شرح كتاب التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح (109)

المقدم: بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، إخوتنا وأخواتنا مستمعي الكرام، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأهلًا بكم إلى لقاء جديد نستكمل فيه ما ابتدأناه في كتاب التجريد الصريح في شرح أحاديث الجامع الصحيح، يتولى شرح أحاديث هذا الكتاب صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور عبد الكريم بن عبد الله الخضير بقسم السنة وعلومها، كلية أصول الدين، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض، باسمكم نرحب بصاحب الفضيلة، ونشكر له تفضله بقبول دعوتنا، فأهلًا بكم فضيلة الدكتور.

حياكم الله، وبارك فيكم وفي الإخوة المستمعين.

المقدم: قال المصنف -رحمه الله-: عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: «تخلف النبي -صلى الله عليه وسلم- عنا في سفرةٍ سافرناها، فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة ونحن نتوضأ، فجعلنا نمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته: ويل للأعقاب من النار، مرتين أو ثلاثًا».

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

راوي الحديث عبد الله بن عمرو بن العاص تقدمت ترجمته. والحديث ترجم عليه الإمام البخاري بقوله: باب من رفع صوته بالعلم. أي جواز ذلك؛ لأنه استدل بحديثٍ يدل على الجواز، ومناسبة قوله في الحديث: «فنادى بأعلى صوته» وإنما قال ابن حجر: وإنما يتم الاستدلال بذلك حيث تدعو الحاجة إليه؛ لبعد أو كثرة جمع أو غير ذلك، ويلحق بذلك ما إذا كان في موعظة كما ثبت ذلك في حديث جابر: «كان النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا خطب وذكر الساعة اشتد غضبه وعلا صوته» الحديث مُخرج في صحيح مسلم، ولأحمد من حديث النعمان في معناه وزاد: «حتى لو أن رجلًا في السوق لسمعه»، وذكر العيني مناسبة بين هذا الباب والذي قبله باب من سئل علمًا وهو مشتغل في حديثه فأتم الحديث ثم أجاب السائل، فقال: فإن قلت ما وجه المناسبة بين البابين؟ قلت: من حيث إن المذكور في الباب السابق سؤال السائل عن العلم، والعالم قد يحتاج إلى رفع الصوت في الجواب؛ لأجل غفلة السائل ونحوها، لاسيما إذا كان سؤاله وقت اشتغال العالم بغيره، فهذا الباب يناسب ذاك الباب من هذه الحيثية.

العيني عادته يربط بين الأبواب، وهذه مزية لا توجد عند غيره.

وقال ابن بطال: والحديث حجة في جواز رفع الصوت في المناظرة في العلم، وذكر ابن عيينة قال: مررت بأبي حنيفة وهو مع أصحابه وقد ارتفعت أصواتهم بالعلم، وقال الإمام أبو عمر بن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله": فصل في رفع الصوت في المسجد. وغير ذلك من آداب العلم، وساق بسنده عن أشهب قال: سئل مالك عن رفع الصوت في المسجد بالعلم وغيره قال: لا خير في ذلك في العلم ولا في غيره. يعني لا خير في رفع الصوت، لا في العلم ولا في غيره. ولقد أدركت الناس قديمًا يعيبون ذلك على من يكون في مجلسه، ومن كان يكون ذلك في مجلسه كان يعتذر منه، وأنا أكره ذلك، ولا أرى فيه خيرًا. يعني كلام الإمام مالك يعارض الحديث؟ الإمام مالك لا يكره ذلك عند الحاجة، لكن الإطلاق، الإطلاق هو الذي يكرهه مالك.

المقدم: أو تحديدًا بالمسجد.

أو تحديدًا بالمسجد، لكن مع ذلك إذا رفع... الرسول-صلى الله عليه وسلم- يرفع صوته بالخطبة حتى بالمسجد، اشتد غضبه، وعلا صوته حتى في المسجد، ومرد ذلك إلى الحاجة.

قال أبو عمر: أجاز ذلك قوم منهم أبو حنيفة. ثم ساق بإسناده عن سفيان بن عيينة قال: مررت بأبي حنيفة وهو مع أصحابه بالمسجد وقد ارتفعت أصواتهم، فقلت: يا أبا حنيفة هذا في المسجد؟! والصوت لا ينبغي أن يُرفع فيه، فقال: دعهم فإنهم لا يفقهون إلا بهذا. وقيل لأبي حنيفة: في مسجدك هذا حلقة يتناظرون في الفقه فقال: ألهم رأس؟ قالوا: لا، قال: لا يفقهون أبدًا. قال أبو عمر: احتج بعض من أجاز رفع الصوت بالمناظرة في العلم وقال: لا بأس بذلك بحديث عبد الله بن عمرو. يعني حديث الباب فذكره، ثم قال: وواجب على العالم إذا لم يُفهِم أن يكرر كلامه ذلك حتى يُفهم عنه. أخذه من الحديث أيضًا في قوله: «مرتين أو ثلاثًا». ففي الحديث رفع الصوت، وفيه أيضًا التكرار. وكل ذلك مقيد بالحاجة، وقد كان بعضهم يستحب ألا يكرره أكثر من ثلاث مرات؛ لما ثبت عن النبي-صلى الله عليه وسلم- «أنه كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاث مرات» وذلك كان عندهم؛ ليفهم كل من جالسه من قريب وبعيد، وهكذا يجب أن يكرِّر المحدث حديثه حتى يفهم عنه أنه قال، فإذا فُهم عنه، فلا وجه للتكرير، لماذا؟ لأن التكرير مع الفهم.

المقدم: لا فائدة منه.

ملل، يمله السامع.

المقدم: لكن قد يشكل مسألة تكراره -عليه الصلاة والسلام-، تكراره الكلمة الواحدة يكررها ثلاثًا، هل ضُبط هذا التكرار؟

هذا شرع، لابد من ضبطه وحفظه وتبليغه للناس، فلابد من العناية به، أما الكلام العادي يكرر ثلاثًا، أو كلام ضُبط أو حُفظ وعُرف لا يحتاج إلى تكراره ثلاثًا.

المقدم: يعني في حديث «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر» ذكرها ولم يكررها، إلا في الأخيرة كررها ثلاثًا أو أكثر. يعني هذا هو المراد؟

كل هذا يتبع الحاجة، ويتبع الأهمية من عدمها، ثم ذكر ابن عبد البر عن معمر قال: ما سمعت قتادة يقول لأحد: أعد عليّ. وتكرير الحديث في المجلس يذهب بنوره، وقد كان ابن شهاب يقول: تكرير الحديث أشد علي من نقل الحجارة، وفي بعض الروايات: أشد علي من نقل الصخر. تصور لو أن شخصًا كلَّم شخصًا فكرر كلامًا عاديًّا، كل ما جاء بجملة كررها ثلاثًا، أيحتمل؟

لكن كلام مهم الناس بحاجة إلى ضبطه والعناية به يكرر، ويحتمل أيضًا ما يترتب عليه من ملل بعض السامعين، ولذا المدرس مثلًا الذي في حلقة تدريس أو في قاعة دراسة والطلاب بين يديه متفاوتون في الفهم يكرر من أجل بطيء الفهم ولو ملَّ سريع الفهم؛ لأن المصلحة راجحة، المصلحة راجحة بلا شك، ذكر الطبري في تفسيره بإسناده قال: قال ابن زيدٍ في قوله تعالى:نَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ}[لقمان:19] قال: لو كان رفع الصوت هو خيرًا ما جعله للحمير، وفي آداب المناظرة يقول القحطاني في نونيته الشهيرة:

لا تغضبن إذا سئلت ولا تصح

 

 فكلاهـما خُلُقـان مـذمومـان

قلت: رفع الصوت إذا احتيج إليه لبعد المخاطب أو كثرة المخاطبين، أو ثقل سمع أو نحو ذلك أمر مشروع دل عليه هذا الحديث. ومثل ذلك إذا استدعى الحال زجر المخاطب، أحيانًا المخاطب يرتكب شيئًا يحتاج إلى زجر، يحتاج إلى تعزير، فيزجر برفع الصوت؛ لارتكابه ما ينكر وما عدا ذلك فالرفق واللين والهون هو الأصل، هذا الظاهر، يعني هذا الإسناد فيه معارضة للحديث، الحديث عند الحاجة، والتكرار عند الحاجة.

سائل: هل يقال إنه الآن يستغنى؛ لوجود مكبرات الصوت، عن رفع الصوت بالعلم مثلًا في حلقة الدروس والتعليم، هل يستغنى بوجود هذه المكبرات عن رفع الصوت بالعلم، وبخاصة أن الناس يقولون: نتأذى برفع الصوت مثلًا في المسجد؟

نعم، يكتفى بها عن رفع الصوت، الصوت إن كان مباشرًا، واحتيج إلى رفعه وإلا فبالآلة، والآلة تقوم مقام رفع الصوت؛ لأنها تؤدي نفس الغرض، تؤدي نفس الغرض من رفع الصوت، ولا شك أن الكثير من الناس يتأذى بالرفع على هذه الآلات، فينبغي أيضًا ملاحظة ذلك، وكثير من الناس يرفع الجهاز إلى أعلى حد، فيشوش على المصلين، يشوش على السامعين، بل بعضهم يخرج من الصلاة متعبًا، بعضهم يخرج وقد صُدع رأسه، يحتاج إلى علاج بعد هذا الصوت، والأصل في الرفع، رفع الصوت هذا وشدة الصياح، أمم أهلكت بماذا؟ بالصيحة.

 فرفع الصوت لا شك أنه خلاف الأصل، لكن إذا احتيج إليه كما في هذا الحديث يكون مشروعًا، وهذا أصل في هذه المسألة عند الحاجة إليه، كما أنه إذا احتيج إلى التكرار فلا بد منه.

قوله: «تخلّف» أي: تأخر؛ لأن المتأخر يكون خلف الناس. «في سفرة سافرناها» في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو قال: «رجعنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى المدينة حتى إذا كنا بماء بالطريق تعجل قومٌ عند العصر فتوضؤوا وهم عجال، فانتهينا إليهم وأعقابهم تلوح لم يمسها الماء، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ويل للأعقاب من النار، أسبغوا الوضوء» قال ابن حجر: ظاهره أن عبد الله بن عمرو كان في تلك السفرة من مكة إلى المدينة، ولم يقع ذلك محققًا لعبد الله إلا في حجة الوداع، أما غزوة الفتح فقد كان فيها، لكن ما رجع النبي-عليه الصلاة والسلام- فيها إلى المدينة من مكة، بل رجع إلى المدينة من الجعرانة، النبي-عليه الصلاة والسلام- رجع من مكة إلى المدينة أو من الجعرانة إلى المدينة؟ من الجعرانة، ويحتمل أن تكون عمرة القضية، فإن هجرة عبد الله كانت في تلك الوقت أو قريبًا منه.

والضمير فيه قوله: «سافرناها» قال الكرماني: الضمير وقع مفعولًا مطلقًا، أي سافرنا تلك السفرة، وذلك كقولهم: زيد أظنه منطلق أي زيد منطلق أظن الظن أو ظنًا. «فأدركَنا» بفتح الكاف أي لحق بنا رسول الله-صلى الله عليه وسلم- «وقد أرهقتنا الصلاة» أي غشينا وقتها، أي غشينا وقتها، والصلاة كانت صلاة العصر كما في الصحيحين وغيرهما، يقول البغوي في شرح السنة: «أرهقتنا» أي: دنا وقتها، ويروى أرهقنا الصلاة أي أخرناها، قال ابن السكيت: «أرهقنا الصلاة» استأخرنا عنها حتى دنا وقت الأخرى، وأرهقنا الليل دنا منا، وأرهقنا القوم لحقونا، وفي تفسير الحافظ ابن كثير-رحمه الله تعالى- في قوله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا}[الجن:6] أي كنا نرى أن لنا فضلًا على الأنس -يقول الجن- أي كنا نرى أن لنا فضلًا على الأنس؛ لأنهم كانوا يعوذون بنا إذا نزلوا واديًا، أو مكانًا موحشًا من البراري وغيرها كما كانت عادة العرب في جاهليتها يعوذن بعظيم ذلك المكان من الجان أن يصيبهم بشيء يسوؤهم، كما كان أحدهم يدخل بلاد أعدائه في جوار رجل كبير، وزمامه وغفارته، فلما رأت الجن أن الأنس يعوذون بهم من خوفهم منهم زادوهم رهقًا أي: خوفًا وإرهابًا وذعرًا حتى بقوا أشد منهم مخافة وأكثر تعوذًا بهم.

 «ونحن نتوضأ» جملة اسمية وقعت حالًا. «فجعلنا» قال الكرماني: هو من أفعال المقاربة وهو في الاستعمال مثل كاد. «نمسح» أي نغسل غسلًا خفيفًا حتى يرى كأنه مسح، نمسح أي نغسل، في الحديث يقول: «فجعلنا نمسح على أرجلنا» أي نغسل غسلًا خفيفًا حتى يرى كأنه مسح، يعني من خفته، قال القاضي عياض في "إكمال المعلم": المراد بالمسح الغسل بدليل سائر الروايات.

 وقوله: «لم يغسل عقبه» لا على ما أشار إليه بعضهم أنه دليل على أنهم كانوا يمسحون فنهاهم النبي-صلى الله عليه وسلم- عن ذلك، وأمرهم بالغسل، قالوا: لأنه لو كان غسلًا لأمرهم بالإعادة لما صلوا، وهذا لا حجة فيه لقائله؛ لأن النبي-صلى الله عليه وسلم- قد أعلمهم أنه يستوجبون النار على فعله؛ لقوله: «ويل للأعقاب من النار»، وهذا لا يكون إلا في الواجب، وقد أمرهم بالغسل بقوله: «أسبغوا الوضوء»، ولم يأتِ أنهم صلوا بهذا الوضوء، ولا أنها كانت عادتهم قبل، فيلزم أمرهم بالإعادة، ولم يأت أنهم صلوا بهذا الوضوء، ولا أنها كانت عادتهم قبل، فيلزم أمرهم بالإعادة، إنما هم استعملوا التخفيف لماذا؟ لأنهم ضاق عليهم الوقت.

 «على أرجلنا» قال الكرماني: فإن قلت: لا أرجل للرجل بل رجلان، فالقياس أن يقال: على رجلينا، أرجلنا واضح؟ هل هذا واضح أو ليس بواضح؟ يقول: فإن قلت: لا أرجل للرجل بل رجلان، فالقياس أن يقال: على رجلينا، أرجل جمع، والضمير ضمير جمع.

المقدم: والشخص ليس له إلا رجلان.

نعم، لكنهم رجال.

المقدم: فيقال: على رجلينا.

كيف؟

المقدم: يعني الآن مقصوده أن الأصل أن يقال: على رجلينا، وليس على أرجلنا، هل هذا مراده؟

هذا مراده، لكن هذا صحيح؟

الأخ الحاضر: باعتبار الجميع. 

باعتبار المجموع يعني مقابلة جمع أرجل، جمع رجل في الضمير المجموع مقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة أفرادًا، لكن هذا يرد عليه ما يرد، وهو أن لكل واحد رجلًا واحدة كما يقال: ركب القوم دوابهم، مقابلة جمع بالجمع تقتضي القسمة أفرادًا، كل واحد له دابة، كل واحد ركب دابته، هل هذا الكلام ماشٍ أم ما هو بماشٍ؟ يعني سواء على كلام الكرماني قلنا: على رجلينا يقتضي أن الجميع لهم رجلين فقط، الجميع كلهم يمسحون رجلين فقط، وهذا ليس بصحيح، وإذا قلنا: على أرجلنا قلنا: مقابلة الجمع بالجمع تقتضي القسمة أفرادًا، فيكون كل واحد له رجل واحدة، وهذا فيه إشكال أم ما فيه؟

المقدم: فيه.

كيف نحل هذا الإشكال؟ تطلق الرجل الواحدة ويراد بها الجنس؟ الآن الإشكال الذي أورده الكرماني مفهوم أم ليس بمفهوم؟ مفهوم، ماذا يقول؟ يقول: فإن قلت: لا أرجل للرجل بل رجلان، فالقياس أن يقال: على رجلينا. قلت: الجمع إذا قوبل بالجمع يفيد التوزيع، فتوزع الأرجل على الرجال، فإن قلت: فيكون لكل رجُل رجِل يعني واحدة؛ لأن هذا مقتضى مقابلة الجمع بالجمع، قلت: جنس الرجل يتناول الواحد والاثنين، والفعل يعين، المقصود لاسيما في ما هو محسوس، يعني في الحديث «لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء» الرواية الأخرى وهي صحيحة في الصحيح: «ليس على عاتقيه» فيه اختلاف بين الروايتين؟ ما فيه اختلاف. المفردة يراد بها الجنس فتتفق الروايتان.

 «فنادى بأعلى صوته» وهذا هو الشاهد من حديث الترجمة، «ويل» بالرفع على الابتداء، وهي كلمة عذاب وهلاك أو وادٍ في جهنم، قال العيني: ويل يقابل ويح، يقال لمن وقع فيما لا يستحقه ترحمًا عليه يعني "ويح"، وعند أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه-: «ويل وادٍ في جنهم لو أرسلت فيه الجبال لماعت في حره»، وقيل: ويل صديد أهل النار. قلت -القائل العيني-: ويل من المصادر التي لا أفعال لها، وهي كلمة عذاب وهلاك «للأعقاب» جمع عقب وهو المستأخر الذي يمسك شراك النعل، قاله القسطلاني، قال البغوي في "شرح السنة": معنى قوله: «ويل للأعقاب من النار» أي لأصحاب الأعقاب المقصرين في غسلها، كما قال الله -سبحانه وتعالى-: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ}[يوسف:82]، أي أهل القرية، وقيل: أراد أن العقب يخص بالعذاب، هذا متجه، العذاب يكون للعقب.

 البغوي ماذا يقول؟ يقول: معنى قوله: ويل للأعقاب من النار أي لأصحاب الأعقاب. ولا يختص ذلك بالأعقاب، نظير ذلك ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار، قد يقول قائل: إذا كان الإزار في النار فالأمر سهل، لكن المراد صاحب الإزار. «كل ضلالة في النار» الضلالة المراد؟ صاحبها، والبغوي يريد أن الأعقاب من هذا الباب، لكن هل إذا نظرنا الأعقاب بالإزار أو بالضلالة يتجه التنظير؟ لا؛ لأن تعذيب العقب بالنار تعذيب لصاحبها.

 وقيل: أراد أن العقب يخص بعذابه إذا قصر بغسلها، والعقب ما أصاب الأرض من مؤخر القدم إلى موضع الشراك.

 «من النار مرتين أو ثلاثة» شك من ابن عمر، و"الـ" في الأعقاب للعهد، والمراد بالأعقاب التي رآها النبي- صلى الله عليه وسلم- لم ينلها مطهر، ويتحمل أن لا يختص بتلك الأعقاب المرئية، بل المراد كل عقب لم يعمها الماء، فتكون عهدية جنسية، تجتمع هذه؟ يمكن أن تكون الكلمة عهدية جنسية؟ هل تجتمع؟ أو نقول: هي عهدية، ويقاس عليها ما في حكمها؟ والحكم على الواحد حكم على الجميع، وإذا قلنا: جنسية فجميع الأعقاب غسلت أو لم تغسل كلها ويل لها من النار، فالمراد بها الأعقاب العهدية التي رآها النبي -عليه الصلاة والسلام- لم يصبها الماء، قُصر في غسلها ويل لها، وفي حكمها كل من فعل هذا الفعل ممن هو موجود ومن سيأتي، كما هو المعروف من أحكام الشرع أنها للجميع، فتكون عهدية جنسية. عهدية باعتبار، وجنسية باعتبار، ما تأتي عهدية جنسية مع اتحاد الجهة، ما يمكن، تأتي عهدية باعتبار، جنسية باعتبار، عهدية باعتبار من رأى، وجنسية باعتبار من سيأتي.

 قال بالبغوي: وفيه دليل على وجوب غسل الرجلين في الوضوء، وهو المنقول من فعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفعل الصحابة -رضي الله عنهم-. وجوب غسل الرجلين، هو لا يُكتفى بالمسح خلافًا للمبتدعة الذين قالوا بالاكتفاء، وهو منقول عن الطبري، تداوله الناس عن الطبري في تفسير الطبري يرى الاكتفاء بالمسح، ويستدل بالحديث «ويل للأعقاب من النار» كيف يمكن التوفيق بين كونه يرى المسح؟ الذين يرون المسح من طوائف المبتدعة يكتفون بمسح أعلى الرجل، ولا يدخِلون الأعقاب، الطبري يرى أن المسح وهو عدم المبالغة في الغسل، وكلامه يومئ إلى ذلك عدم المبالغة في الغسل مع وجوب تعميم القدم بالماء، بدليل أنه يستدل بحديث الباب «ويل للأعقاب من النار»، وأشار الألوسي في تفسيره إلى أن الطبري، محمد بن جرير الطبري الذي ينقل عنه هذا القول هو من محمد بن جرير بن رستم الطبري من الشيعة، ولا غرابة في هذا؛ لأنهم يقولون بهذا، وأما الإمام محمد بن جرير الطبري الإمام المعروف فلا يمكن أن يقول بهذا مع استدلاله بحديث «ويل للأعقاب من النار»، يكون تناقضًا، وسيأتي بحث المسألة إن شاء الله تعالى في الوضوء.

قال ابن بطال: إنما ترك أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصلاة في الوقت الفاضل- والله أعلم-؛ لأنهم كانوا على طمع من أن يأتي الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ ليصلوا معه؛ لفضل الصلاة معه، فلما ضاق عليهم الوقت، وخشوا فواته توضؤوا مستعجلين، ولم يبالغوا في وضوئهم، فأدركهم -صلى الله عليه وسلم- وهم على ذلك، فزجرهم وأنكر عليهم نقصهم للوضوء بقوله: «ويل للأعقاب من النار».

 ففيه من الفقه أن للعالم أن ينكر ما رآه من التضييع للفرائض والسنن، نقول هنا: للعالم، بل على العالم وغير العالم «من رأى منكم منكرًا فليغيره»، وأن يغلظ القول في ذلك، ويرفع صوته بالإنكار، وفيه تكرار المسألة؛ توكيدًا لها ومبالغة في وجوبها.

والحديث أخرجه الإمام البخاري في ثلاثة مواضع:

الأول: في كتاب العلم، باب من رفع صوته بالعلم، قال: حدثنا أبو النعمان عارم بن الفضل قال: حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن يوسف بن ماهك عن عبد الله بن عمرو قال: «تخلف... »، الحديث، وهو الحديث المشروح، وسبق ذكر المناسبة.

الثاني: في كتاب العلم أيضًا، باب من أعاد الحديث ثلاثًا ليفهم عنه قال: حدثنا مسدد قال: حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن يوسف بن ماهك عن عبد الله بن عمرو قال: فذكره، والشاهد في قوله: «مرتين أو ثلاثًا» والمناسبة ظاهرة، باب من أعاد الحديث ثلاثًا ليفهم عنه، والحديث فيه: مرتين أو ثلاثًا.

الموضع الثالث: في كتاب الوضوء، باب غسل الرجلين ولا يمسح على القدمين قال: حدثنا موسى قال: حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن يوسف بن ماهك عند عبد الله بن عمرو قال: فذكره، والمناسبة ظاهرة. ويل للأعقاب من النار؛ لوجوب تعميم الرجلين بالغسل، والمبالغة في ذلك وعدم المسح ظاهر، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

المقدم: أحسن الله إليكم، ونفع بعلمكم، إذًا أيها الإخوة نصل وإياكم بهذا إلى ختام حلقتنا، نلقاكم بإذن الله تعالى مع حديث آخر في الحلقة القادمة وأنتم على خير، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.