تحية المسجد في أوقات النهي

السؤال
ما حكم صلاة تحية المسجد في أوقات النهي، وخاصة قبل صلاة الظهر والمغرب بدقيقتين أو ثلاث دقائق؟
الجواب

جاء النهي عن صلاة النافلة في أوقاتٍ خمسة، منها وقتان موسعان، وثلاثة مضيقة:

- أما الوقتان الموسعان: فمن طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، ولا يُستثنى من ذلك إلا ركعتا الصبح -النافلة قبلها- ثم صلاة الفريضة. ومن صلاة العصر إلى أن تَتَضَيَّف الشمس للغروب، هذان وقتان موسعان.

- وثلاثة أوقات مضيَّقة: جاءت في حديث عقبة بن عامر –رضي الله عنه-: "ثلاث ساعات كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينهانا أن نصلي فيهن، أو أن نقبر فيهن موتانا: «حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تَضَيَّفُ الشمس للغروب حتى تغرب»" [مسلم: 831]، هذه الأوقات الخمسة جمهور أهل العلم يمنعون التنفل فيها مطلقًا، حتى ذوات الأسباب؛ استدلالاً بهذه الأحاديث التي تنهى عن الصلاة في هذه الأوقات، فغلّبوا جانب الحظر، والشافعية يرون أن ذوات الأسباب تُفعل في هذه الأوقات التي جاء النهي عن الصلاة فيها.

ومثال ذوات الأسباب: تحية المسجد، وركعتا الطواف، وركعتا الوضوء، وغيرها من الصلوات التي لها سبب، وليست من النوافل المطلقة.

المقصود أن الجمهور يرون المنع مطلقًا من ذوات الأسباب في هذه الأوقات الخمسة، ومن باب أولى النوافل المطلقة؛ تغليبًا لجانب الحظر والمنع، والشافعية يرون أن ذوات الأسباب مستثناة من أحاديث النهي، فيرون أن أحاديثها أخص من أحاديث النهي، وجمهور أهل العلم يرون أن أحاديث النهي عن الصلوات في هذه الأوقات أخص من فعل ذوات الأسباب في سائر الأوقات.

وبعض من يُسأل ويجيبُ ويفتي يَظن أن المسألة عموم وخصوص، ويَخرج منها بسهولة، ولا شك أن هذه المسألة من عُضَل المسائل، وليست من المسائل السهلة التي يُقال فيها: الخاص مقدم على العام؛ لأنه ما من فريق إلا ويقول: الخاص مقدم على العام، فالجمهور يرون خصوص الأوقات وعموم الصلوات بالنسبة لذوات الأسباب، فيقولون: ينهى عن الصلوات في هذه الأوقات الخاصة، فيقدمون خصوص أحاديث النهي، والطرف الثاني من الشافعية -ومن يقول بقولهم- يقدمون خصوص الصلوات بغض النظر عن خصوص الأوقات، وكلٌّ من الطرفين يقول: الخاص مقدم على العام، لكن إذا نظرنا إلى المسألة بدقَّةٍ وجدنا أن العموم والخصوص بين نصوص أحاديث النهي ونصوص أحاديث ذوات الأسباب عموم وخصوص وجهي، فأحاديث النهي عامة من وجه وخاصة من وجه، فهي عامة في جميع الصلوات خاصة بهذه الأوقات، وأحاديث ذوات الأسباب عمومها في الأوقات وخصوصها في الصلوات، وحينئذٍ لا يكون خصوص أحد الطرفين أولى بالترجيح من خصوص الطرف الآخر.

فالجمهور رجّحوا خصوص أوقات النهي بأن الحظر مقدَّم، وأن الذي أمرك بالصلوات هو الذي منعك منها.

والطرف الثاني قدَّموا خصوص الصلوات، ورأوا أن هذه الصلوات تُفعل في هذه الأوقات؛ لأن هذه الصلوات خاصة، والنهي في هذه الأوقات جاء في عموم الصلوات.

المقصود أن هذه المسألة من المسائل الدقيقة، وليس الترجيح فيها بالأمر السهل أو الهيّن حتى قال بعض أهل العلم: لا تدخل المسجد في هذه الأوقات؛ لأنك في حرج: إن صليتَ خالفتَ أحاديث النهي، وإن جلستَ خالفتَ أحاديث: «فلا يجلس حتى يصلي ركعتين» [البخاري: 1163].

والإمام البخاري -رحمه الله تعالى- لما ترجم في كتاب الحج من صحيحه: "باب الطواف بعد الصبح والعصر -ثم قال-: وصلى عمر ركعتي الطواف بذي طوى"، ثم أورد أحاديث النهي، وعمر –رضي الله عنه- لما طاف بعد الصبح وأخّر الركعتين إلى أن وصل إلى ذي طوى ينتظر ارتفاع الشمس وخروج وقت النهي، فالإمام البخاري يُرجّح هذا. وعلى كل حال هو قول جمهور أهل العلم، وأنه لا يُصلى شيءٌ من التطوعات حتى ما له سبب في هذه الأوقات.

لكن إذا نظرنا إلى علة النهي وهي مشابهة الكفار في تَحَيُّنِهم الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها وجدنا أن النهي في الأوقات الثلاثة المضيقة نهيٌ مقصودٌ بالذات، والنهي عن الصلاة في الوقتين الموسعين نهي لا لذات الوقت، وإنما خشيةَ أن يُسترسل في الصلاة حتى يصل إلى الوقت المضيق، وأيضًا النهي في الأوقات الثلاثة ليس خاصًّا بالصلاة، وإنما يشمل أيضًا دفن الموتى: "ثلاث ساعات كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينهانا أن نصلي فيهن، أو أن نقبر فيهن موتانا"، فدلّ على أن النهي في هذه الأوقات الثلاثة أشد منه في الوقتين الموسعين.

الأمر الثاني: أنه في الوقتين الموسعين النبي -عليه الصلاة والسلام- أقر مَن قضى راتبة الصبح بعدها، وهو وقت نهي، وأيضًا قال: «من يتصدق على هذا؟» [مسند أحمد: 11408]، وهو وقت نهي، وقضى راتبة الظهر بعد صلاة العصر، فدلّ على أن النهي في الوقتين الموسعين أخف من النهي عن الصلاة في الأوقات الثلاثة المضيقة، والذي يتأكد النهي عنه في هذه الأوقات الثلاثة المضيقة، وأما بالنسبة للوقتين الموسعين فإن صلى فلا حرج؛ لأنه وُجد ما يُضْعِف عموم النهي من الأمثلة التي ذكرناها، وأما بالنسبة للأوقات المضيقة فلا يوجد ما يُضْعِف عموم النهي إلا ما يتعلق بالفرائض، والفرائض مستثناة، «من أدرك من الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس، فقد أدرك الصبح، ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس، فقد أدرك العصر» [البخاري: 579]، لكن هذا في الفرائض، والفرائض ليست في محل النزاع.

والذي أراه أن الأوقات الثلاثة المضيقة لا يُصلَّى فيها شيء من النوافل حتى ما له سبب، ولو لبث الإنسان ووقف حتى يخرج هذا الوقت، وإذا طاف قبيل غروب الشمس وانتهى من الطواف قبل غروب الشمس بخمس أو عشر دقائق، ينتظر إلى أن تغرب الشمس، ولا يفوته شيء، كما فعل عمر -رضي الله تعالى عنه- حينما أخّر ركعتي الطواف إلى أن بلغ ذا طوى؛ لكي يخرج وقت النهي، ومثله الذي يدخل المسجد قبل أذان المغرب، ينتظر حتى تغرب الشمس، وإن جلس فلا حرج عليه؛ لأن الذي أمره بأن يصلي ركعتين هو الذي نهاه عن الصلاة في هذا الوقت.

تبقى مسألة وهي من المسائل الدقيقة جدًّا، وهي مسألة سجدة التلاوة في الأوقات المضيَّقة عند طلوع الشمس وعند غروبها:

فعند الحنابلة تدخل في المنع، لكن على القول بأن السجدة المفردة ليست صلاة، هل يتناولها النهي، في قول النبي –صلى الله عليه وسلم-: «لا صلاة بعد الصبح حتى ترتفع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس» [البخاري: 586]، وقول عقبة –رضي الله عنه-: "ثلاث ساعات كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ينهانا أن نصلي فيهن"؟

الذي يقول: السجدة المفردة ليست صلاة، يُخرجها من النزاع.

لكن إذا نظرنا إلى أن السجدة المفردة هي التي يتم بها تمام المشابهة لفعل المشركين، ودخولُ السبب في النص قطعيٌّ عند أهل العلم، فالمشركون لا يصلون صلاة كاملة، إنما يسجدون للشمس، وتتم المشابهة لفعل المشركين الذي من أجله جاء النهي بالسجدة المفردة، فهذه من الدقائق:

- فإنّا إذا نظرنا إلى تقرير أهل العلم وأن السجدة المفردة ليست بصلاة -ولذا كان ابن عمر يصليها على غير طهارة؛ لأنها ليست بصلاة، وتُسجد إلى غير القبلة، وسجد المشركون مع النبي -عليه الصلاة والسلام- في سورة النجم، فما دون الركعة عند جمع من أهل العلم ليس بصلاة- فلا تدخل في أحاديث النهي، فيسجد متى اتفق له سبب السجود وهو قراءة آية السجدة.

- والذي يَنظر إليها من جهة أخرى، وأنه بها تتم مشابهة المشركين في سجودهم للشمس عند طلوع الشمس وعند غروبها يقول: يُمنع السجود في هذا الوقت؛ لأن دخول السبب قطعيٌّ في النص، وهذا السبب هو المشابهة، والمشابهة إنما تتم بسجدة مفردة.

على كل حال لو امتنع الإنسان من الصلاة -ومن ذلك سجدة التلاوة- في هذه الأوقات الثلاثة المضيَّقة لكان –في ترجيحي- أولى من أن يُفعل شيءٌ من الصلوات في هذه الأوقات الثلاثة، وأما بالنسبة للوقتين الموسعين فقد دخل عمومَهما ما يُضْعِفه من المخصصات.