شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (208)

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أيها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلاً بكم إلى حلقة جديدة في شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح للإمام الزبيدي -رحمه الله-، مع مطلع هذه الحلقة يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور عبدالكريم بن عبد الله الخضير، فأهلاً ومرحبًا بكم فضيلة الدكتور.

حياكم الله، وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين.

المقدم: لازلنا  في حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- توقفنا عند مسألة ساقها الخطابي -رحمه الله- في تصحيح لحديث «اختلاف أمتي رحمة»، ساق مجموعة من الأقوال حول الموضوع، نستكمل ما تبقي من هذا الموضوعـ أحسن الله إليك.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، في كلام الخطابي واعتماده على الحديث «اختلاف أمتي رحمة»، اعتمد عليه فيما قرره، وذكر -رحمه الله- أنه اعترض عليه رجلان، وهذا تقدم الكلام فيه، أحدهما مغموس عليه في دينه، وهو الجاحظ.

المقدم: والثاني مغنٍ.

والثاني معروٌف بالسخف والخلاعة في مذهبه إسحاق بن إبراهيم الموصلي، ماذا قال؟ ماذا قال في اعتراضهما؟

المقدم: كل واحد وجَّه اعتراضه لما يخدم مذهبه، وتوجه في الظاهر على الأقل.

نعم، كلاهما ضعف الحديث.

المقدم: نعم، وأوردنا إشكالاً في الحلقة الماضية كيف يضعفان الحديث وهو في مصلحتهما؟

يخدمهم.

المقدم: نعم يخدمهما لو صح.

لو صح يخدمهما من وجه، لكن..

المقدم: لكن تضعيفه يخدمهم من وجه آخر.

نعم، يخدمهم أنهم هم الذين على الحق، ومن عداهم على الباطل، وأن الاختلاف لا يسوء، وما ذهب إليه من اجتهاد في مسائل محسومة من قبل السلف، لاسيما الجاحظ ويأتي بعض أقواله فيما يتعلق بهذا  الحديث على وجه الخصوص، يقول في معرض كلامه على الموصلي الثاني يقول: فإنه لما وضع كتابه في الأغاني وأمعن في تلك الأباطيل لم يرض بما تزوده من إثمها، حتى صدر كتابه بذم أصحاب الحديث، والحطْب عليهم، وزعم أنهم يروون ما لا يدرون، وذكر بأنهم رووا هذا الحديث، يعني نصب نفسه إمامًا من أئمة الحديث، وطعن في أهل الحديث؛ لأنهم رووا هذا الحديث، الحديث لا شك في ضعفه، وقد يكون قائل: كيف يروي أئمة الحديث مثل هذا الحديث، علماء الحديث يروون في كتبهم، لاسيما من لم يشترط الصحة، وهذا موجود في السنن والمسانيد والجوامع وغيرها، موجود، يروون الأحاديث الضعيفة، لكن مع بيان أسانيدها وعصورهم عصور رواية، فإذا سمع الإسناد عرف الضعف، ويُكتفى بهذا في وقتهم، يكفي أن يروى الحديث بإسناده؛ ليعرف بأنه صحيح أو ضعيف في عصور الرواية، هذا يكفي بعد هذا العصر بعد عصور الرواية، وضعفت معرفة الناس برجال الحديث والرواة لا بد أن يبين، والعلماء ذكروا الأحاديث الضعيفة، بل ذكروا الأحاديث الموضوعة، وبينوا أنها ضعيفة، وبينوا بالنسبة للموضوع أنها موضوعات، فما قصروا، ولا يلحقهم في ذلك أدني لوم، بل هم حراس السنة، وهم الذابون عنها، وهم حماتها، وقد قيضهم الله- جل وعلا- لحفظ السنة، لحفظ الدين، فكيف يجرأ مثل هذا الذي لا علاقة له بهذا العلم ولا دراية له ولا خبرة، بل هو على النقيض من علمهم وعملهم؟

لا شك أن الحديث الذي ذكره الخطابي ضعيف، بل حكم بعضهم بوضعه، قال الخطابي بعد ذلك: فإن قيل: كيف يجوز أن يكون الاختلاف خيرًا من الاتفاق، ولو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق عذابًا، وليس إسناد الحديث الذي رويتموه بذاك، هذا الكلام أصله من تمام الخطابي، لكن من كلام من اعترض عليه.

المقدم: ثم ساقهما.

ثم ساقهم، قيل: أما وجه ما ذكرناه من أن الله تعالى لو نص على كل حدث من الأحداث، تقدم الكلام فيه.

المقدم: صحيح، وأورد اعتراض الأول والثاني.

نعم، أورد الاعتراضين، يلينا الآن الذي يهمنا الأول فصلنا فيه الكلام في الحلقة السابقة، الاعتراض الثاني أنه لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق عذابًا، هذا يذكره على لسان إسحاق الموصلي، أنه قال: ثم قال لو كان الاختلاف رحمة لكان الاتفاق عذابًا، يقول: ثم تكايس وتعاقل فأدخل نفسه في جملة العلماء وشاركهم في تفسيره وتأويله، وإنما كان الاختلاف رحمة ما دام رسوله..،  فقال (يعني هذا إسحاق الموصلي): وإنما كان الاختلاف رحمة ما دام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حيًّا بين ظهرانيهم.

المقدم: وهذا ذكرناه أيضًا في الحلقة..

نعم، مذكور، فإنهم إذا اختلفوا سألوه فأجابهم وبين لهم ما اختلفوا فيه، ليس فيما يختلفون بعده، وزعم أنهم لا يعرفون وجوه الأحاديث ومعانيها، فيتأولونها على غير جهاتها، يعني بعد وفاته -عليه الصلاة والسلام-، يعني إذا كان الأئمة والعلماء لا يعرفون تأويل الأحاديث فمن يعرفها؟

ثم قال الخطابي: والجواب عما ألزمانا (يعني الاثنين) من ذلك يقال لهما إن الشيء وضده قد يجتمعان، يعني المقرر عند أهل العلم أن الضدين لا يجتمعان، بل يرتفعان، ممكن أن يرتفعا، لا يجتمعان إذا اتحدت الجهة، لكن إذا انفكت الجهة يجتمعان، {فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ} [سورة الحج 4]، الضلال والهداية يمكن أن يجتمعا؟ وعُطفا ونُسقا معًا، لكن من جهة يضله عن الصراط المستقيم، ويهديه إلى عذاب السعير، فما فيه اجتماع ضدين، ومثله ما عندنا يقال لهما: إن الشيء وضده يجتمعان في الحكمة، ويتفقان في المصلحة، ألا ترى أن الموت لم يكن فسادًا، وإن كانت الحياة صلاحًا، ولم يكن السقم سفهًا، وإن كانت الصحة حكمة، ولا الفقر خطأً، وإن كان الغنى صوابًا، يريد أن يقرر أنه قد يكون الشيء صالحًا من جهة، فاسدًا من جهة، حكمة من جهة، سفهًا من جهة، حكمة لبعض الناس سفهًا لبعض الناس.

 فالفقر لبعض الناس والغنى لبعض الناس، الصحة لبعض الناس والمرض لبعض الناس، ولم يكن السقم سفهًا وإن كان الصحة حكمةً، ولا الفقر خطأً وإن كان الغنى صوابًا، وكذلك الحركة والسكون، والليل والنهار، وما أشبهها من الأضداد، وقد قال سبحانه: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ}[القصص:73] فسمى الليل رحمة، فهل أوجب أن يكون النهار عذابًا؟ من لازم قوله: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ}[القصص:73]  هل من لازم ذلك أن يكون النهار عذابًا؟

المقدم: أبدًا.

لا، فهل أوجب أن يكون النهار عذابًا من قبل أنه ضده، وفي هذا بيان خطأ ما ادعاه هؤلاء، ولله الحمد، وأما قول إسحاق وتأويله الحديث على أن المراد بهذا الاختلاف هو ما كان في أيام حياة رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فإن هذا تأويل فاسد، ولو كان الأمر على ما زعمه لكان قد عُدم بيان أمور الدين بعد موته- صلى الله عليه وسلم-، ولكانت الأمة قد ضلت بعد خروجه من الدنيا عند الاختلاف فيما بينهم، وهذا باطل؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- كان مبعوثًا إلى آخر نسمة من أمته تُخلق في آخر الزمان، كما كان مبعوثًا إلى أهل زمانه وعصره، فلم يترك شيئًا مما كان  حدث وجاز أن يحدث أنه سيحدث إلا أودعه بيانًا يُعلم به حُكمه، جاء ما هو أبعد من ذلك، جاء ما يدل على أن بعض المبلغين أوعى من بعض ما سمع، نعم ليس هذا هو الأصل لقوله "رب"، ورب للتقليل «رب مبلغ أوعى من سامع» ومقتضى كلامهم أنه بعد وفاته -عليه الصلاة والسلام- الناس لا يفهمون، هذا كلامٌ باطل.

إلا أن البيان -يقول الخطابي-: على ضربين جلي واضح، وهو ما يُتلى أو يُروى بالنص على اسم الشيء والتوقيت فيه، وخفي غامض، وهو ما يستنبط من طريق التفهم، والقياس له على نظيره وشكله، وكل ذلك مفروغ من بيانه، والحمد لله على ذلك، نعم باقٍ لعلماء الأمة اجتهاد، وبقي لهم نظر في النصوص ومعانيها وما تدل عليه؛ لتعظم أجورهم، وإلا لو كان العلم كله يستوي فيه الكبير والصغير والغبي والذكي، ما صار للعلم مزية.

 الخلاصة أن الحديث لم يصح، والخلاف حصل بين الصحابة، «اختلاف أمتي رحمة»، لم يصح هذا الحديث، لكن الخلاف حصل بين الصحابة -رضوان الله عليهم-، ومن بعدهم من سلف هذه الأمة وأئمتها، والحكمة الإلهية تقتضيه لتعظم الأجور للمجتهدين، فماذا عن قول الله -جل وعلا-: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}[هود: 118-119]، الصحابة اختلفوا، وفقهاء الأمصار من خيار هذه الأمة اختلفوا، فماذا عن قول الله -جل وعلا-: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}، يقول القرطبي في تفسيره ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، قال سعيد بن جبير: على ملة الإسلام وحدها، وقال الضحاك: أهل دين واحد، أهل ضلالة أو أهل هدى، كلهم إما هذا وإما هذا، ولا يزالون مختلفين أي على أديان شتى، فإذا اختلفوا على أديان شتى مختلفة متفاوتة متباينة، هؤلاء ليسوا في رحمة، بدليل أن الاستثناء لمن رحم ربك من هؤلاء المختلفين، فدل على أن هؤلاء المختلفين ليسوا في رحمة، وهذا الاختلاف في الملل، أو إن شئت فقل: في المسائل المعروفة من الدين بالضرورة، أو المسائل التي اتفق عليه سلف هذا الأمة في المسائل التي لا يسوغ فيها الخلاف عمومًا، أما ما يسوغ فيه خلاف، وتحتمله الأدلة فهذا موجود في عصر الصحابة ومن بعدهم، حتى اختلفوا في عهده -عليه الصلاة والسلام- وصوب لهم.

 {ولا يزالون مختلفين} أي على أديان شتى، قاله المجاهد وقتادة: {إلا من رحم ربك} استثناء منقطع أي لكن من رحم ربك بالإيمان والهدى فإنه لم يختلف، {ولذلك خلقهم}، قال الحسن ومقاتل وعطاء: الإشارة للاختلاف، {ولذلك خلقهم} يعني للاختلاف، يعني أن هذا من طبيعة الإنسان، يعني خلقه فيهم، يعني أوجده فيهم، يعني من طبعهم الاختلاف، لماذا؟ لأن مفاهيمهم متباينة.

المقدم: وليس خلّقهم من أجل أن يختلفوا.

لا، ليست الحكمة من خلقهم أن يختلفوا، الحكمة من خلق الجن والإنس تحقيق العبودية، لكن هذا الواقع هذا واقعهم تبعًا لما ركب الله فيهم من تباين في الأفهام، قال الحسن ومقاتل وعطاء: الإشارة للاختلاف أي وللاختلاف خلقهم، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك: ولرحمته خلقهم، وإنما قال: ولذلك، ولم يقل: ولتلك، والرحمة مؤنثة؛ لأنه مصدر، وأيضًا فإن تأنيث الرحمة غير حقيقي، يشار إليه إذا كان غير حقيقي يشار إليه بالمذكر، فحملت على معنى الفضل، وقيل: الإشارة بذلك للاختلاف والرحمة، وقد يشار بذلك إلى شيئين متضادين، الإشارة بذلك ولذلك خلقهم للاختلاف والرحمة، خلق من أراد الله به خيرًا للرحمة والائتلاف، وخلق من أراد بهم غير ذلك للاختلاف في الملل، لا فيما يسوغ فيه الاجتهاد؛ لئلا يقال: إن كل مخالف مخلوق لغير الرحمة، لا.

 وقد يشار بذلك الأصل في الإشارة بذلك للمفرد المذكر، والمؤنثة تلك، والمثنى ذلكما، والجمع ذلكم وذلكن، وقد يشار بذلك إلى شيئين متضادين، كقول الله -جل وعلا-: {لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ}[البقرة:68]، ولم يقل: بين ذينك ولا تينك، وقال: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا}[الفرقان:67] وقال: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا} [الإسراء:110].

وكذلك قوله: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس:58]، وهذا أحسن الأقوال، إن شاء الله تعالى لأنه يعم، هذا كلام القرطبي، انتهى.

إذا عرفنا أن الاختلاف المذموم إنما هو في اختلاف الأديان، اختلاف الأديان، إن الدين عند الله فقط الإسلام، {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} [سورة آل عمران 19]، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [سورة آل عمران 85].

إذا عرفنا أن الاختلاف المذموم في هذه الآية إنما هو الاختلاف في الأديان وهذا مما يسوغه الجاحظ، يجيز الاختلاف في الأديان الجاحظ، في روضة الناظر قال عن الجاحظ: زعم الجاحظ أن مخالف ملة الإسلام إذا نظر فعجز عن دَرَك الحق فهو معذور غير آثم، يعني لليهودي أن يجتهد، للنصراني أن يجتهد، لغيرهما أن يجتهد، فإذا أداه اجتهاده إلى أن ما عليه هو الحق معذور غير آثم، وهذا قولٌ باطل يقينًا، يقول ابن قدامة: وهذا باطل يقينًا وكفرٌ بالله تعالى.

المقدم: كيف يضعف الحديث إذا؟ يعني غريب جدًّا لو صحّح الحديث لنفعه.

كيف؟ لا، ليبين أنه هو الذي على الحق وما عداه على الباطل.

المقدم: لكن إذا قرر أن اليهودي لو اجتهد فهو على صواب، فما بالك أن ينفي اجتهاد غيره؟

من هو أقرب؟

المقدم: نعم.

على كل حال قوله باطل يقينًا، وكفر بالله تعالى؛ لأن من شك في كفر من كفره الله -جل وعلا- فهو كافر، فكيف بمن سوّغ له ما هو عليه، وكفر بالله تعالى ورد عليه وعلى رسوله -صلى الله عليه وسلم-؟ فإننا نعلم قطعًا أن النبي -عليه الصلاة والسلام- أمر اليهود والنصارى بالإسلام واتباعه، وذمهم على إصرارهم، وقاتل جميعهم، وقتل البالغ منهم، ونعلم أن المعاند العارف مما يقل، وإنما الأكثر مقلدة، اعتقدوا دين آبائهم تقليدًا، ولم يعرفوا معجزة الرسول -صلى الله عليه وسلم- وصدقه إلى آخر كلامه.

 وأما الاختلاف في الفروع إذا عرفنا أن الاختلاف في الأصول المتفق عليها لا يسوغ، فماذا عن الفروع؟ أما في الفروع فقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى- في مختصر الفتاوى المصرية الأئمة اجتماعهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة، لكن لا يجوز أن يترتب على مثل هذا الاختلاف كما قال شيخ الإسلام فرقة ولا تنازع وتهاجر، لا يجوز أن يرتب على هذا الاختلاف السائغ بين الأئمة فرقة ولا تنازع ولا تهاجر، وهذا قد يحصل من بعض الأتباع شيء بسبب غلوّهم وتعصّبهم لمتبوعيهم، فشيخ الإسلام يقول: لا يجوز أن يترتب على مثل هذا الاختلاف فرقة ولا تنازع ولا تهاجر، نعم من عرف أنه يخالف الدليل عن إصرار مع علمه به، وعدم تأويله له مثل هذا لا شك أنه آثم.

 وأيضًا ينبغي أن يناصح إن انتصح وإلا يغلظ عليه ويهجر؛ لأنه عن إصرار، أما إذا كان عن اجتهاد، وله وجهة نظر، وقوله له حظ من النظر، فمثل هذا لا يجوز أن يفضي إلى القطيعة والتهاجر.

 وقال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى: الاختلاف في الأحكام أكثر من أن ينضبط، ولو كان كل ما اختلف مسلمان في شيء تهاجرا لم يبق بين المسلمين عصمة ولا أخوة. وقال -رحمه الله-: يستحب للرجل أن يقصد إلى تأليف القلوب ولو بترك المستحبات، يقصد إلى تأليف القلوب؛ لأن مصلحة التأليف في الدين أعظم من مصلحة فعل هذا، لاسيما إذا لم يمكنه أن يسر بها، بعض المستحبات، المستحبات عمومًا حث الشرع عليها، لكن إذا أدى فعل هذه المستحبات إلى فرقة وتنازع وخصام وشق عصا وما أشبه ذلك تترك، يقول شيخ الإسلام: يستحب للرجل أن يقصد إلى تأليف القلوب ولو بترك المستحبات؛ لأن مصلحة التأليف في الدين أعظم من مصلحة فعل هذا، كما ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- تغيير بناء الكعبة؛ لما رأى في إبقائه من تأليف القلوب، يعني في الحديث: «لولا حدثان قومكِ بكفرٍ لهدمت الكعبة وجعلتها على قواعد إبراهيم وجعلت لها بابين..»  إلى آخره، كما ترك النبي -صلى الله عليه وسلم- تغيير بناء الكعبة لما رأى في إبقائه من تأليف القلوب، وكما أنكر  عبد الله بن مسعود على عثمان بن عفان إتمام الصلاة في السفر، ثم صلى خلفه متمًّا وقال: الخلاف شر، لكن ينبغي أن يتنبه لمثل هذا أنه ليس كل خلاف يوافق عليه صاحبه، يعني الخلاف في مفضول وفاضل يترك الرأي من أجل اتحاد القلوب.

المقدم: الذي يسمونه الشاذ يا شيخ.

الخلاف الشاذ لا عبرة به، وأيضًا الخلاف الذي لا حظ له من نظر لا يوافق صاحبه عليه، ولا يعني هذا أننا لا نناقش من خالف، بل نتبعه من أجل الائتلاف، ولا نناقشه؛ ابن مسعود أنكر على عثمان -رضي الله عنه.

المقدم: صلى أربع في منى.

نعم صلى أربعًا مسافرًا، أنكر عليه، ومع ذلك صلى وراءه معللًا ذلك بأن الخلاف شر، وتجاوز شيخ الإسلام- رحمه الله-.

المقدم: لكن إن أذنت يا شيخ في هذه المسألة هو ليس إنكار ابن مسعود؛ لأنه مسافر، وإنما لأنه في مني، أظن المسألة تختلف أم لا يا شيخ، اختلافًا كبيرًا.

المقصود أنه عند ابن مسعود أن القصر أفضل.

المقدم: لكن ليس لعلة السفر ذاتها.

لكن ما يلزم، يمكن للسفر، لماذا قصروا إلا من أجل السفر.

المقدم: لأن في منى القصر ليس للسفر فقط؛ لأنه يقصر حتى أهل مكة معهم.

هذه المسألة خلافية، جماهير أهل العلم على خلاف هذا، جمهور أهل العلم على خلافه ما قال إنه نسك إلا قليل من أهل العلم.

المقدم: القصر.

القصر من أجل السفر، وتجاوز شيخ الإسلام -رحمه الله تعالى- ذلك إلى أن أفتى بأن كل حكم مثير للفتن مفرق للجماعة يجب نقضه، وإن صدر عن قاض أو أمير؛ وذلك لأن الاعتصام بالجماعة والائتلاف من أصول هذا الدين، هذا قرره شيخ الإسلام في الفتاوى، أفتى بأن كل حكم مثير للفتن مفرق للجماعة يجب نقضه وإن صدر عن قاض أو أمير.

 على كل حال الأحكام متفاوتة، والآثار المترتبة عليها متفاوتة، فإن ترتب على ترك المستحب أدنى نقص أو أدنى خلل أو أدنى شقاق أو نزاع يترك، لكن ترك الواجب إذا أدى إلى فعله منكر أعظم من الترك، نعم ترك الواجب منكر يجب إنكاره، لكن متى؟ إذا لم يترتب عليه منكر أعظم منه، ولذا يقول شيخ الإسلام: كل حكم مثير للفتن مفرق للجماعة- هذه مصيبة هذه- يجب نقضه وإن صدر عن قاضٍ أو أمير، هذا إن كان صدر عنهم عن اجتهاد، هذا أمر مفروغ منه، لكن إذا صدر عنه بناءً على نص، وحصل بسببه فتنة وفرقة، وقد اعتمد على نص، يُنقض أم ما ينقض؟ قلنا إن نقضه منكر، وترك العمل به منكر، لكن ننظر فيما يترتب عليه هو، هو أعظم من تركه أو لا؟ يعني هل مثل ذا كلام شيخ الإسلام ما يفتح بابًا من كل حكم صدَر من قاضٍ أو أمير أنه ينقض لمجرد توهم وقوع فتنة أو اختلاف؟

 لا، إذا كانت الفتنة والاختلاف والفرقة والنزاع محققة، والضرر المترتب عليه أعظم من الضرر المترتب على ترك مثل هذا الحكم، فلابد أن تنزل المسائل منازلها، وتفهم على وجهها، وإلا فقد يقول قائل: هذا كلام شيخ الإسلام، ونحن نخشى أن يحصل كذا، لا، هذا لا دخل له في هذه المسألة، إذا كانت الفرقة وتفرقة الجماعة وإثارة الفتن متحققة أو محققة حينئذ قد يلجأ إلى القول، وإن كان مرجوحًا وينقض القول، وإن كان راجحًا؛ درءًا للمفسدة العظمي، وتحصيلًا للمصلحة، وهذا جارٍ على القواعد عند أهل العلم، من المتمم لكلام شيخ الإسلام -رحمه الله- مراجعة كلامه -رحمة الله عليه- في رفع الملام عن الأئمة الأعلام؛ لبيان أسباب اختلاف العلماء، لأن من لا يدرك سبب الخلاف قد يقع في أهل العلم، الذي لا يدرك أسباب الاختلاف قد يقع فيهم، لاسيما من عامة الناس، وكانت العامة لا يطلعون على الاختلاف، ولا يدرون، ماشيين على قاعدة البينة وطريق واحد، وإن كان في بعض ما يفتون به أشياء مرجوحة، لكنهم ما عندهم أقوال أخرى، ولذلك ليس عندهم أدنى شك ولا تردد في قبول القول.

لكن الآن أُطلِعوا على الأقوال فلا بد تبعًا لذلك أن يُطلعوا على أسباب الاختلاف؛ لئلا ينسبوا هذا الاختلاف وهذا الاضطراب إلى الدين نفسه، يسمع أحيانًا بعض العامة يقول: الدين تغير؛ لماذا لأنهم وجدوا من اجتهادات بعض العلماء ما يخالف اجتهاد العلماء الذين أدركوهم في السابق، كانوا على وتيرة واحدة وماشيين على مذهب معين، ثم بعد ذلك انتشرت الأقوال، وأشيعت بين العامة، لا بد أن يطلع هؤلاء العامة على أسباب الاختلاف ومنشأه؛ لئلا ينسب هذا الخلل إلى الدين نفسه.

المقدم: أحسن الله إليكم، ونفع بعلمكم، لعلنا نستكمل بإذن الله ما تبقى في حلقة قادمة، وأنتم على خير. أيها الإخوة والأخوات، بهذا نصل وإياكم إلى ختام هذه الحلقة من شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح، شكرًا لطيب متابعتكم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.