التعليق على الموافقات (1433) - 06

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

نعم.

طالب: أحسن الله إليك.

 الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد،

فيقول المؤلف -رحمه الله تعالى-:

"الفصل الخامس: في البيان والإجمال، ويتعلق به مسائل:

 المسألة الأولى: إن النبي كان مُبيِّنًا بقوله وفعله وإقراره، لما كان مكلفًا بذلك في قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، فكان يبين بقوله- عليه الصلاة والسلام-، كما قال في حديث الطلاق: «فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء»، وقال لعائشة حين سألته عن قول الله تعالى: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق: 8]: «إنما ذلك العرض»، وقال لمن سأله عن قوله: «آية المنافق ثلاث»: «إنما عنيت بذلك كذا وكذا»، وهو لا يحصى كثرة.

وكان أيضًا يبين بفعله: «ألا أخبرته أني أفعل ذلك»، وقال الله تعالى: {زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ} الآية [الأحزاب: 37]، وبيَّن لهم كيفية الصلاة والحج بفعله، وقال عند ذلك: «صلوا كما رأيتموني أصلي»، و«خذوا عني مناسككم»، إلى غير ذلك".

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد، فوظيفة النبي -عليه الصلاة والسلام- بيان ما نُزل إليه، فالقرآن فيه الإجمال، ولم يفرِّط الله في شيء مما يُحتاج إليه: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38]، لكنه على سبيل الإجمال، فتجد اللفظ يتناول معاني كثيرة جدًّا، ولو جاءت مفصلة لتنطبق على كل واقع وكل واقعة بعينها، لجاء في أسفار لا تُحصى؛ لأن الوقائع والحوادث لا تكاد تنحصر. فجاء النبي -عليه الصلاة والسلام- ليبين هذا الإجمال، فبيَّن -عليه الصلاة والسلام- أتم البيان، بقوله وفعله وإقراره.

فالصلاة مثلًا: لو لم يرد في الصلاة إلا ما في القرآن، فهل نستطيع أن نعرف كيفية الصلاة؟ لا نعرفها، إنما نعرفها من خلال السنة، نعرفها إجمالًا، ونعرف حكمها في القرآن، لكن تفصيلها في السنة، وبيانها في السنة. فإذا احتمل اللفظ أمرين فأكثر لا مزية لواحد منهما على غيره، فهذا هو الإجمال، ثم يأتي البيان بالتفصيل منه -عليه الصلاة والسلام-. وهذه الصلاة التي هي أعظم شعائر الإسلام جاء الأمر بها في القرآن، وجاءت الإشارة مع نوع من الإجمال إلى مواقيتها، ثم جاءت السنة ببيان ذلك بيانًا شافيًا من قوله وأفعاله -عليه الصلاة والسلام- وإقراره.

إلى غير ذلك من واجبات الدين كالزكاة مثلًا: من أين نعرف أنصبة الزكاة، وشروط الزكاة، وشروط وجوب الزكاة؟ نعم، نعرف الأصناف الذين تُصرف إليهم هذه الزكاة في القرآن، لكن الأنصبة كيف نعرف نصاب الذهب، والفضة، وبهيمة الأنعام، وعروض التجارة، والخارج من الأرض، هل نعرفها من القرآن؟ لا، نعرفها ببيان النبي -عليه الصلاة والسلام-، وما ترك شيئًا -عليه الصلاة والسلام- إلا دل الأمة عليه، وما تركهم في حيرة، فلا يوجد في القرآن شيء غير مبين.

قد يوجد شيء من المتشابه يقف عنده أهل العلم حائرين لمدى أو اختبار مدى إيمان المكلف ويقينه؛ لأنه أحيانًا يرد عليه شيء لا يصل فيه إلى حل، تراجع جميع التفاسير ما ينحل الإشكال، فيكون هذا من المتشابه الذي أُمرنا بالإيمان به والتسليم لله -جل وعلا- فيه، وهذا نوع امتحان للمكلفين، يعني هل يقولون: {آمَنَّا بِهِ} [آل عمران: 7]؟ أو يتتبعون المتشابه فيضلون بسببه، ويضلون غيرهم من أهل الزيغ، هذه وظيفتهم يتتبعون المتشابه، وأما المؤمنون والعلماء الراسخون فـ{يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7]، لا المحكم الذي عرفناه بالتفصيل، ولا المتشابه الذي لم نهتدِ إلى بيان معناه. فالحكمة من وجود هذا المتشابه؛ لئلا يقال: أين البيان إذا وُجد المتشابه؟ ما نفهمه؟ نقول: البيان حصل، وإذا لم يحصل صار من نوع المتشابه الذي يجب الإيمان به والإذعان لله -جل وعلا- فيه، ويكون فائدته اختبار المكلف.

طالب: "وكان إقراره بيانًا أيضًا، إذا علم بالفعل ولم ينكره، مع القدرة على إنكاره ولو كان باطلًا أو حرامًا، حسبما قرره الأصوليون في مسألة مُجزز المدلجي وغيره، وهذا كله مبيَّن في الأصول، ولكن نصير منه إلى معنى آخر".

يعني هذا الذي ذكره المؤلف يوافقه عليه العلماء من أهل الأصول وغيرهم، لكنه ينحى في ذلك إلى منحى آخر، ومعنى آخر، هو لا يخالف في هذا، وأن البيان كما يحصل بالقول يحصل بالفعل، ويحصل بالإقرار، وله أيضًا منحى آخر، ومعنى آخر، وهي المسألة التي تليها.

طالب: "ولكن نصير منه إلى معنى آخر، وهي المسألة الثانية: وذلك أن العالم وارث النبي، فالبيان في حقه لا بد منه من حيث هو عالم، والدليل على ذلك أمران؛ أحدهما: ما ثبت من كون العلماء ورثة الأنبياء، وهو معنى صحيح ثابت، ويلزم من كونه وارثًا قيامه مقام موروثه في البيان".

إذا لم يبين لا بقوله ولا بفعله العالمُ، ولا يكون قدوة حسنة للناس يقتدون به؛ فهذا ليس بوارث، وإن زعم العلم وزُعم له ذلك. إذا لم يبيِّن وكتم؛ فهذا عليه الوعيد الشديد. هذا العامي أفضل منه، وعمله وبال عليه، فلا بد أن يبين، وأخذ العهد والميثاق على أهل العلم بالبيان: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة: 159]، فلا بد من البيان.

نعم، قد يوجد العالم في ظرف بحاجة ماسة إلى البيان، لكنه لا يستطيع، عاجز عن هذا البيان؛ لما يخشى على نفسه من الضرر المحقق، حينئذٍ يُعذر إذا وُجد مبرر، أما إذا لم يوجد مبرر فإنه آثم، ويدخل في اللعنة، إذا وُجد المانع أو العذر فإنه يُعذر، وإن ارتكب العزيمة فهو أفضل، وتحمَّل ما يترتب على هذا البيان، لا شك أنه أكمل. والأنبياء تلقوا من الأذى ما تلقوه، كذلك ورَّاثهم وأتباعهم، إلى قيام الساعة، يتحملون. نعم، ينبغي على العالم أن يكون كالطبيب، يلاحظ المفاسد والمصالح، ويكون يعالج مشاكل المجتمع بطريقة لا يترتب عليها مفاسد أعظم مما أراد أن يبينه أو ينكره.

طالب: أحسن الله إليك، هذا يسع حتى الذي يتعين عليه.......؟

على كل حال: الإمام أحمد -رحمه الله- كان بوسعه أن يؤول، وكان بوسعه أن يسكت، وشيخ الإسلام كذلك، لكنهم تحملوا العزائم وتحملوا ما تحملوا وما ترتب على ذلك من الأذى. ولولا، والعلم عند الله -جل وعلا-، لولا صبر الإمام أحمد على تحمل السجن والجلد والتضييق، والعلم عند الله -جل وعلا-، أن مسألة خلق القرآن تقرر إلى الآن. لكن رفع الله بصبره واحتسابه وبيانه للناس، رفع الله الغمة عن جميع الأمة، ولله الحمد، بقي من كُتب عليه الخذلان، بقي من كُتب عليه الضلال: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56]، فهو يسعى، ويبين للناس، وتبرأ عهدته بذلك.

طالب: "وإذا كان البيان فرضًا على الموروث لزم أن يكون فرضًا على الوارث أيضًا، ولا فرق في البيان بين ما هو مشكل أو مجمل من الأدلة، وبين أصول الأدلة في الإتيان بها، فأصل التبليغ بيان لحكم الشريعة، وبيان المبلغ مثله بعد التبليغ".

نعم، الرسول -عليه الصلاة والسلام- يقول: «بلغوا عني»، هو مبلغ عن الله -جل وعلا-، النبي -عليه الصلاة والسلام- مبلغ عن الله، والذي يسمعه يبلغ عنه، وهكذا، وهكذا كلٌّ يبلغ ما سمعه ولو كان قليلًا، لا يقول: أنا واللهِ ما أنا من أهل العلم، ما علي شيء؟ بلى عليك، بيان ما وصلك من علم بدليله يلزمك بيانه، لكن لا يجوز لك أن تتعدى إلى ما لا تعرف، فتبين للناس بالباطل، ويترتب على بيانك من الضرر الشيء الكثير مما لا مصلحة فيه، أما الذي ينتظر حتى يكون عالمًا، أقول: أنا واللهِ ما أقدر حتى أكون عالمًا؛ هذا ليس صحيحًا.

طالب: "والثاني: ما جاء من الأدلة على ذلك بالنسبة إلى العلماء، فقد قال: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} الآية [البقرة: 159] ".

أبو هريرة -رضي الله عنه- في الحديث الصحيح يقول: «لولا آيتان من كتاب الله ما حدثتُ»، فذكر الآيتين من سورة البقرة، في الموضع الأول أم في الموضع الثاني؟

طالب: في الأول.

ماذا؟

طالب: في الأول.

الإشارة، الرقم للموضع الأول الذي عندنا في هذا، لكن مراد أبي هريرة الموضع الثاني أم الموضع الأول؟

طالب: الأول.

ماذا؟

طالب: .......

طيب، والثاني؟

طالب: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ} [البقرة: 174].

نعم، لأني رأيت بعض من حققوا الكتب، بعد ذِكر الآيتين، رقَّم: مائة وستًّا وسبعين وسبعة وسبعين، الموضع الثاني.

طالب: "{وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 42]".

نعم؛ لأنه لا يخلو، إما أن يبين، أو يسكت ويكتم، أو يبين على خلاف المراد. فالأول من يبين على المراد، فهذا علماء الملة الذين هم على الجادة. والثالث الذي يبين على خلاف المراد، فهذا علماء الضلال، وهم الرؤساء الجهال الذين يُتخذون في آخر الزمان إذا انتهى الصنف الأول من الأرض: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من صدور الرجال، ولكن بقبض العلماء، فإذا لم يُبق عالمًا اتخذ الناس رءوسًا جهالًا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا»، نسأل الله العافية. فالذي يكتم ويسكت، وكل على تأويله، إما أن يسكت خوفًا، وإما أن يسكت تكاسلًا وعجزًا، وأكثر ما يحمل الناس على الكتمان وعدم البيان الخوف، الخوف المحقق أو المظنون، والأعمار بيد الله والأرزاق بيده -جل وعلا-.

طالب: "{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ} [البقرة: 140]، والآيات كثيرة. وفي الحديث: «ألا ليبلغ الشاهد منكم الغائب»، وقال: «لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله مالًا فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها»، وقال: «من أشراط الساعة أن يُرفع العلم ويظهر الجهل»، والأحاديث في هذا كثيرة. ولا خلاف في وجوب البيان على العلماء، والبيان يشمل البيان الابتدائي، والبيان للنصوص الواردة والتكاليف المتوجهة".

النبي -عليه الصلاة والسلام- عنده بيان ابتدائي غير مربوط بآية؛ لأن بالسنة من الأحكام ما لا يوجد له أصل في القرآن، وهو أيضًا وحي: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4]. لكن هل عند أهل العلم من البيان الابتدائي؟ عندهم شيء يبتدءون به دون أصل من كتاب أو سنة؟ ليس عندهم شيء من ذلك.

طالب: "فثبت أن العالم يلزمه البيان من حيث هو عالم، وإذا كان كذلك انبنى عليه معنًى آخر، وهي المسألة الثالثة، فنقول: إذا كان البيان يتأتى بالقول والفعل، فلا بد أن يحصل ذلك بالنسبة إلى العالم".

نعم، كما فعل النبي -عليه الصلاة والسلام- في الصلاة، بيَّن أحكامها بالأحاديث القولية الكثيرة، وبَّينها بأفعاله -عليه الصلاة والسلام-، صلى وقال: «صلوا كما رأيتموني أصلي»، نعم.

طالب: "كما حصل بالنسبة إلى النبي ، وهكذا كان السلف الصالح ممن صار قدوةً في الناس، دل على ذلك المنقول عنهم حسبما يتبين في أثناء المسائل على أثر هذا بحول الله، فلا نُطول به هاهنا؛ لأنه تكرار".

لا شك أن من بين للناس في أي عصر، لا شك أنه يكون له أثر في الأمة، ويكون له لسان صدق في العالمين، والبيان -مثل ما ذكرنا- كما يكون بالقول يكون بالفعل، فالعلماء قدوات الناس، لا سيما العلماء الربانيين الذين يقتدون بهم الناس، ويهتمون بأفعالهم وأدائها على منهج النبوة؛ لأننا مع الأسف نرى بعض من ينتسب إلى العلم، ويتخصص في الحديث مثلًا بالسنة، ثم إذا جاء يصلي -وهو يعرف الأحكام بالتفصيل بأدلتها- أداها على أي وجه! واللهِ إني لأعجب من بعض الناس، طالب علم ومتخصص في الأحاديث، ويعرف، ويدرس أحاديث الأحكام سنين، وإذا صف يصلي كأنه عامي، ما كأنه مر عليه علم! هذا ليس ممن يقتدى به، ولن يكون له قدم صدق ولا أثر في الأمة.

لا بد أن يكون قوله موافقًا لفعله، وأن يكون قدوة بالفعل كما يكون قدوة بالقول. والبيان بالنسبة لأهل العلم يكون بالقول، بالتعليم مثلًا، تعليم العلم لطلابه وتعليم العامة، ويكون أيضًا بالتأليف وهذا أدوم؛ لأنه يستمر في الأجيال، كما أنه يكون بفعله، وسيأتي في كلام المؤلف أيهما أقوى أثرًا: البيان بالفعل أو البيان بالقول.

طالب: "المسألة الرابعة: إذا حصل البيان بالقول والفعل المطابق للقول، فهو الغاية في البيان، كما إذا بين الطهارة أو الصوم أو الصلاة أو الحج أو غير ذلك من العبادات أو العادات، فإن حصل بأحدهما فهو بيان أيضًا، إلا أن كل واحد منهما على انفراده قاصر عن غاية البيان من وجه، بالغ أقصى الغاية من وجه آخر".

نعم، إذا حصل البيان بالقول، قد لا يكون القول كافيًا في تصوير ما يراد بيانه، أنت الآن ذكرت الحكم وشرحت الحكم، يبقى فيه شيء من الخفاء على بعض الناس، يعني يفهمه بعض الناس، لكن بعضهم إذا بينته بالفعل كان أوقع في نفسه، وعامة المسلمين تلقوا الأحكام من أهل العلم بالفعل، ولو اقتصروا على القول قد لا يدركون كل شيء، إنما تلقوه بالفعل. وهذا ظاهر في المجتمعات المقلّدة، علماؤهم على مذاهب، تجده يتقن الصلاة على مذهب الإمام القديم بناءً على ما تلقاه من شيخه أو من الشيوخ المعاصرين، وإذا جاء شخص من مذهب آخر، وأدّى بعض العبادات على مقتضى مذهبه، وفيها ما يختلف مع مذهب البلد، تجد الإنكار الشديد! هذه طبيعة العامة، لا يستوعبون كل شيء، ما وصلهم كل شيء، فتجد العامي يضبط الصلاة ويتقنها، لكنه في حدود ما رأى في أهل العلم. فالبيان بالفعل من هذه الحيثية أقوى وأكثر استيعابًا؛ لأنه مدرَك بالحواس، وما يُدرك بالحواس أوقع في النفس مما يُدرك بالأخبار. نعم.

طالب: "فالفعل بالغ من جهة بيان الكيفيات المعينة المخصوصة التي لا يبلغها البيان القولي، ولذلك بين -عليه الصلاة والسلام- الصلاة بفعله".

أحيانًا يكون عند العالم فكرة، عنده شيء يريد أن يبينه بقوله فلا يستطيع، يقصر البيان عن توضيح ما في نفسه، ثم إذا فعله انتهى الإشكال، عرفه الخاص والعامي. مدرس يشرح في قاعة في كلية من الكليات حديث «من مس ذكره فليتوضأ»، طالب من الطلاب الوافدين من شرق آسيا يسأل عن الذَّكر ما هو؟! جاء المدرس بجميع أسمائه، ما استوعب. ما بقي إلا بيانه! ما فيه إلا يقول لزميله: علِّم صاحبك، ما عاد فيه فائدة. فالبيان قصر، البيان بالقول قصر عن إدراك الحقيقة. وأحيانًا يكون الشيخ عنده شيء من القصور في البيان، الناس ما هم بعلى مستوى واحد في بيانهم، لا، بعض الحقائق يدركها تمامًا ويعرفها وهاضم للمسألة، لكن بيانه لها قاصر، فيبينها بفعله.

طالب: "فالفعل بالغ من جهة بيان الكيفيات المعينة المخصوصة التي لا يبلغها البيان القولي؛ ولذلك بين -عليه الصلاة والسلام- الصلاة بفعله لأمته، كما فعل به جبريل حين صلى به، وكما بين الحج كذلك، والطهارة".

الآن يُحرص عند التربويين التعليم المقرون بوسائل الإيضاح، لكنهم بالغوا في ذلك، بالغوا في ذلك وأوضحوا الواضحات التي يعرفها الأطفال قبل الكبار، بالغوا في ذلك وإلا الأصل في الإيضاح أو البيان بالوسائل مطلوب إلى حد ما. أما أن يكون غاية ويطغى على غيره، وفي النهاية تكون الحصيلة أقل بكثير، وقد يكون في الاهتمام بهذا الجانب نوع صد عن التعلم. يعني كان مقررًا في بعض المواد عشر صفحات، ثم صار إلى ثلاثمائة صفحة. الطفل الذي في أولى أو ثانية ابتدائي إذا رأى هذا المجلد، هو كله صور يعني ما فيه لب، إذا رأى هذا المجلد أُسقط في يده، وضعه مع اثنين ثلاثة ما يريد أن يحملهم بعد. والمدرس يأخذ شهرًا ليعلم الطالب القط مثلًا، وسيلة الإيضاح قدامه قط كبير، وتحت قاف وطاء، ويلقنه: هذه قاف وذي طاء، قاف طاء إلى آخره، وهو يعرفه وعندهم بالبيت هو! ما هو ببعيد، وفي نهاية الشهر يقول له: اقرأ يا بني، يقول: بِس! ما يتعلم ولا شيئًا من هذا! صحيح البيان بالفعل له واقع، لكن لا يبالغ فيه. يُبيَّن الشيء الذي ما يعرف، أما بيان البين فسفه هذا.

طالب: "وكما بين الحج كذلك، والطهارة كذلك، وإن جاء فيها بيان بالقول، فإنه إذا عُرض نص الطهارة في القرآن على عين ما تُلقي بالفعل".

الطالب إذا اعتُني به واهتُم به وحُفِّظ في وقت الحفظ بدون وسائل ولا شيء، خلوه يخزن محفوظه الآن، ثم إذا كبر واستوت مداركه يفهم، وهذه طريقة المتقدمين في التعليم، ولا نقول: إن الوقت اختلف، والناس جاءتهم الصوارف. طفلة عمرها ثلاث سنوات، تدرس في روضة عندها شيء من العناية، لما جلست قالت لي: ابدأ بالتمر اتباعًا للسنة! واللهِ إني أتلفت من قال هذا، واللهِ إن هذا حاصل. ثم تبدأ: سلم الوصول إلى علم الأصول في توحيد الله -جل وعلا- واتباع الرسول، وتسرد منظومة الشيخ حافظ كاملة بدون أي خطأ! الطفل يحتمل، لكن يحتاج إلى عناية. أما أن تجيء بأفلام كرتون، وتجيء بكذا وكذا واللعبة التي يسمونها إيش؟ التي يلعبون بها؟

طالب: .......

نعم، وتجعلونه يلعب ليل نهار ثم النتيجة لا شيء؟ واللهِ لا شيء. وتقول: هذه وسائل إيضاح، خلوه يكبر، وتنمى مداركه وينتهي. خلوه الآن يحفظ، ثم إذا بدأ بالفهم خلوه يفهم. وعاشت الأمة أربعة عشر قرنًا ما يعرفون الصور هذي، وأدركوا الشيء الكثير. نعم، كثير من الناس ما أدرك، صحيح، وما كل الناس خُلقوا علماء. خلهم يقضون مصالح المسلمين، ويفون بها، وينتجون في مجالات أخرى، المزارع والصانع والتاجر وغير ذلك. فلو كل الأمة اتجهت إلى العلم فماذا يصير؟ تتعطل المصالح وتكدس الناس في بيوتهم لا وظائف ولا فيه شيء، والمزارعات تتعطل، والصناعات تتعطل، لا هم باغين أعمالًا شاقة، يبغون موظفًا على مكتبه، وكل ما يهم في تصور هذا الشاب أنه يضغط على الجرس فيأتي له بالشاي ثم يقوم يروح يتوضأ والمكيف، هذا هو ما يبغي.

لكن ينتج وهو بهذا التصور؟ لا، عُطلت المزارع، وعُطلت المصانع، كلها على يد عمالة وافدة، والله يجعل العواقب حميدة. يُربى الطلاب على طريقة أهل العلم في تدريسهم وتعليمهم، وما يلزم أن أجيء بكتاب مجلد فيه بيان الصلاة والصور، وبيان الوضوء، توضأ قدامه ويعرف؛ ولذلك شُرعت صلاة النافلة في البيت، وهذا من أعظم أهدافها: أن يتعلم النساء والذراري كيفية الصلاة.

طالب: "وكما بين الحج كذلك، والطهارة كذلك، وإن جاء فيها بيان بالقول. فإنه إذا عُرض نص الطهارة في القرآن على عين ما تُلقي بالفعل من الرسول -عليه الصلاة والسلام-، كان المدرك بالحس من الفعل فوق المدرك بالعقل من النص لا محالة".

بلا شك، خليك تجتهد وتفهم النص: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238]، ماذا تفهم من هذا النص في كيفية الصلاة؟ خلي ذهنك يسرح كل مسرح، ويتوقع كل شيء، ويصلي ألف صلاة، يمكن أن تقع واحدة منها موافقة للسنة؟ ما يمكن إلا بفعله -عليه الصلاة والسلام-.

طالب: "مع أنه إنما بُعث ليبين للناس ما نُزل إليهم. وهبه -عليه الصلاة والسلام- زاد بالوحي الخاص أمورًا لا تُدرَك من النص على الخصوص، فتلك الزيادات بعد البيان إذا عُرضت على النص لم ينافها بل يقبلها، فآية الوضوء إذا عُرض عليها فعله -عليه الصلاة والسلام- في الوضوء شمله بلا شك، وكذلك آية الحج مع فعله -عليه الصلاة والسلام- فيه، ولو تُركنا والنص لَمَا حصل لنا منه كل ذلك؛ بل أمر أقل منه".

وماذا تعرب "النص" هنا، "ولو تُركنا والنص"؟

طالب: مفعول معه؟

ماذا؟

طالب: .......

طالب: مفعول معه؟

مفعول معه نعم؛ لأن النون نائب فاعل، ومقتضى العطف أن يكون مرفوعًا.

طالب: "وهكذا نجد الفعل مع القول أبدًا، بل يبعد في العادة أن يوجد قول لم يوجد لمعناه المركب نظير في الأفعال المعتادة المحسوسة، بحيث إذا فُعل الفعل على مقتضى ما فهم من القول، كان هو المقصود من غير زيادة ولا نقصان ولا إخلال، وإن كانت بسائطه معتادةً كالصلاة والحج والطهارة ونحوها، وإنما يُقرِّب مثل هذا القول الذي معناه الفعلي بسيط".

نعم. من أهل العلم من ضبط العلم، وأتقن العلم في كتب العلم، وعن أهل العلم، في باب الحج مثلًا الذي لا بد أن يرحل إليه، ما هو متيسر أن يتعلم الحج فعليًّا بالفعل وأنت في بلدك البعيد عن مكة. أهل الأندلس تلقوا الحج بالفعل أم بالقول؟

طالب: بالقول.

بالقول، وأهل المشرق والمغرب كثير منهم وهو من أهل العلم قرأ في المناسك وقرأ في النصوص، وألف في المناسك، يوم حج.

طالب: تغير.

غيَّر رأيه في كثير من المسائل، بعضهم أحرق المنسك؛ مما يدل على أن البيان بالفعل له أهميته الكبرى.

طالب: "ووُجد له نظير في المعتاد، وهو إذ ذاك إحالة على فعل معتاد، فبه حصل البيان لا بمجرد القول. وإذا كان كذلك، لم يقم القول هنا في البيان مقام الفعل من كل وجه، فالفعل أبلغ من هذا الوجه. وهو يقصر عن القول من جهة أخرى؛ وذلك أن القول بيان للعموم والخصوص، في الأحوال والأزمان والأشخاص".

نعم، القول له عموم، وله خصوص، لكن الفعل لا عموم له، فالقول أشمل من هذه الحيثية. نعم.

طالب: "فإن القول ذو صيغ تقتضي هذه الأمور وما كان نحوها، بخلاف الفعل، فإنه مقصور على فاعله، وعلى زمانه، وعلى حالته، وليس له تعدٍّ عن محله ألبتة".

لكن الآن الفعل، يعني تصور أن شخصًا بين الوضوء بفعله والصلاة بفعله، في الزمن السابق خلاص انتهى على هذه المجموعة التي رأته، لكن إذا صور بالفيديو أو صور بآلة أو بشيء، يستمر له وللأجيال التي بعده؛ ولهذا يحرص بعض أهل العلم ويرخص في التصوير في هذا الباب، أنه إذا كان للتعليم فأمره خفيف. ويبقى أن المحرم حرام، وما عند الله لا ينال بسخطه، وإذا ما بينت أنت بيَّن غيرك، ويبعث الله في الأمة من يبين لها. أيضًا التعليم كان قاصرًا على المجموعة التي بين يدي المعلم، والبيان يحصل بقوله لهم فقط، لكنه الآن صار يتعدى بسبب التسجيل، ولله الحمد، ويستمر النفع؛ ولذلك التعليم مهم جدًّا بالنسبة للعالم في مجال البيان، ويستمر نفعه إلى ما لا نهاية إن شاء الله تعالى في هذه الآلات الحافظة، بعد أن كان مقصورًا على الحضور.

 والتأليف أيضًا يستمر نفعه في الأجيال، ووصلنا من المؤلفات التي زادت تأليفها على عشرة قرون، وهي موجودة بين أيدينا، ويفاد منها، ويدعى لأصحابها، ومؤلفيها، والله المستعان. نعم.

طالب: "فلو تُركنا والفعل الذي فعله النبي مثلًا، لم يحصل لنا منه غير العلم بأنه فِعْلُه في هذا الوقت".

"فَعَلَهُ".

طالب: "لم يحصل لنا منه غير العلم بأنه فَعَلَهُ في هذا الوقت المعين، وعلى هذه الحالة المعينة".

التي عُبِّر عنها، عَبَّر عنها بعض الحاضرين، بيَّن بفعله: فعل كذا، وفعل كذا، وفعل كذا، ويبقى أنه في النهاية بيان بالقول. أما الفعل فانتهى بفراغه منه.

طالب: "فيبقى علينا النظر: هل ينسحب طلب هذا الفعل منه في كل حالة، أو في هذه الحالة، أو يختص بهذا الزمان، أو هو عام في جميع الأزمنة، أو يختص به وحده، أو يكون حكم أمته حكمه؟

ثم بعد النظر في هذا يتصدى نظر آخر في حكم هذا الفعل الذي فعله: من أي نوع هو من الأحكام الشرعية؟".

لأن البيان بالقول، الألفاظ لها دلالاتها ومعانيها، البيان بالقول: الأمر غير العرض بدون أمر أو نهي، يختلف الحكم من هذا إلى هذا. بينما الفعل ما يؤخذ منه وجوب، قام وصلى، ما الذي يفرق بين التشهد الأول والتشهد الأخير فيُحكم على هذا بأنه واجب، وهذا ركن بمجرد الفعل؟

طالب: ما يفرق.

فهو أقصر من هذه الحيثية من البيان بالقول.

طالب: "وجميع ذلك وما كان مثله لا يتبين من نفس الفعل، فهو من هذا الوجه قاصر عن غاية البيان، فلم يصح إقامة الفعل مقام القول من كل وجه، وهذا بيِّن بأدنى تأمل، ولأجل ذلك جاء قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، وقال حين بيَّن بفعله العبادات: «صلوا كما رأيتموني أصلي»، و«خذوا عني مناسككم»، ونحو ذلك؛ ليستمر البيان إلى أقصاه.

فصل: وإذا ثبت هذا، لم يصح إطلاق القول بالترجيح بين البيانين، فلا يقال: أيهما أبلغ في البيان؛ القول أم الفعل؟".

نعم؛ لأن البيان أبلغ بالفعل من وجه، وأبلغ بالقول من وجه، كما تقدم.

طالب: "إذ لا يصدقان على محل واحد إلا في الفعل البسيط المعتاد مثله".

"الفعل البسيط المعتاد" الذي هو غير مركب من أجزاء، "الفعل البسيط" يعني غير المركب، ليس له إلا جزء واحد، فإذا لفظت به عرفه المتكلم؛ لأنه ليست له أجزاء تحتاج إلى بيان، فسواء لفظت به أو فعلته ما فيه فرق.

طالب: "البسيط المعتاد مثله إن اتفق، فيقوم أحدهما مقام الآخر، وهنالك يقال: أيهما أبلغ، أو أيهما أولى؟ كمسألة الغُسل من التقاء الختانين مثلًا، فإنه بُين من جهة الفعل ومن جهة القول عند من جعل هذه المسألة من ذلك، والذي وُضع إنما هو فعله ثم غَسْلُه".

"غُسْلُه".

طالب: "ثم غُسْلُه، فهو الذي يقوم كل واحد من القول والفعل مقام صاحبه، أما حكم الغُسل من وجوب أو ندب وتأسي الأمة به فيه، فيُختص بالقول".

اللهم صل على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

* * *

ماذا ؟

طالب: .......

عقاب أيش؟

طالب: .......

العقاب فِعل، جلد الزاني والشارب فِعل، وفيه بيان، وكيفية الجلد أيضًا بيان، والعدد بيان.