في بيان الإرادة والمشيئة الكونية والشرعية

في قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253] إثباتُ صفةِ المَشيئَةِ، وفيها أيضًا إثباتُ صفةِ الإرادةِ، والإرادةُ والمشيئةُ بينَهما شيءٌ من التداخلِ، فالإرادةُ الكونيةُ مطابقةٌ للمشيئةِ، والإرادةُ الشرعيَّةُ مطابقةٌ للمحبةِ، وإرادة الله قد يقَعُ مُقْتضاها وقد لا يَقَعُ؛ لأن اللهَ أرادَ للعبادِ أن يَعبدوه، فمنهم مَن امتَثَلَ، ومنهم مَن لم يَمْتَثِلْ، فمَن امتَثَلَ صدَقَتْ عليه الإرادةُ الشرعيَّةُ وهي محبوبةٌ للهِ -جلَّ وعلا- ومَن لم يَمْتَثِلْ ولم يَعْبُدِ اللهَ -جلَّ وعلا- ثبتت فيه المشيئةُ والإرادةُ الكونيَّةُ وهي غيرُ محبوبةٍ للهِ -جلَّ وعلا-. وقد اقتَضَتْ حكمةُ اللهِ أن يَشاءَ شيئًا إرادةً كونية وهو لا يُحِبُّه. ويقَعُ في تصرُّفاتِ البشرِ من هذا النوعِ الكثيرُ؛ فالرجلُ يُقدِّمُ ولدَه بطوعِه واختيارِه إلى الطبيبِ؛ ِليَفتَحَ بطنَه ولِيزيلَ عنه ما يُؤذيه وهو يَكرَهُ هذا العملَ، فهو مكروهٌ من وجهٍ، محبوبٌ من وجهٍ.

والمكلَّفُ مطالبٌ بأن يدورَ مع الإرادةِ الشرعيَّةِ والسعي إلى تحقيقها، ولا يَلْتَفِتَ إلى الإرادةِ الكونيَّةِ، وقد جاء الخبرُ عن اللهِ وعن رسولِه -ﷺ- عن أمورٍ لا بدَّ من وقوعِها، ومن ثمَّ فمن الخطأِ أن نَستَسْلِمَ ونقولَ: إن كان لا بدَّ من وقوعِها فليس لنا أن نُدافِعَ. ومثالُ ذلك أن الإرادةَ الشرعيَّةَ تَمْنَعُ من سفرِ المرأةِ من دونِ مَحْرَمٍ، وأما الإرادةُ الكونيَّةُ فقد دلَّتِ الأدلةُ على أن المرأةَ ستسافرُ وحدها من الحيرة –الشام- حتى تطوف بالكعبة [البخاري:3595]. فالإرادةُ الشرعيةُ تمنَعُ من هذا، والإرادةُ الكونيةُ تدلُّ على أنه سيقعُ لا محالةَ، وعلى المُسلمِ أن يتعلَّقَ بالإرادةِ الشَّرعيةِ، ولا يتعلَّلَ بالإرادةِ الكونيَّةِ؛ لأن ذلك دليلُ العجزِ.

وقد احتجَّ المشركون بالإرادةِ الكونيَّةِ، كما في قولِه تعالى: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا} [الأنعام: 148] فاللهُ أرادَ أن يشركوا إرادةً كونيَّةً من بابِ الابتلاءِ لهم، مع أن اللَه هداهم إلى السبيلِ هدايَة دَلالةٍ وإرشادٍ، لكنهم اختاروا الضلال، كما قال تعالى عن ثمود: { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17] فهم الذين جنوا على أنفسِهم. والنظرُ إلى مثلِ هذه الأفعالِ من قِبَلِ اللهِ زلَّتْ بسببه أقدامٌ وضلَّتْ به أفهامٌ، فالجبْرِيَّةُ تمسكوا بنصوصٍ، والقدريَّةُ الغلاةُ تمسكوا بنصوصٍ، وغفَلَ كلُّ فريقٍ عما استدَلَّ به الفريقُ الآخرُ، ووَفَّقَ اللهُ أهلَ السنةِ للنَّظرِ إلى أدلةِ الفريقين فتوسَّطوا في المسألةِ، فقالوا: إن للعبدِ حريةً واختيارًا؛ لأنه لو كان مجبورًا لكان في ذلك ظلمٌ له، لكنَّ مشيئته واختيارَه لاتخرجُ عن مشيئةِ اللهِ وإرادته الكونيَّة.