، مثل ما تأتي الأوامر في النصوص المُتعارضة، وحينئذٍ يكون الامتثال بالترجيح؛ ولذلك يقول: "بِخِلَافِ مَا لَا يُطَاقُ لِلِاشْتِغَالِ بِضِدِّهِ" أنت إذا شغلت الوقت بشيء، لا تستطيع أن تفعل شيئًا في الوقت نفسه، لكن أنت مأمور بالشيئين، جاءت النصوص بهذا، وجاءت النصوص بهذا، وحينئذٍ عليك أن تبذل الأسباب التي ذكرها من وجوه الجمع، أهل العلم، وإلا تُرجِّح، فبهذا يُمكن أن تُكلَّف في وقت ترد عليك نصوص تُطالبك بكذا، ونصوص تُطالبك بضده أو بأمرٍ آخر لا تستطيعه في الوقت نفسه، يعني: يكون من باب الترجيح. كما قيل للإمام مالك: أمرني أبي ونهتني أمي، كلهم طاعتهم واجبة، ماذا تفعل؟ قال: "أطع أباك ولا تعصِ أمك"، أجاب مالك أو لم يُجب؟

طالب: ما فعلنا شيئًا.

كيف؟ إمام دار الهجرة، الإمام مالك، والأمر واقع، ومتى يكون مثل هذا؟ إذا كان هناك مشادة بين الأم والأب، أو طلاق، أو ما أشبه ذلك. قال أبوه: سافر، اجلب لي هذا الغرض من البلد الفلاني، قالت أمه: لا تسافر، "أطع أباك ولا تعصِ أمك"، يعني: سدّد وقارب واقنع أحدهما بتأجيل طلبه مثلاً، إلى أن يرضى الثاني، وإلا فمعروفٌ أن أمر الأم مُقدَّم على أمر الأب، إذا كانا مُتشاحنين، مُتفاصلين، وإذا كانت في ذمته، فطاعته من طاعتها؛ لأنها تبعه، هو الذي يأمر على الجميع، يأمر على الولد، ويأمر على الأم. على كل حال، كلام مالك دقيق، وبعض الناس يقول: ما فعل شيئًا، قيلت قبلك، والذي ينظر إليها بالرأي المُجرد، ما في شك أنه، أطع أباك ولا تعصِ أمك، وهما أمران متعارضان. على كل حال، يُمكن أن يُطبَّق كلام مالك على ما قاله الشارح -رحمه الله-.

"وَهَؤُلَاءِ مُوَافِقُونَ لِلسَّلَفِ وَالْأَئِمَّةِ فِي الْمَعْنَى، لَكِنَّ كَوْنَهُمْ جَعَلُوا مَا يَتْرُكُهُ الْعَبْدُ لَا يُطَاقُ؛ لِكَوْنِهِ تَارِكًا لَهُ مُشْتَغِلًا بِضِدِّهِ بِدْعَةٌ فِي الشَّرْعِ وَاللُّغَةِ. فَإِنَّ مَضْمُونَهُ أَنَّ فِعْلَ مَا لَا يَفْعَلُهُ الْعَبْدُ لَا يُطِيقُهُ!"

لا يطيقه، "فعل ما لا يفعله العبد لا يطيقه" يعني تقل له: لِمَ لا تصوم؟ يعني من النوافل مثلاً، ما صام، غربت الشمس وهو ما صام، قالوا: يدلُّ على أنه لا يطيق الصيام، هل هو صحيح؟ يُطيقه، ومن أسهل الأمور عليه أن يصوم. ما يصلي نوافل مثلاً، أو لا يعتمر نافلة ولا يحج نافلة، لماذا؟ قال: أنا والله، صعبٌ عليّ هذا، كونه صعبًا وشاقًّا على النفس التي لم تتمرن وتتعود على الطاعة، صحيح، موجود عند كثيرٍ من الناس، بعض الناس لو تكلفه أشق الأعمال ولا يصوم يومًا، وبعضهم لو تضربه ألف جلدة ما أنفق درهمًا، هذا شاقٌّ عليه. وبعض الناس يبذل الأموال الطائلة بكل سهولة، لكن يصعب عليه أن يصلي ركعتين. فكون العبادات يُسهَّل بعضها على بعض الناس، ويُشدّد بعض هذا، أمرٌ يشهد به الواقع. وعرفنا من سُهِّل له تلاوة القرآن، بحيث يجلس الساعات يقرأ القرآن، فإذا جاءت سجدة التلاوة شقّت عليه؛ لأنها من نوع الصلوات، ولا يُيسَّر له باب الصلاة، تراه موجودًا. وتنوع العبادات من نِعَم الله -جلَّ وعلا- على عباده، قد يُفتح لك باب ويُسهَّل عليك، وتصل به إلى مرضات الله، وهذا في غير الواجبات، يعني هذا الكلام في النوافل، أما الواجبات فلا بد منها. ولشيخ الإسلام -رحمه الله- رسالة في تنوّع العبادات.

وَهُمُ الْتَزَمُوا هَذَا، لِقَوْلِهِمْ: إِنَّ الطَّاقَةَ الَّتِي هِيَ الِاسْتِطَاعَةُ وَهِيَ الْقُدْرَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا مَعَ الْفِعْلِ! فَقَالُوا: كُلُّ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ فِعْلًا، فَإِنَّهُ لَا يُطِيقُهُ! وَهَذَا خِلَافُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ، وَخِلَافُ مَا عَلَيْهِ عَامَّةُ الْعُقَلَاءِ، كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ عِنْدَ ذِكْرِ الِاسْتِطَاعَةِ.

وَأَمَّا مَا لَا يَكُونُ إِلَّا مُقَارِنًا لِلْفِعْلِ، فَذَلِكَ لَيْسَ شَرْطًا فِي التَّكْلِيفِ، مَعَ أَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا هُنَاكَ إِرَادَةُ الْفِعْلِ. وَقَدْ يَحْتَجُّونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ} [سورة هود:20]. {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا} [سورة الكهف:67]. وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ إِرَادَةُ مَا سَمَّوْهُ اسْتِطَاعَةً، وَهُوَ مَا لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ الْفِعْلِ".

الآن {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ} [سورة هود:20]، هل هو خطاب عن الصُم؟ لو كان خطابًا عن الصُم، كان استدلالهم صحيحًا.

"وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ إِرَادَةُ مَا سَمَّوْهُ اسْتِطَاعَةً، وَهُوَ مَا لَا يَكُونُ إِلَّا مَعَ الْفِعْلِ، فَإِنَّ اللَّهَ ذَمَّ هَؤُلَاءِ عَلَى كَوْنِهِمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ، وَلَوْ أَرَادَ بِذَلِكَ الْمُقَارِنَ لَكَانَ جَمِيعُ الْخَلْقِ لَا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ قَبْلَ السَّمْعِ! فَلَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ هَؤُلَاءِ بِذَلِكَ مَعْنًى، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ لِبُغْضِهِمُ الْحَقَّ وَثِقَلِهِ عَلَيْهِمْ".

لا يستطيعون السمع قبل السمع، هناك أحد يستطيع السمع قبل السمع؟ تستطيع أن تسمع كلام شخص لم يتكلم بعد أصلاً؟ تستطيع أن تسمع الكلام قبل الكلام؟ كل الناس ما يستطيعون السمع بهذا التأويل الذي ذكروه.

"إِمَّا حَسَدًا لِصَاحِبِهِ، وَإِمَّا اتِّبَاعًا لِلْهَوَى لَا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ. وَمُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَا يَسْتَطِيعُ الصَّبْرَ".

قوم نوح {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} [سورة نوح:7]، لما ذُكِر، إما حسدًا لصاحبه، وإما لثقل الحق عليهم، معروف الذي يثقل عليه الشيء، يثقل عليه سماعه. وأنتم تشاهدون من يعكفون على آلات، من القنوات وغيرها، بعضهم مجرد ما يسمع الكلام يمشيه، يبغي غيره، ما يُطيق سماعه، وكلٌّ على ما أوتي، بعض الناس يثقل عليه الخير، فإذا جاء قرآن، قال: مشِّ يا ولد! إلى أن يأتي شيءٌ مما يطيقونه ويحبونه. والعكس، خيار الناس يستمعون، لا يطيقون سماع أغانٍ ولا مزامير ولا كلام فُحش، لا يسمعونه، يمشونه. فيُطبَّق على هذا، قوم نوح {جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} [سورة نوح:7] لماذا؟ لأنهم ما يُطيقون سماع هذا الكلام الحق.

"وَمُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَا يَسْتَطِيعُ الصَّبْرَ؛ لِمُخَالَفَةِ ما يراه لِظَاهِرِ الشَّرْعِ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ مِنْهُ عِلْمٌ".

لأن ما فعله صاحب موسى، الخضر، في ظاهره مُخالفٌ للشرع، خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار بعد أن رفضوا الضيافة، بعض هذا، الأمران لا إشكال في مخالفتهما لظاهر الشرع؛ لكن عنده علم من الله -جلَّ وعلا- لم يُؤتَه موسى.

"وَهَذِهِ لُغَةُ الْعَرَبِ وَسَائِرُ الْأُمَمِ، فَمَنْ يُبْغِضُ غَيْرَهُ يُقَالُ: إِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ الْإِحْسَانَ إِلَيْهِ، وَمَنْ يُحِبُّهُ يُقَالُ: إِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ عُقُوبَتَهُ؛ لِشِدَّةِ مَحَبَّتِهِ لَهُ، لَا لِعَجْزِهِ عَنْ عُقُوبَتِهِ، فَيُقَالُ ذَلِكَ لِلْمُبَالَغَةِ، كَمَا تَقُولُ: لَأَضْرِبَنَّهُ حَتَّى يَمُوتَ، وَالْمُرَادُ الضَّرْبُ الشَّدِيدُ. وَلَيْسَ هَذَا عُذْرًا، فَلَوْ لَمْ يَأْمُرِ الْعِبَادَ إِلَّا بِمَا يَهْوَوْنَهُ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [سورة المؤمنون:71]".

يقول: "وَهَذِهِ لُغَةُ الْعَرَبِ وَسَائِر الْأُمَمِ، فَمَنْ يُبْغِضُ غَيْرَهُ يُقَالُ: إِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ الْإِحْسَانَ إِلَيْهِ" كما حصل من أبي بكرٍ –رضي الله عنه- فإنه أبغض مِسطحًا، لماذا؟ لأنه وقع في الإفك، وهذا أمر لا شك أنه شديد على النفس، النفوس العادية لا تقبل مثل هذا، وزواله من القلب والنفس من أشق الأمور وأشدها. ولكن لما سمع أبو بكر كلام الله -جلَّ وعلا-: {أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [سورة النور:22]، قال: "بلى، أحب أن يغفر الله لي"، وأعاد النفقة على مسطح، وإن كان وقع في أمرٍ لا يُمكن أن يتحمله الرجل العادي.

"وَقَوْلُهُ: "وَلَا يُطِيقُونَ إِلَّا مَا كَلَّفَهُمْ بِهِ"، إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ، أَيْ: وَلَا يُطِيقُونَ إِلَّا مَا أَقْدَرَهُمْ عَلَيْهِ. وَهَذِهِ الطَّاقَةُ هِيَ الَّتِي مِنْ نَحْوِ التَّوْفِيقِ، لَا الَّتِي مِنْ جِهَةِ الصِحَة والوسع والتمكين وسلامة الآلات، و"لا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ"- دَلِيلٌ عَلَى إِثْبَاتِ الْقَدَرِ. وَقَدْ فَسَّرَهَا الشَّيْخُ بَعْدَهَا.

وَلَكِنْ فِي كَلَامِ الشَّيْخِ إِشْكَالٌ: فَإِنَّ التَّكْلِيفَ لَا يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْإِقْدَارِ، وَإِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الْأَمْرِ والنهي، وهو قَدْ قَالَ: "لَا يُكَلِّفُهُمْ إِلَّا مَا يُطِيقُونَ، وَلَا يُطِيقُونَ إِلَّا مَا كَلَّفَهُمْ". وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يَرْجِعُ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ يُطِيقُونَ فَوْقَ مَا كَلَّفَهُمْ بِهِ، لَكِنَّهُ سُبْحَانَهُ يُرِيدُ بِعِبَادِهِ الْيُسْرَ وَالتَّخْفِيفَ".

أول الأمر كلفهم بخمسين صلاة، يعني لو استمر التكليف بالخمسين صلاة، وكل صلاة تحتاج إلى عشر دقائق مثلاً، خمسين × عشر = خمسمائة دقيقة، خمسمائة دقيقة كم ساعة؟ ثمانية ونصف، يعني ثُلُث الوقت، ثُلُث الليل والنهار، معناه أنه في المقدور، ممكن. لكن من رحمته- جلَّ وعلا- أن خفف وجعل الخمسين خمسًا، والأجر أجر الخمسين.

طالب: أحسن الله إليك يا شيخ، مراجعة موسى –عليه السلام- للنبي –صلى الله عليه وسلم- عندما قال: سل ربك التخفيف؟

من خلال التجربة، موسى جرب، بني إسرائيل وجدهم ما يُطيقون مثل هذه الأعمال الشاقة، وهي شاقة مشقة نسبية. الآن وهي خمس صلوات؛ لأن النفس لا نهاية لها، "النفس إذا رُغِبَت رغبت، وإذا تُردُّ إلى قليلٍ تقنعُ". الآن حياة الناس على هذا الترف الذي يعيشونه، لو خفَّ الأمر قليلاً عن عيشهم، شقَّ عليهم. ثمَّ بعد ذلك، يخف فيشق عليهم، إلى أن يصلوا إلى حدٍ يعودون فيه إلى ما قبل خمسين وستين سنة، يعيشون على البُلغة. لكن تريد أن تقول لواحد: كل ثلاث تمرات في اليوم وكأس ماء، يرضى؟ ما يرضى. لكنه إذا ...

والنفسُ راغبةٌ إذا رغَّبتها

 

وإذا تُردُّ إلى قليلٍ تقنعُ

أيهما أقوى بدنًا؟ أبدان العُبَّاد الصالحين من كبار السن، الذين يصلون الليل والنهار، ويصومون الأيام المتتابعة، في الأيام الشديدة الحر، ويقومون الليالي الشاتية الطويلة الشديدة البرد، عندك الشباب، وثلاثون، وخمس ثلاثون، وخمسة وعشرون، يتحملون الأثقال، ومع ذلك إذا أراد أن يقوم فكأنه موثق إلى صلاة الفريضة. شخص أنا أدركته، بلغ مائة سنة، ويصلي التهجُّد على عصا، والإمام يُطيل، يقرأ جزءًا في تسليمة، وصوته ما يُشجِّع، أنا أعرفه، أعرف الإمام وصوته؛ لأن بعض الأصوات التي تُشجِّع، تنشِّط، هذا صوته ما يُشجِّع. وهذا شيخ ناهز المائة ويصلي على عصا، ويقرأ خمسة أجزاء في الليلة، في التهجُّد. في آخر تسلمية بدلاً من أن يقرأ جزءًا، نقص ورقة، لماذا؟ لأنه سمع مؤذنًا في مسجدٍ آخر، والعادة إذا أذَّن المسجد، معناه أنهم انتهوا من الصلاة، يؤذن الأول، معناه إنهم انتهوا، فخفف هذا الإمام. لما سلَّم الإمام، توجّه إليه هذا الشيخ الكبير: يا فلان، يا عبد الله، يوم جاء وقت اللزوم خففت! وشباب عندنا يصلون جالسين، وإذا طلعوا وقفوا بالشارع ساعتين أو ثلاثًا واقفين. وذُكِر في بعض المناطق، ما أريد أن أسمي المنطقة، شخص من عشرين سنة يُصلي على الكرسي، يُصلي جالسًا، ويوم العيد بالعرض، وقف ساعتين يعرض، القدرة تتبع القلب. القلب هو الذي يُحمَّل، ما هو بالبدن. إذا عوَّد الإمام المأمومين على تخفيف الصلاة، لو يزيد آية، ضاقت صدورهم. بخلاف ما لو كان عوَّدهم على التطويل، لو خفف كذلك، ضاقت صدورهم.

فمسألة الاستطاعة والقدرة، النفس راغبة، إذا رغَّبتها. كلما تفتح لها مجالًا، وأبواب الخير كثيرة ولله الحمد. واليوم تقرأ جزءًا، وغدًا تزيد ورقة، وبعده ورقة، إلى أن تجد نفسك تقرأ عشرة باليوم وأنت مرتاح. ولو تقول لبعض الناس إن فلان يقرأ عشرة، قال: مستحيل! لماذا؟ لأنه ما تعوَّد. ورأينا من يجاور، في المسجد الحرام، في العشر الأواخر، يترك أهله وماله وولده، يذهب ليجاور العشرة الأواخر، ثمَّ بعد ذلك يجلس أكثر الوقت في الحرم، ثمَّ يفتح المصحف ويقرأ له صفحة، صفحتين، ثمَّ يتلفت يبحث عن أحدٍ يتحدث معه، إذا ما جاءه أحد، قام ليبحث، لماذا؟ لأنه ما تعوَّد، ما تعوَّد القراءة، لكن لو تعوَّد، صار ديدنه القراءة في حال الرخاء، أشق ما عليه أن يرى أحدًا، يمكن أن يُشغله عن قراءته.

طالب: ...

حتى عموم الناس يقدرون.

طالب: لا يستطيع الناس أن يصلوا خمسين صلاة؟

لا، لا، لا، هو الكلام أنه ما يستطيعون ستًا، بدلاً من خمس، "ولا يُطيقون إلا ما كلفهم بهم"، يعني: زيادة على ذلك ما يطيقونه.

طالب: إذًا كلفهم بأعلى شيء؟

أعلى ما يطيقون هذا الذي كلفهم به، لا، كلامه مُنتقض بلا شك.

"كَمَا قَالَ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [سورة البقرة:185]. وَقَالَ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [سورة النساء:28]".

يعني: الحد الأدنى الذي يُدخل به، يُنال به النعيم في الجنة، وينجو به العبد من النار، هذا الذي كُلفوا به. ثمَّ ترك مجال المنافسة في الزيادة في المنازل، ترك الاختيار والحرية، ولا إثم. لكن بقدر ما تُعطي تأخذ.

"وَقَالَ تَعَالَى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [سورة النساء:28]. وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [سورة الحج:78]. فَلَوْ زَادَ فِيمَا كَلَّفَنَا بِهِ لَأَطَقْنَاهُ، وَلَكِنَّهُ تَفَضَّلَ عَلَيْنَا وَرَحِمَنَا، وَخَفَّفَ عَنَّا، وَلَمْ يَجْعَلْ علينا في الدين من حرج. ففي العبارة قلق فتأمله. وَقَوْلُهُ: "وَكُلُّ شَيْءٍ يَجْرِي بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَعِلْمِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ".

يُرِيدُ بِقَضَائِهِ الْقَضَاءَ الْكَوْنِيَّ لَا الشَّرْعِيَّ، فَإِنَّ الْقَضَاءَ يَكُونُ كونيًّا وشرعيًّا، وكذلك الإرادة وَالْأَمْرُ وَالْإِذْنُ وَالْكِتَابُ وَالْحُكْمُ وَالتَّحْرِيمُ وَالْكَلِمَاتُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ".

ثمَّ يستدل الشارح -رحمه الله تعالى- بأدلةٍ تدلُّ على الألفاظ التي أوردها، سواء كانت كونية أو شرعية.

"أَمَّا الْقَضَاءُ الْكَوْنِيُّ، فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [سورة فصلت:12].

وَالْقَضَاءُ الدِّينِيُّ الشَّرْعِيُّ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [سورة الإسراء:23].

وَأَمَّا الْإِرَادَةُ الْكَوْنِيَّةُ وَالدِّينِيَّةُ، فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا عِنْدَ قَوْلِ الشَّيْخِ: "وَلَا يَكُونُ إِلَّا مَا يُرِيدُ".

وَأَمَّا الْأَمْرُ الْكَوْنِيُّ، فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [سورة يس:82]. وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [سورة الإسراء:16]، فِي أَحَدِ الْأَقْوَالِ، وَهُوَ أَقْوَاهَا.

وَالْأَمْرُ الشَّرْعِيُّ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [سورة النحل:90] الآية".

الأمر الشرعي الذي يُرتب عليه الثواب والعقاب، فالأمر ما يُطلب، {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [سورة النحل:90]، هذه أمور مطلوبة من المُكلفين، بخلاف الكوني.

"وَقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [سورة النساء:58].

وَأَمَّا الْإِذْنُ الْكَوْنِيُّ، فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [سورة البقرة:102].

وَالْإِذْنُ الشَّرْعِيُّ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [سورة الحشر:5].

وَأَمَّا الْكِتَابُ الْكَوْنِيُّ، فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [سورة فاطر:11]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [سورة الأنبياء:105].

وَالْكِتَابُ الشَّرْعِيُّ الدِّينِيُّ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [سورة المائدة:45]. وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [سورة البقرة:183].

وَأَمَّا الْحُكْمُ الْكَوْنِيُّ، فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى عَنِ ابْنِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} [سورة يوسف:80]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [سورة الأنبياء:112]. وَالْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [سورة المائدة:1]. وَقَالَ تَعَالَى: {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} [سورة الممتحنة:10].

وَأَمَّا التَّحْرِيمُ الْكَوْنِيُّ، فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ} [سورة المائدة:26]. وقال تعالى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [سورة الأنبياء:95].

وَالتَّحْرِيمُ الشَّرْعِيُّ، فِي قَوْلِهِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ } [سورة المائدة:3]. و{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [سورة النساء:23]، الآية.

وَأَمَّا الْكَلِمَاتُ الْكَوْنِيَّةُ، فَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا} [سورة الأعراف:137]. وَفِي قَوْلِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ».

وَالْكَلِمَاتُ الشَّرْعِيَّةُ الدِّينِيَّةُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [سورة البقرة:124].

وَقَوْلُهُ: "يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ، وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ أَبَدًا"-الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنْ تَنْزِيهِ اللَّهِ نَفْسَهُ عَنْ ظُلْمِ الْعِبَادِ، يَقْتَضِي قَوْلًا وَسَطًا بَيْنَ قَوْلَيِ الْقَدَرِيَّةِ وَالْجَبْرِيَّةِ، فَلَيْسَ مَا كَانَ مِنْ بَنِي آدَمَ ظُلْمًا وَقَبِيحًا يَكُونُ مِنْهُ ظُلْمًا وَقَبِيحًا، كَمَا تَقُولُهُ الْقَدَرِيَّةُ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَنَحْوُهُمْ! فَإِنَّ ذَلِكَ تَمْثِيلٌ لِلَّهِ بِخَلْقِهِ! وَقِيَاسٌ لَهُ عَلَيْهِمْ! هُوَ الرَّبُّ الْغَنِيُّ الْقَادِرُ، وَهُمُ الْعِبَادُ الْفُقَرَاءُ الْمَقْهُورُونَ. وَلَيْسَ الظُّلْمُ عِبَارَةً عَنِ الْمُمْتَنَعِ الَّذِي لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْقُدْرَةِ، كَمَا يَقُولُهُ مَنْ يَقُولُهُ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ وَغَيْرِهِمْ، يَقُولُونَ: إنه يُمْتَنَعُ أَنْ يَكُونَ فِي الْمُمْكِنِ الْمَقْدُورِ ظُلْمٌ!"

إذا امتنع بنفسه، امتنع الظلم؛ لأنه غير مقدور له، تعالى الله عما يقولون، لم يكن لتحريمه على نفسه فائدة. هو مُمتنع، ما داعي لتحريمه.

"بَلْ كُلُّ مَا كَانَ مُمْكِنًا فَهُوَ مِنْهُ - لَوْ فَعَلَهُ - عَدْلٌ، إِذِ الظُّلْمُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ مَأْمُورٍ مِنْ غَيْرِهِ مَنْهِيٍّ، وَاللَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ. فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} [سورة طه:112]، وَقَوْلَهُ تَعَالَى: {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [سورة ق:29] وَقَوْلَهُ تَعَالَى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [سورة الزخرف:76]، وَقَوْلَهُ تَعَالَى: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [سورة الكهف:49]"

{إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [سورة النساء:40] -جلَّ وعلا-، بل تعدى الأمر، ذلك فنفى إرادة الظلم، {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ} [سورة غافر:31]، وما الله يريد، يعني: نفي إرادة الظلم، فضلاً عن نفي الظلم نفسه.

"وَقَوْلَهُ تَعَالَى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [سورة الزخرف:76]، وَقَوْلَهُ تَعَالَى: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [سورة الكهف:49]، وَقَوْلَهُ تَعَالَى: {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [سورة غافر:17] - وذلك يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِ هَذَا الْقَوْلِ.

وَمِنْهُ قَوْلُهُ الَّذِي رَوَاهُ عَنْهُ رَسُولُهُ -صلى الله عليه وسلم-: «يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فَلَا تَظَالَمُوا». فَهَذَا دَلَّ عَلَى شَيْئَيْنِ:

أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ الظُّلْمَ، وَالْمُمْتَنِعُ لَا يُوصَفُ بِذَلِكَ.

الثَّانِي: أَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ، كَمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ، وَهَذَا يُبْطِلُ احْتِجَاجَهُمْ بِأَنَّ الظُّلْمَ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ مَأْمُورٍ مَنْهِيٍّ، وَاللَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ. فَيُقَالُ لَهُمْ: هُوَ سُبْحَانَهُ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ، وَحَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ الظُّلْمَ، وَإِنَّمَا كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ وَحَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ مَا هُوَ قَادِرٌ عَلَيْهِ، لَا مَا هُوَ ممتنع عليه".

لو كتب وحرَّم المُمتنع عليه، ما صار بذلك مُستحقًا للمدح، إنما يُمدح الإنسان أو المُمتنع عن النقائص، من يقدر على فعلها. إنما هو في الأفعال الاختيارية، المدح والذم إنما هو في الأفعال الاختيارية، لا في الأمور الإجبارية. يعني: تستطيع أن تقول إن زيد أفضل من عمرو؛ لأنه أطول أو أبيض أو ...؟ لا. الموصوف بالوصف الثاني، الذي فُضِّل عليه غيره به، هل يستطيع أن يُعدِّل من وضعه شيء؟ فلهذا لا يُمدح ولا يُذَّم بهذا. والله -جلَّ وعلا- إنما حرم على نفسه ما يستطيع، وكتب على نفسه ما يستطيع، خلافًا لقولهم- تعالى الله عن قولهم علوًا كبيرًا-: حرَّم الظلم على نفسه؛ لأنه عاجزٌ عنه! هذا كلامهم. وكتب الإحسان على نفسه والرحمة على نفسه؛ لأنها تجب عليه! هذا كلام المُعتزلة!.

طالب: لا يُقال للطفل هذا!.

الحمد لله، نحمد الله على أن عافانا من هذا.

"وَأَيْضًا: فَإِنَّ قَوْلَهُ: {فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا} [سورة طه:112] - قَدْ فَسَّرَهُ السَّلَفُ، بِأَنَّ الظُّلْمَ: أَنْ تُوضَعَ عَلَيْهِ سَيِّئَاتُ غَيْرِهِ، وَالْهَضْمُ: أَنْ يُنْقَصَ مِنْ حَسَنَاتِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [سورة الإسراء:15].

وَأَيْضًا فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَخَافُ الْمُمْتَنِعَ الَّذِي لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْقُدْرَةِ حَتَّى يؤمَّنَ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُؤمَّنُ مِمَّا يُمْكِنُ، فَلَمَّا آمَنَهُ من الظلم بقوله".

الآن لو يُذكر لشخصٍ في هذا البلد مثلاً أسد مُستشري وصائل في الهند مثلاً، ما ينام؟

طالب: ينام.

لماذا؟

طالب: لأنه آمن.

آمن. لكن لما يُذكر هذا الأسد عند جيرانه مثلاً، ما جاءه النوم؛ لأنه ممكن أن يقفز الجدار أو يجد الباب مفتوحًا على غرة ويدخل، فما ينام.

"فَلَمَّا آمَنَهُ من الظلم بقوله: {فَلَا يَخَافُ} عُلِمَ أَنَّهُ مُمْكِنٌ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ. وَكَذَا قَوْلُهُ: {لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ} [سورة ق:28] إلى قوله: {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [سورة ق:28] - لَمْ يَعْنِ بِهَا نَفْيَ مَا لَا يُقْدَرُ عَلَيْهِ وَلَا يُمْكَنُ مِنْهُ، وَإِنَّمَا نَفَى مَا هُوَ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ مُمْكِنٌ، وَهُوَ أَنْ يُجْزَوْا بِغَيْرِ أَعْمَالِهِمْ. فَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ لَيْسَ اللَّهُ مُنَزَّهًا عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْأَفْعَالِ أَصْلًا، وَلَا مُقَدَّسًا عَنْ أَنْ يَفْعَلَهُ، بَلْ كُلُّ مُمْكِنٍ فَإِنَّهُ لَا يُنَزَّهُ عَنْ فِعْلِهِ، بَلْ فِعْلُهُ حَسَنٌ، وَلَا حَقِيقَةَ لِلْفِعْلِ السُّوءِ، بَلْ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ، وَالْمُمْتَنِعُ لَا حَقِيقَةَ لَهُ!!

وَالْقُرْآنُ يَدُلُّ عَلَى نَقِيضِ هَذَا الْقَوْلِ، فِي مَوَاضِعَ، نَزَّهَ اللَّهَ نَفْسَهُ فِيهَا عَنْ فِعْلِ مَا لَا يَصْلُحُ لَهُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ، فَعُلِمَ أَنَّهُ مُنَزَّهٌ مُقَدَّسٌ عَنْ فِعْلِ السُّوءِ وَالْفِعْلِ الْمَعِيبِ الْمَذْمُومِ، كَمَا أَنَّهُ مُنَزَّهٌ مُقَدَّسٌ عَنْ وَصْفِ السُّوءِ وَالْوَصْفِ الْمَعِيبِ الْمَذْمُومِ، وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} [سورة المؤمنون:115]. فَإِنَّهُ نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنْ خَلْقِ الْخَلْقِ عَبَثًا، وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ حَسِبَ ذَلِكَ، وَهَذَا فِعْلٌ. وقوله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [سورة القلم:35]. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [سورة ص:28] - إنكارٌ مِنْه عَلَى مَنْ جَوَّزَ أَنْ يُسَوِّيَ اللَّهُ بَيْنَ هَذَا وَهَذَا. وَكَذَا قَوْلُهُ: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [سورة الجاثية:21] - إِنْكَارٌ عَلَى مَنْ حَسِبَ أَنَّهُ يَفْعَلُ هَذَا، وَإِخْبَارٌ أَنَّ هَذَا حُكْمٌ سَيِّءٌ قَبِيحٌ، وَهُوَ مِمَّا يُنَزَّهُ الرَّبُّ عَنْهُ.

وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَالْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنِ النبي -صلى الله عليه وسلم-: «لو أن الله عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ أَرْضِهِ، لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ كَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ».

وَهَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا يَحْتَجُّ بِهِ الْجَبْرِيَّةُ، وَأَمَّا الْقَدَرِيَّةُ فَلَا يَتَأَتَّى عَلَى أُصُولِهِمُ الْفَاسِدَةِ!"

لأنه عند القدرية يلزمه أن يُعذِّب، ويلزمه أن يرحم. يلزمه أن يُعذِّب العاصي، ويلزمه أن يرحم المُطيع. فأوجبوا على الله بعقولهم، وإلا فالنصوص كلها ضدهم، ومنها هذا الحديث. لكن قد يتمسك الجبرية بظاهر هذا الحديث، والجواب عنه:

"وَأَمَّا الْقَدَرِيَّةُ فَلَا يَتَأَتَّى عَلَى أُصُولِهِمُ الْفَاسِدَةِ! وَلِهَذَا قَابَلُوهُ إِمَّا بِالتَّكْذِيبِ أَوْ بِالتَّأْوِيلِ!!

وَأَسْعَدُ النَّاسِ بِهِ أَهْلُ السُّنَّةِ، الَّذِينَ قَابَلُوهُ بِالتَّصْدِيقِ، وَعَلِمُوا مِنْ عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَجَلَالِهِ، قَدْرَ نِعَمِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ، وَعَدَمَ قِيَامِ الْخَلْقِ بِحُقُوقِ نِعَمِهِ عَلَيْهِمْ، إِمَّا عَجْزًا، وَإِمَّا جَهْلًا، وَإِمَّا تَفْرِيطًا وَإِضَاعَةً، وَإِمَّا تَقْصِيرًا فِي الْمَقْدُورِ مِنَ الشُّكْرِ، وَلَوْ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ. فَإِنَّ حَقَّهُ عَلَى أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْ يُطَاعَ فَلَا يُعْصَى، وَيُذْكَرَ فَلَا يُنْسَى، وَيُشْكَرَ فَلَا يُكْفَرَ، وَتَكُونَ قُوَّةُ الْحُبِّ والإنابة، والتوكُّل والخشية والمراقبة وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ: جَمِيعُهَا مُتَوَجِّهَةً إِلَيْهِ، وَمُتَعَلِّقَةً بِهِ، بحيث يكون القلب عاكفًا عَلَى مَحْبَتِه وتألهه، بَلْ عَلَى إِفْرَادِهِ بِذَلِكَ، وَاللِّسَانُ مَحْبُوسًا عَلَى ذِكْرِهِ، وَالْجَوَارِحُ وَقْفًا عَلَى طَاعَتِهِ".

وتكون هذه الأمور على أكمل الوجوه، تكون.. هذا الأصل، مقابلةً لنعمه بالشكر التام، بصرف هذه الأمور كلها له -جلَّ وعلا-.

"وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذَا مَقْدُورٌ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَكِنَّ النُّفُوسَ تَشِحُّ بِهِ، وَهِيَ فِي الشُّحِّ عَلَى مَرَاتِبَ لَا يُحْصِيهَا إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى".

لأن المراتب لا يُحصيها إلا الله تعالى، بل قد تكون بحسب أو بعدد الخلق. لأن شُح زيد يختلف عن شُح عمرو، ولو بشيءٍ يسير. وقد يشُح في هذا ويجود في هذا، والعكس من زيد. فأمورٌ لا يُحصيها إلا الله تعالى.

"وَأَكْثَرُ الْمُطِيعِينَ تَشِحُّ بِهِ نَفْسُهُ مِنْ وَجْهٍ، وَإِنْ أَتَى بِهِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. فَأَيْنَ الَّذِي لَا تَقَعُ مِنْهُ إِرَادَةٌ تُزَاحِمُ مُرَادَ اللَّهِ وَمَا يحبه منه؟ ومن ذا الَّذِي لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ خِلَافُ مَا خُلِقَ لَهُ، وَلَوْ فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ؟ فَلَوْ وضع الرب سُبْحَانَهُ عَدْلَهُ عَلَى أَهْلِ سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ، لَعَذَّبَهُمْ بِعَدْلِهِ، وَلَمْ يَكُنْ ظَالِمًا لَهُمْ.

وَغَايَةُ مَا يُقَدَّرُ، تَوْبَةُ الْعَبْدِ مِنْ ذَلِكَ وَاعْتِرَافُهُ، وَقَبُولُ التَّوْبَةِ مَحْضُ فَضْلِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَإِلَّا فَلَوْ عَذَّبَ عَبْدَهُ عَلَى جِنَايَتِهِ لَمْ يَكُنْ ظَالِمًا وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّهُ تَابَ مِنْهَا. لَكِنْ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ-  بِمُقْتَضَى فَضْلِهِ وَرَحْمَتِهِ- أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ مَنْ تَابَ، وَقَدْ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ، فَلَا يَسَعُ الْخَلَائِقَ إِلَّا رَحْمَتُهُ وَعَفْوُهُ، وَلَا يَبْلُغُ عَمَلُ أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَنْجُوَ بِهِ مِنَ النَّارِ، أَوْ يَدْخُلَ به الْجَنَّةَ، كَمَا قَالَ أَطْوَعُ النَّاسِ لِرَبِّهِ، وَأَفْضَلُهُمْ عَمَلًا، وَأَشَدُّهُمْ تَعْظِيمًا لِرَبِّهِ وَإِجْلَالًا: «لَنْ يُنْجِيَ أَحَدًا مِنْكُمْ عَمَلُهُ»، قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «وَلَا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ» وَسَأَلَهُ الصِّدِّيقُ دُعَاءً يَدْعُو بِهِ فِي صَلَاتِهِ، فَقَالَ: «قُلْ: اللَّهُمَّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْمًا كَثِيرًا، وَلَا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، فَاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ وَارْحَمْنِي، إِنَّكَ أَنْتَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ».

فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالُ الصِّدِّيقِ، الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ النَّاسِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ، فَمَا الظَّنُّ بِسِوَاهُ؟ بَلْ إِنَّمَا صَارَ صِدِّيقًا بِتَوْفِيَتِهِ هَذَا الْمَقَامَ حَقَّهُ، الَّذِي يَتَضَمَّنُ مَعْرِفَةَ رَبِّهِ، وَحَقَّهُ وَعَظَمَتَهُ، وَمَا يَنْبَغِي لَهُ، وَمَا يَسْتَحِقُّهُ عَلَى عَبْدِهِ، وَمَعْرِفَةَ تَقْصِيرِهِ. فَسُحْقًا وَبُعْدًا لِمَنْ زَعَمَ أَنَّ الْمَخْلُوقَ يَسْتَغْنِي عَنْ مَغْفِرَةِ رَبِّهِ وَلَا يَكُونُ بِهِ حَاجَةٌ إِلَيْهَا! وَلَيْسَ وَرَاءَ هَذَا الْجَهْلِ بِاللَّهِ وَحَقِّهِ غَايَةٌ!! فَإِنْ لَمْ يَتَّسِعْ فَهْمُكَ لِهَذَا، فَانْزِلْ إِلَى وَطْأَةِ النِّعَمِ، وَمَا عَلَيْهَا مِنَ الْحُقُوقِ، وَوَازِنْ بينَ شُكْرِهَا وَكُفْرِهَا، فَحِينَئِذٍ تَعْلَمُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَوْ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَرْضِهِ، لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ".

في طلب الصديق -رضي الله عنه- دعاءً يدعو به في آخر صلاته، وجواب النبي -صلى الله عليه وسلم- له بهذا الحديث، هل فيه ما يُمدح به الصدِّيق أو ما يُذم؟ النبي -صلى الله عليه وسلم- علَّمه، هو طلب دعاء، ثمَّ ليتخيَّر من المسألة ما شاء، فوجِّه إلى هذا الدعاء، وجهه النبي- صلى الله عليه وسلم-، بإني ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، وأينا لم يظلم نفسه؟ هذا كلام الصحابة. وقد يقول الإنسان: مثل هذا بالنسبة للصديق وهو أفضل الناس بعد الأنبياء والمُرسلين، فكيف بمن دونه؟ ابن المُطهِّر، يسمونه: ابن المُنجِّس، الرافضي الخبيث، في (منهاج الكرامة)، قال: "اعترافه وإقرار النبي -صلى الله عليه وسلم-، النبي -صلى الله عليه وسلم- لقنه أنه قد ظلم نفسه ظلمًا كثيرًا" فيقلبون المحاسن مساويء، كما قالوا في قول عُمَر -رضي الله تعالى عنه-: "وددت أني كنت كبشًا سمنني أهل فأكلوني" وهذا من شدة خوفه من الله -جلَّ وعلا-، مع ما قدَّم، ومع ما فعل، ومع ما بذل، ومع شهادة النبي -صلى الله عليه وسلم- له بالجنة، يقولون: ما الفرق بين هذا وبين قول الكافر يوم القيامة: {يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً} [سورة النبأ:40]، تحريف للنصوص، وتلبيس على العامة والطغَام والجُهَّال، وإلاف هذه مناقب في حقيقتها، وليست مثالب. ولكنه الهوى، وليس بأيديهم إلا الفَلَس بما يذمون به خيار الأمة، فيتشبثون بمثل هذه التأويلات. {وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} [سورة الحشر:10]، وعادة هؤلاء وديدنهم وشأنهم ذم السلف وسب السلف، نسأل الله العافية.

اللهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد -صلى الله عليه وسلم-.

"