شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (204)

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أيها الإخوة والأخوات مستمعينا الكرام في كل مكان، سلام الله عليكم ورحمة وبركاته، طابت أوقاتكم بكل خير، وأهلًا بكم إلى حلقة جديدة في شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، مع مطلع حلقتنا يسرنا نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور: عبد الكريم بن عبد الله الخضير، فأهلًا ومرحبًا بكم فضيلة الدكتور.

حياكم الله، وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين.

المقدم: لازلنا في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- في باب كتابة العلم، كانت المسألة الأخيرة التي توقفنا عندها في آخر الحلقة الماضية حول اجتهاد النبي -صلى الله عليه وسلم- وعدنا المستمعين أن نستكمل هذا الموضوع، أحسن الله إليكم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد،

 فهذه المسألة فيها خلاف طويل بين أهل العلم، وسببه ما جاء من النصوص مما يدل على أنه يجتهد، هناك حوادث وقضايا دلت على أنه اجتهد؛ فمنها ما أقر، ومنها ما عوتب عليه كقضية أسرى بدر، ولأمره -عليه الصلاة والسلام- باستشارة أصحابه {وشاورهم في الأمر} [آل عمران:159]، فدل على أن للاجتهاد مدخلًا، لكنه اجتهاد معصوم واجتهاد إذا وقع مقر من قبل الله -جل وعلا-، لا أنه اجتهاد كاجتهاد غيره من الأئمة؛ لأنه إذا قلنا: إن الرسول -عليه الصلاة والسلام- له أن يجتهد، وقرر ذلك جمع من أهل العلم فلا يعنون بذلك أن اجتهاده -عليه الصلاة والسلام- كاجتهاد غيره من البشر، إلا في المواضع التي يكون فيها الاجتهاد تشريعًا، معنى ذلك أنه إذا اجتهد في حكم مسألة شرعية فلا بد أن يصيب في هذا الاجتهاد، وهو مؤيد بالوحي، وإن كان اجتهاده خلاف الأولى نُبه على ذلك، كما في أسرى بدر، وإلا فالأصل الإصابة، اجتهاد غيره قابل بأن يكون صوابًا، وأن يكون خطأً؛ لأنه ليس بمعصوم من جهة، ولا مؤيد بوحي، فيختلف اجتهاده- عليه الصلاة والسلام- عن اجتهاد غيره، اجتهاده في القضاء مثلًا اجتهاده في الفتية لا يحتمل الخطأ، لكن اجتهاده في القضاء مثلًا..

المقدم: يحتمل.

يحتمل لماذا؟

المقدم: نص عليه -عليه الصلاة والسلام-.

لأنه نص عليه، ولأنه..

المقدم: إنما أقضي لكم بما أرى.

على نحو ما أسمع.

المقدم: نعم «لعل أحدكم يكون ألحن بحجته من أخيه».

نعم، لماذا لا يقال: إنه في قضائه أيضًا يؤيد بالوحي؟ ليكون أسوة وقدوة للقضاة، ليحكموا على نحو ما يسمعون، وأن يعملوا بالبينات، والإصابة بيد الله -جل وعلا-، فما عليه إلا أن يجتهد وينشد الحق، ثم بعد ذلك إذا خرجت النتيجة على خلاف الواقع صارت خطأً فهو مأجور على كل حال، فهو -عليه الصلاة والسلام- يحكم ويقضي بين الناس باعتباره مشرعًا للقضاة.

ابن قدامه في روضة الناظر يقول: يجوز أن يكون النبي -عليه الصلاة والسلام- متعبدًا بالاجتهاد فيما لا نص فيه، وأنكر ذلك قوم؛ لأنه قادر على استكشاف الحكم بالوحي الصريح، ولأن قوله نص قاطع، والظن يتطرق إليه احتمال الخطأ، فهما متضادتان، يقول: يجوز أن يكون النبي -صلى الله عليه وسلم- متعبدًا بالاجتهاد فيما لا نص فيه، يعني القضايا التي حصلت منه -عليه الصلاة والسلام- في مثل «إلا الإذخر» مثلًا، و«لأبد الأبد» كما جاء في الحج وسيأتي ذكره أيضًا، «ولو قلت: نعم لوجبت».

 المقصود أن هناك ما يستدل به من يرى هذا القول، وهي أدلة فيها قوة، وأنكر ذلك قومٌ حجتهم أنه قادر على استكشاف الحكم بالوحي الصريح، يعني لا داعي للاجتهاد، متى يلجأ إلى الاجتهاد؟ متى يلجأ العلماء إلى الاجتهاد؟ إذا لم يجدوا في المسألة نصًّا، العالم يحتاج إلى حكم هذه المسألة، قد يجد فيها النص، فيكتفي به، قد لا يجد النص، وهو موجود بالفعل، لكن قصر عنه، أو غير موجود، فيحتاج إلى الاجتهاد، فالحاجة إلى الاجتهاد حينما لا يمكن النص الصريح، والنبي-عليه الصلاة والسلام- بإمكانه قادر على استكشاف الحكم بالوحي الصريح، هذه حجة من يقول إنه لا يجتهد -عليه الصلاة والسلام-، ليس له أن يجتهد، قالوا: ولأن قوله نص قاطع، والظن يتطرق إليه احتمال الخطأ، وهما متضادتان.

 يعني الرسول -صلى الله عليه وسلم- حينما يقول: «بل لأبد»، نعم، «ولو قلت نعم لوجبت»، هذا النص قاطع ملزم لكل من سمعه، قطعي، لاسيما من يسمعه منه -عليه الصلاة والسلام- مباشرة، أو يثبت عنده بأدلة، أو بطرق تفيد العلم، هذا قاطع، والاجتهاد منه -عليه الصلاة والسلام- لو قلنا إنه قال هذا باجتهاده، الاجتهاد قابل لأن يكون صوابًا وأن يكون خطأً، فهو ظن، فهو حكم بالظن، فإذا قلنا إن قوله نص قاطع وهو يحكم بالاجتهاد، النص القاطع قطعي، والاجتهاد ظني، فيحصل ماذا؟ التضاد.

يقول ابن قدامه: "ولنا" يعني لنا من الأدلة أنه ليس بمحال في ذاته، يعني كما قال الرازي سابقًا أنه...

المقدم: قد يكون...

ممكن، أنه ليس بمحال في ذاته، ولا يفضي إلى محال ولا مفسدة، ولأن الاجتهاد طريق لأمته، وقد ذكرنا أنه يشاركهم فيما ثبت لهم من الأحكام، وقولهم: قادر على الاستكشاف، قلنا: فإذا استكشف فقيل له: حكمنا عليك أن تجتهد، يعني إذا ورد عليه سؤال ما عنده جواب -عليه الصلاة والسلام- فانتظر الوحي، فجاء الوحي بقوله: حكمنا عليك أن تجتهد، فهل له أن ينازع الله تعالى فيه؟ ليس له ذلك، لكن هذا الكلام يُحس منه شيء من التكلف فيه ركاكة، وقولهم: إن قوله نص، قلنا: إذا قيل له ظنك علامة الحكم، فهو يستيقن الظن والحكم جميعًا، فلا يحتمل الخطأ، وهذا أيضًا كلام العقل المعول في هذه المسألة على النصوص، أما كونه ليس بمحال أو جائز عقلًا، أو لا يجوز عقلًا فالمسألة مسألة تشريع، وهي كبرى أيضًا من مسائل الأصول العامة، فكونها ليست بمحال أو يجوز عقلًا، هو ليس بمحال بلا شك؛ لأنه جاء من الأدلة ما يؤيده، لا لأننا نستدل على عدم استحالته بمثل هذا الكلام.

 ومنع القدرية هذا وقالوا: إن وافق الصلاح في البعض فيمتنع أن يوافق الجميع، وهو باطل بأنه لا يبعد أن يلقي الله تعالى في اجتهاد رسوله -صلى الله عليه وسلم- ما فيه صلاح عباده.

وأما وقوع ذلك فاختلف أصحابنا فيه، يعني مثل كلام الرازي أجازوه عقلًا، لكن وقوعه..

المقدم: ما وقع.

هذا كلامهم، اختلفوا فيه، واختلف أصحاب الشافعي فيهم أيضًا الذين منهم الرازي، وأنكره أكثر المتكلمين لماذا؟ لقول الله -جل وعلا-: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى*إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}[النجم:3،4] الآية ظاهرة في الدلالة على أن ما ينطق به أنه وحي، {مَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} يعني لو جئنا مثلاً لهذه الآية والتي بعدها، هل تناقض اجتهاد النبي -عليه الصلاة والسلام- وتعارضه؟ الظاهر نعم؛ لأنه ما ينطق أبدًا، ما يلفظ بكلام..

المقدم: إلا بالوحي.

إلا بالوحي، لكن كونه ينطق بكلام صواب موافق للوحي، هذا ليس بهوى، وإقراره من قبل الله -جل وعلا-، الإقرار دليل على الإصابة، فكونه بوحي،  مثلًا لو أردنا التنظير، الأذان ثبت برؤية، برؤية عبد الله بن زيد، لكن هل الرؤيا دليل شرعي؟

المقدم: أبدًا.

من أين اكتسبت الحجية؟ من إقرار النبي -عليه الصلاة والسلام- واجتهاد النبي -عليه الصلاة والسلام- من أين اكتسب مثل هذا؟

المقدم: من الإقرار والوحي.

من إقرار الله -جل وعلا-، ويأتي في كلامه مع العلم ما يؤيد هذا، ولو كان مأمورًا به لأجاب عن كل واقعة، ولما انتظر الوحي، النبي-عليه الصلاة والسلام- قد يُسأل فيسكت ثم ينزل عليه الوحي، قد يُسأل فيسكت فينزل عليه الوحي، ومن أهل العلم من يقول: إن هذا السكوت لتربية من يفتي بعده، فلا يتعجل بالجواب، خلافًا لما نلحظه على بعض من يتصدى لإفتاء الناس ويأخذ السؤال قبل أن يتم فيجيب عليه، يقول: هذا السكوت في النصوص كثير، يُسأل فيسكت، فمنهم من يقول: إنه ينتظر الوحي، لاسيما في القضايا التي نزل فيها وحي، ومنهم من يقول: إن هذا للتربية والتعليم... وليقتدي به من يفتي بعده -عليه الصلاة والسلام-.

ولو كان مأمورًا به، يعني بالاجتهاد الذي أجاب عن كل واقعة ولما انتظر الوحي، ولنقل ذلك واستفاض، ولأنه كان يختلف اجتهاده بسبب تغير الرأي، يعني لو أذن له بالاجتهاد لاجتهد في هذه المسألة بحسب ما توفر له من قرائن في وقتها، ثم حكم بحكم آخر في وقت آخر لتغير.. لوجود قرائن أخرى، وهذا ما يسبب تغير الرأي، وأحكامه -عليه الصلاة والسلام- مطردة، بخلاف أحكام غيره من أهل العلم، يحصل فيها تغير للاجتهاد، يحكم في هذه المسألة اليوم بأنها جائزة، وقد يحكم بعد مدة أنها غير جائزة؛ لأنه تغير الاجتهاد، ظهر له ما لم يظهر له سابقًا.

يقول ابن قدامه: ولنا قوله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ}[الحشر:2] وهو عام؛ يعني له ولغيره، ولأنه عوتب في أسارى بدر، ولو حكم بالنص لما عوتب، يعني مسألة الأسارى هذه من أقوى أدلة من يقول بأن له أن يجتهد، ولو حكم بالنص لما عوتب، ولما قال في مكة: «لا يختلى خلاها قال العباس: إلا الإذخر؟ فقال: إلا الإذخر»، ولما سُئل عن الحج «ألعامنا هذا أم للأبد فقال: للأبد، ولو قلت: لعام لوجبت»، مع أن سياق المؤلف الحديث فيه ما فيه، ولما نزل ببدر للحرب قال له الحباب: إن كان بوحي فسمعًا وطاعة، وإن كان باجتهاد فليس هذا هو الرأي، فقال: باجتهاد، ورحل، لكن توخي الأماكن هل هي مسألة شرعية تتوقف على وحي أم اجتهاد؟

المقدم: لا، ولذلك ما يستدلون بحديث تأبير النخل، لماذا يا شيخ على هذا الاعتبار؟

باعتبار أنه من أمور الدنيا.

المقدم: مثل اعتبار موقفه.

المنزل هنا، ولما أراد صلح الأحزاب على شطر تمر نخل المدينة، وكتب بعض الكتاب بذلك، جاء سعد بن معاذ وسعد بن عبادة، فقال له مقالة الحباب، يعني هل هذا بوحي أم باجتهاد؟ قال: بوحي أم باجتهاد؟ فقال: بل هو رأي رأيته لكم، فقال: ليس ذلك برأي، فرجع إلى قولهم، ونقض رأيه، هذا الحديث بمعناه رواه البزار والطبراني، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: إنه حديث حسن، وعلى كل حال هو مثل منزله في معركة بدر، ولأن داود وسليمان -عليهما السلام- حكما بالاجتهاد بدليل قوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ}[الأنبياء:79]، ولو حكم بالنص لم يخص سليمان بالتفهيم، يعني لو كان داود حكم بنص، وسليمان حكم بنص، وهى قضية واحدة، التنصيص على أن سليمان هو الذي فهم، فُهِّم هذه الصواب في هذه المسألة دل على أنه اجتهد، وأبوه من قبله اجتهد، وإلا فلمَ خُصَّ بالتفهيم؟ ولو لم يكن الحكم بالاجتهاد جائزًا لما مدحهم الله تعالى بقوله: {وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا}[الأنبياء:79].

وأما انتظار الوحي فلعله حيث لم ينقدح له اجتهاد أو حكم لا يدخله الاجتهاد، كونه -عليه الصلاة والسلام- ينتظر الوحي لا ينفي كونه يجتهد؛ لأن بعض المسائل أو جل المسائل دليلها الوحي، وقد يجتهد، يعني الذين يقولون إنه يجتهد، ما يقول إنه الأصل عنده الاجتهاد، الأصل الوحي، لكن له أن يجتهد بدليل ما حصل من الوقائع التي تدل على اجتهاده وما دام اجتهاده مؤيدًا بالوحي ومقرًّا من قبل الله -جل وعلا-، فلو حكم الوحي وحيه إذًا لن يكون عن هوى، وحاشاه -عليه الصلاة والسلام- أن ينطق بالهوى.

المقدم: لكن الذين نفوا الاجتهاد يا شيخ، هل نفوه؟ ما يظهر لي أنهم نفوا خوفًا من هذه القضية، الهوى، الذين نفوا لا ينفونه لهذا.

لا يظن بهم هذا، لكن عندهم الآية، ما ينطق، ما يلفظ بأي كلام، ما يلفظ بأي لفظ عن الهوى.

المقدم: وعندهم وقائع كان اجتهاده -عليه الصلاة والسلام- مرفوضًا. يعني جاء الوحي برفض هذا الاجتهاد، مما يدل على أنه لا يمكن أن يجتهد، فإذا اجتهد فلا بد أن يصوَّب اجتهاده.

وجود التصويب دليل على وقوع الاجتهاد.

المقدم: لكنه لا يقر على أي اجتهاد يمكن.

هذا الكلام في مسألة الإقرار ما يقر، لاسيما إذا كان اجتهاده خلاف الأولى مثل ما حصل في قصة أسرى بدر، وأما انتظار الوحي فلعله حيث لم ينقدح له اجتهاد، أو حكم لا يدخله الاجتهاد، وأما الاستفاضة فلعله لم يطلع عليه الناس، أما الاستفاضة هذه فلقلة المسائل التي اجتهد فيها، هم يقولون: لو كان له أن يجتهد لاستفاض، كونه لم يستفض لا ينفي أن يوجد وقائع يسيرة اجتهد فيها -عليه الصلاة والسلام-، وأما التهمة بتغير الرأي فلا تعويل عليه، التهمة بتغير الرأي فلا تعويل عليه، لماذا؟ لأنه ليس كغيره من المجتهدين، هو مؤيد بالوحي، وإذا حصل منه ما هو على خلاف الأولى يُصوَّب، وأما التهمة بتغير الرأي فلا تعويل عليه فقد اتهم بسبب النسخ ولم يبطله، وعورض بأنه لو لم يتعبد بالاجتهاد لفاته ثواب المجتهد، يعني المجتهد أليس له ثواب؟

المقدم: بلى.

له ثواب عظيم، لكن لو قلنا: النبي -عليه الصلاة والسلام- ليس له أن يجتهد، فاته ثواب المجتهدين، لكن للقائلين بالقول الآخر أن ثوابه على النبوة والرسالة والتبليغ وحمل الأعباء أعظم بكثير من مجرد الاجتهاد. في تفسير القرطبي قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}[النجم:3،4]  فيه مسألتان الأولى: قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى}[النجم:3] قال قتادة: وما ينطق بالقرآن عن هواه، يعني هذا التأويل يؤيد وقوع الاجتهاد أم ما يؤيد؟

المقدم: بلى.

يؤيد، قال: وما ينطق بالقرآن عن هواه إن هو، يعني القرآن، إلا وحي يوحي، يعني إليه، وقيل: الهوى أي بالهوى، قاله أبو عبيد قوله تعالى: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا}[الفرقان:59]، أي فاسأل عنه، قال النحاس: قول قتادة أولى، وتكون عن على بابها أي ما يخرج نطقه عن رأيه، يعني ما ينطق به ما يخرج، إنما ما هو بوحي من الله -عز وجل-؛ لأن بعده {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}.

 المسألة الثانية: قد يحتج بهذه الآية، كما يقول القرطبي: قد يحتج بهذه الآية من لا يجوز لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- الاجتهاد في الحوادث، وفيها أيضًا دلالة على أن السنة كالوحي، كالوحي المنزل في العمل، وقد تقدم في مقدمة الكتاب حديث المقدام بن معد يكرب فيه ذلك والحمد لله، الحديث الذي أشار إليه رواه أبو داود عن المقدام بن معد يكرب عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال «ألا وإني قد أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته، يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع، ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها، ومن نزل بقوم فعليهم أن يقروه، فإن لم يقروه فله أن يعقبهم بمثل قراه».

الخلاصة، أن المسألة الخلاف فيها ظاهر، وأدلة القول بأن له أن يجتهد -عليه الصلاة والسلام- دل عليها بعض القضايا، وما استدل به من منع اجتهاد النبي -عليه الصلاة والسلام- الآية، وعرفنا الجواب عن الآية وما أجاب به من قال بالمنع عن هذه القضايا والحوادث، ولكل رأيه، والذي يظهر من بعد استعراض، أنه -عليه الصلاة والسلام-، له أن يجتهد -عليه الصلاة والسلام-، وهو مؤيد بالوحي، وإذا كان اجتهاده خلاف الأولى، ينبه عليه.

المقدم: من الوحي.

نعم من الوحي، كما في قصة أسرى بدر.

المقدم: ما يكون هذا مدخلًا لبعض المشككين أو بعض المنتسبين مع كل أسف إلى العلم الشرعي بدؤوا يقدحون في بعض الأحاديث ويقول: هذا تخضع لرأيه -صلى الله عليه وسلم- وأنه يجتهد.

هو يجتهد وهو معصوم ومؤيد بوحي، ولو حصل منهم ما يخالف الواقع نبه عليه، إذًا لا مدخل.

المقدم: هم مدخلهم الآن أشياء كثيرة أصبحوا يدخلونها في هذا الباب حتى توصل الأمر إلا أن مثلًا النبي-صلى الله عليه وسلم- لا دعوى له بالطب، فإذا قال مثلًا عن العسل: «اسقه العسل واستطلق بطنك» قال هذا مما تلقاه -عليه الصلاة والسلام- من الطب عند العرب، وأي شيء يثبت في مسألة مثل نهيه عن أكل لحم البقر، ثم الإذن به، كل هذا من خصوصياته العربية -عليه الصلاة والسلام- لا دعوة لها بالوحي اطلاقًا.

كونه يأمر «اسقه» هذا أمر، والأمر تكليف، ولا يمكن أن يكلف النبي -عليه الصلاة والسلام- بغير حكم شرعي، لاسيما إذا أقر ولم يعاتب عليه، الذي قاله بعضهم: «كنت أردت أن أنهى عن الغيلة، فإذا فارس الروم يغيلون فلا يضيرهم»، كتب بعض المغرضين وبعض المشككين، قال: إن الثقافة الدينية، تأثرت بثقافة الفرس والروم، قالوا هذا الكلام.

المقدم: هذا صحيح، وكثير من المستشرقين قال هذا، نقلوه عن غوستاف لوبون وغيره.

نعم لكن بعض من ينتسب من بني جلدتنا كتبوا في الصحف مثل هذا الكلام.

المقدم: نعم صحيح.

لكن هذا الكلام باطل، لماذا؟ العرب يتأثرون بالغيلة بلا شك، فأراد النبي -عليه الصلاة والسلام- أن ينهاهم عنها؛ لأنهم يتأثرون، لكن هل رسالة النبي -عليه الصلاة والسلام- إلى العرب خاصة؟ إلى الثقلين الجن والأنس، فإذا كان جل الناس وغالب الناس لا يتأثرون، ما يصدر حكم شرعي من أجل حفنة من الناس ليسوا بشيء بالنسبة لغيرهم، يبقى أن من لا يتأثر وهم غالب الناس يفعلونه، ولا ينهى عن شيء الغالب لا يتأثر به، إنما يبقى من يتأثر تشمله نصوص أخرى، هناك نصوص تنفي الضرر، فيدخلون هؤلاء الذين يتأثرون بالنصوص العامة، ويبقى أن الحكم على الجواز ما فيه إشكال؛ لأن جل الناس لا يتأثر، ظاهر أم ليس بظاهر؟

المقدم: ظاهر.

لأن رسالة النبي-عليه الصلاة والسلام-...

المقدم: عامة.

عامة، فكونه يتأثر بعض الناس، بعض الناس يتأثر من أكل التمر، بعض الناس يتأثر من شرب اللبن، ينهى عن اللبن والتمر؟

المقدم: أبدًا.

أبدًا، لكن الذي يؤثر فيه يضره التمر يمنع، لكن.. ما يجوز لك أن تأكل تمرًا، والذي يضره شرب اللبن لا تشرب لبنًا، ويبقى أن الحكم العام الجواز.

المقدم: صحيح.

هذا الحديث خرجه الإمام البخاري في ثلاثة مواضع:

 الأول: هنا في كتاب العلم، في باب كتابة العلم، قال -رحمه الله-: حدثنا أبو نعيم الفضل بن دُكين قال: حدثنا شيبان عن يحيى عن أبي سلمة عن أبي هريرة: «أن خزاعة قتلوا رجلًا من بني ليث عام فتح مكة، بقتيل منهم قتلوه، فأخبر بذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- فركب راحلته فخطب، فقال: إن الله حبس عن مكة الفيل إلى آخره» وسبق ذكر المناسبة.

 الموضع الثاني: في كتاب اللقطة، باب كيف تعرف لقطة أهل الحرم، قال -رحمه الله-: حدثنا يحيي بن موسى قال: حدثنا الوليد بن مسلم قال: حدثنا الأوزاعي، قال: حدثنا يحيى بن أبي كثير قال: حدثنا أبو سلمة بن عبد الرحمن قال: حدثني أبو هريرة -رضي الله عنه-: «لما فتح الله على رسوله -صلى الله عليه وسلم- مكة» فذكر الحديث، المناسبة ظاهرة، وفيه: «وَلَا تُلْتَقَطُ سَاقِطَتُهَا إِلَّا لِمُنْشِدٍ».

 والموضع الثالث: في كتاب الديات، في باب من قتل له قتيل، فهو بخير النظرين، قال -رحمه الله تعالى-: حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا شيبان عن يحيى عن أبي سلمة عن أبي هريرة: «أن خزاعة قتلوا رجلًا» وقال عبيد الله بن رجاء: حدثنا حرب عن يحيى قال: حدثنا أبو سلمة، قال: حدثنا أبو هريرة «أنه عام فتح مكة قتلت خزاعة رجلًا من بني ليث ، بقتيل لهم في الجاهلية، فقام رسول الله-صلى الله عليه وسلم- فقال: إن الله حبس عن مكة الفيل» الحديث، والمناسبة ظاهرة.

المقدم: وهو في مسلم؟ أين الحديث؟

الحديث في البخاري هذا.

المقدم: لا، أقول هو في مسلم أيضًا متفق عليه.

 حديث متفق عليه، ومعلوم أن في خطبته الشهيرة بحجته -عليه الصلاة والسلام- أن دماء الجاهلية كلها موضوعة.

المقدم: أحسن الله عليكم ونفع بعلمكم. أيها الإخوة والأخوات بهذا نصل وإياكم لختام هذه الحلقة لقاؤنا يتجدد بكم بإذن الله في الحلقة القادمة، وأنتم على خير، شكرًا لكم.

 والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.