التعليق على الموافقات (1428) - 01

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

سمّ.

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله ومن والاه، وبعد:

قال المؤلف –رحمه الله-: "النوع الثالث في بيان قصد الشارع في وضع الشريعة للتكليف بمقتضاها ويحتوي على مسائل:

المسألة الأولى: ثبت في الأصول أن شرط التكليف أو سببه القدرة على المكلف به، فما لا قدرة للمكلف عليه لا يصح التكليف به شرعًا وإن جاز عقلاً، ولا معنى لبيان ذلك هاهنا، فإن الأصوليين قد تكفلوا بهذه الوظيفة، ولكن نبني عليها، ونقول: إذا ظهر من الشارع في بادئ الرأي القصد إلى التكليف بما لا يدخل تحت قدرة العبد".

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد...

فإن التكليف له شروط منها: القدرة على المكلَّف به على خلافٍ بين أهل العلم في ذلك.

منهم من يرى أن القدرة شرط، وهو الذي استقر عليه الأمر بعد نسخ التكليف بتقوى الله حق تقاته {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة:286].

منهم من يقول: إن هذا التكليف بما لا قدرة على المكلَّف به جائز عقلاً ولولا جوازه لما طُلب رفعه، وإن لم يقع شرعًا؛ لأن الله –جلَّ وعلا- لا يُكلِّف بما لا يُقدر عليه، لاسيما في هذه الشريعة المبنية على اليسر والتسهيل، ورفع الآصار والأغلال التي كانت على الأمم السابقة.

وأما كون القدرة سبب للتكليف فلا، يعني: كون المكلف يقدر على هذا فمعناه: أن قدرته سببٌ للتكليف به فلا؛ لأننا نعلم ان المكلفين يقدرون على أفعالٍ لم يُكلفوا بها، فلم تكن قدرتهم سببًا لتكليفهم بها، فالمسألة طرديةٌ وعكسية، كُلفوا بما يقدرون عليه، ولم يُكلفوا بجميع ما يقدرون عليه، ولو قلنا: أنهم مُكلفون بجميع ما يقدرون عليه لكانت القدرة سببًا للتكليف، وما ذكره المؤلف ولا يُعلم له موافق ما في أحد قال: أن القدرة سبب للتكليف، نعم يقدرون على صيام شهرين أو ثلاثة، لكن هل كُلِّفوا بصيام شهرين أو ثلاثة؟ ما كُلِّفوا بهذا، لكنهم لم يُكلفوا بما لم يقدروا عليه صيام أسبوع متواصل أو عشرة أيام متواصلة دون فطر هذا لا يقدرون عليه، فلم يُكلفوا به، وجاء النهي عن الوصال كله من باب التيسير على هذه الأمة.

يقول: "فما لا قدرة للمكلف عليه لا يصح التكليف به شرعًا وإن جاز عقلاً" جوازه عقلاً للدعاء برفعه {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} [البقرة:286] ولو لم يجز عقلاً لما طُلب رفعه

"ولا معنى لبيان ذلك هاهنا" يعني: أن المقام لا يحتاج إليه، نعم.

"فذلك راجعٌ في التحقيق إلى سوابقه أو لواحقه أو قرائنه، فقول الله تعالى: {فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون} [البقرة:132]".

يعني لا يُطلب من هذا الأمر تحقيق ما أُمر به، وإنما يُطلب الثبات عليه حتى الوفاة الثبات عليه إما بالسابق أو باللاحق، يُطلب الأمر بطلب سابقه، كما أنه يُطلب بطلب لاحقه، وهنا المقصود به الثبات عليه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا} [النساء:136] أيش معنى آمنوا وهم مؤمنون؟ يعني دوموا على إيمانكم واثبتوا عليه باعتبارٍ لاحق كالسابق، نعم.

"وقوله في الحديث: «كُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْمَقْتُولَ وَلَا تكن عبد الله القاتل» وقوله: «لا تمت وَأَنْتَ ظَالِمٌ»"

الخبر يُروى من طرق كثيرة، لكن كلها لا تسلم من ضعف، وهذا في أيام الفتن، وحينما لا تتبين الأمور، إذا اختلطت الأمور ولم يتبين للإنسان أنه يقتل خصمه على حق عليه من الله برهان، فإنه حينئذٍ يُقتل أسهل من أن يقتل؛ لئلا يُصيب دمًا حرامًا، مع أن الدفاع عن النفس مطلوب شرعًا، دفع الصائل بقدر الإمكان مطلوب، لكن إذا التبست هذه الأمور فإنه حينئذٍ يكف، نعم.

طالب:.........

إذا تبين أمره أنه صائل، وليس له أي دعوى لقتله، وأنه لم يستحق القتل بوجهٍ من الوجوه يدفعه «من قُتل دون نفسه فهو شهيد»، نعم.

"وما كان نحو ذلك ليس المطلوب منه".

وقوله: «لا تمت وَأَنْتَ ظَالِمٌ» يقول المُحقق: أنه لم يعثر عليه بهذا اللفظ، وإن كان معناه مثل: {فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون} [البقرة:132] المقصود أنك تتنصل من الظلم، وتموت على هذا، نعم.

"وما كان نحو ذلك ليس المطلوب منه إلا ما يدخل تحت القدرة وهو: الإسلام وترك الظلم، والكف عن القتل، والتسليم لأمر الله، وكذلك سائر ما كان من هذا القبيل.

ومنه ما جاء في حديث أبي طلحة حيث ترَّس على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يوم أُحد، وكان -عليه الصلاة والسلام- يتطلع ليرى القوم، فيقول له أبو طلحة: "لا تشرف يا رسول الله، لا يصيبوك" الحديث، فقوله: "لا يصيبوك" من هذا القبيل".

كيف صار من هذا القبيل "لا يصيبوك"؟ لأن هذا فرع من النهي السابق، وإن كان بلفظ النهي لكنه التماس "لا يصيبوك" يعني: لئلا يُؤدي الأمر إلى إصابتك، فقوله: "لا يصيبوك" من هذا القبيل، يعني أنه مطلوبٌ منك عدم الإصابة، يعني ابذل السبب واحتمي بهذا الترس وتترس به؛ خشية أن يُصيبوك.

وقوله: "لا يصيبوك" الآن هذا المخاطب به النبي –عليه الصلاة والسلام- أو من يُصيب؟ يُخاطب بمثل هذا من يُصاب أو من يُصيب؟

طالب: من يُصاب.

المصاب ليس بيده إلا بذل السبب لاتقاء الإصابة، والفاعل بالفعل في مثل هذا هو المصيب، فهل هذا أمرٌ للمصيب أو نهيٌ له؟ هل هو نهيٌ للكفار لا يُصيبون النبي عليه الصلاة والسلام؟ ليس نهيًا لهم، وإنما هو أمرٌ ببذل السبب سبب الاتقاء من الإصابة.

فما وجه كونه من هذا القبيل؟ إن المقصود أنه لا يُراد به حقيقة الأمر بالشيء ولا النهي عنه؛ لأنه ليس باليد ولا بالإمكان، وإنما الذي باليد فعل السبب، نعم.

"المسألة الثانية: إذا ثبت هذا، فالأوصاف التي طُبع عليها الإنسان كالشهوة إلى الطعام والشراب لا يُطلب برفعها، ولا بإزالة ما غُرز في الجبلة منها، فإنه من تكليف ما لا يُطاق، كما لا يُطلب بتحسين ما قبح من خِلقة جسمه، ولا تكميل ما نقص منها".

نعم الأمور الجِبلية التي لا يد للمكلف فيها، فإنه لا يُطالب بها إيجادًا ولا رفعًا، ولا يُذم بها ولا يُحمد عليها، وإنما الذم والمدح إنما هو على الاختيار الذي بيده أن يفعل وبيده ألا يفعل.

أما ما جُبِل عليه فإنه لا يُطالب به، الأمور الجِبلية لا يُطالب بها، لكن إذا كانت مكونة من شقين:

منها الجبلي، ومنها المكتسب، يُطالب بالمكتسب، ولا يُطالب بالجبلي.

رجلٌ غضوب النبي –عليه الصلاة والسلام- قال لمن استنصحه قال: «لا تغضب» هل قال: هذا جِبلة ما أستطيع؟ يُقال له: المسألة مكونة من شقين الجِبلة ما أنت مُطالب بها، لكن تحلَّم؛ لتكون حليمًا، والحلم بالتحلُّم، فأنت مُطالب بما تقدر عليه، قال له: اقرأ، قال: ما أنا بقارئ، يستمر على هذا؟ يعني عامي ما يقرأ ولا يكتب يستمر يقول: ما أنا بقارئ مع أنه يقدر على ذلك؟ أثناء جهله لا يُطالب، لكن عليه أن يتعلم؛ ليكون عالمًا وهكذا.

فالجبلي المحض لا يُطالب به أصلاً، والاختياري المحض يُطالب به مطلقًا، وما كان من شقين مُشرب من الجبلة والاختيار يُطالب بما يقدر عليه، ولا يُطالب بما لا يقدر عليه.

يعني لو أن شخصًا قصيرًا والعمل يتطلب طول هل يُقال: افعل هذا؟ لا يُطالب به، لو أن لونه أسود مثلاً أو أبيض أو غير ذلك من الألوان، هل يُطالب بما يُطالب به ضده؟ ما يُمكن يُطالب لا هذا ولا هذا؛ لأن هذه أمور جبلية خارجة عن القدرة والاختيار، فلا يُطالب بها، ولا يُمدح بها ولا يُذم.

كما يقولون: لا مدح ولا حمد على طول القد ولا بياض الخد، هذا ما بيده هذا، إنما يُطالب بالأخلاق الاختيارية التي يستطيعها.

الأحنف حينما مدحه النبي –عليه الصلاة والسلام- على خُلقين يُحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة، فسأل، فقال: هل هذا شيء جُبلت عليه أم –ما أدري لفظ الحديث- أو تخلقت بهما؟ فقال أيش؟ «جُبلت عليهما» هو مجبول على هذين الخلقين، فهو مطالبٌ بهما بإطلاق؛ لاجتماع الأمرين.

لكن لو كان مجبول على ضدهما يستمر غضوب وسيء الخلق مع كل الناس؟ لا، لأن بالإمكان أن يتخلَّق نعم بالإمكان أن يتخلَّق؛ ولذلك قال: «لا تغضب» ليس لأحدٍ أن يقول إذا قيل لا تغضب قال: والله ما أقدر ما أغضب هذا من الله –جلَّ وعلا- نقول: نعم جُبلت على هذا، لكن بإمكانك أن تتحلَّم، والحلم بالتحلُّم، كما أن بإمكانك أن تتعلم، ما تقول: والله أنا جاهل ما أذهب إلى المدرسة، ترفع الجهل عنك بالتعلم، وترفع عنك سوء الخُلق بالتحلُّم وهكذا، نعم.

"فإن ذلك غير مقدورٍ للإنسان، ومثل هذا لا يقصد الشارع طلبًا له ولا نهيًا عنه، ولكن يطلب قهر النفس عن الجنوح إلى ما لا يُحل".

إلى ما لا يَحل.

"إلى ما لا يَحل، وإرسالها بمقدار الاعتدال فيما يحل".

يعني لو قال: هو جُبِل على الغضب، ويثور بسرعة، ومع ذلك ثار غضبه، فقتل إنسان، مكلَّف ولا غير مُكلَّف؟ مُكلَّف، لكن فيما يتعلق بحقوق الله -جلَّ وعلا- جُبل على أمرٍ من الأمور وارتكب في حال غضبه الشديد أمرًا من الأمور المُحرمة، ثم عاد إليه رشده، فتاب وأناب واستغفر هذا ما فيه إشكال.

وطلاق الغضبان مسألة معروفة عند أهل العلم، وقد نُهي القاضي أن يقضي وهو غضبان وهكذا، نعم.

"وذلك راجعٌ إلى ما ينشأ من الأفعال من جهة تلك الأوصاف مما هو داخلٌ تحت الاكتساب.

المسألة الثالثة: إن ثبت بالدليل أن ثَم أوصافًا تُماثل ما تقدم في كونها مطبوعًا عليها الإنسان، فحكمها حكمها؛ لأن الأوصاف المطبوع عليها ضربان:

منها: ما يكون ذلك فيه مُشاهدًا مُحسوسًا كالذي تقدم.

ومنها: ما يكون خفيًّا حتى يثبت بالبرهان فيه ذلك، ومثاله العجلة، فإن ظاهر القرآن أنها مما طُبع الإنسان عليه؛ لقوله تعالى: {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء:37]".

يعني خُلق وجُبِل على هذا الأمر، لكن وجِد من يتصف بضده؛ لأنه رأى أن العجلة مذمومة شرعًا وعقلاً، فتخلَّق بضدها، فهل نقول: أنه يستمر فيه الوصف؟ هذا الأصل في الإنسان أنه خُلق من عجل، لكنه لمَّا رأى أن العجلة مذمومة شرعًا وعرفًا تخلَّق بضدها، جاء «العجلة من الشيطان» فلا شك أن العجلة مذمومة، فلمَّا رأى ذلك مذموم من الشرع، ومذموم أيضًا في عُرف الناس وفي عادتهم تخلَّق بضدها.

هذا إنما يُحكم عليه بما يبين للناس منه؛ لأن هذا أمرٌ خفي حتى يتضح يثبت بالبرهان ضد هذه العجلة، وإلا فالإنسان خُلق من عجل.

الإنسان خُلق ظلومًا جهولاً، وهذا هو الأصل فيه، لكن هذا أيضًا أمرٌ خفي حتى يثبت بالبرهان وجوده أو عدمه، نعم.

طالب:.........

إيه؛ لأن العجلة منهيٌ عنها، يعني تضافرت النصوص على النهي عنها، فهذه جبلة، لكن هل كل الناس بهذه الصفة؟ هذا الأصل فيه الأصل هذا، لكن وجود هذه الصفة في جميع الناس ظاهر ولا خفي؟ خفي؛ لأن كثير من الناس تخلَّق بضدها فاضمحلت هذه الصفة، مثل: الظلم والجهل، نعم.

"وفي (الصحيح): أن إبليس لما رأى آدم أجوف علم أنه خُلق خلقًا لا يتمالك".

لأن هذا الجوف لابد من ملئه فلا يتمالك عن ملئه، نعم.

وقد جاء أن «الشَّجَاعَةُ وَالْجُبْنُ غَرَائِز» و«جُبِلَتِ الْقُلُوبُ عَلَى حُبِّ مَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهَا، وبغض من أساء إليها» إلى أشياء من هذا القبيل، وقد جُعل منها الغضب وهو معدودٌ عند الزُّهاد من المهلكات، وجاء «يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى كُلِّ خُلُقٍ ليس الخيانة والكذب»".

يُلاحظ على المؤلف استدلاله بالأحاديث الضعيفة؛ لأن بضاعته في الحديث مزجاة ضعيفة، ولذا يعتمد على من ينقل عنهم كالغزالي مع أنه صرَّح بأن بضاعته مُزجاة، فوقع في مثل ما وقعوا فيه، فكثيرٌ من الأحاديث التي يستدل بها لا أصل لها عند أهل العلم منها: الضعيف، ومنها: شديد الضعف.

على كل حال مراده ومقصده واضح، ولو بحث عن أحاديث أصح منها لكان أجود، بل كان مُتعين عليه ألا يستدل بمثل هذه الأحاديث لاسيما مع بناء الأصول عليها، بناء الأصول على الأحاديث الضعيفة، الفروع لا تُؤخذ من الأحاديث الضعيفة فضلاً عن الأصول، نعم.

"وإذا ثبت هذا، فالذي تعلق به الطلب ظاهرًا من الإنسان على ثلاثة أقسام: أحدها: ما لم يكن داخلاً تحت كسبه قطعًا، وهذا قليل، كقوله: {فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون} [البقرة:132]، وحكمه أن الطلب به مصروفٌ إلى ما تعلق به.

والثاني: ما كان داخلاً تحت كسبه قطعًا، وذلك جمهور الأفعال المكلف بها التي هي داخلةٌ تحت كسبه، والطلب المتعلق بها على حقيقته في صحة التكليف بها سواءٌ علينا أكانت مطلوبةً لنفسها أم لغيرها.

والثالث: ما قد يشتبه أمره، كالحب والبغض وما في معناهما، فحق الناظر فيها أن ينظر في حقائقها".

نعم الحب والبُغض مطلوبةٌ شرعًا، لكن قد يُسول لبعض الناس، ويُخيل إليهم أن هذا من التكليف بالنوع الأول، يعني إذا سمع المكلَّف «لا يؤمن أحدكم حتى يُحب لأخيه ما يُحب لنفسه» بعض الناس يقول: مستحيل..مستحيل.

لماذا أُمرنا بالمسابقة وبالمسارعة والمنافسة؟ إلا ليوجد سابق ومسبوق، فلا يُتصور ممن أُمر بالمسارعة والمسابقة أن يكون معه أحد في هذه المسابقة وإلا ما كان سابق؛ لأن المسارعة المسابقة أوضح مُفاعلة تقتضي سابق ومسبوق، فهل يُتصور أن إنسانًا يُحب أن يكون معه في هذا السبق كلهم الأول مُكرر؟ أيش معنى مسابقة؟ مُفاعلة بين اثنين مثلاً منافسة.

قد يقول قائل: مثل هذا مستحيل، وهو من النوع الأول «حتى يُحب لأخيه ما يُحب لنفسه» أهل العلم يقولون، بل يُطبقون على أن هذا من أيسر الأمور على القلب السليم، لكن باعتبار أن أكثر القلوب مدخولة لا يُتصور مثل هذا «لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» وفي حديث عمر «حتى من نفسك» قال: بل من نفسي، بعض الناس يقول: مستحيل يعني أُحب الرسول أكثر من نفسي، لماذا أحببت الرسول؟ لأنه دلني على طريق النجاة، إذًا أحببته من أجلي، فيرون أن الحب والبغض من هذا الباب.

لكن من طاب قلبه وانشرح صدره للإسلام عرف حقيقة هذه الأمور، وأنه على أتم استعداد أن يفدي النبي –عليه الصلاة والسلام- وسُنَّة النبي –عليه الصلاة والسلام- ودين الرسول –عليه الصلاة والسلام- يفديه بنفسه، وحينئذٍ يكون الرسول أحب إليه من نفسه، والله المستعان.

الكلام النظري سهل لكن الكلام عند المحك عند التطبيق، وإلا بالإمكان أن يقول الإنسان هذا الكلام وهو مرتاح، لكن الكلام عند التطبيق، نعم.

طالب:........

قالوا: هذه غبطة، هذه غبطة وليست بحسد، نعم.

"فحق الناظر فيها أن ينظر في حقائقها، فحيث ثبتت له من القسمين حكم عليه بحكمه، والذي يظهر من أمر الحب والبغض، والجبن والشجاعة، والغضب والخوف ونحوها أنها داخلةٌ على الإنسان اضطرارًا".

لكنها يُمكن أن تُكتسب، فتجد الإنسان في أيام غفلته يتخلف عنده الحب والبغض الشرعي، وقد يكون جبانًا، ثم فجأةً يلتزم ويصير من أشجع الناس، هذا موجود ولا ما هو موجود؟ موجود؛ لأنه قبِل يُقدم نفسه لأي شيء، كأيام الغفلة لكنه إذا استقام تغيرت حاله.

وكذلك الشجاعة والغضب، وإن كان أصل هذه الأمور غرائز، أصلها غرائز، لكن قد يجبُن الشجاع؛ لأن المقابل لِما يبذله ضعيف بالنسبة له، لكن إذا قوي هذا المقابل بالنسبة له بعد تغير حاله تغير وضع الشجاعة عنده، وقد يكون من أشجع الناس في الباطل، ثم يكون من أشجع الناس في الحق، نعم.

"إما لأنها من أصل الخلقة، فلا يُطلب إلا بتوابعها، فإن ما في فطرة الإنسان من الأوصاف يتبعها بلا بُد أفعال اكتسابية، فالطلب واردٌ على تلك الأفعال لا على ما نشأت عنه، كما لا تدخل القدرة ولا العجز تحت الطلب؛ وإما لأن لها باعثًا من غيره فتثور فيه، فيقتضي لذلك أفعالاً أُخر، فإن كان المثير لها هو السابق وكان مما يدخل تحت كسبه، فالطلب يرد عليه كقوله: «تهادوا تحابوا»، فيكون كقوله: «أحبوا اللَّهَ لِمَا أَسْدَى إِلَيْكُمْ مِنْ نِعَمِهِ»".

يعني: نحن مُطالبون بالتحابب من غير هدية «حتى يُحب لأخيه ما يُحب لنفسه» لكن هناك أشياء مُعينة على امتثال هذا التكليف وهو: الهدية، فكل ما أعان على شيءٍ يأخذ حكمه، فهذه وسيلة تأخذ حكم غايتها، نعم.

"مرادًا به التوجه إلى النظر في نِعم الله تعالى على العبد، وكثرة إحسانه إليه، وكنهيه عن النظر المثير للشهوة الداعية إلا ما لا يحل، وعين الشهوة لم يُنه عنها، وإن لم يكن المثير لها داخلاً تحت كسبه، فالطلب يرد على اللواحق كالغضب المثير لشهوة الانتقام كما يثير النظر شهوة الوقاع".

فالوسائل لها أحكام الغايات، الغضب لا شك أنه مذمومٌ شرعًا، لكن إن رُتِبت آثاره عليه صار الأمر أشد، والنظر أيضًا إلى ما حرَّم الله –جلَّ وعلا- النظر إليه محرَّم بالشرع {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] لكن إذا صدَّق ذلك الفرج كان الأمر أعظم، فالوسائل واللواحق كلها تتبع الحكم، نعم.

"فصل: ومن هذا الملمح فقه الأوصاف الباطنة كلها أو أكثرها من الكبر والحسد وحب الدنيا والجاه، وما ينشأ عنها من آفات اللسان، وما ذكره الغزالي في (ربع المهلكات) وغيره".

نعم هناك أمور من أعمال القلوب أمور قلبية كِبر، وحسد، حب للدنيا والجاه، لكن ظهور آثارها على صاحبها واضح، لكن هناك حسد قد لا تظهر آثاره يتمنى زوال النِّعمة عن الغير لكنه لا يتكلم ولا يعمل، هل نقول: إن هذا من حديث النفس معفوٌ عنه أو نقول: إن مجرد التمني حرام؛ لأنه هو حقيقة الحسد الذي جاء ذمه في الشرع؟ «لا تحاسدوا» كما في الحديث الصحيح.

إذا كان الإنسان مجبول على مثل هذا الخلق الذميم، هل يأثم بوجوده مع عدم ترتب آثاره عليه، ما سعى ولا تكلم، ولا فعل فعلاً يضر بصاحبه؟ جمهور أهل العلم على أنه يأثم ولو لم يتكلم أو يعمل.

وابن الجوزي يجعله من حديث النفس إذا ما تكلم ولا عمل ما عليه شيء، لكن عامة أهل العلم على أنه مؤاخذٌ به؛ لأنه عمل، هذا هو عمل القلب الذي جاء ذمه، نعم.

"وعليه يدل كثيرٌ من الأحاديث، وكذلك فقه الأوصاف الحميدة، كالعلم، والتفكر، والاعتبار، واليقين، والمحبة، والخوف، والرجاء، وأشباهها مما هو نتيجة عمل، فإن الأوصاف القلبية لا قدرة للإنسان على إثباتها ولا نفيها، أفلا ترى أن العلم وإن كان مطلوبًا، فليس تحصيله بمقدورٍ أصلاً؟ فإن الطالب إذا توجه نحو مطلوبٍ إن كان من الضروريات، فهو حاصل".

يعني إن كان المطلوب من العلوم من الضروريات مما يُدرك بالحواس، فهذا حاصل، والحاصل لا يُطلب تحصيله؛ لأنه من شروط فعل المكلف به أن يكون معدومًا فيُطلب إيجاده، وأما الموجود فلا يُطلب إيجاده لو أن شخصًا صلى صلاةً مُجزئة هل يُؤمر أن يُصلي؟ لا، وأما إذا صلى صلاة غير مُجزئة وجودها كعدمها يُؤمر بها، وكذلك العلم الضروري الحاصل بالحواس أو بالأخبار القطعية، فإنه مثل هذا لا يحتاج إلى أن يتعلم.

يعني شخص قيل له: بغداد مثلاً، قال: والله أنا ما أصدق؛ حتى أروح لمعجم البلدان أو أسافر إليها، نقول: مثل هذا ما يحتاج، لكن لو قيل له: قريةٌ في قطرٍ من الأقطار ما سمع عنها ولا شيء، يقول: أتأكد من معجم البلدان أو غيره من أهل تلك الجهات، فمثل هذا يُطلب وجوده، نعم.

"وإن كان غير ضروريٍّ، لم يكن تحصيله إلا بتقديم النظر".

لا يُمكن تحصيله بإلهام ينام النوم، ثم يستيقظ من نومه وإذا بالعلوم في قلبه أبدًا، لابد بتقديم النظر، لابد من سلوك الطريق لتحصيل العلم، نعم.

"وهو المكتسب دون نفس العلم؛ لأنه داخلٌ عليه بعد النظر ضرورة؛ لأن النتيجة لازمةٌ للمقدمتين، فتوجيه النظر فيه هو المكتسب، فيكون المطلوب وحده، وأما العلم على أثر النظر، فسواءٌ علينا قلنا: إنه مخلوقٌ لله تعالى كسائر المسببات مع أسبابها -كما هو رأي المُحققين- أم لم نقل ذلك، فالجميع متفقون على أنه غير داخلٍ تحت الكسب بنفسه".

لما ذكر "وأما العلم على أثر النظر" يعني العلم الحاصل عن النظر هو: العلم النظري الذي يُقابل الضروري "فسواءٌ علينا أقلنا: أنه مخلوقٍ لله تعالى كسائر المسببات" لأنه من كسب العبد ومن عمله، من كسب العبد؛ لأنه تسبب في وجوده وعمله، فهو مخلوق {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُون} [الصافات:96] والله –جلَّ وعلا- خالق أفعال العباد، ويُراد بذلك السعي في تحصيله.

وأما بالنسبة للعلم نفسه، فهو أمرٌ معنوي، وآثاره ومقدماته ولواحقه عملية، مقدماته التي بها يُتحصَّل، وبها يُكتسب هذه عملية، آثاره المترتبة عليه عملية، لكن العلم نفسه نظري معنوي، فهل نقول: إن هذه المعاني مخلوقة، وتدخل في كسب العبد كأعمال القلوب داخلة في قوله: {وَمَا تَعْمَلُون} [الصافات:96]؟ فيكون كلامه مستقيمًا.

وإذا قلنا: إن العلوم والمعلوم، منه ما هو من كلام الله –جلَّ وعلا- يعني أصل العلوم كلام الله –جلَّ وعلا- إذا حفظه الإنسان، هل نقول: إنه مخلوق؛ لأنه يقول: "إنه مخلوقٌ لله تعالى"؟ فالعلم بمعنى المعلوم الذي حصَّله الإنسان بالمقدمات وعمل به باللواحق منه ما ليس بمخلوق قطعًا، وهو كلام الله –جلَّ وعلا-وكلامه لا يسلم من إجمال، نعم.

وإذا حصل لم يمكن إزالته على حال، وهكذا سائر ما يكون وصفًا باطنًا".

أما "لا يمكن إزالته على حال" فمسألة النسيان معروفة، النسيان معروف أنه يُزيل العلم، وكذلك التناسي، والتغافل، والإعراض عن الشيء لا شك أنه سببٌ من أسباب الإزالة، نعم.

"وهكذا سائر ما يكون وصفًا باطنًا إذا اعتبرته وجدته على هذا السبيل، وإذا كانت على هذا الترتيب، لم يصح التكليف بها أنفسها، وإن جاء في الظاهر ما يظهر منه ذلك، فمصروفٌ إلى غير ذلك مما يتقدمها، أو يتأخر عنها، أو يقارنها، والله أعلم".

يكفي..يكفي.