تنقيح الأنظار في معرفة علوم الآثار (26)

الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:

فيقول المؤلف- رحمه الله تعالى- تعارض الوصل والإرسال والرفع والوقف" يقول- رحمه الله- "اختلف أهل العلم إذا وصل الحديث بعض الرواة وأرسله آخر هل الحكم لمن وصل أو لمن أرسل أو للأكثر أو للأحفظ على أربعة أقوال" راوٍ روى حديثا فأسقط فيه الصحابي وذكر فيه التابعي ورفعه إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- هذا مرسل، ومن طريق آخر رُوي الحديث موصولا، هذا الحديث رواه بعض الرواة موصولا ذكروا فيه الصحابي الذي أسقطه بعض رواة الطريق الأول، وبعض الرواة ذكر الحديث مرفوعا إلى النبي -عليه الصلاة والسلام- وبعضهم وقفه على الصحابي فمن الذي يعتبر؟ ويُؤخذ به هل الحكم لمن وصل؟ أو لمن أرسل؟ هل الحكم لم وقف؟ أو لمن رفع؟ أو الحكم للأحفظ؟ أو الحكم للأكثر؟ أربعة أقوال عند أهل العلم، فمن قال الحكم للرفع والوصل قال؛ لأن من رفع ومن وصل معه زيادة علم والزيادة مقبولة، والذي قال الحكم لمن أرسل أو وقف قال؛ لأن الإرسال والوقف هو المتيقن والقدر الزائد على ذلك مشكوك فيه، فالحكم لمن وقف والحكم لمن أرسل؛ لأن ذكر الصحابي في مقابل الإرسال وذكر النبي -عليه الصلاة والسلام- في مقابل الوقف هذه الزيادة مشكوك فيها أثبتها بعض الرواة ونفاها بعضهم، بينما على القول الأول هذه زيادة، والزيادة يطلق كثير من أهل العلم قبولها، المقصود أن المسألة فيها أربعة أقوال لأهل العلم، منهم من يقول العبرة بالأكثر، إذا كان الأكثر هم الذين رفعوه كان الحكم لهم، وإذا كان الأكثر هم الذين وقفوه فالحكم لهم، وقل مثل هذا في الوصل والإرسال، منهم من يقول الأحفظ، يحكم للأحفظ ولا يلتفت إلى غيره؛ لأنه مرجح على غيره، والذي يقول يحكم للأكثر يقول العدد الكثير أولى بالحفظ من الواحد، وعلى كل حال هذه أقوال يتداولها المتأخرون نظرا إلى أحكام الأئمة على الأحاديث من غير نظر إلى مجموعها، الإمام البخاري حكم بوصل حديث لا نكاح إلا بولي مع أن ممن أرسله شعبة وسفيان فلم ينظر البخاري إلى الأحفظ، نظر إلى الوصل واطرح الإرسال، مع أن من أرسل كالجبل كما يقول الحافظ العراقي، فهم نظروا إلى بعض الأمثلة التطبيقية عند أهل العلم، لكن من نظر في المجموع هل يجد البخاري يحكم بالوصل مطلقا، أو أبو حاتم يحكم بالإرسال مطلقا، أو أحمد يحكم بالرفع مطلقا أو بالوقف؟ لا تجدهم يحكمون بحكم عام مطّرد، فقد يحكم البخاري على حديث بالوصل ولا يلتفت لمن أرسل، وقد يحكم بالعكس بالإرسال ولا يلتفت إلى من وصل، وقل مثل هذا بالنسبة للرفع والوقف فليس لهم في هذا حكم عام مطّرد، وإنما يحكمون على كل حديث بحسبه، حسب ما ترجحه القرائن "على أربعة أقوال، الأول: أن الحكم لمن وصل" هذا هو المذهب المشهور يقول في كتب الزيدية لا يكاد يعرف غيره عن أحد من أئمتهم وهو قول أكثر علماء الأصول قال زين الدين يعني العراقي وهو الصحيح كما صححه الخطيب قال ابن الصلاح وهو الصحيح في الفقه والأصول وسئل البخاري عن حديث «لا نكاح إلا بولي» وقد أرسله شعبة وسفيان وهما في الحفظ جبلان وأسنده إسرائيل بن يونس في آخرين فقال البخاري الزيادة من الثقة مقبولة صوحكم لمن وصله" يعني كوننا نقول أن البخاري يحكم بالوصل من خلال مثلا واحد أو نقول إن البخاري يقول الزيادة من الثقة مقبولة لنقبل جميع الزيادات هذا أيضا فيه ما فيه؛ لأننا لو تتبعنا أحكام البخاري لوجدناه قد حكم على أحاديث بالإرسال، وحكم على بعض الزيادات بالرد، فكوننا من حديث واحد أو من أحاديث نأخذ حكم عام مطرد للإمام البخاري وأن هذا رأيه هذا لا يستقيم حتى يتم لنا الاستقراء لأحكام الأئمة، وهذا دونه في جميع الأحاديث دونه خرط القتاد لنخرج بحكم عام مطّرد، لكن يمكن أن نستقرئ أحكام إمام واحد ونعرف منهجه ومذهبه لكن مع ذلك هذه الدعوى التي يدعو إليها بعض الغيورين على السنة وأننا لا نقلد المتأخرين بل نقلد المتقدمين هذه أيضا بالنسبة لصغار المتعلمين تضييع، إنما من تمكن في معرفة جمع الطرق وزاول ذلك ونظر في الأسانيد ونظر في أحكام الأئمة وتكونت لديه الملكة التي يحكم بها من خلال القرائن وصار عنده من القدرة ما يستطيع أن يحاكي به المتقدمين لا شك أن هذا فرضه، أما من خلال حديث أو أحاديث نأخذ قاعدة لعموم أهل العلم أو لعالم بعينه لا، حتى يتم لنا الاستقراء، "القول الثاني أن الحكم لمن أرسل حكاه الخطيب عن أكثر أصحاب الحديث" لماذا؟ لأن الوصل مشكوك فيه ومثله الرفع، "القول الثالث أن الحكم للأكثر ولا شك أن الأكثر أولى بالحفظ" العدد الكثير أولى بالحفظ من الواحد؛ لأن الواحد قد يتطرق إليه الوهم أسرع من تفرقه إلى الأكثر "الرابع أن الحكم للأحفظ والذين قالوا إن الحكم للأكثر أو للأحفظ اختلفوا هل تكون مخالفة الأكثر والأحفظ قدحا في عدالته كما أنها قدح في روايته فيه قولان أصحهما أنها لا تقدح في عدالته" لا تقدح في عدالته اللهم إلا إذا كثرت هذه المخالفة لأننا لا نعرف لا نعرف ضبط الراوي إلا إذا عرضنا حديثه على حديث الثقات فإن كانت المخالفة للثقات كثيرة عرفنا أنه أن ضبطه فيه شيء، وإذا كانت الموافقة لأحاديثهم في الغالب عرفنا أنه ضابط.

ومن يوافق غالبا ذي الضبط

 

فضابط أو نادرا فمخطي

"وإذا اختلفوا في الوقف والرفع فهي مثل هذه سواء قالوا ومثل ذلك أيضا أن يكون الرافع والواقف أو المسند والمرسل واحدا فإن كان الحكم للرفع والوصل على الأصح فيما قاله زين الدين وقيل الأكثر من أحواله فإن الحكم ومثل ذلك أيضا أن يكون الرافع والواقف أو المسند والمرسل واحدا فإن الحكم للرفع والوصل على الأصح فيما قاله زين الدين" يعني كما قيل في القول الأول "وقيل للأكثر من أحواله" يعني إن كان وصله في مجلس وأرسله في مجلسين مثلا، أو رفعه في مجلس وأوقفه في مجلسين فالعبرة للأكثر من أحواله "فإن كان أكثر أحوال الراوي الرفع والوقف منه والوقف منه نادر فحكمه الرفع وكذلك العكس قلت وعندي أن الحكم في هذا لا يستمر" هذا هو الصحيح، لا يمكن أن نأخذ من عموم أحكام الأئمة حكما عاما مطردا حتى يتم لنا الاستقراء بالنسبة لهذا العالم أو لعموم الأئمة، ودون الاطراد في أحكام الأئمة خرط القتاد لأن أحكامهم فيما اطلعنا عليه أو اطلع عليها غيرنا مختلفة، "قلت وعندي أن الحكم في هذا لا يستمر" يعني لا يمكن أن يصدر حكم عام مطرد "بل يختلف باختلاف قرائن الأحوال وهو موضع الاجتهاد وهو موضع الاجتهاد فإن غلب على الظن وهم الثقة في الوصل والرفع بمخالفة الأكثرين من الحفاظ الذين سمعوا الحديث معه من شيخه في موقف واحد ونحو ذلك من القرائن فإن الرفع أو الوصل حينئذ مرجوحان والحكم بهما حكم بالمرجوح وهو خلاف المعقول والمنقول أما المعقول فظاهر وأما المنقول فلأن جماعة من الصحابة وقفوا عن قبول خبر الواحد عند الريبة" يعني مثل ما توقف عمر من قبول خبر أبي موسى "وقفوا عن قبول خبر الواحد عند الريبة وشاع ذلك ولم ينكر كما فعله عمر في حديث فاطمة بنت قيس في أنه لا نفقة ولا سكنى للمطلقة المبتوتة" ويرى عمر أن في خبر فاطمة بنت قيس مخالفة للقرآن وقال أنترك كتاب الله الطلاق: ٦  أنترك كتاب الله لقول امرأة حفظت أو نسيت؟! "وحديث أبي موسى في الأمر بالاستئذان" مع أن حديث فاطمة بنت قيس في المبتوتة والآية عامة ويمكن حملها على الرجعية، "وحديث أبي موسى في الاستئذان وأبو بكر في حديث المغيرة بن شعبة في ميراث الجدة بل كما فعله علي رضي الله عنه في استحلاف من اتهمه عن وتوقفه عن قبوله حتى يحلف بل كما فعله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما أخبره ذو اليدين أنه قصر صلاته فإنه أنكر ذلك لأجل سكوت الجماعة اختصاص ذي اليدين بالخبر ولهذا قال -عليه السلام- «أحقا ما يقول ذو اليدين؟» يعني حتى أيده غيره ورأى أن قبول قول ذي اليدين في مقابل سكوت الجماعة لا يستقيم، فلما شهد له من شهد من الصحابة قبل خبرهم، "ولهذا قال عليه السلام «أحق ما يقول ذو اليدين؟» وأما ما رواه ثقتان على سواء أو قريب من السواء فالحكم لمن زاد لأنه لا يبعد أن يكون الذي نقص سواء كان من الإسناد فوقف المرفوع أو أرسل الموصول أو في المتن في معرض زيادات الثقات الحكم لمن زاد" لأنه لا يُؤمَن على من نقص الوهم والأصل أن الزيادة مقبولة، قال "وكذلك إذا كان أحدهما مثبتا والآخر نافيا مع تساويهما أو تقاربهما فالحكم للمثبِت" لأن المثبِت مقدَّم على النافي، اللهم إلا إذا كان مع النافي زيادة علم خفيت على المثبِت، وإن كان الأصل أن المثبِت يثبِت زيادة خفيت على النافي، "فالحكم للمثبت وبين ذلك مراتب في القوة والضعف لا يمكن حصرها" ولذا لا يمكن إصدار الحكم العام المطرد على جميع الصور بأن الحكم لمن رفع أو وقف أو وصل أو أرسل، لا يمكن الحكم بحكم مطرد؛ لأن "المراتب في القوة والضعف لا يمكن حصرها بل ينظر الناظر في كل ما وقع فيه هذا التعارض ويعمل فيه بحسب قوة ظنه فيه.

والله أعلم وصل الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

المسألة التي ذكرناها في السعي وأن سببه امرأة، ودخول السبب عند أهل العلم قطعي في النص، وأهل العلم يقولون أن المرأة لا تسعى يعني سعيا شديدا، وقلنا إن هذا معارَض في شرعنا بخشية انكشاف عورتها، وهذا أهم من ملاحظة ما جاء عن سبب هذا السعي وهو أم إسماعيل، نظير ذلك- وهذه مسألة أيضا من الدقائق- النهي عن الصلاة عن طلوع الشمس وغروبها لمشابهة المشركين، المشركون هل يصلون كصلاتنا عند طلوع الشمس أو عند غروبها صلاة ذات ركوع وقيام وسجود أم أنهم يكتفون بالسجود؟ فإذا طلعت سجد لها المشركون وإذا غربت سجد لها المشركون، إذًا دخول السجود في المنع السجود المفرد الذي تتم به المشابهة للمشركين دخوله على هذا قطعي، يعني إذا كان الإنسان يقرأ القرآن ووافق سجدة تلاوة عند طلوع الشمس أو عند غروبها قلنا هذا أولى بالمنع من الصلاة؛ لأنه هو الذي تتم به المشابهة التامة ودخوله في المنع قطعي، مع أن أهل العلم الذين لا يرون أن سجود التلاوة صلاة لا يرون السجدة المفردة وهي ليست صلاة داخلة في منع الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها؛ لأنه في النص يقول «لا صلاة» ثلاث ساعات كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينهانا أن نصلي فيهن، والسجود المفرد ليس بصلاة، مع أن المشابهة التامة للمشركين إنما تتم بالسجدة المفردة فهل نمنع من السجدة المفردة باعتبار أن المشابهة التامة للمشركين تكون فيه أوضح وأجلى من الصلاة بقيامها وركوعها وسجودها؟ أو نقول أن المنع والنهي عن الصلاة والسجدة المفردة ليست بصلاة؟ معروف عند من يقول إن سجدة الصلاة كالحنابلة لا يسجدون سجدة تلاوة في وقت النهي هذا معروف عندهم، لكن الذي يقول إنها ليست صلاة فيسجد بغير وضوء وقد يسجد إلى غير القبلة وإلى غير ذلك مما هو معروف عند شيخ الإسلام وغيره يرجحون أنها ليست بصلاة، فمثل هذه الأمور الدقيقة ينبغي الانتباه لها، فكون المرأة تمنع من السعي والسبب امرأة وأهل العلم يقولون دخول السبب قطعي في النص وكون الإنسان يسجد وقت بزوغ الشمس ووقت غروبها باعتبار أن السجدة المفردة ليست بصلاة، والمشابهة إنما تتم يعني العلة إنما تتحقق كاملة ظاهرة واضحة جلية في السجدة المفردة، لكن النص يقول «لا صلاة» وهذه ليست بصلاة، مثل هذه الأمور يهتم لها وينتبه لها وترد على ما يقوله أهل العلم من قواعد عامة أن دخول السبب في النص قطعي، أو يقولون مثلا أن العلة المنصوصة قطعية يدور معها الحكم وجودا وعدما وهذا تكملة للسؤال الذي قرأناه في بداية الدرس.

 

اللهم صل وسلم على عبدك...

"