شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح - كتاب الاعتكاف - 06

 

المقدم:

 

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله مُحمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد، فالسلام عليكم ورحمته وبركاته، وأهلاً ومرحبًا بكم مستمعينا الكرام إلى هذا اللقاء الجديد، أرحب بكم، كما أرحب بضيفنا في هذه اللقاءات معالي الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخُضير- وفقهُ الله- عضو هيئة كبار العُلماء، وعضو اللجنة الدائمة للإفتاء، فمرحبًا بكم معالي الشيخ وأهلًا وسهلًا.

حياكم الله وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين.

المقدم: ولا يزال الكلام موصولاً مستمعينا الكرام في حديث عائشة زوج النبي -صلى الله عليه وسلم، ورضي عنها-: أن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان يعتكفُ العشر الأواخر من رمضان حتى توفاهُ الله، ثم اعتكف أزواجُهُ من بعده.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:

فتقدم الكلام في الحلقة السابقة، في حكم الاعتكاف في رحبة المسجد، وهل هي منه أو خارجًا عنه، وتبعًا لذلك الحكم في صحة الاعتكاف فيه.

يقول في المصباح" رحبة المسجد الساحة المنبسطة، الساحة المنبسطة قيل: بسكون الحاء رحبة، والجمع رحاب، مثل كلبة وكلاب، التنظير ولو كان في الوزن الكلام متعلق بمسجد، والتنظير مثل كلبة وكلاب، لا يمكن أن يوجد كلمة غير هذه الكلمة أفضل منها لتناسب المنظّر والمشبّه، لكن قصدهم الوزن فقط.

وقيل: بالفتح وهو أكثر رحَبة، والجمع رَحَبٌ ورحبات، من القصبة وقصب وقصبات، وعلى هذا المنظومة في الفرائض المعروفة بالرحْبية أو الرحَبية؟ على القولين، فمن سكّن لا يُثرب عليه، والأكثر أنها بالفتح.

والرَّحبة: البقعة المتسعة بين أفنية القوم بالوجهين، يعني تقال بالوجهين، تقال بالسكون وتقال بالفتح وهو أكثر، وجمعها عند ابن الأعرابي رُحب مثل قرية وقرى، وبهذا الكلام نكون انتهينا من الكلام على شيء من أحكام الاعتكاف التي تشترك فيها الأحاديث اللاحقة.

ذكر حديث الباب حديث عائشة- رضي الله عنها-، أن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله تعالى، ثم اعتكف أزواجه من بعده. قوله: يقول ابن حجر: قوله فيه حتى توفاه الله ثم اعتكف أزواجه من بعده، يؤخذ من هذا أن هذا الحكم لم يُنسخ؛ لأنه حتى توفاه الله، مادام توفاه الله وهو لم يرد ما يرفع هذا الحكم، فالنسخ انتهي بوفاته- عليه الصلاة والسلام-، وليس من الخصائص؛ لأنه اعتكف أزواجه من بعده.

وأما قول ابن نافع عن مالك فكّرت في الاعتكاف وترك الصحابة له، مع شدة اتباعهم للأثر فوقع في نفسي أنه كالوصال، فأراهم تركوه لشدته ولم يبلغني عن أحد من السلف أنه اعتكف إلا عن أبي بكر بن عبد الرحمن، وكأنه أراد صفة مخصوصة، وإلا فقد حكيناه عن غير واحد من الصحابة، يعني ما عُرف عن أحد من السلف إلا عن أبي بكر بن عبد الرحمن، وهو من الفقهاء السبعة المعروفين.

قال ابن حجر: وكأنه أراد صفة مخصوصة، وإلا فقد حكيناه عن غير واحد من الصحابة، ومازالت الأمة وخيارها يعتكفون من الصدر الأول إلى يومنا هذا، لكن كثيرًا من الناس لا يعتكف لشدته؛ لأنه مخالف للمألوف، الناس ألفوا في حياتهم أشياء، يصعب عليهم أن يتركوها، فهو شاق على النفوس، ويسير على من يسره الله عليه.

ومن كلام مالك أخذ بعض أصحابه أن الاعتكاف جائز، وأنكر ذلك عليهم ابن العربي وقال إنه سنة مؤكدة، وكذا قال ابن بطال في مواظبة النبي- صلى الله عليه وسلم- ما يدل على تأكده.

قال أبو داود عن أحمد: لا أعلم عن أحد من العلماء، خلافًا أنه مسنون. وقال العيني: وفيه استحباب الاعتكاف في العشر الأواخر من شهر رمضان، وهو مجمع عليه، استحبابًا مؤكدًا في حق الرجال، واختلف العلماء في النساء.

قال النووي: وفي هذا الحديث دليل لصحة اعتكاف النساء؛ لأنه- صلى الله عليه وسلم- كان أذن لهن، ولكن عند أبي حنيفة إنما يصح اعتكاف المرأة في مسجد بيتها، وهو الموضع المهيأ في بيتها لصلاتها، قال: ولا يجوز للرجل في مسجد بيته، ومذهب أبي حنيفة قول قديم للشافعي ضعيف عند أصحابه، أنها تعتكف في مسجد بيتها.

الله- جل وعلا- يقول {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}[البقرة: 187] هذا وإن سمي مسجد عرفًا، وهو ليس بمسجد شرعي، بدليل أنه يصح بيعه مع البيت، ولما تثبت له أحكام المسجد بحيث يجوز لها أن تمكث فيه وهي حائض أو جنب.

ولهذا الحديث خرجه الإمام البخاري في خمسة مواضع:-

الأول: هذا الموضع المشروح في كتاب الاعتكاف في باب الاعتكاف في العشر الأواخر والاعتكاف في المساجد كلها؛ لقوله تعالى {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}[البقرة: 187]

قال: -رحمه الله-: حدثنا عبد الله بن يوسف قال: حدثني الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة- رضي الله عنها- زوج النبي- صلى الله عليه وسلم- أن النبي- صلى الله عليه وسلم- كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده، وسبق الكلام على الترجمة ومناسبة الحديث لها، والكلام عن الحديث وبعض أحكام الاعتكاف.

قال: ابن حجر: قوله عن ابن شهاب زاد معمر فيه عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيِّب عن أبي هريرة، وخالفه الليث عن الزهري فقال: عن عروة عن عائشة موصولاً وعن سعيد مرسل.

الموضع الثاني: في كتاب الاعتكاف أيضًا، في باب اعتكاف النساء، قال: -رحمه الله- حدثنا أبو النعمان قال: حدثنا حماد بن زيد قال: حدثنا يحيي عن عمرة عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: كان النبي- صلى الله عليه وسلم- يعتكف في العشر الأواخر من رمضان، فكنت أضرب له خباءً فيصلي الصبح ثم يدخله، فاستأذنت حفصةُ عائشةَ أن تضرب خباء فأذنت لها، فضربت خباءً فلما رأته زينب بنت جحش ضربت خِباءً آخر.

فلما أصبح النبي- صلى الله عليه وسلم- رأى الأخبية فقال: ما هذا؟ فأُخبر فقال النبي- صلى الله عليه وسلم- آلبرَّ ترون بهن؟ وفي بعض الروايات على ما سيأتي: آلبر يردن؟ آلبرَّ ترون بهن؟  فترك الاعتكاف ذلك الشهر، ثم اعتكف عشرًا من شوال، والمناسبة ظاهرة اعتكاف النساء، وأذن للنساء أن يعتكفن معه، فبهذا الإذن يؤخذ الجواز، مع أن البخاري أطلق باب اعتكاف النساء.

فإذنه لهن يدل على الجواز، وخروجه وتركه الاعتكاف من أجلهن، قد يؤخذ منه العدول عن ذلك الجواز.

قال ابن حجر: قوله: باب اعتكاف النساء، أي ما حكمه؟ وقد أطلق الشافعي كراهته لهن في المسجد الذي تُصلى فيه الجماعة، واحتج بحديث الباب، فإنه دال على كراهة الاعتكاف للمرأة إلا في مسجد بيتها؛ لأنها تتعرض لكثرة من يراها.

 وقال ابن عبد البر: لولا أن ابن عيينة زاد في الحديث، في حديث الباب أنهن استأذنّ النبي- صلى الله عليه وسلم- في الاعتكاف، لقطعت بأن اعتكاف المرأة في مسجد الجماعة غير جائز انتهي، كل هذا احتياطًا وصيانة للمرأة، عن أن ترى الرجال أو يرونها، كما قالت عائشة- رضي الله عنها-: خير للمرأة لا ترى الرجال ولا يرونها.

قال- جل وعلا-:  {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 32] هذا الأصل بالنسبة للمرأة، وشرَط الحنفية لصحة اعتكاف المرأة أن تكون في مسجد بيتها، في رواية لهم أنّ لها الاعتكاف مع زوجها، ولها الاعتكاف في المسجد مع زوجها؛ لأنه محرم لها يمنعها ويمنع من أرادها.

وفي راوية لهم أن لها الاعتكاف في المسجد مع زوجها وبه قال أحمد.

 قوله: كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأواخر من رمضان فكنت أضرب له خباءً أي بكسر المعجمة ثم الموحدة، وسيأتي التعبير بالقُبة.

وقوله: "فيصلي الصبح ثم يدخله" يدخل هذا الخباء، وفي رواية ابن فضيل عن يحيي بن سعيد الآتية في باب الاعتكاف في شوال: كان يعتكف في كل رمضان، فإذا صلى الغداة دخل، استُدِل بهذا على أن مبدأ الاعتكاف من أول النهار، وسيأتي نقل الخلاف فيه، إن شاء الله تعالى.

قوله: فاستأذنت حفصة عائشة أن تضرب لها خباءً، أولاً الذي ضرب خباء النبي- عليه الصلاة والسلام- عائشة، ثم إن حفصة بنت عمر استأذنت ضرتها عائشة أن تضرب خباءً، وفي رواية الأوزاعي المذكورة: فاستأذنته عائشة فأذن لها، وسألت حفصة عائشة أن تستأذن لها ففعلت، وفي رواية ابن فضيل المذكورة: فاستأذنت عائشة أن تعتكف، فأذن لها فضربت قبة فسمعت بها حفصة فضربت قبة، زاد في رواية عمرو بن الحارث: لتعتكف معه، وهذا يُشعر بأنها فعلت ذلك بغير إذن، ولكن رواية ابن عيينة عند النسائي: ثم استأذنته حفصة فأذن لها، وقد ظهر من رواية حماد والأوزاعي أن ذلك كان على لسان عائشة.

قوله: فلما رأته..

المقدم: لو أذنتم لنا أن نتوقف عند هذا الحد يا شيخ؛ لانتهاء وقت هذه الحلقة، نسأل الله- عز وجل- أن يجزيك عنا خيرًا، وأن ينفعنا بما نعلم من سنة نبينا محمد- صلى الله عليه وسلم-، أيها الإخوة المستمعون الكرام في ختام هذه الحلقة أتقدم بالشكر الجزيل لفضيلة الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير، وفقه الله، عضو هيئة كبار العلماء، وعضو اللجنة الدائمة للإفتاء، فشكر الله لمعاليه ولكم أنتم مستمعينا الكرام، نلقاكم بإذن الله تعالى وأنتم بخير وعلى خير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.