شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (277)

المُقَدِّم: بسم الله الرحمن الرحيم.

 الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه أجمعين، أيُّها الإخوة والأخوات، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلًا بكم إلى حلقة جديدة في برنامجكم "شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح".

مع بداية هذه الحلقة يسرنا أن نرحب بصاحب الفضيلة الشيخ الدكتور/عبد الكريم بن عبد الله الخضير، فأهلًا ومرحبًا بكم فضيلة الشيخ.

حياكم الله، وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين.

المُقَدِّم: لازلنا في الحديث ابن عباس- رضي الله عنهما- في صفة وضوء النبي- صلى الله عليه وسلم-، توقفنا عند قوله: «فتمضمض بها واستنشق» كانت لفظة «واستنشق» هي آخر ما تعرضنا له في الحلقة الماضية، نستكمل أحسن الله إليكم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أمَّا بعد.

فما زلنا في المضمضة والاستنشاق في شرح النووي على مسلم يقول: تستحب المبالغة في المضمضة والاستنشاق إلا أن يكون صائمًا، فيكره ذلك؛ لحديث لقيط بن صبرة أنَّ النبي- عليه الصلاة والسلام- قال: «وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا»، يقول: وهو حديث صحيح رواه أبو داود والترمذي وغيرهما بالأسانيد الصحيحة، قال الترمذي: هو حديث حسن صحيح.

الذي في الحديث «بالغ في الاستنشاق» ما فيه بالغ في المضمضة، مع أن النووي يقول: يستحب المبالغة في المضمضة والاستنشاق إلا أن يكون صائمًا، الصائم الآن لا يُبالغ في الاستنشاق للنص، لا يُبالغ في الاستنشاق، الصائم لا يُبالغ في الاستنشاق، لماذا؟

المُقَدِّم: لورود النص.

نعم، لكن لماذا لم يقل: وبالغ في المضمضة والاستنشاق؟ وكلاهما مسلك، مدخل إلى الجوف.

المُقَدِّم: ما فيه لفظ: وبالغ في المضمضة والاستنشاق؟

لا، «وبالغ في الاستنشاق» هذا كلام النووي: يستحب المبالغة في المضمضة والاستنشاق إلا أن يكون صائمًا، الذي في حديث لقيط بن صبرة: «وبالغ في الاستنشاق»؛ ولذا هل نقول للصائم: بالغ في المضمضة أو لا تبالغ؟ أنت منهي عن المبالغة في الاستنشاق.

المُقَدِّم: المضمضة من باب أولى، إذا كان منفذًا.

أن لا يبالغ؟

المُقَدِّم: نعم، إذا كان منفذ الأنف وهو أقل خطورة من منفذ الفم، ومع ذلك...

يعني هو المنفذ الأصلي.

المُقَدِّم: نعم.

فيكون في المبالغة في المضمضة.

المُقَدِّم: من باب أولى.

من باب أولى، أو نقول: إنَّ للصائم أن يبالغ في المضمضة دون الاستنشاق؟

لا تقول، لا، لا تجزم، لماذا؟ لأنَّ الأنف لا يُتحكم فيه، منفذ لا يُمكن التحكم فيه، بينما الفم ممكن التحكم فيه، لو بالغت ممكن أن تتحكم ما يمضي شيء، فهل نقول بهذا، أو نقول نقتصر على ما ورد فيه النص؟ «بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا»، وتستمر المبالغة في المضمضة ولو كنت صائمًا؛ لأنَّ الفم حجرة يمكن التحكم فيه.

المُقَدِّم: أكثر تحكمًا.

يمكن التحكم فيها بخلاف الأنف، الأنف مفتوح باستمرار وليس له غلق، بخلاف الفم، وعلى كل حال المسألة محتملة، فمن قال: إنَّ الصائم لا يُبالغ في المضمضة باعتبار أنَّ الفم هو المنفذ الأصلي، فيكون من باب أولى، ومن قال: إنَّه يُبالغ قال: لأنَّه يمكن التحكم فيه.

قال أصحابنا- يقول النووي-، قال أصحابنا يعني؟

المُقَدِّم: الشافعية.

الشافعية، وعلى أي صفة وصل الماء إلى الفم والأنف حصلت المضمضة والاستنشاق على أي وجه كان، يعني لو أخذت بكأس ماء وأدخلت من فمك.. شيئًا في فمك..

المُقَدِّم: حصلت المضمضة.

حصلت المضمضة، لو أخذت بيدك أو بيديك، حصلت المضمضة، لكن في الأفضل خمسة أوجه، يقول النووي: يكون في الأفضل خمسة أوجه.

الأول: يتمضمض ويستنشق بثلاث غرفات يتمضمض من كل غرفة واحدة ثم يستنشق منها، يجمع بين المضمضة والاستنشاق بغرفة واحدة، ثم يكررها ثلاثًا.

والوجه الثاني: يجمع بينهما بغرفة واحدة يتمضمض منها ثلاثًا ثم يستنشق منها ثلاثًا، من الغرفة الواحدة، هذا يُمكن؟

المُقَدِّم: ممكن.

غرفة واحدة يتمضمض منها ثلاث مرات، ويستنشق ثلاث مرات؟

المُقَدِّم: حصل هذا يا شيخ.

يعني هذا في اليد المتوسطة ممكن وإلا فيحتاج ليد كبيرة؟

المُقَدِّم: بلا شك اليد الكبيرة.

على كل حال هذا وجه، والوجه الثالث: يجمع أيضًا بغرفة ولكن يتمضمض منها ثم يستنشق ثم يتمضمض منها ثم يستنشق ثم إلى آخره. في الأولى يتمضمض منها ثلاثًا مرة واحدة، ينتهي من المضمضة دفعة واحدة، ثم يستنشق فيفرغ من الاستنشاق ثلاثًا، الوجه الثالث يجمع بينهما بغرفة كالسابقة، ولكن يتمضمض منها يستنشق ثم يتمضمض ثم يستنشق ثم يتمضمض ثم يستنشق.

والرابع، الوجه الرابع: يفصل بينهما بغرفتين، يعني الوجه الأول ثلاث غرفات، ويتمضمض ويستنشق من كل غرفة، الوجه الرابع يفصل بينهما بغرفتين، فيتمضمض من إحداهما ثلاثًا ويستنشق من الأخرى ثلاثًا.

والخامس، الوجه الخامس: يفصل بست غرفات، يأخذ ثلاث غرفات للمضمضة، وثلاث غرفات للاستنشاق، يتمضمض بثلاث غرفات ثم يستنشق بثلاث غرفات، والصحيح الوجه الأول، يأخذ غرفة يتمضمض منها ويستنشق، ثم ثانية كذلك، ثم ثالثة كذلك، وبه جاءت الأحاديث الصحيحة في البخاري ومسلم وغيرهما، وأمَّا حديث الفصل فضعيف، فيتعين المصير إلى الجمع بثلاث غرفات كما ذكرنا؛ لحديث عبد الله بن زيد وغيره، واتفقوا على أنَّ المضمضة على كل قول مقدمة على الاستنشاق، وعلى كل صفة، وهل هو تقديم استحباب أو اشتراط؟ يعني هل يشترط أن أقدم المضمضة على الاستنشاق؟ فيجب الترتيب في مثل هذا أو لا يجب؟

يقول: واتفقوا على أنَّ المضمضة على كل قول مقدمة على الاستنشاق، وعلى كل صفة، وهل هو تقديم استحباب أو اشتراط؟ فيه وجهان، أظهرهما اشتراط؛ لاختلاف العضوين، والثاني استحباب كتقديم يده اليمنى على اليسرى، والله أعلم.

الآن هما جزآن من عضو واحد، نعم.

المُقَدِّم: نعم.

هما جزآن من عضو واحد، يعني لو قدم خده الأيسر على الأيمن، يصح أم ما يصح؟

المُقَدِّم: يصح.

يصح؛ لأنَّه عضو واحد، وكذلك ما في محيطه داخل في هذا العضو، فيصح تقديم إحداهما على الأخرى، وهنا يقول النووي: وهل هو تقديم استحباب أو اشتراط؟ يعني تقديم المضمضة على الاستنشاق، يقول: فيه وجهان، أظهرهما اشتراط؛ لاختلاف العضوين، والثاني: استحباب كتقديم يده اليمنى على اليسرى، والله أعلم.

 حتى إذا قلنا تقديم اشتراط، هل نقول: إنَّه اشتراط لصحة الوضوء، أو لتحقق هذه السُّنَّة؟ ماذا نقول؟

المُقَدِّم: الذي يظهر الثاني.

الثاني، وكلٌّ على مذهبه هل المضمضة والاستنشاق واجبة أو سُنَّة؟ على ما سيأتي بيانه، كل على مذهبه، وإن قلنا: إنَّه اشتراط، قلنا: لتحقق هذه السُّنَّة، لا نقول لصحة الوضوء أو بطلانه.

في شرح الكرماني: واختلفوا فيهما على أربعة مذاهب: اختلفوا يعني في حكم المضمضة والاستنشاق على أربعة مذاهب:

مذهب الإمام مالك والإمام الشافعي أنَّهما ُسنَّتان في الوضوء والغسل، والمشهور عند الإمام أحمد أنَّهما واجبتان فيهما، سُنتان في الوضوء والغسل هذا عند مالك والشافعي، وعند أحمد واجبتان في الوضوء والغسل.

ومذهب الإمام أبي حنيفة واجبتان في الغسل دون الوضوء، يعني هو يوافق الإمام أحمد..

المُقَدِّم: من جهة.

في الغسل، ويوافق مالكًا والشافعي في الوضوء، ومذهب داود الظاهري أنَّ الاستنشاق واجب في الوضوء والغسل، والمضمضة سُنة فيهما.

لا شك أنَّ الوارد في الاستنشاق...

المُقَدِّم: أقوى.

أقوى، وأكثر من الوارد في المضمضة، يقول ابن بطال: القول الأول: يعني القول بأنَّهما سُنَّة مطلقًا في الوضوء والغسل- القول الأول حجته أنَّه لا فرض في الوضوء إلا ما ذكر الله في القرآن، أو أوجبه الرسول- صلى الله عليه وسلم- والإجماع، والكل منتفٍ. يعني ما ذُكرت المضمضة والاستنشاق في القرآن.

المُقَدِّم: في الآية.

ولا أمر الرسول أو أوجبه الرسول- عليه الصلاة والسلام-، وفي هذا الكلام أيضًا نظر، وأمَّا الإجماع فلم يحصل إجماع على ذلك، يقول: والكل منتفٍ، وأيضًا الوجه ما ظهر لا ما بطن؛ ولهذا لم يجب غسل باطن العينين. هذا كلام ابن بطال.

حجة الكوفيين يعني أبا حنيفة ومن معه قوله- عليه الصلاة والسلام-:« تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعر وأنقوا البشرة»، وفي الأنف ما فيه من الشعر، ولا يوصل إلى غسل الأسنان والشفتين إلا بالمضمضة. الكوفيون ماذا يقولون؟

المُقَدِّم: وجوبها في الغسل.

في الغسل، وفي الجنابة أمرها أشد، «تحت كل شعرة جنابة، فبلوا الشعر وأنقوا البشرة»، وفي الأنف ما فيه من الشعر ولا يوصل إلى غسل الأسنان والشفتين إلا بالمضمضة.

المُقَدِّم: يصح حديث علي فيها؟

لحظة، الحديث المذكور يقول فيه أبو حاتم في العلل: هذا حديث منكر، والحارث يعني ابن وجيه الراوي ضعيف الحديث، ونقل البيهقي في السنن عن الشافعي قوله: هذا الحديث ليس بثابت، وقال أبو داود: الحارث بن وجيه حديثه منكر وهو ضعيف، وقال الترمذي: حديث الحارث بن وجيه حديث غريب لا نعرفه إلا من حديثه، وهو شيخ ليس بذاك، وعلى كل حال الحديث هذا ضعيف.

وحجة من أوجبهما فيهما، وهو معروف عند الحنابلة قوله تعالى: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا } [النساء:43]،  كما قال في الوضوء {فَاغْسِلُوا} [المائدة:6] في الوضوء، {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا } [النساء:43]، وقال في الوضوء {فَاغْسِلُوا} [المائدة:6]، فما وجب في أحدهما من الغُسل أو من الغَسل وجب في الآخر، المطلوب الغسل سواءٌ كان في الوضوء أو في الغُسل؛ لأنَّه قال: {وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا } [النساء:43]، الجنابة يُطلب فيها الاغتسال، والوضوء يُطلب فيها الغسل، {فَاغْسِلُوا} [المائدة:6]، فما وجب في أحدهما من الغُسل أو من الغَسل وجب في الآخر؛ لأنَّ المطلوب واحد هو الغسل.

وحجة الفارق أنَّ النبي- عليه الصلاة والسلام- فعل المضمضة ولم يأمر بها، وفعل الاستنشاق وأمر به، وأمره أقوى من فعله- عليه الصلاة والسلام-.

المُقَدِّم: .. الظاهرية..

كيف؟

المُقَدِّم: الذين فرقوا بين الذي قال بوجوب الاستنثار دون الاستنشاق، الاستنشاق دون المضمضة.

نعم، قلنا أنَّ الوارد في الاستنشاق أكثر.

المُقَدِّم: نعم.

وأقوى وأشد، في المغني على قول الخرقي: والفم والأنف من الوجه، يقول ابن قدامة: يعني أنَّ المضمضة والاستنشاق واجبان في الطهارتين جميعًا: الغسل، والوضوء؛ فإنَّ غسل الوجه واجب فيهما. هذا هو المشهور في المذهب، وبه قال ابن المبارك وابن أبي ليلى وإسحاق، وحُكي عن عطاء، وروي عن أحمد رواية أخرى في الاستنشاق وحده أنَّه واجب.

قال القاضي: الاستنثار واجب في الطهارتين، رواية واحدة، وبه قال أبو عبيد وأبو ثور وابن المنذر؛ لأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من توضأ فليستنثر». وفي رواية: «إذا توضأ أحدكم فليجعل في أنفه ماءً ثم ليستنثر» متفق عليه.

ولمسلم: «من توضأ فليستنشق»، وعن ابن عباس، مرفوعًا «استنثروا مرتين بالغتين أو ثلاثًا» وهذا أمر يقتضي الوجوب؛ ولأنَّ الأنف لا يزال مفتوحًا، وليس له غطاء يستره، بخلاف الفم.

لا شك أنَّ الحاجة إلى الاستنشاق أدعى من الحاجة الداعية إلى المضمضة، ولذا جاء أمر النائم إذا استيقظ من نومه أن يجعل في منخريه من الماء، وجاء التعليل بأنَّ الشيطان يبيت على خيشومه، ولو لم يرد وضوءًا فعليه أن يستنشق ولو لم يرد الوضوء؛ لعموم هذا الخبر، ومنهم من خصه بمن أراد الوضوء.

وقال غير القاضي، عن أحمد رواية أخرى: أنَّ المضمضة والاستنشاق واجبان في الكبرى، مسنونان في الصغرى.

المُقَدِّم: الغسل يعني.

نعم، الكبرى الغُسل، مسنونان في الصغرى الوضوء، يعني الطهارة الكبرى والطهارة الصغرى.

وهذا مذهب الثوري وأصحاب الرأي؛ لأنَّ الكبرى يجب فيها غسل كل ما أمكن من البدن كبواطن الشعور الكثيفة، ولا يمسح فيها عن الحوائل، يعني مبناها على التشديد دون الطهارة الصغرى، ولا يمسح فيها عن الحوائل، فوجبا فيها، بخلاف الصغرى. وقال مالك والشافعي: لا يجبان في الطهارتين، وإنَّما هما مسنونان فيهما.

وروي ذلك عن الحسن والحكم وحماد وقتادة وربيعة ويحيى الأنصاري والليث والأوزاعي؛ لأنَّ النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: «عشر من الفطرة»، وذكر منها المضمضة والاستنشاق، والفطرة: السُّنة، وذكره لهما من الفطرة يدل على مخالفتهما لسائر الوضوء؛ ولأنَّ الفم والأنف عضوان باطنان، فلا يجب غسلهما كباطن اللحية وداخل العينين؛ ولأنَّ الوجه ما تحصل به المواجهة، ولا تحصل المواجهة بهما.

يقول ابن قدامة: ولنا- يعني دليلنا ما روت عائشة- رضي الله عنها- أنَّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: «المضمضة والاستنشاق من الوضوء الذي لا بد منه» رواه أبو بكر في الشافي بإسناده عن ابن المبارك، عن ابن جريج، عن عروة، عن عائشة، وأخرجه الدارقطني في سننه، قلت: الحديث رواه الدارقطني وابن عدي، وقال الدارقطني: تفرد به عصام- يعني ابن يوسف- ووهم فيه، والصواب عن ابن جريج عن سليمان بن موسى مرسلًا عن النبي- صلى الله عليه وسلم-، ثم أخرجه الدارقطني كذلك، وقال: والمرسل أصح، وهكذا رواه السفيانان وغيرهم، انتهى من نصب الراية.

على كل حال هذا الحديث ضعيف، قال ابن قدامة: لنا ما روت عائشة، يعني هذا الحديث الضعيف، وأيضًا لهم أنَّ كل من.. قال: ولأنَّ كل من وصف وضوء رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مستقصيًا، ذكر أنه تمضمض واستنشق، ومداومته عليهما تدل على وجوبهما؛ لأنَّ فعله يصلح أن يكون بيانًا وتفصيلًا للوضوء المأمور به في كتاب الله، وكونهما من الفطرة لا ينفي وجوبهما؛ لاشتمال الفطرة على الواجب والمندوب، ولذلك ذكر فيها الختان، وهو واجب.

المُقَدِّم: من الفطرة.

هو واجب، هو ذكر في الفطرة، ومع ذلك هو واجب، فالفطرة منها ما هو المسنون، ومنها ما هو الواجب.

 على كل حال قوله: ولأنَّ كل من وصف وضوء رسول الله- صلى الله عليه وسلم- مستقصيًا، ذكر أنه تمضمض واستنشق، ومداومته عليهما تدل على وجوبهما؛ لأنَّ فعله يصلح أن يكون بيانًا وتفصيلًا للوضوء الواجب، يعني بيان الواجب واجب أم ليس بواجب؟

المُقَدِّم: بلى، واجب.

على الإطلاق أو فيه تفصيل؟

المُقَدِّم: على من يعني، بيان الواجب عن النبي- صلى الله عليه وسلم-.

النبي- عليه الصلاة والسلام- عليه أن يبين الواجب.

المُقَدِّم: نعم.

لكن إذا بيَّن الواجب هذا البيان بجميع تفاصيله يكون واجبًا؛ لأنَّه بيان واجب، أو من تفاصيله ما يكون واجبًا، وما يكون مستحبًّا؟ جاء الأمر بالصلاة، وبيَّنها النبي- عليه الصلاة والسلام- بقوله وفعله، وقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي»، يعني أكد البيان الفعلي.

المُقَدِّم: بالقولي.

بالأمر، «صلوا كما رأيتموني أصلي»، وبيَّن الحج الواجب الذي هو ركن من أركان الإسلام بيَّنه بفعله وقوله، وقال: «خذوا عني مناسككم»، فهل جميع ما فعله النبي- عليه الصلاة والسلام- في الصلاة واجب؟ وما فعله في الحج واجب باعتبار أنَّه بيان للواجب وأمر به «صلوا كما رأيتموني أصلي»، «وخذوا عني مناسككم» أو أن نقول: من هذه التفريعات البيانية منها ما هو ركن..

المُقَدِّم: صحيح.

ومنها ما هو واجب.

المُقَدِّم: ومنها ما هو مستحب.

ومنها ما هو مستحب، فلا يتم الاستدلال بمثل هذا. إذًا كيف نفرق بين ما هو ركن من هذا البيان، وما هو واجب من هذا البيان، وما هو مستحب من هذا البيان؟

المُقَدِّم: من خلال جمع النصوص.

نعم، من أدلة أخرى، الرسول- عليه الصلاة والسلام- وقف بعرفة وقال: «الحج عرفة» هل نستطيع أن نقول: إنَّ هذا مثل المبيت بمزدلفة والمبيت بمنى؟

المُقَدِّم: ما ينفع.

وهما واجبان، أو نقول: إنَّ هذا مثل المستحبات التي هي مثل ترتيب الأفعال، أو مثل الأفعال المستحبة في النسك؟

المُقَدِّم: ما يُمكن، فيه فرق بين هذا.

لا شك أنَّ هذه الأمور متفاوتة، ويحكمها النصوص الأخرى.

المُقَدِّم: مع أنَّه فعلها- عليه الصلاة والسلام- كلها.

فعلها كلها، وقال: «خذوا عني مناسككم» وهي بيان للواجب المأمور به، لكن لا يعني أنَّ كل بيان يأخذ حكم المبين الأصل، وأظن هذا ظاهر.

المُقَدِّم: صحيح.

إذًا ما حكم المضمضة والاستنشاق؟

عرفنا المذاهب مالك والشافعي هما سنتان في الطهارتين، أحمد واجبتان في الطهارتين، يعني على القول المعروف عند أصحابه، أبو حنيفة واجبة في الطهارة الكبرى..

المُقَدِّم: دون الصغرى.

دون الصغرى، الظاهرية قالوا: الاستنشاق واجب، والمضمضة مستحبة، وإذا قلنا هما واجبان هل يتأثر الوضوء بتركهما كترك الأعضاء الأربعة المنصوص عليها في القرآن؟ حتى على المذهب، على القول بأنَّهما واجبتان، هل نقول: إنَّ الوضوء باطل أو ليس بباطل؟ يعني فرق بين كون الشيء واجبًا، وبين كونه فرضًا، فرض يعني مثلًا عندنا فروض الوضوء الأربعة المذكورة في القرآن.

المُقَدِّم: نعم.

والمضمضة والاستنشاق عند الحنابلة واجبة، هل يقولون: إنَّ المضمضة والاستنشاق مثل غسل اليدين أو مسح الرأس؟ لا؛ لأنَّ هناك فروق دقيقة قد لا يلحظها بعض المتعلمين، غُسل الجمعة..

المُقَدِّم: واجب.

 عند من يقول بأنَّه واجب يوجبه، هل يقول: إنَّ الجمعة باطلة إذا لم يغتسل؟ لا، يأثم لكن ليس كغسل الجنابة، ستر المنكب هل يقول: إن من لم يستر منكبه في الصلاة..

المُقَدِّم: بطلت صلاته

صلاته باطلة مثل ستر العورة؟

المُقَدِّم: لا.

«لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء» هل نقول إنَّ ستر المنكب من باب ستر العورة فهو شرط لصحة الصلاة؟

يأثم إذا ترك لكن الصلاة صحيحة مع الإثم، وكذلك إذا ترك الغسل غسل الجمعة عند من يقول بوجوبه صلاته صحيحة، لكنه آثم، وهنا المضمضة والاستنشاق وضوؤه صحيح، لكنه آثم ليس كمن ترك مسح الرأس أو غسل الرجل، فهناك الواجبات، وهناك ما يسمونه فروض الوضوء التي لا يصح إلا بها، وهي المنصوص عليها.

نعود إلى أصل المسألة، وهي المضمضة والاستنشاق، وعرفنا المذاهب فيها، أقول: جاء الأمر بالاستنشاق « بالغ في الاستنشاق»، فوجوبه ظاهر، «بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا»، وليس في هذا تفريق بين وضوء ولا غسل، فالذي يظهر وجوب الاستنشاق، أمَّا المضمضة فهي لا شك أنَّها أقل من الاستنشاق، وما ثبت فيها من قوله- عليه الصلاة والسلام- مع ما فيه من كلام: «إذا توضأت فمضمض»، وكل من وصف وضوء النبي- عليه الصلاة والسلام- ذكره، ذكر المضمضة فيه مع الاستنشاق، وعلى هذا المتجه القول بوجوبهما، مع أنَّ الخلاف القوي فيهما يجعل الوضوء صحيحًا بدونهما، لكن على الإنسان أن يحرص عليهما بقدر الإمكان؛ لئلا يؤثم نفسه وهو لا يشعر، والمسألة مسألة تعوُّد إذا تعوَّد الإنسان مثل هذا الأمر ارتاح منه، إذا عمد إلى مكان الوضوء وقد اعتاد أن يتمضمض ويستنشق قبل أن يغسل وجهه كما هو السنَّة، فإنَّه حينئذٍ يُلازم هذه العبادة المأمور بها، والتنظيف في الجملة أمر مطلوب شرعًا.

المُقَدِّم: فيه فرق بين المبالغة والتثليث في النهي عن المبالغة، بعض الناس يفهم أنَّ النهي عن المبالغة أنَّك تكتفي بواحدة.

لا، فرق بين التثليث الذي هو الكمال، وجاء من فعله- عليه الصلاة والسلام- أنَّه توضأ ثلاثًا ثلاثًا بما في ذلك في رمضان وغير رمضان، تمضمض واستنشق ثلاثًا، وهذه نصوص عامة تشمل رمضان وغير رمضان، فدل على أنَّ هذه المبالغة لا تعني ترك التثليث، المبالغة لا تجذب الماء إلى أعلى الأنف بالنفس.

المُقَدِّم: يعني في الصفة ذاتها؟

نعم، في كيفية الجذب.

المُقَدِّم: الكيفية، نعم.

المبالغة في كيفية الجذب هذه تُعرض الصيام للإبطال، لكن لو جذب الماء إلى منتصف الأنف مثلًا لا إلى أعلاه الذي فيه...

المُقَدِّم: منافذ.

الذي فيه المنفذ، بحيث يعرض صيامه للبطلان، فإذا جذبه إلى أن يصل إلى ما دون أعلى الأنف محل المنفذ يكون لم يبالغ، لكن إذا جذبه إلى فوق ذلك فهو مبالغ.

المُقَدِّم: في المقابل الذين قالوا بأنَّ الأمر بالمبالغة رد على من حذر من الزيادة على الثلاث؛ إذ المبالغة عندهم، لا تكون إلا بالزيادة عن ثلاث.

لا لا، ما فيخ ارتباط.

المُقَدِّم: وهذا أيضًا خطأ.

ما فيه ارتباط.

المُقَدِّم: نعم.

بين التثليث وبين المبالغة أو عدم المبالغة.

المُقَدِّم: نعم، يعني المبالغة في الصفة فقط.

نعم، قد لا يُبالغ ويستنشق ثلاثًا، لا يُبالغ بمعنى أنَّه لا يُبالغ في جذب الماء بالنفس إلى أعلى الأنف بحيث يقرب من المنفذ؛ لأنَّ المنفذ حمى، فلا يقرب حول الحمى.

المُقَدِّم: يعني معنى ذلك أنَّ نقول بأنَّه قد يُبالغ ولكن يحذر أن يزيد عن الثلاثة.

 في غير الصيام.

المُقَدِّم: نعم.

لكن في الصيام.

المُقَدِّم: يكتفي بثلاثة.

له أن يصلي، أن يستنشق ثلاثًا لكنه..

المُقَدِّم: لا يُبالغ.

ليس له أن يُبالغ.

 

المُقَدِّم: جزاكم الله خيرًا، وأحسن إليكم، ونفع بعلمكم. أيُّها الإخوة والأخوات نكتفي بهذا القدر في شرح ألفاظ هذا الحديث على أن نستكمل بإذن الله تعالى ما تبقى من حديث ابن عباس، وهو في الأصل حديث مائة وأربعين، في المختصر مائة وخمسة عشر لمن أراد متابعتنا في الحلقة القادمة بإذن الله لنستكمل بعد الحديث عن المضمضة والاستنشاق، شكرًا لطيب متابعتكم، لقاؤنا بكم في الحلقة القادمة، وأنتم على خير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.